الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مدارك الشريعة الإِسلامية - وسياستها
- (1)
* حكمة التشريع:
تتأثر النفس بما يخالطها من حالتي اللذة والألم، فيلتذ الإنسان بسلامة حواسه، واستقامة فكره، وحسن سيرته، ووفر ماله واتساع سلطته، وسعادة أصفيائه. ويتألم لفقد واحد من هذه المطالب.
وقد طبعت النفوس على الميل والانعطاف لما فيه لذة، والكراهة والنفور لما فيه ألم، فكل شخص يسعى بحسب طبيعته لما فيه لذته، ويهرب مما فيه ألمه، بل لا يخلو في سائر أعماله التي يتعمَّدها أن يريد بها إدراك لذة، أو الحذر من ألم، فإذا ضرب صافحاً عن لذة، فليتوصل إلى لذة أوفر نصيباً، أو أطول مدة، وإذا أخذ يقتحم ألماً، فليتخلص من ألم أشد وقعًا، أو أبقى زمناً.
وقد تتعارض اللذائذ والآلام، فيكون العمل الواحد محرزاً للذة طائفة، أو كاشفًا لألمهم، ومفوتًا لما فيه لذة قوم آخرين، أو موقعاً لهم فيما فيه ألمهم، فلو انتصب كل أحد ليحكم في استيفاء لذائذه، وإزاحة آلامه، لاستأثر باللذائذ الأقوياء، وثارت من تنازع المتكافئين في القوة فتن، واختلال راحة.
(1) محاضرة ألقاها الإِمام بنادي جمعية قدماء تلامذة مدرسة الصادقية بتونس يوم السبت 18 جمادى الثانية سنة 1331 هـ. وطبعت في رسالة.
وهذا التعارض في دواعي جلب اللذائذ وإبعاد الآلام، يستدعي لكل هيئة مجتمعة أن يكون لها نظام يوفي للضعيف ما يستحق من اللذة، ويفك الهرج بين القوتين المتكافئتين.
فالقصد من وضع قوانين المعاملات والجنايات: تمكين الناس من حقوقهم التي تهوي إليها أفئدتهم، ووقايتهم مما يدخل على قلوبهم بالآثار المؤلمة، وليس كل ما فيه ألم يستحق أن يدفع، ولا كل ما فيه لذة هو أهل لأن يجلب، فقد يتجرّع الشخص مشقة تعود عليه بسعادة، ويلتذ براحة تلقي به في تهلكة؛ كالمريض تلذ له بعض مطعومات تسوق له منيته، ويشمئز ذوقه من بعضها، وفيها غنيمة شفائه.
فالمعتبر لواضع الشريعة إنما هو اللذة التي لا يقارنها ألم راجح، ونسميها بالمنفعة أو المصلحة، والألم في لا تصاحبه لذة راجحة، ونعبر عنه بالمضرة أو المفسدة.
ثم إن المنافع والمضار تتفاوت، وتفاوتها إما بحسب شدتها وضعفها، أو طول بقائها وقصره، أو تحقق حصولها والارتياب فيه. تتفاوت بحسب عقمها دانتاجها، فمن المنافع أو المضار ما يكون عقيمًا لا يتولد عنه مثله، ومنها ما يتناسب وتتلاحق به نتائج على شاكلته.
ومما يلتفت إليه في الترجيح بين المصالح والمفاسد: أهمية ما ترجع إليه من دين، وعقب، وعرض، وبدن، ونسل، ومال.
فالشريعة العادلة، هي التي تزن المنافع والمفاسد، وتلاحظ ما يتفرع عنها من النتائج، ثم تفصل لها من الأحكام ما يطابقها.
وقد يسام الرجل بأدنى جناية، فتتفطر لها نفسه جزعاً، ويلذ له أن يقابل
الجاني بأقصى عقوبة وأشدها، ثم يشاهد جناية قاسية يبتلى بها من يباغضه، فلا يتألم لقبح موقعها، ولا يرتاح لمجازاتها، ولو بأقل تعزير، فمقرر القانون لا يعتبر بهذه اللذائذ الخاصة والآلام، وإنما يقرره بمقدار الارتياح والألم الذي يشعر به جمهور الأمة وعقلاؤها.
فبهذا يتحقق أن الشرع الذي يسنّه العالم بشعور الأمة، المطّلعُ على أحوال ضمائرها، يكون أحكم نظاماً، وأحفظ للمصالح، مما يضعه الذي لا يعرف سوى ظواهرها، ولم يحط خبرًا بعاداتها وأذواقها.
ومن خصائص الشريعة المحكمة: أن تكون أحكامها قائمة على أسباب حقيقية، وقد اختل نسيج بعض القوانين الوضعية حيث ذهب مقررُها إلى إقامتها على علل خيالية، ومن أمثلة هذا الصنيع: أن بعض المتشرعين وضعوا قانونًا لمصادرة أموال بعض المجرمين، وعدم إبقائها لورثته، وعللّوه بأنه يعرض للدم فساد في بعض الأوقات، فيقتضي قطع الرحم بين الأقارب. ولقد اشتبه على هذا المعلّل مقام الشرع بمقام الشعر؛ فإن مثل هذه العلّة تحتملها النفس إذا تبرجت في حلل من الشعر، وتنبو عن سماعها إذا طرحت على بساط العلم، ومثل هذا: أنك تقرأ في تأليف بعض النحويين تعليلهم لامتناع دخول (هل) على اسم إذا كان في الجملة فعل؛ بأنّ (هل) إذا رأت الفعل في حيّزها، تذكرت عهوده السالفة، وحنّت إلى وصاله، فلم ترض إلا بمعانقته، فتحسّ بسخافة هذا التعليل وبرودته، ولكنك تتناول بعض مؤلفات في الأدب، فيقع نظرك على قول الشاعر:
مليحة عشقت ظبياً حوى حوراً
…
فمذ رأته سعت فوراً لخدمته
كهل إذا ما رأت فعلاً بحيزها
…
حنّت إليه ولاترضى بفرقته
فيهش له ذوقك، وينفتح له خاطرك باستحسان.
وفي وضع الشرائع شدة على الطباع، حيث كانت تحصر أعمال الناس في دائرة، ولا تبقيها أمام الإرادات الشخصية تصرفها كيف شاءت، لا سيما إذا صرفت خطابها إلى أمة لا تألف النظام؛ كحال العرب قبل طلوع الإِسلام، فيوشك أن يتملصوا منها، ولا يعدوا أعناقهم لأطواق تكاليفها، فمن حسن تدبير شارعها، وحكمته في تقريرها: أن ياخذهم بها على مهل، وترشح لهم بها أوامره قضية بعد قضية مترقيًا، مما يلائم عوائدهم إلى ما يقاربها حتى تستقر لهم قوانينها كاملة. وعلى مبدأ هذه السياسة جرى التشريع في الإِسلام.
* الشرائع سماوية ووضعية:
فالسماوية: ما نزل بها الوحي على رسول، والوضعية: ما يضعها البشر من تلقاء عقولهم.
وتمتاز السماوية بأن معاملات الناس على طرائقها، وتصرفهم على مقتضى حدودها، من قبيل العمل برضا واجب الوجود واختياره؛ بخلاف القوانين الوضعية؛ فإن الداخل تحت سلطتها إنما يكون سائراً على حسب إرادة بشر يماثله، ولهذا لا يمكنها أن تأخذ من احترامات القلوب الموضع الذي تأخذه الشريعة التي هي تنزيل من حكيم حميد.
