المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌الفتاوى والأحكام * وجوه صرف الزكاة (1): فرضت الشريعة الإسلامية على ذوي - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌ ‌الفتاوى والأحكام * وجوه صرف الزكاة (1): فرضت الشريعة الإسلامية على ذوي

‌الفتاوى والأحكام

* وجوه صرف الزكاة (1):

فرضت الشريعة الإسلامية على ذوي الأموال مقادير معينة سمتها: الزكاة، وأرشد القرآن إلى مصرفها بقوله تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60].

والتعبير بـ "إنما" في لسان العرب يفيد الاختصاص، والمعنى: أن الصدقات - أي: الزكاة - للفقراء، وما عطفت عليهم، دون غيرهم.

نظر الإسلام إلى حاجات لو بقيت في الأمة، لاختل أمرها، ولما صفا لها ورد حياتها، ففرض الزكاة؛ لتصرف في سداد هذه الحاجات، وهو - وإن لم يفرض في أموال الأفراد ما يصرف للمصالح العامة غير هذه المقادير المسماة بالزكاة - لم يقطع النظر عما يعرض للأمة من غير هذه الحاجات، بل أمرها أمراً لا هوادة فيه بأن تنفق في كل مشروع لو أهملته، لكان وصمة في مجتمعها، أو عثرة في سبيل عزتها واستقلالها. وهذا ما يسميه أهل العلم بفرض الكفاية؛ وهو ما يتوجه الخطاب به إلى الأمة على أن يقوم به من فيه الكفاية.

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السادس من المجلد الثاني.

ص: 270

ولاختصاص الزكاة بالأصناف المذكورة في الآية منع الأئمة من صرفها في مصالح لا تدخل في واحد من هذه الأصناف؛ كما قال مالك: "لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد".

وإذا اختلفوا في صرفها في وجه من وجوه الخير، فلاختلاف أنظارهم في التحاقه بأحد الأصناف المقررة في الآية الكريمة. وأكثر ما جاء من ناحيته لاختلاف: الصنف السابع، أعني: قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60]؛ فإن اللفظ من حيث مدلوله في لسان العرب شامل لكل وجه من وجوه الخير، ولكن ذكره من بين سبعة وجوه من وجوه الخير يدل على أنه يراد به ناحية خاصة فهمها السلف منذ نزول الآية.

وأكثر أهل العلم على أن المراد من قوله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} : الغزاة، وما يحتاجون إليه في جهادهم من وسائل الدفاع، ومنهم من يجعله متناولاً لفريضة الحج، وهو ما نقل عن الإمام أحمد بن حنبل؛ حيث قال: الحج من سبيل الله، وهو ما يراه الإمام محمد بن الحسن بن الحنفية.

وذكر الألوسي: أن بعضهم يفسره بطلبة العلم، ثم قال:"وتوسع بعضهم في تفسيره، فحمله على جميع القُرَب، وقالوا: يدخل فيه كل من سعى في طاعة الله، وسبل الخيرات".

ولا نظن هذا الذي يفسر {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} بطلبة العلم، أو بكل من سعى في طاعة يجيز صرف الزكاة لهؤلاء، ولو كانوا أغنياء، وإذا كانوا لا يستحقونها إلا في حال الحاجة، فقد دخلوا في قوله تعالى:{لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60]، فصرف جانب من الزكاة على ذوي الحاجة من طلاب العلم بالمدارس، أو من يلقي بهم المرض على مضاجع المستشفيات،

ص: 271

لا يختلف فيه اثنان.

فإذا كان الإنفاق علي بناء المدارس والمستشفيات من أموال يجود بها أهل الخير بداعي كرم النفس، والرغبة في عمل البر، فلا بأس بعد هذا في أن ينال من بهم خصاصة من الطلاب والمرضى جانب من الأموال التي تجمع باسم الزكاة.

وخلاصة القول: أن من يمنع صرف الزكاة في وجه من وجوه المصالح العامة لا يقصد إلى عدم المبالاة بذلك الوجه، وإنما ينظر في فتواه إلى أن آية الزكاة لا تتناوله، وما لا تتناوله الآية يبقى في المشروعات المفروضة على الأمة فرض كفاية.

