المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية

‌مكافحة الجشع والغش في المعاملات المالية

(1)

تحيا الأمة في سلامة أو سيادة، متى حظيت بقوتين عظيمتين، هما: القوة النفسية، والقوة العملية. والقوة النفسية: في استنارة عقولها، وسمو أخلاقها، والقوة العملية: في إتقان فن الزراعة، والبراعة في الصناعة، وإحكام أمر التجارة.

فالزراعة والصناعة والتجارة هي الأصول التي تقوم عليها المدنية الزاخرة، ويحدث عنها ما يجري بين الأفراد والجماعات من المعاملات المالية. فإذا تحدثنا عن المعاملات المالية، وضربنا الأمثال لما يليق منها، وما لا يليق، فإنا نريد: المبايعات التي تقع بين التاجر أو الزارع أو الصاح، وبين من يأخذ منه حاجته بعوض مسمّى.

وقد وجّه الشرع الإسلامي عنايته إلى المعاملات المالية، ووضع لها نظماً تَحفَظُ من أكل أموال الناس بالباطل، وحاط هذه النظم بمواعظ بالغة متى كان في الناس إيمان صادق، وحذرٌ من سوء العواقب.

وليس من غرضنا التحدث عن تلك النظم التي يرجع إليها القضاة عند الفصل بين الخصوم؛ فإنها نظم واسعة النطاق، ولها مقامات غير هذا المقام،

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزآن السابع والثامن من المجلد الرابع عشر.

ص: 218

وإنما نريد تذكير الأمة في هذه الأوقات العسيرة بفضيلة العدل، والسماحة في المبايعات، ويما يعودان به على الفرد والجماعة من خيرات شاملة، وعواقب حسنة، ثم تذكيرها بضرر الخروج على نظم الشريعة، والذبذبة في طرق الغش والخداع.

وينبغي أن نعلم أن لتعاطي التجارة والزراعة والصناعة ثلاثة أغراض:

أولها: أن يقوم الإنسان بما تتطلبه حياته الخاصة؛ من نحو: المطعم والملبس والمسكن؛ ليحتفظ بكرامته، ويعيش في غنى عما في أيدي الناس.

ثانيها: أن ييسر للناس أمر معايشهم؛ إذ ليس كل أحد يقدر على أن يزرع أو يصنع، أو يجلب الأقوات أو البضائع من أماكن بعيدة.

ثالثها: أن يكون قومه في قوة يستطيعون أن يصدوا بها عدوّهم المهاجم، وقد عرفنا أن هذه الأصول الثلاثة هي قوام القوة العملية التي تجعل الأمة في أمن ومنعة.

والناس في المبايعات أصناف:

صنف يأخذ بالإنصاف، فيحرص على أن يستوفي حقه، ويأبى أن يتعداه إلى شيء من حقوق غيره، ويسير هذا الصنف في مبايعاته على طريقة المماكسة، وهي المساومة بالزيادة والنقصان. ولا بأس في الأخذ بهذه الطريقة ما دامت المساومة في حدود الاعتدال، وما زال الفضلاء يأخذون في مبايعاتهم بالمماكسة المعقولة. رُئي عبد الله بن جعفر يماكس في درهم، فقيل له: أتماكس في درهم، وأنت تجود من المال بما تجود؟ فقال: ذلك مالي جُدت به، وهذا عقلي بخلت به.

ومن الناس من يلوذ بالعفاف، ويأبى أن يصل إلى يده شيء من حقوق

ص: 219

غيره، وتطيب نفسه بأن يترك شيئاً من حقه للمبايع على وجه المكارمة؛ كان يحتمل في مبايعات الفقراء شيئاً من الغبن، أو يعطي المبايع شيئاً أفضل مما وقع عليه العقد.

كان لرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم دين، فقضاه بأحسن مما أخذ منه، فقال له الرجل: أوفيتني أوفى الله بك، فقال - صلوات الله عليه -:"إن خياركم أحسنكم قضاء".