وتمتاز السماوية بأنها تعزّز قوانينها بسلطة غيبية، فتهدد المخالف بعقوبة آجلة، أو بلاء ينزل به القدر في هذه العاجلة، وتبشر الطائع بنعيم خالد، أو عيش طيب في هذه الحياة، ولا يختص ذلك الانذار والبشارة بما هو حق لله خالصاً كالعبادات، بل ورد أيضاً في الأحكام الموضوعة لمصالح الخلق في الدنيا.
وهذه السلطة المحتجبة هي التي تدعو النفوس الزكية إلى احترام قانونها، ولو في المواضع التي لا تنالها يد السلطة الطاهرة.
وتمتاز السماوية بأنها توجب على الفرد إصلاح عمله، وتنهاه عما يضر بشخصه، وإن لم يسر منه الضرر إلى غيره، فحجرت على الإنسان أن يلقي بعضو من جسده في تلف، أو يرمي بقسط من ماله في سرف. والقوانين الوضعية تقول: لا يجب استعمال القانون بين الناس إلا لمنعهم من إيذاء بعضهم لبعض، ولهذا عرفوا القانون بما يوضع للحكم بين الرعايا.
والسماوية تكلف الإنسان برفع الضرر عن غيره، وحمايته منه، وقد تلقي عليه التبعة إذا استطاع السبيل إلى خلاصه من أذى، أو وقايته من خطر، فمسك يده عن مساعدته، وأعرض بجانبه متهاوناً. ولم تنظر القوانين الوضعية إلى هذا المطلب باعتبار، وقد أخذ عليها بعض الكاتبين في أصولها ورجي منها حسن الالتفات إليه.
* منابع الشريعة الإِسلامية:
يتناول اسم الشريعة: ما أرشدت إليه دلائلها من عقائد وأخلاق وأعمال، والعلم الذي يبحث في الأحكام المتعلقة بالأعمال هو الذي نعنيه باسم: الفقه.
وقد أفادت الشريعة بعض الأحكام العملية بالدلائل الصريحة، ورسمت لبقيتها مناهج يهتدي بها المجتهد إذا وقعت الواقعة.
فكل حكم يعينه أحد علماء الإِسلام بإزاء واقعة، لا بد أن يستند فيه إلى مأخذ ظاهر من دلائل الشريعة حتى تصح إضافته إليها، ومن ثم طرح علماء الأصول الاستحسان الذي يفسره بعضهم: بدليل ينقدح في نفس
المجتهد تقصر العبارة عن بيانه؛ فإن الباني للقضية على مجرد استحسانه وميله، بمنزلة من يدعو الناس ليوافقوا رأيه على شرط أن لا يجاذبوه طرف البحث والمناظرة، كما أسقطوا المرائي المنامية، وما يجول في النفس من الحديث المعبر عنه بالإلهام.
ينحصر ما يتمسك به المستدل للحكم في نوعين:
أحدهما: ما يدل بنفسه، وهو: القرآن، والحديث، والقياس.
ثانيهما: ما يتضمن الدليل ويستلزمه، وهو الإجماع، وإنما كان متضمناً للدليل؛ لأنه لا ينعقد على حكم حادثة إلا إذا قام له دليل ثابت، ومستند صحيح.
فالقرآن: كلام الله المنزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، المنقول إلينا ما بين دفتي المصحف نقلًا متواترًا. وقد أحصوا آيات الأحكام منه، فبلغت خمسمئة آية، وأفردها بعض العلماء بالنظر، وخصّها بالتفسير، كما صنع أبو بكر الرازي، وأبو بكر بن العربي، وعبد المنعم بن الفرس.
والحديث: قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وفعله، وتقريره، وهو مستقل بتشريع الأحكام، ومعتبر بمنزلة القرآن في العمل بتحليله وتحريمه؛ لقوله تعالى:{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. وما يروى من طريق ثوبان في الأمر بعرض الأحاديث على القرآن حتى لا يقبل منها إلا ما كان بياناً له، فقال يحيى بن معين وغيره من الحفّاظ: إن هذا مما وضعته الزنادقة، وأما قوله تعالى:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فيفهم على معنى أنه أرشد إلى جميع ما يحتاج إليه في تحصيل أمر السعادة، إم بنص، أو مقالة عامة، أو الإحالة على من
هو أهل للتعليم.
وإذا كان الحديث بمنزلة القرآن في التشريع، فلا يعدل المجتهد عن العمل بحديث إلا إذا ثبت لديه نسخه، أو ظفر بدليل أرجح منه في السند، أو أقوى في وجه الدلالة، ولهذا قال المالكية: إذا عرض للإِمام حديث، ونص على أنه لم يبلغه، ثم صح عند أهل الصناعة، فإنه يجب على مقلدي الإِمام العمل بالحديث.
قال ابن عبد السلام: وهذا كحديث ابن عباس في "مسلم"، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، ويقول:"السراويل لمن لم يجد الإزار، والخفّان لمن لم يجد النعلين"، مع قول مالك في "الموطأ": لم يبلغني هذا في السراويل.
ويعدّ المالكية الذين ينظرون في وجه ارتباط الفروع بالمدارك؛ كابن العربي، وعبد الحميد الصائغ، قد يتمسكون بالحديث الصحيح، ولو روى المذهب على خلافه، حيث لم يطلعوا على أصل ظاهر استند له أهل المذهب في ترك العمل بذلك الحديث، وكأنهم اعتصموا في هذا يقول مالك حسبما نقله الحافظ ابن عبد البر وغيره؛ انظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنّة، فخذوا به، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنّة، فاتركوه.
وقد ثبت عن الإِمام أبي حنيفة أيضاً: أنه قال: إذا صحّ الحديث، فهو مذهبي.
اشتهر بين الفقهاء أن مالكاً يقدّم إجماع أهل المدينة على الحديث الصحيح، وأنكره أبو بكر بن العربي، فقال في كتاب "العارضة": من لا تحصيل له من أصحابنا يظن أن مالكاً يقدم عمل أهل المدينة على الحديث، ولم
يفعل ذلك قط، ولا ترك مالك حديثاً لأجل مخالفة أهل المدينة له بعملهم وفتواهم.
والتحقيق: أن مالكاً إنما يحتج بإجماع أهل المدينة فيما طريقه النقل المستفيض؛ مما تقتضي العادة أنه لو يغيّر عما كان عليه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، لعُلِم؛ كالأذان والإقامة، فإن العهد بذلك الزمن ليس ببعيد عن عصر مالك، والفقهاء والمحدّثون بها متوافرون، مع ما عرف من تنافسهم وإقدامهم في الأمر بالمعروف، وأما ما يجمعون عليه من الأحكام المأخوذة بصناعة الاجتهاد، فلا يسعه تقليدهم، بل هم وغيرهم في نظره سواء.
ويستثنى من تصرفاته صلى الله عليه وسلم نوعان هما غير داخلين فيما يطلب فيه الاقتداء والتأسي:
أحدهما: ما سار فيه على مقتضى العادة أو الجبلّة؛ كما ترك أكل لحم الضب، وقال:"لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه".