والأمة التي تقدر حياة الاستقلال، وتأبى أن تكون في مؤخر الأمم، لا تتباطأ عن أن تبذل في المشروعات الصالحة غير ما يؤخذ منها باسم الزكاة. وليس غلبة الجهل عليها، وقلة شعورها بمقتضيات الحياة الاستقلالية بالعذر الذي يسيغ لنا تأويل {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على كل مشروع نافع، بل الواجب تعليمها واجبات شريعتها، وإرشادها إلى وسائل الخلاص والقوة حتى تلين قناتها، وتبلغ من استقامة الأخلاق أن تلذّ الإنفاق في سبيل كل مشروع جليل.

* المرأة والقضاء (1):

سؤال: قرأت مقالاً في مساواة المرأة بالرجل في الميراث جاء فيه هذه الجملة: (حتى أجاز "الإسلام" لها "المرأة" أن تتولى القضاء)، فهل هذا الرأي صحيح في ذاته؟ ومن الذي قال به من علماء الإسلام؟ وهل له مستند

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد الثاني.

ص: 272

من الكتاب والسنّة، مع ما في المرأة من عوائق طبيعية واجتماعية؟

جواب: ينسب القول بصحة ولايتها القضاء إلى محمد بن جرير الطبري، ونقل عن الإمام أبي حنيفة: أنها تقضي فيما يصح أن تشهد فيه، وقد حمله بعض أهل العلم على معنى: صحة حكمها في القضية الواحدة ونحوها على سبيل التحكيم أو الاستنابة.

قال أبو بكر بن العربي في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ} [النمل: 23] من كتاب "الأحكام": ونقل عن محمد بن جرير الطبري: أنه يجوز أن تكون المرأة قاضية، ولم يصح ذلك عنه، ولعله كما نقل عن أبي حنيفة أنها تقضي فيما تشهد فيه، وليس بأن تكون قاضية على الإطلاق، ولا بأن يكتب لها منشور بأن فلانة مقدمة على الحكم، إلا في الدماء والنكاح، وإنما ذلك لسبيل التحكيم والاستنابة في القضية الواحدة؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".

ومن نظر إلى ما يقتضيه فصل القضايا من أن يكون القائم بأعبائه على جانب من الجزالة، وصرامة العزم، وأن يكون مقامه مهيبًا في النفوس، عرف أن المرأة لم تخلق لأن تتولى القضاء المطلق؛ إذ تغلب عليها رقة العاطفة، وهشاشة الطبع، وسرعة التأثر، وليس من شأن الرجال أن يهابوا مكانها الهيبة التي يكون لها الأثر في التحقيق أو التنفيذ.

* وسائل منع الحمل (1):

سؤال: هل يجوز استعمال وسائل لمنع الزوجة من الولادة؟ وإذا كان

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الأول من المجلد الخامس.

ص: 273

جائزاً، ففي أحوال خاصة، أو هو جائز على الإطلاق؟

جواب: رغب الشارع في النكاح، وأهم مقصد له من هذا الترغيب: تكثير النسل، وإبقاء النوع البشري، وإذا كان أهم ما يقصده الشارع من الزواج تكثير النسل، وعمارة الأرض، كان العمل لمنع الزوجة من الولادة على خلاف قصد الشارع، فهو إما مكروه، وإما حرام.

فالعزل - وهو أن يريق الرجل النطفة حال استمتاعه بزوجته، خارجَ موضع الاستمتاع - مكروه، فإن دعت إليه مصلحة؛ كأن يكون الزوجان في دار الحرب، صار مباحاً، ويقاس على العزل: استعمال دواء للمنع من الحمل، فهو مكروه، إلا أن تدعو إليه مصلحة؛ كأن يكون في الحمل ضرر على المرأة، أو على الولد من جهة الصحة، ويعرف هذا الضرر بتقرير عارف أمين، هذا ما يقوله كثير من الفقهاء، ووجه الكراهة ظاهر في نقص عدد الأمة وضعفها.

والواقع أن في استعمال الأدوية للمنع من الحمل مفسدةً ظاهرة لا ينبغي الاستهانة بها إلا حيث تدعو الضرورة إلى هذا المنع، ولو تتابع الناس على اتخاذ الوسائل إلى المنع من الولادة، لأدى الحال إلى انقطاع النسل أو قلته، فيتضاءل عدد الأمة، وتذهب قوتها أمام أعدائها، فيصير اتخاذ تلك الوسائل من الإلقاء بالنفوس والأوطان في تهلكة، وهذا مما ينظر إليه المحققون من المالكية حين نصوا على المنع من استعمال ما يبرد الرحم، ويفسد القوة التي يتأتى بها الحبل.