واستلف عبد الرحمن بن عمر من رجل دراهم، ثم قضاه دراهم خيراً منها، فقال له الرجل: يا أبا عبد الرحمن! هذه خير من دراهمي التي أسلفتك، فقال ابن عمر: قد علمت، ولكن نفسي بذلك طيبة.

فلا يمدح الرجل على شرائه الشيء بأكثر من ثمنه، أو بيعه بأقل من ثمنه، وهو يجهل قيمته، وإنما يمدح على مثل هذه المعاملة متى كان يعلم قيمة ما باع أو اشترى. وإنما يتقبل الرجل ما زاد على حقه في المبايعة حيث يثق بأن الزيادة كانت على وجه المكارمة، فإن اشتبه عليه الحال، واحتمل أن تكون الزيادة وقعت على وجه الخطأ، أو الجهل بمقدار الحق، وجب عليه ردها إلى صاحبها، وإن هو لم يفعل، فقد وضع في بطنه أو في بيته جذوة من نار الحريق.

اشترى ابن عمر شيئاً، فوضع يده فوق المكيال، وحثا له عليه، فقال له ابن عمر: أرسل يدك، ولا تمسك على رأسه؛ فإن في ما يحمله المكيال.

وأذكر أن جرير بن عبد الله - وكان من أفاضل الصحابة - اشترى له غلامه فرسًا بثلاث مئة، فلما رأى جرير الفرس، ذهب إلى صاحبها، وقال له: إن فرسك خير من ثلاث مئة، وما زال يزيده في الثمن حتى أعطاه ثمان مئة.

ص: 220

أما الصنف الثالث من الناس، فهم الذين يستوفون في المبايعات حقوقهم، وترضى لهم نفوسهم أن يبخسوا حق غيرهم، فينالوا منه ما استطاعوا على وجه الغش والخداع، وهذا الضرب من المعاملة إنما توحي به قلوب كالحجارة أو أشد قسوة، بل قلوب لم يدخل فيها الإيمان الحافظ من أكل أموال الناس بالباطل.

ولا مرية في أن انسياق الرجل في مبايعاته مع الجشع، وارتكاب طرق الغش، يفسد عليه الأغراض الشريفة التي تقصد من التجارة: يفسد عليه غرض التيسير على قومه، وغرض مؤازرتهم على القوة التي بها سلامتهم وسيادتهم؛ فإن الشرِه والغاش في معاملاته إنما يريد بالقوم عسراً لا يسراً، ولا ينتظم للقوم قوة والقابضون على أصول حياتها شرهون مخادعون.

بل الشرَه والغش يفسد على الرجل غرض الاحتفاظ بكرامته؛ إذ لا كرامة لمن تتلوث نفسه بالشره، وتنغمس في رذيلة الغش والخداع.

ولفظاعة الجشع والغش في المعاملات، وإخلالهما بنظام الأمن، وتشويههما لوجه المدنية الفاضلة، عُنيت الشريعة الغراء بمكافحتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى". وقال عليه الصلاة والسلام: "من غشّنا، فليس منا". وتحدث- عليه الصلاة والسلام عن زمان يكثر فيه الشر، ويغلب عليه الفساد، وقال:"فيصبح الناس يتبايعون، فلا يكاد أحدهم يؤدي الأمانة".

يكون الغش بنقص كيل المبيع أو وزنه، وهو التطفيف المتوعَّد عليه في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ

ص: 221

النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6].

وفي قوله: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] إيماء إلى أن عدم إيفاء الكيل والوزن في المبايعات؛ شأن من لا يصدق بأنه سيبعث، ويحاسب على ما قدمت يداه من أمثال هذه الخيانة الدنيئة.

وإن شئتم أن تزدادوا علماً بخطر الغش في الكيل والوزن، فاقرؤوا ما قصّه الله تعالى في دعوة شعيب عليه السلام لقومه، إذ قال:{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} [هود: 84]. فقد قرن شعيب عليه السلام النهي عن نقص الكيل والوزن بالنهي عن الشرك بالله، وقرن بين الجريمتين في الوعيد، فدل على أن الغش في الكيل والوزن بالغ في الفساد إلى حال قريبة من الحال الشرك برب العالمين.