ثانيهما: ما قام الدليل على اختصاصه به؛ كحرمة أكل ذي الرائحة الكريهة، وطلاق من تكره صحبته.
وقد أفرز بعض العلماء أحاديث الأحكام على جانب، وألّفها مستقلة، ومن مؤلفاتها الجامعة كتاب "منتقى الأخبار" للحافظ مجد الدين المعروف بابن تيمية.
والإجماع: اتفاق كلمة المجتهدين على حكم شرعي، فإذا انعقد في عصر، لم يسغ لمجتهد حدث خرق سياجه بالخلاف، ومن افتكر في حقيقة المجتهد، وعرف أنه المحيط بمدارك الشريعة، مع وصف العدالة، ثم أخذ من استقراء سيرة المجتهدين أنهم كانوا يترفعون عن المتابعة، ويتحفظون
من القول بغير حجة، أدرك أنهم لا يتواردون على قضية، ويتضافرون على قطع الحكم فيها، إلا بعد النظر الواسع، والاعتماد على دليل واضح.
واجتهادات الآحاد وإن كان كل واحد منها بانفراده ليس حجة على غيره؛ لأن احتمال الخطأ فيه ليس ببعيد، فإذا انضم بعضها إلى بعض، وانصبّت على مدرك واحد، بدون أن ينازعها فيه مخالف، بعدت عن احتمال الخطأ، وقويت دلالتها على إصابة الحكم، ومشاكلة الحقيقة.
وقصر داود الظاهري الحجة في إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ومثله ما قال الإِمام أحمد بن حنبل في رواية أبي داود عنه: الإِجماع: أن يتبع ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن الصحابة، وهو في التابعين مخير.
وإذا حققنا أن الإِجماع الذي يسد فم المجتهدين بعده، هو الذي يصرح فيه جميع المجتهدين بالحكم الواحد، ولا يكفي أن يتلفظ بعضهم، ويسكت بعض، ولو واحداً، ظهر أن انعقاده بعد عصر الصحابة، وقد اتسعت ممالك الإسلام، ونشأ العلماء في أقطار متباعدة، مما يعسر إثباته، ولكنه على فرض وقوعه يكون حجة؛ كما هو مذهب جمهور العلماء.
وكثير من الفقهاء ينسب الإجماع إلى عدة مسائل، على معنى: أنه لم يعثر فيما طالع من الكتب على ذكر خلاف فيها، لا بمعنى أنه تتبع أقوال المجتهدين بأسرهم، فوجدها متصادفة على رأي واحد.
والقياس: أن ينص الشارع على حكم أمر، فنبحث عن علة الحكم، فإذا ظفرنا بمعرفتها، فإنا نلحق بذلك الأمر كل ما شاركه في العلة، ونسوّيه به في حكمه إذناً أو نهياً، ومن الأمثلة التي توضح هذا الطريق المهم في التشريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقضي القاضي وهو غضبان"، فنبه في الحديث على أن
الغضب علّة في منع القضاء، ويظهر بالنظر أن الغضب ليس علّة لذاته، بل لما يتضمنه من الدهشة المانعة من استيفاء الفكر، والتروي من حال الواقعة، فيقول المجتهد:"لا يقضي القاضي وهو متألم"، فيقيس المتألم بالغضبان، ويسوّيه به في المنع من القضاء؛ لاشتراكهما في علّته، وهي: قلق الفكر، واضطراب شعوره.
واهتدى العلماء للاستدلال بقاعدته؛ حيث فهموا من استقراء مقاصد الشريعة: أن أحكامها مبنية على رعاية مصالح العباد، وخالف في صحة الاحتجاج به الظاهرية؛ بدعوى أن نصوص الشريعة تقي بجميع ما تدعو إليه الحاجة في جميع الحوادث.
ومما قال أبو محمد اليزيدي في الحثّ على القياس، والعمل به:
ما جهول لعالم بمدانٍ
…
لا ولا العيّ كائن كبيان
فإذا ما جهلت فاسألْ تخبَّرْ
…
إنّ بعض الأخبار مثل العيان
ثم قِسْ بعض ماسمعت ببعض
…
وائت فيما تقول بالبرهان
لاتكن كالحمار يحمل أسفا
…
راً كما قد قرأت في القرآن
إن هذا القياس في كل أمر
…
عند أهل العقول كالميزان
لا يجوز القياس في الدين إلاّ
…
من فقيه لدينه صوّان
إن من يحمل الحديث ولا يعـ
…
ـرف فيه التأويل كالصيدلاني
حين يلغي لديه كل دواء
…
وهو بالطب جاهل غير ران
ولنا في النبي صلى عليه اللـ
…
ـهُ والراشدون كلَّ أوان
أسوة في مقاله لمعاذٍ
…
اقض بالرأي إن أتى الخصمان
وكتاب الفاروق يرحمه اللـ
…
ـهُ إلى الأشعري في تبيان
قس إذا أشكلت عليك أمور
…
واقض بالحق في رضا الرحمن
لا يستقيم لقانون تفصّل أحكامه أن يطَّرد في جميع العصور، أو ينسحب على سائر الأقطار؛ لأن المصالح والمفاسد التي توضع لها القوانين، لا تلحق كل الأعمال لذاتها، أو لوصف لا ينفك عنها، حتى يكون العمل دائمًا لمصلحة أو مفسدة، بل المصلحة والمفسدة تترتب على الأفعال ترتب المسبّبات العادية على أسبابها، مثلَ ترتب منافع الأدوية ومضارها عليها، فإنها تختلف باختلاف الأحوال والأزمان، فالعمل قد يكون منشأ لمصلحة في حال، أو في زمان، أو في حق أشخاص، فيستدعي الإثبات والإِقبال عليه، وقد ينتقل فعله إلى أن يتصل بمفسدة، فيستحق النفي والبعد عن جانبه.
من هنا كان بعض من لا يعرف بطانة الشريعة الإسلامية يتردد ويرتاب في صلاح العمل بها في كل عصر وجيل، ويقول: إن حقيقة القانون لا تنطبق على ما قررته من القضايا؛ لأنه يؤخذ في خصائص القانون أن يتبدل ويتجدد بحسب تغير العصور والأحوال.
ولا أرى هؤلاء إلا أنهم اعتقدوا شريعة الإسلام بمثال القوانين الوضعية، فصّلت أحكامًا، أو أعطت قواعد قريبة من التفصيل، ثم قطعت وحيها عن الناس.
إن الشريعة ضمت تحت جوانحها حقائق حفظت مصالح كل العصور والأجيال، ومكنت المجتهد في كل عصر أن ينتزع لأي حادثة تعرض حكماً يلائم مصلحتها.
فتحت الشريعة باب القياس، وهو - كما قرّرنا - إلحاق الأمور التي لم
نطلع على نص مفصل أو عام يدل على حكمها، بالأمور التي تقررت لها أحكام؛ بجامع العلل التي هي دائرة على اعتبار المصالح والمفاسد، ويسع هذا الباب من الوقائع المتجددة ما لا يحيط به الاستقصاء.