أما استخراج ما في الرحم بعد استقراره، فممنوع، ولا سيما بعد أن تنقلب النطفة إلى صورة إنسان، وهذا ما حققه الإمام الغزالي في "الإحياء"،

ص: 274

والقاضي أبو بكر بن العربي في "القبس"، فإذا نفخ فيه الروح، فإسقاطه قتل نفس بلا خلاف.

* حكم اختلاط الجنسين في معاهد التعليم (1):

ادعى بعض الناس في هذا العصر: أن الكتاب والسنة لا يمنعان من اختلاط الفتيان والفتيات في معاهد التعليم، والواقع: أن دلائل أحكام الشريعة وآدابها غير مقصورة على نصوص الكتاب والسنّة، بل للشريعة أصول وقواعد يدركها المجتهدون بالنظر في تلك النصوص، والغوص على مقاصدها، وعلل أحكامها، فيطبقون تلك الأصول والقواعد على الوقائع التي لم يرد فيها نص صريح. ويكون الحكم المستنبط من طريقها في وجوب العمل به بمنزلة الأحكام المصرح بها.

ومن هذه الأصول الشاهدة بكمال حكمة التشريع: قاعدة: سد الذرائع المفضية إلى فساد، وليس من شك في أن اختلاط الفتيان والفتيات في الدروس ذريعة إلى عواقب غير محمودة.

وقد دلت الروايات الصحيحة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للنساء في الحضور للصلاة بالمساجد، وكنَّ يصلين في آخر المسجد، وينصرفن قبل أن يقوم الرجال من أماكن الصلاة، في "صحيح البخاري" عن أم سلمة:"أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّ إذا سلَّمن من المكتوبة، قمنَ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله، قام الرجال". وفي الصحيح أيضاً: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم، قام النساء حين يقضي تسليمه، ويمكث هو في مقامه يسيرًا". نرى - والله أعلم - أن

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع من المجلد التاسع.

ص: 275

ذلك كان لكي ينصرف النساء، قبل أن يدركهن أحد من الرجال.

فالرواية الصحيحة دلت على أن النساء كنَّ يصلين في مؤخر المسجد، وينصرفن عقب الصلاة إلى منازلهن، وأن الرجال لا يقومون من مواضع صلاتهم إلا بعد أن ينصرف النساء، وليس لأحد أن يقيس على حضور النساء بالمسجد للصلاة على الوجه الوارد في الصحيح، اختلاطَ الفتيان والفتيات في دروس العلم، ففي حضور الصلاة بالمسجد من دواعي غض البصر عن المحارم، وتعظيم أمر الله ما لا يوجد في حضور الدرس.

ونزيد على هذا: أن النساء ما كنّ يحضرن في مجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الرجال، على ما في تلك المجالس من وقار، وما في قلوب أولئك الرجال من تقوى، ونذكر من شواهد هذا: حديث أبي سعيد الخدري المروي في "صحيح البخاري:، وهو: "أن النساء قلن للنبي- صلى الله عليه وسلم: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك، فوعدهن يوماً لقيهن فيه، فوعظهن، وأمرهن"، ولو كان النساء يختلطن بالرجال في مجلسه، لما قلن: "غلبنا عليك الرجال"، ولم يحدث بعد عهد النبوة إلى عصرنا هذا ما يدعو إلى اختلاط الفتيان والفتيات في معاهد التعليم، بل الذي حدث: هو أن الخطر الذي بني عليه الشارع المنع من هذا الاختلاط قد اتسعت دائرته إلى حد بعيد، وفائدة الفتيات العلمية غير موقوفة على هذا الاختلاط؛ إذ يمكن الاحتفاظ بها كاملة مع الفصل بينهن وبين الفتيان في معاهد التعليم.

* الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان (1):

سؤال: هل التشريع الإسلامي تراعى فيه ظروف الزمان والمكان، أم

(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد السابع عشر.

ص: 276

يجب الوقوف فيه حتماً عند النصوص، وكل ما جاوزها يؤثم عليه، ولا يعتد به شرعاً؟ نرجو الجواب الآن، لشدة الحاجة إليه.