ويلحق بالكيل والموزون: ما يباع بالذراع، فكل من نقص الكيل والوزن والذرع اعتداء على مال خفية، فعقوبة نقص الذرع هي عقوبة نقص الكيل والوزن، وخساسة ارتكاب هذا هي خساسة ارتكاب ذاك.

ويكون الغش بكتم العيب في المبيع أو الثمن، وقد علَّمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن لهذا الغش جزاء في الدنيا قبل جزاء الآخرة، هو: زوال البركة من المال، فقد قال عليه السلام في المتبايعين:"فإن بَيّنا، وصدقا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، محقت بركة بيعهما ".

ومن أسباب ذهاب البركة من المال، وتداعيه إلى نقص أو نفاد: أن الذي يخادع في معاملاته، يُعرف بهذا الخداع بين الناس، فينصرفون عنه

ص: 222

إلى معاملة غيره، فيفوته أرباح كثيرة كانت تنمّي ماله لو جرى في مبايعاته على نصح وأمانة.

قيل للزبير رضي الله عنه: بلغت من اليسار ما بلغت؟ فقال: "لم أرُدّ ربحاً، ولم أكتم عيباً".

ويكون الغش بخلط المبيع بشيء أدنى منه، وبيعه على أنه صاف غير مخلوط؛ كبيع الحلي على أنه ذهب، وهو مخلوط بنحاس أو حديد، أو بيع الطعام على أنه قمح، وهو مخلوط بعدس أو شعير.

ومن هذا القبيل: دفع المشتري في ثمن المبيع دراهم زائفة، وإيهام البائع أنها سليمة جيدة، وكان السلف يتعلمون علامات النقود الزائفة حتى لا يقبلوها على جهالة فيغبنوا، أو يسلموها إلى غيرهم في مبايعة، فيكونوا وسيلة إلى الإضرار به وهم لا يشعرون.

ويكون الغش بدعوى أن البضاعة من صنف أعلى، وهي من صنف دونه، أو بنسبتها إلى بلد أو معمل عرفت مصنوعاته بالجودة والإتقان، وليست منه، ولكثرة وقوع هذا النوع من الغش في المعاملات قالوا:"من اشترى الأشياء على وصف أهلها، غُبِن".

ويكون الغش بدعوى البائع أن هذه البضاعة لا توجد إلا عنده، أو أنه أُعطي بها عشرة أو مئة، وهو لم يعطَ بها هذا الثمن المسمّى، وتكبر الجريمة إذا أكد هذه الدعوى بيمين، فيستحق قسطًا كبيراً من وعيد قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77]

ص: 223

ويضاهي هذا الضرب من الغش: أن يعرض التاجر سلعة، ويتفق مع آخر على أن يزيده في ثمنها، وهو لا يريد شراءها، وإنما يفعل هذا؛ ليوهم غيره أنها سلعة مرغوب فيها، فيبذل فيها ثمناً فوق ثمنها، وهذا ما يسمّى في عرف الشارع بالنجش، وهو ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"ولا تناجشوا".

يلحق الناس ضرر فادح من الغش في المبايعات، ويلحقهم ضرر مثله من أن يعمد متعاطي التجارة إلى الأطعمة والبضاح التي تكثر الحاجة إليها، فيحبسها عنده منتظرًا غلاءها، وذلك ما يسمى بالاحتكار، وقد كافح الإسلام هذا الشر بالزجر والوعيد البالغ، قال صلى الله عليه وسلم:"لا يحتكر إلا خاطئ". وقال عليه الصلاة والسلام: "من احتكر على المسلمين طعامهم، ضربه الله بالجذام والإفلاس". وقال عمر بن الخطاب: "لا حُكْرة في سوقنا، لا يعمد رجال بأيديهم أذهاب، إلى رزق من رزق الله نزل بساحتنا، فيحتكرونه علينا".