أقامت الشريعة دعائم كلية، وينبني على كل دعامة منها أصول وأحكام يستخرجها العارف بطبيعة النوازل، القائم بمقصد الشارع في أمثالها، ومن هذه الدعائم قولهم:"الضرر يزال". ومن مآخذها: قوله عليه الصلاة والسلام: "لا ضرر ولا ضرار". ومنها: "المشقة تجلب التيسير"، ومن دلائلها: قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185].
ويدلنا دلالة جلية على اعتبار الشريعة للمصالح: أن المجتهدين الذين هم أعرف الناس بمقاصدها، لا يقفون في بعض الأحيان على ظواهر القرآن والحديث، فيقيدون مطلقاتها، ويخصصون عموماتها بمثل هذه القواعد، ومثال هذا. أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه"، وهذا مطلق، فقيّده الإِمام مالك بما إذا وقعت بين الخاطب والمخطوبة مراكنة واتفاق على الصداق، وقال في "الموطأ": وليس المراد إذا خطب الرجل المرأة، فلم يوافقها أمره، ولم تركن إليه، أن لا يخطبها أحد، فهذا باب فساد يدخل على الناس. أي: لما فيه من الحرج الذي هو مرفوع من الدين.
ويماثل هذا حديث "الصحيحين": أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين على المدعى عليه، فحمله الإمام مالك وموافقوه على ما إذا كان بين المدعي والمدعى عليه خلطة؛ حذراً من أن يتجرأ السفهاء على أهل الفضل، ويبتذلوهم بتحليفهم في اليوم الواحد مراراً، فانظروا كيف خصن الحديث بشرط الخلطة؛
لكفّ ما يتوقع من الضرر على أهل الفضل؛ حيث علم: أن من مقاصد الشريعة: سد الأبواب التي يطرق الفساد من ناحيتها.
وقد يتوقف الأئمة عن العمل بحديث الآحاد، إذا ورد مناقضاً لقاعدة انتزعوها من موارد لا تحصى حتى قطعوا بصحتها، وقصد الشارع إلى إقامتها؛ كما صنع الإمام مالك وغيره في حديث:"المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا"؛ فإنه نظر إلى أن افتراقهما، وانفصال أحدهما عن الآخر ليس له وقت محدود، ولا غاية معينة، إلا أن يقوما، أو يقوم أحدهما، وهذه جهالة يقف عليها انعقاد البيع، فيصير في معنى الصور المقطوع بفسادها؛ كبيع الملامسة والمنابذة؛ بأن يقول له: إذا لمست، أو نبذت الحصاة، وجب البيع، والشأن في الصور المتماثلة، لا سيما في أبواب المعاملات التي هي مبنية على مقاصد عمرانية، وعلل ظاهرة للعقول: أن تكون أحكامها متساوية، فيجب أن يحشر جميعها زمرة واحدة تحت ما هو أقوى دلالة، وأبعد عن مواقع الظنون.
ومن شواهد الاعتبار بالمصالح والمفاسد: أن من الأشياء ما يكون في نفسه خاليًا من المفسدة، ولكنه يقرب منها بحيث يجر بطبيعته إلى ما فيه المفسدة، فتعاليم الإِسلام تقتضي المنع منه، كما تأذن في الأعمال التي تكون عارية من المصلحة في ذاتها، إلا أنها تفضي بعادتها إلى الأعمال المقترنة بالمصالح، ولهذه القاعدة المعروفة بسد الذرائع وفتحها فائدة عظيمة، ومدخل في مواقع السياسة بديع.
بسط الإسلام في رعاية المصالح المرسلة، وهي مصالح لم يقع التنصيص في الشرع على اعتبارها بخصوصها ولم يرد نص بإلغائها، ومن طرق الاحتجاج عليها: أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعلقون بما يرونه مصلحة، ما لم يظهر دليل
خاص على منعه؛ ككتابتهم للمصحف، وولاية العهد من أبي بكر لعمر رضي الله عنهما، وتدوين الدواوين، وعمل السكة، واتخاذ السجون، وما شاكل ذلك.
ومن وفاء الإِسلام بحق المصالح: أن جعل للعرف والعادة اعتباراً في تفاصيل الأحكام، فإن من الأحكام ما يبنيه الشارع على رعاية حال مستمرة، وسبب لا ينقطع، فيتعين العمل به في كل مكان وزمان؛ كالمنع من الربا، ومطالبة المدعي بالبينة، ومنها ما يبنيه على رعاية أحوال تتغير، وعوائد تتجدد، وهذا النوع من الأحكام لا يلزم طرده في كل عصر، ولا إجراؤه بكل موطن، بل يجري العمل فيه على ما يقتضيه العرف السائد بين الناس.
قال شهاب الدين القرافي في "قواعده": إن الأحكام تجري مع العرف والعادة، وينتقل الفقيه بانتقالها، ومن جهل المفتي جمودُه على المنصوب في الكتب غير ملتفت إلى تغير العرف، فإن القاعدة المجمع عليها: أن كل حكم مبني على عادة، إذا تغيرت العادة، تغير الحكم، والقول باختلاف الحكم عند تبدل الأحوال والعادات لا يستلزم القول بتغيره في أصل وضعه، والخطاب به كما توهمه بعضهم، وإنما الأمر تدعو إليه الحاجة عند قوم، أو في عصر، فيكون مصلحة، وتتناوله دلائل الطلب، فإن لم تقتضه عادتهم، ولا تعلقت به مصلحتهم، دخل تحت أصل من أصول الإباحة أو التحريم.
وممن حقق أن في أحكام الشريعة ما يجري بحسب اختلاف الزمان: شهاب الدين القرافي؛ حيث قال: إن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع، بل تشهد له القواعد، ومن جملتها: أن الفساد قد أكثر وانتشر؛ بخلاف حاله في العصر الأول، ومقتضى ذلك: اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع.
ويوافق هذا قول عمر بن عبد العزيز: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.
وقول عز الدين بن عبد السلام: تحدث للناس أحكام بقدر ما يحدثون من السياسات والمعاملات والاحتياطات. أي: يحدثون أسباباً، فتستدعي أحكامًا تنتزع لها من دلائل الشرع، ومن هنا لزم أن يكون المقرر لأحكام السياسة وغيرها، ممن أوتي العلم بقوانين الشريعة، والفهم الراسخ في مداركها، حتى لا يخرج في تقريره عن الرسوم المطابقة لمقاصدها.
يتصرف علماء الإِسلام في الأحكام على نهج المصالح، فإذا أدركوا المصلحة في العمل بالقول الضعيف، أخذوا به، وتركوا ما هو المشهور حيث كان مجرداً عنها.
قال أبو علي المسناوي: إذا جرى العمل ممن يقتدى به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب، فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل، وإن كان مخالفاً للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا، فالواجب الرجوع إلى المشهور.