جواب: معروف في علم القضاء: أن القوانين إنما تقوم على رعاية المصالح، ومصالح العصور تختلف اختلافاً كثيراً، وعلى هذا الأصل تقوم الشريعة الإسلامية، وبهذا يمكنها أن تساير كل عصر، وتحفظ مصالح كل جيل، ذلك أن الإسلام دلّ على بعض الأحكام في أصول كلية؛ ليستنبط منها المجتهدون أحكام الوقائع على حسب مقتضيات أحوال الأزمنة والمواطن.

وقد أجمع علماء الإسلام على أن أحكام الشريعة قائمة على رعاية مصالح العباد، وأنه يرجع في تعرف المصالح إلى أنظار المجتهدين، ومن هنا قرروا أن أصول الشريعة ترجع إلى أربع قواعد:"الضرر يزال"، و"المشقة تجلب التيسير"، و"العادة محكمة"، و"الأعمال بمقاصدها".

وترجع إلى هذه القواعد العليا قواعد تجعل أحكام القضاة المجتهدين أحفظ للمصالح، وأشد مطابقة لمقتضيات العصر، ومن هذه القواعد: قاعدة: رعاية المصالح المرسلة، والمصلحة المرسلة: مصلحة يدركها العقل في حادثة، ولم يقم عليها دليل خاص من الكتاب والسنّة. ومنها: قاعدة: مراعاة العرف، وقاعدة: سد الذرائع، وهي المنع من أشياء شأنها أن تؤدي إلى أمور تشتمل على فساد، ويدلكم على أن الشريعة الإسلامية قائمة على رعاية المصالح: أن المجتهدين من أئمتها قد يحملون بعض النصوص المطلقة على أحوال خاصة إذا اقتضت قاعدة رعاية المصالح المرسلة فهمَ النص على أن المراد: العمل به في هذه الأحوال الخاصة.

وصفوة هذه الكلمة الموجزة: أن التشريع الإسلامي يوافق حال كل

ص: 277

عصر، ولو نظر إليه غير المسلمين بالعين التي ينظرون بها إلى القوانين الوضعية، وقارنوا بينه ويين تلك القوانين مقارنة رائدُها البحث عن الحقيقة، لرأوه رأي العين كيف يأخذ بالعدل من أطرافه، ويعطي كل ذي حق حقه.

ورجال جمعية الهداية الإسلامية، وفيهم أساتذة ممن درسوا الحقوق دراسة وافية، مستعدون لإقامة الحجة على أن التشريع الإسلامي أرقى تشريع تُصان به الحقوق، وتلقى به الإنسانية أمنها وسعادتها.

* إشاعات السوء وموقف الإسلام منها (1):

إشاعات السوء عن شؤون الأمة، وسير أعمالها، وأهداف إصلاحاتها، ومقاصد رجالها لا تقل ضرراً في كيان الأمة وسلامة الوطن عن التجسس للعدو على دخائلها، ومواطن قوتها وضعفها. فكل ذلك خدمة للعدو، وموالاة له. وقد خاطب الله المسلمين بقوله:{لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1].

بل إن موالاة العدو - في حال عدوانه -، وترويج ما ينفعه في مضرة الإسلام وأهله تخرج الموالين له عن تبعيتهم لأمتهم، وتلحقهم بأمة عدوهم. وفي ذلك يقول الله عز وجل:{وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51].

* ترويج إشاعات السوء:

ومن أشد ما يوالي به المنافقون من يكيد للأمة من أعدائها: ترويج إشاعات السوء، والإصغاء إليهم، وقد ورد في ذلك قوله عز وجل: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ

(1) مجلة "الأزهر" - الجزء الثاني من المجلد الخامس والعشرين.

ص: 278

{فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61]

وكان مما كانوا يرجفون به: ما ذكره الله عنهم في قوله عز وجل: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب: 12].

ولهؤلاء المنافقين خلفاء في كل عصر من عصور الإسلام، وفي كل وطن من أوطانه، يخذلون الناس عن أئمتهم وولاة أمرهم، ويشيعون السوء عن برامجهم وخططهم، وهذا مرض في القلوب كما وصفه الله عز وجل، وعلى من يصاب بهذا المرض أن يعالج نفسه قبل أن يعالج بأحكام الله.