ولم يختلف الفقهاء في حرمة الاحتكار في أيام العسرة والضيق، ونصوا على أن حرمة الاحتكار لا تختص بالطعام، بل تجري في كل ما يحتاج إليه الناس.

قال مالك بن أنس رضي الله عنه: إن الطعام وغيره من الكتان والقطن وجميع ما يحتاج إليه في حرمة احتكارها سواء.

يتوسل التجار الجشعون إلى أكل أموال الناس بالغش والخداع، ويرفعون أسعار الحاجيات من أنفسهم ليصلوا إلى أرباح وافرة، وقد أذن الشارع الحكيم في مكافحة هذا الجشع، وإماطة أذاه عن الناس، وأفتى علماؤنا بتحديد أسعار

ص: 224

الحاجيات على وجه يراعى فيه مصالح البائعين والمشترين.

قال القاضي أبو بكر بن العربي: "والحق التسعير، وضبط الأمر على قانون لا تكون فيه مظلمة على أحد من الطائفتين".

وطريقة التسعير على ما وصفوا: أن يجمع الحاكم وجوه أهل السوق، ويحضر غيرهم من أهل الخبرة، ويتعرف كيف يشتري أهل السوق وكيف يبيعون، ثم يقرر للأشياء أثماناً يجعل فيها للباعة من الربح ما يقوم بهم، ولا يكون فيه إجحاف بالناس.

وكان التسعير وإنفاذه في بلاد الأندلس يرجع إلى ولاية الحسبة، يقول الكاتبون في تاريخ الأندلس: يمشي المحتسب في الأسواق راكبًا، وأعوانه معه، وميزانه الذي يزن به الخبز في يد أحد الأعوان؛ لأن الخبز عندهم معلوم الأوزان، وكذلك اللحم تكون عليه ورقة بسعره، ولا يجسر الجزّار أن يبيع بأكثر مما حدّه له المحتسب في الورقة، ولا يكاد تخفى خيانته، وإذا وقف لأحد على خيانة، اشتد في عقابه، وإن أكثر ذلك منه، ولم يتب، نفاه من البلد.

وقص علينا القاضي أبو بكر بن العربي: أن الخليفة ببغداد كان إذا رفع التجار أسعار الطعام، فتح المخازن، وأذن في بيع ما فيها بأقل مما يبيع التجار، ولا يزال على هذا الحال حتى تعود الأسعار إلى أصلها، أو إلى القدر المناسب، قال: وبهذه الطريقة يغلب المحتكرين والجالبين، ويدفع عن الناس ضرراً عظيماً.

وكان العلماء بحق يدركون خطر العبث بالأسعار، والغش في المبايعات، فلا يدخرون وسعاً في وعظ التجار، وتذكيرهم بتقوى علام الغيوب، وتربيتهم

ص: 225

على القناعة بما تيسر من الأرباح.

كان ابن عمر رضي الله عنه على البائع، فيقول له: اتق الله، وأوف الكيل.

وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يطوف سوق الكوفة، ويعظ التجار، ومما يقول في وعظه؛ "معاشر التجار! لا تردوا قليل الربح؛ فتحرموا كثيره".

وخلاصة حديثنا هذا: أن قانون العدل وكرم الأخلاق ينادي الإنسان؛ لأن يأخذ نفسه بالأمانة والسماحة في المبايعات، فإن هو لم يفعل، وارتكب طريقة الجشع والغش، فقد انتبذ في النذالة مكاناً بعيداً، وأقام بينه وبين الإنسانية حجاباً غليظًا.

فالشره والغش قذارة في النفوس، يجب على دعاة الإصلاح أن يغسلوها بالحكمة والموعظة، وعوجٌ في المجتمع يجب على من بيده الأمر أن يقومه بالعزائم الصادقة، والعقوبات العادلة النافذة.

ص: 226