ويقول بعض الفقهاء في شروط الأخذ بما جرى به العمل:
خامسها معرفة الأسباب
…
فإنها معينة في الباب
وعند جهل بعض هذي الخمس
…
ما العمل اليوم كمثل أمس
ولم يعدم الإسلام علماء يفقهون أن أحكامه واردة لحفظ المصالح، ودائرة على مقتضى الحاجات، فهذا أحد الفقهاء في قرية من صحراء الجزائر يقال له: خليفة بن حسن، نشأ في المئة الثالثة عشرة، فأفتى بجواز استناد الحاكم إلى آثار الأقدام في نحو السرقة؛ حيث كان لأهل بلاده براعة فائقة في معرفتها،
وأنكر عليه علماء بلد يقال لها: "الخنقة"، فأجابهم بقصيدة ذكر فيها بعض مستنداته في الفتوى، ويقول فيها:
إلى السادة الأشراف من أهل "خنقة"
…
لهم في ندور الواقعات نقول
تمسكتم بالأصل والحق واضح
…
ولا ينكر المعلوم إلا جهول
ولكن إذا عم السداد بحادث
…
تقدم أصلاً والقياس دليل
كتضمين سمسار وتغريم صانع
…
وما هو إلا مودع ووكيل
ومن ذاك ما قد جوّزوا في سفاتج
…
إذا عم بالخوف الشديد سبيل
وفي كلها خلف الأصول لأنها
…
مصالح عمت والصلاح جميل
ومن أدب المسؤول قبل جوابه
…
إذا وردت يوماً عليه سؤول
تعرف عرف السائلين بأرضهم
…
ليعلم ما يفتي به ويقول
وما أنتم منا بأعلم بالذي
…
به الضرّ يكفي عندنا ويزول
فلو أهملت آثار سرّاق أرضنا
…
لكان فساداً للخراب يؤول
وفي الأخذ بالآثار إصلاح أمرنا
…
وفي الترك عن قصد السبيل عدول
وما الأثر إلا كالخطوط شهادة
…
كذا قال قوم في القياس عدول
فعرفانك الخط الذي غاب ربه
…
لعرفان أثر المستراب عديل
وفي ولدي عفراء لما تنازعا
…
جهازَ أبي جهل وهو جديل
بأثر دم في السيف كان نبينا .... قضى أنه للسيدين قتيل
والوجه الذي لاحظه المعترضون لما أفتى به هذا الفقيه: أنّ النظر في المصلحة التي لم يقم على اعتبارها شاهد خاص منوط بوظيفة المجتهد،
ولا يصح ممن لم يبارح منزلة التقليد.
وهذا نظير ما اعترض به بعض المغاربة على ابن محسود، حين أفتى بجواز بيع أرض محبسة على مساكين في سنة قاحلة؛ دفعاً لما نزل بهم من الخصاصة.
ويوافق الفتوى الأولى: ما نقله الحافظ ابن رجب البغدادي في كتاب "جامع العلوم" عن الإمامين: الشافعي، وأحمد من استحسان قول القافة (1) في سرقة الأموال، والأخذ بذلك، وقال الإمام أحمد، وإسحاق بن راهويه: إذا قال صاحب الزرع: أفسدت غنمُك زرعي بالليل، ينظر إلى الأثر، فإن لم يكن أثر غنمه في الزرع، فلا بد أن يجيء بالبينة، وهذا ظاهر في اكتفائها بمعرفة أثر الغنم، وإن البينة إنما تلزم عند عدم رؤية الأثر.
ومما يؤكد أن الحكم الشرعي يعتبر في تفصيله طبيعة الواقعة بحسب ما يجري به العرف، ويحف به من مقتضيات الزمان: أن السلف كانوا يكرهون السؤال عن النوازل قبل حدوثها. نقل الحافظ ابن عبد البر: أن عمر كان يلعن من سأل عما لم يكن، وكان زيد بن ثابت رضي الله عنه إذا سألة إنسان في نازلة، قال له: الله عليك، هل كان هذا؟ فإن قال: نعم، نظر في الحكم، وإن قال: لا، سكت عنه، ولم يعطه جوابًا. فيمكن أن يعد في أسباب كراهتهم للمسائل المقدرة: حذرهم من أن يفرضوا لصورة النازلة حكماً، فتبرز للخارج، ويقارنها بعض أحوال لو شاهدها المفتي، لغيّر حكمه، وفصله على ما يطابق تلك الأحوال. ومن وجوه هذه الكراهة - كما قال بعض العالمين -: أن الله يمد العلماء، وبؤيدهم بالسداد إذا توجهوا بأنظارهم إلى قضية ألجأتهم إليها
(1) القافة: جمع القائف: من يعرف الآثار - "القاموس".
الحاجة. ويضاف إلى هذا: أن الناظر في القضية المفروضة لا يجتمع له من الاهتمام بأمرها، وإبعاد النظر في سائر أطرافها، مثلما يتوفر له من العناية والهمّة عند حضورها، والاضطرار إلى العمل بها.
هذه مقتبسات من مطالع الشرع الإسلامي، تمثل لنا حقيقته، وترينا رأي الباصرة كيف خلصت من كل كدر، وسلمت من كل خلل، حتى لا يستطيع الناشئ على أدب الإنصاف والاعتدال أن يرمي شيئاً من قوانينها بمخالفة الحكمة الثابتة، أو مناقضة قاعدة من قواعد العمران.
ولا أنكر أن بعض من ينتمي إلى الفقهاء، قد صدرت عنه أقوال ساقطة، وأجهز عليها المحققّون بالإبطال والنكير، كما أسقط بعضهم شرط العلم في ولاية القضاء، وجوّز إلقاء هذه الخطة على عنق من لا يعلم، وزعم أن استشارته لغيره تقوم مقام ذلك الشرط العظيم.
ووجه سخافة هذا القول، ونزوله عن مقام التحقيق: أن القاضي يؤمر بالاستشارة؛ ليستخلص الحق من بين الآراء المتعددة، وإذا كان في نفسه جاهلًا، فإنه لا يمكنه التمييز بين الآراء الصحيحة وغيرها حتى يتخير أقربها إلى الصواب، ولكن أمثال هذه الهفوة لا تلتصق بجانب الإسلام، وإنما ترسم في صحيفة من عثرت به الغفلة في أذيالها.
* اختلاف المذاهب:
كره الشارع التفرق في الآراء، وندب الأمة إلى الوفاق بقدر ما يمكنها، ولكنه يعلم أن تماسكهم وسيرهم في جميع الأحكام على مذهب واحد غير ميسر لهم، فأذن لهم بعد بذلهم الوسع في اتفاق الرأي، أن يأخذ كل طائفة بما استقرت عليه أفهامهم، ولا يضرهم متى تمكنوا في صناعة تقرير الأحكام،
واستوفوا شروطها، أن لا يصيبوا وجه الحق في الواقع، قال صلى الله عليه وسلم:"إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب، فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ، فله أجر".
وأطلق الشارع للعقود عنانها في الاجتهاد؛ ليفتح لها المجال في النظر، ويربيها على مبدأ الاستقلال بالرأي، حتى لا يستولي عليها التقليد من جميع جهاتها، فيتخللها الجمود، ويصبح الفرق بينها وبين العقول المتصرفة كالفرق بين الماء الراكد في حمأ، والماء المنهمر على الصفا لا يمازجه كدر.
ومن شعر بهذه الحكمة، لا يمكنه الغضّ من جانب علماء الإِسلام؛ حيث أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف، بل هذا مما يجر إلى الاعتراف بمزيتهم، ويبرهن على أنهم نشؤوا على مبدأ البحث واستقلال الفكر، ولو أنهم كانوا بعقول خامدة، وإرادة ميتة، لاتبعوا ما يفتي به أول فقيه منهم، وتسلّموه بتقليد.
لا محيص للمجتهدين من الخلاف لوجوه متعددة:
منها: أن غالب الدلائل أقوال نزلت بلسان العرب، وطرق دلالة الألفاظ على المعاني مما يجري فيه الخلاف بين الناظرين في علم العربية، وجريان الخلاف في دلالة مفردات الألفاظ ومركباتها يوجب الاختلاف في الأحكام المأخوذة منها.
ومنها: أن غالب الأحاديث يرويها الآحاد من الصحابة والتابعين، وقد يبلغ الحديث مجتهداً، ويصح عنده، فيبني عليه مذهبه، ولا يصل إلى مجتهد آخر، أو لا يثبت عنده، فيؤديه النظر إلى خلاف ما يتضمنه الحديث.
ومنها: أن بعض الأحكام تركب على علل لا يصرح بها الشارع، ولا يوميء إليها، ويكلها إلى اجتهادات العقول، فتذهب في الفحص عنها، والتنقيب
من ورائها إلى أن يستقر رأي بعضهم على علة، ويتعين عنده غير علة أخرى، وإذا اختلفت العلل، اختلف ما بسند إليها من الأحكام.
ولا ننسى أن فروعاً كثيرة إنما انجرّ إليها الخلاف من تباين العرف، أو عدم اتحاد المصالح؛ لتبدل العصور، أو تباعد المواطن، ومثل هذا لا ينبغي إدراجه في مسائل الخلاف الحقيقي كما أومأنا إليه فيما سلف.
ولو أن أهل الإسلام استمروا على تأليف الجمعيات العلمية؛ لتحرير أحكام الحوادث، واستخلاص الحقيقة من الآراء المتلاقية، لالتأمت عدة خلافات حقيقية، وسقطت أقوال كثيرة من حساب مسائل الخلاف. وقد كان للسلف اهتمام بجمع العلماء في المسائل المشكلة، فقد نقل الحافظ ابن عبد البر عن المسيب بن رافع: أنه جاء الشيء من القضاء ليس في الكتاب ولا في السنّة، رفع إلى الأمراء، فجمعوا له أهل العلم، فما اجتمع عليه رأيهم، فهو الحق.
وروي عن علي بن أبي طالب، قال: قلت: يا رسول الله! الأمر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولا سنّة، قال:"اجمعوا له العالمين". وهذا الحديث قدح الحافظ ابن عبد البر في سنده، ولكنه يدل على أن تأليف الجمعيات لتحرير المسائل العلمية مما شعر بفائدته علماء الإسلام في القديم.
* انتشار المذاهب:
أنبتت العصور الأولى طوائف من المجتهدين، ولم يبق من مذاهبهم التي هي محل للتقليد سوى مذاهب كان لأئمتها أصحاب يتلقونها منهم، فأوسعوها بالتفريع، وحفظوها بالتدوين؛ كمذاهب أبي حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم.
انتشرت هذه المذاهب في الأقطار الإِسلامية، وتوزع الناس أتباعها، وكانت كل طائفة -مع اعتقاد أن مذهبها أرجح وزنًا- تنظر إلى مذهب غيرها باحترام، ومما يشهد لهذا: أن أبا جعفر المنصور لما حج دعا الإمام مالكاً، ثم قال له: إني قد عزمت أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها، يعني:"الموطأ"، فننسخ نسخًا، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، لا يتعدوها إلى غيرها، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم، وعملو ابه، ودانوا به، وإن ردّهم عما اعتقدوه شديد، فدع الناس وما هم عليه، وما اختار كل بلد لأنفسهم.
والسبب في اختصاص كل قطر بمذهب، أو غلبته فيه، يرجع لأمرين: أحدهما: تمسك الدولة به في سياستها؛ فإن الناس مولعة بمحاكاة رجال دولتها، ويزاد على هذا: أن غالب الوظائف والمناصب إنما ينالها من ينتحل المذهب الذي تتصرف به الدولة.
ثانيهما: ما يتفق في القطر من كثرة علماء ذلك المذهب وقلتهم؛ كالمذهب المالكي؛ فإنه أخذ به أهل الأندلس والمغرب؛ لأن علماءهم كانوا يرحلون إلى الحجاز، وإمامه يومئذ مالك بن أنس، فيأخذون عنه، ثم يعودون وقد امتلأت حقائبهم من مذهبه، ثم تعلق به أمراء المغرب في سياستهم، فكان ذلك من أسباب استمرارهم على تقليده، مثلما انتشر مذهب الحنفية في بعض الممالك بكثرة ما انحاز إليها من فقهائه، واستدام فيها حيث ربطت به الدولة سياستها.
والعاميّ يتمسك بالمذهب؛ لأنه وجد آباءه أو أهل بلدته يتبعونه، حتى إذا فارق الرجل مذهب عشيرته إلى مذهب آخر، كان مسؤولاً عن وجه هذا التبديل، قال بعضهم لأبي ذر أحمد الهروي: من أين تمذهبت بمذهب مالك، مع أنك هروي؟ فقال: قدمت بغداد، وصحبت القاضي أبا بكر الباقلاني، فتمذهبت بمذهبه.
لم تكن العامة في الصدر الأول تلتزم اتباع المجتهد في سائر مذهبه، بل كان الواحد منهم يستفتي العالم في نازلة، فإذا عرضت له مسألة ثانية، ولقي عالماً آخر، عرضها عليه، واتبعه فيها كما اتبع العالم قبله في فتواه الأولى، ولكن القضية التي يأخذ فيها يقول إمام لا يتحول فيها إلى قول إمام آخر بغير وجه يرجحه؛ فإن انسلاله عن الفتوى الأولى، بعد أن اتثق بها شريعة، ورجوعه إلى غيرها بدون أن يترجح عنده دليله، أو تدعوه إليه ضرورة، هو في معنى الاسترسال مع الهوى، والعمل بما يلائم استحسان الطبيعة.
ولم يجوزوا للمقلد أن يتخير من كل مذهب ما هو الأهون عليه، والأوفق برغبته؛ لأنه من قبيل التلاعب واتباع الهوى، وربما اتخذه أصحاب النوايا السيئة وسيلة إلى الخروج عن عهدة التكليف، حكى البيهقي عن إسماعيل القاضي، قال: دخلت على المعتضد، فرفع إليّ كتاباً نظرت فيه، وقد جمع فيه الرخص من زلل العلماء، فقلت: مصنفُ هذا زنديق؛ فإن من أباح النبيذ لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء، وما من عالم إلّا وله زلة، ومن جمع زلل العلماء، ثم أخذ به، ذهب دينه، فأمر المعتضد بإحراق ذلك الكتاب.
* طبقات الفقهاء:
يترتب أصحاب المدارك في الفقه إلى ثلاث طبقات:
الأولى: طبقة المجتهدين باطلاق، وهم الذين يؤسسون قواعد الأصول، ثم يستخرجون أحكام الوقاع على طبقها؛ مثل: الأئمة الأربعة.
الثانية: طبقة المجتهدين في المذهب، وهم القادرون على أخذ الأحكام من القواعد والأصول التي قررها أستاذهم؛ مثل: ابن القاسم في المالكية، وأبي يوسف في الحنفية، والمزني في الشافعية.
الثالثة: طبقة أصحاب الترجيح، وهم الذين يفضلون بعض الروايات أو الأقوال على بعض، بمثل قولهم: هذا أرفق للناس، وهذا أعلق بالمصلحة، ومن هؤلاء: أبو عبد الله بن عرفة في المالكية، وأبو حسن القدودي في الحنفية.
وها هنا طبقة رابعة تحفظ ما حرّره أصحاب المدارك، وتعلمه الناس من غير تصرف فيه، ومن هؤلاء من يأخذ مع بعض الأقوال مداركها، وبعضهم يحفظها نصوصاً مجردة، وفي هذه الطائفة يقول منذر بن سعيد البلوطي:
عذيري من قوم يقولون كلّما
…
طلبت دليلاً: هكذا قال مالك
فإن عدت قالوا: هكذا قال أشهب
…
وقد كان لا تخفى عليه المسالك
تجد في أهل هذه الطبقة من له اطلاع واسع في الحديث، والتفسير، والقواعد، إلا أنهم لا يفرغون عنايتهم في البحث عن الرابطة بينها وبين الفروع، إلى أن يمكنهم الارتقاء عند استحضار الفروع إلى أصولها، والنزول من ذكر الأصول إلى فروعها؛ بحيث تتواصل الفروع والأصول، وتتعانق بهيئة علم واحد.
يتفاضل الفقهاء أيضاً بمقدار حذقهم ومهارتهم في صناعة تطبيق الأحكام
على النوازل في الخارج؛ فقد يكون الرجل قائماً بالأحكام، وتنشر بين يديه النازلة، ويتعذر عليه تمييز الحكم الذي ينطبق عليها من جميع جهاتها.
وتنزيل الحكم على قدر الواقعة المعينة هو المسمّى عندهم بعلم القضاء، قال الإمام مالك في "المدونة": ليس علم القضاء كغيره من العلم، ولم يكن بهذا البلد أحد أعلم بالقضاء من أبي بكر بن عبد الرحمن، وكان قد أخذ شيئًاكان علم القضاء من أبان بن عثمان، وأخذ ذلك أبان عن أبيه عثمان، وكان أبو بكر هذا قاضياً لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه.
وصف ابن خلدون العلماء بنقيصة الجهل بمناهج السياسة، وادعى أن هذه النقيصة جرّها إليهم وصف العلم بطبيعته، فقال: إن عمارة أفكارهم بالقو اعد، وتعودهم بالقياس الفقهي، يقتضي بطبيعة قصور أمدهم، وبعدهم عن الإصابة لوجه السياسة.
والذي نختاره في وجه قصورهم عن مآخذ السياسة، وعدم تمكنهم من منازعها: إنما هو حصر وجهتهم في حفظ العلوم، وقلة الالتفات بها إلى أحوال العمران، أما من أضافوا إلى ما عندهم من العلم بأوضاع الشريعة النظرَ في الشؤون العامة، والكشف عن أسرار الحوادث، وما يعقبها في الخارج، فإنهم يحرزون السباق في نظام الدولة، والمحافظة على مصالح الأمة، كما يرشدنا إليه كمال خبرة المجتهدين والخلفاء الراشدين بمناهج السياسة، وحاجات الأمة، مع أنهم أغزر علماً ممن سمّاهم ابن خلدون بالعلماء.
كان علماء الشريعة يفحصون عن أحوال الأمة، ويستطلعون على مجاري أعمالها؛ ليفرغوا عليها من الأحكام ما ينطبق عليها، ثم اتفق لبعض حملة
الفقه أن قطعوا بحثهم عن الشؤون العامة، وألفوا مساكنهم، فإذا قصدهم أحد بمسألة، أعلموه بما يروونه عن سلفهم في حقها، وربما تكون فتوى القدماء مبنية على سبب استنتجوه من مطالعة الحالة الجارية بين الناس، وهذا السبب قد ينقرض، فيتعين استئناف النظر في الفتوى، والالتفات إلى ما بين يت عليه في الواقع.
وقد جرت على كثير من الفقهاء الذي يجهرون بشيء من نتائج عقولهم محن واضطهادات، فكانت أحد الأسباب التي رمت الأفكار بالجمود، وجعلتها تدور على محور المنقول؛ مثلما وقع لأبي الوليد الباجي، وابن حزم.
أحرق المعتضد بن عباد لابن حزم كتبه في "إشبيلية"، ومما قاله في هذه الواقعة:
دعوني من إحراق رَقٍ وكاغدٍ
…
وقولوا بعلمي كي يرى الناس من يدري
فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
…
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
…
وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
وقد يتفق للفقيه دولة أمير عالم، أو وزير لا تشتبه عليه الحقائق، فيستوقف عنه الفئة المتهافتة في قطع سبيله، مئلما جرى للشيخ بقي بن مخلد؛ فإنه دخل الأندلس بمصنف ابن أبي شيبة، وأقرأه، فأنكر عليه جماعة بثه؛ لما فيه من مسائل الخلاف، وقام عليه جماعة من العامة، ومنعوه عن إقرائه، فاستحضره الأمير محمد، وتصفح الكتاب جزءاً جزءاً، حتى أتى على آخره،
ثم قال لخازن كتبه: هذا كتاب لا تستغني خزانتنا عنه، فانظر لنا في نسخة منه، وقال للشيخ: انشر علمك، وارو ما عندك، ونهاهم أن يتعرضوا له.
وكان للشيخ أبي الوليد الباجي علقة بالسلطان، فلامه بعض الفقهاء على هذه المداخلة، فقال لهم: لولا السلطان، لنقلني الذر (1) من الظل إلى الشمس.
تشعر الأمم الراقية بقيم العقول الكبيرة، فإذا تفرست في بعض الناشئين قرائح جيدة، وأنظارًا ترمي إلى غرض بعيد، ربتهم في مهد عنايتها، وساعدتهم بكل ما يقطع المعذرة في متاركة مداركهم، وإيقافها عند نهاية، وقد تضافرت صحف التاريخ على أن صاحب العقل الراجح لا يملأ يده مما يؤمل، أو يشرب من صفو حياته بكأس راوية، إلا بين رجال استقامت موازينهم، وخلصت هممهم، فبقسطاسهم المستقيم يدركون غاية وزنه، وبخلوص هممهم يخجلون من أن يعترضوا سعيه بعقبات شاخصة.
ومن الجليّ لدى كل متبصر: أن لرقي الشعب الذي يعيش فيه الرجل المفكر، وصفاء فطرتهم، تأثيراً شديداً في نماء أفكاره، واتساع مجالها؛ فإن الأمة إذا توجهت إلى ذي فكرة نافذة، ومثلت له في ألسنتها ما تحمله أفئدتها من رقة العواطف، انبعث في همته نشاط، ووصل صباحه بمسائه في استدرار قريحته، واعتصار مهجته؛ لتمحيص الحقائق، واستطلاع المخبآت من مكامنها؛ لينمّي سبيل معارفهم، ويزيد في رنة سمعتهم نغمة لذيذة.
فانظروا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يوم سأل النبي صلى الله عليه وسلم جمعًا من الصحابة عن الشجرة التي هي مثل المسلم، ووقع في نفس ابنه أنها النخلة، كيف
(1) الذرّ: صغار النمل - القاموس.
أسف لعدم إسراع ابنه بالجواب قبل أن يصفها النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر أحب أن تظهر ألمعية ابنه وجودةُ قريحته في مجلس ينتظم شمله من رجال عظمت مداركهم، ولطف وجدانهم؛ لتنجذب إليه أفئدتهم ويحرز من استطلاعهم على فضيلته حظوة وعناية، ولو كان ابن عمر في مجمع لا يرتفع فيه شأن الأذكياء، لما أسف والده ذلك الأسف البالغ حين فاته أن يجهر بفكر يلوح إلى فطنة متنبهة.
* الفقهاء والأمراء:
إن للقائم بأمر الدولة ثلاث مقامات:
أحدها: تقرير أحكام تتميز بها الحقوق، وترسم للناس نظامات الاجتماع.
ثانيها: القضاء بها عند تحقق موجبها.
ثالثها: تنفيذها عند إباية المقضى عليه.
ولا تتمكن الدولة من الاحتفاظ بهذه المطالب الثلاثة إلا إذا صرفت عنايتها في نشر التعليم؛ لتستخلص رجالاً يقومون بمحكم واجباتها ونظاماتها، وآخرين يجيدون النظر في تطبيقاتها، كما يتعين عليها- لتستكمل قوتها التنفيذية-: أن تساعد الأمة على ترقية الصنائع، وتسهيل وسائل التجارة والفلاحة، وكل ما يعود على الثروة بالتوسعة، فشرف الدولة يرجع إلى أصلين: معنوي، وهو سعة المعارف، وحسن التدبير، وهذا هو السبب الذي يعرج بالأمة الخاملة إلى مطلع الفخر والسيادة. وحسي، وهو القوة والنظام، وهذا إنما تستمده الدولة من سعادة حال الأمة، وانظروا إلى الأمم الراقية فيما يقصه عليكم التاريخ، فإنها لا تكاد تنهض من مرقدها إلا حيث يقبض على زمام سياستها رجال أولو عقول نافذة، وتدبيرات صائبة، ثم تشاهد
الشوكة، وتنسيق المشروعات المدنية لم يتحققا لهم على وجه كامل، إلا عند تقدم الشعب، وبلوغه إلى أن يكون الشرف سائداً في أفراده.
ويتجلى من هذا: أن الدولة التي لها صبغة إسلامية، إنما يتحقق لها الشرف المعنوي بالرجال الذين يقومون بأحكام الإِسلام، ولهم المقدرة الطائلة في صناعة تطبيقها.
كان الأمراء في الصدر الأول يقومون بمعرفة أحكام الشريعة؛ بحيث يكون الأمير نفسه مرجعًا للعامة في الفتاوى وفصل الخصومات، حتى إن ابن عمر وغيره كانوا يقولون للسائل عن الفتيا: اذهب إلى الأمير الذي تقلد أمور الناس، فضعها في عنقه، وهذا - كما قال الإمام الغزالي - إشارة إلى أن الفتيا في القضاء والأحكام من توابع الولاية والإِمارة. ثم عرض للأمراء ما استلفتهم عن القيام به؛ كاشتغالهم بوقائع الحروب، فصاروا يستعينون على ذلك بالعلماء، فكان الأمير يجلس وحوله بعض العلماء يرجع لهم في القضاء والأحكام، ويأمر أعوانه بتنفيذها.
ولما وجب على صاحب الدولة في الإِسلام أن ينظر إلى السياسة بمرآة الشريعة، كانت الرابطة بين الفقهاء والأمراء متحتمة.
والفقهاء في حالهم مع الأمراء على أربعة أصناف:
الصنف الأول: يتباعد عن ساحة الأمراء، ويضمر في نيته التحاشي عن مشاهدة ما ينكر، أو الترفع عن الوقوف بين يدي ذي نخوة وشفوف، ومن هؤلاء من يقول:
إن صحبنا الملوك تاهوا علينا
…
واستخفوا كبراً بحق الجليس
فلزمنا البيوت نستخرج العلم
…
ونملا به بطون الطروس
الصنف الثاني: يغشى منازلهم، ولا يغض طرفه عما يحدق بهم من المساوي، فيأمر بالقسط، ويصدع بالموعظة، ولو لم يأمن أن تقع حياته في خطر.
نقل الحافظ ابن عبد البر: أن مالكاً رضي الله عنه قيل له: إنك تدخل على السلطان، وهو يظلم ويجور! فقال: يرحمك الله، فأين الكلام في الحق؟.
والصنف الثالث: يتقرب منهم، ولا يناديهم بالإرشاد في كل خلل يرتكبونه، وإنما يتعرض بنصيحته في الزلل الذي يعلم منهم التسامح فيه، والإغضاء عمن يعظهم في حقه.
والصنف الرابع: يتردد على مجالس الأمراء، ويندمج في طباعهم، وربما بلغ به الإغراق في ملايمتهم وابتغاء مرضاتهم إلى تحريف الفتوى عن مواضع الحق، وفي مثل هؤلاء يقول بعض العلماء:
قل للملوك نصيحة
…
لا تركنون إلى الفقيه
إن الفقيه إذا أتى
…
أبوابكم لا خير فيه
وهذا الصنف مما زاد الوهن في العلاقة بين الأمراء والفقهاء؛ فإن الأمراء الذين يضطهدون الحقوق، قد تعودوا من هذه الفئة التملق في خطابهم، والتنازل بالفتاوى إلى ما يوافق أهواءهم، فإذانظروا إلى فقيه ينطوي على كبر همة، وتحالف متين مع الحق، حسبوه مناوئاً لهم، غير مسالم لسياستهم.
والأمراء باعتبار حالهم مع العلماء الذي يجاهرونهم بالنصيحة على ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: تأخذه العزة بالإِثم، فتشمخ بمعطسه الكبرياء، ويقابل الداعي إلى الخير بعقوبة المجرمين.
الصنف الثاني: يجد في صدره الحرج من مشافهته بالوعظ، ولا يقلع عما نكب عليه من الباطل، ولكنه يحترم مكان العالم، فلا يسومه بمهانة، ومثل هذا ما حكي صاحب "نفح الطيب": أن أبا الوليد الباجي لما قدم من المشرق إلى الأندلس، وجد ملوك الطوائف أحزاباً متفرقة، فمشى بينهم في الصلح، وهم يجلُّونه في الظاهر، ويسثقلونه في الباطن، ويستبردون نزعته، حتى خاب فيهم أمله، ولم يقترن سعيه بنجاح.
الصنف الثالث: تأخذه رقة الحاشية، وصفاء الفطرة إلى طاعة الحق، وشكر الداعي.
طلع عز الدين بن عبد السلام إلى السلطان أيوب نجم الدين مرة، وقال له: ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: هل جرى هذا؟ فقال: نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة، فقال: أنا ما علمته، ثم أمر السلطان بإبطال تلك الحانة.
وأكثر ما تؤثر الموعظة في قلوب الأمراء إذا برزت في صورة التعريض، أو ألقيت في مظهر الأقوال العامة، ومن مثل هذا: أن الشيخ أبا بكر بن سيد الناس قدم على حاضرة تونس، فاستدعاه المنتصر بالله، فلما دخل عليه، أمره أن يقرأ بين يديه آية من القرآن، فقرأ:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]. فاستحسن المنتصر قراءته وقصده، وكان ذلك سبباً في حظوته، ورفعة منزلته عنده.