وفي هؤلاء أيضاً ورد قول الله سبحانه: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء: 83]؛ أي: أفشوه حيث لا يكون من المصلحة العامة إذاعته وإفشاؤه. وقد يكون ما يذيعونه كذباً ومضراً بالمصلحة، فيكون ذلك من الإثم المزدوج الذي طهر الله قلوب المؤمنين منه.

واللائق بالمسلمين إذا سمعوا قالة السوء أن يكونوا كما أراد الله للمسلمين في قوله عز وجل: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور: 12]. إلى أن قال سبحانه: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 15 - 16].

ولما عاد المسلمون من غزوة أحد، كان فيهم من اختلفوا في الحكم على المنافقين والمرجفين، فقال فريق للنبي- صلى الله عليه وسلم:"اقتلهم"، وقال فريق:"لا تقتلهم"، فنزل في ذلك قول الله عز وجل:{فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} [النساء: 88]، وفي ذلك ورد الحديث النبوي:"إنها طيبة - أي: المدينة - تنفي خبثها كما تنفي النار خبث الحديد"، وفي

ص: 279

رواية: "خبث الفضة".

وأول فتنة في الإسلام، وهي الجرأة على خليفة رسول الله وصهره سيدنا عثمان، كان منشؤها إشاعات السوء الكاذبة، وتضليل البسطاء وضعاف الأحلام، فجرّ ذلك على الأمة من الضرر ما لم تتوصل إلى مثله الدول المعادية بما لديها من جحافل وقوات حربية.

وفي الليلة الأخيرة قبل نشوب حرب الجمل توصّل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفريقين إلى التفاهم على ما يرضي الله عز وجل من إقامة الحدود الشرعية على من يثبت عليه أن له يداً في مصرع أمير المؤمنين عثمان، وبات أبناء كل فريق في معسكر الفريق الآخر بأنعم ليلة وأسعدها، وأرضاها لله، فما كان من قَتَلَة عثمان ومن يتبعهم من قبائلهم، إلا أن أنشبوا القتال في الصباح الباكر، وأشاعوا في معسكر من المعسكرين بأن المعسكر الثاني هو المهاجم له، على خلاف ما اتفقوا عليه بالأمس، وبذلك كانت الإشاعات بين الطرفين أفتكَ بهما، وأضرَّ على الإِسلام من أسلحة البغاة الفاتكة.

أيها المسلمون! إن إشاعات السوء سلاح العدو، والذي يصغي إليها يمكِّن العدو من الفتك بالأمة والوطن، وتحسبونه هينًا، وهو عند الله عظيم، فاعملوا في ذلك بهداية الله عز وجل وإرشاده حين يقول:{وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16].

وعلى ولاة الأمر أن يتصرفوا فيمن يثبت عليهم ذلك وفقاً لحكم الله تعالى حين يقول لنبيه: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} [الأحزاب: 60 - 61].

ص: 280

إن الأمة تجتاز اليوم مرحلة من أدق مراحلها في تاريخ نضالها العنيف، هي مرحلة تقرير المصير. وهذه المرحلة - بما لها من الخطر والأثر في مستقبل الأمة وحاضرها - تقتضي منا أن نتيقظ لكل ما يراد بنا، سواء من العدو الغاصب، أو من أعوانه. وأن نحذر دعاة الفتنة، والذين يعملون على إشاعتها بين طبقات الأمة. ولنعلم أن هؤلاء وأولئك يستهدفون غرضاً واحداً. ويعملون لغاية واحدة، هي تمزيق الشمل، وتشتيت الجمع، وتفريق الكلمة، وإشاعة الكراهية بين الحاكم والمحكوم، وإلقاء العداوة بين المؤتمين والمأموم. وهم بهذا يعملون للفتنة ومن أجلها. فإذا ما تحققت غايتهم، فإن الفتنة لا تصيبهم وحدهم، ولا تصيب طائفة دون أخرى، وإنما هي تصيب الأمة بأسرها. وقد حذرنا الله تعالى منهم ومن فتنتهم، فقال - جل شأنه -: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25]، واتقاء الفتنة يكون بدفعها وإدحاضها، وإنزال العقوبة الرادعة على كل من يثبت عليه أنه كان سبباً فيها، أو في عنصر من عناصرها.

ويرى علماء الشافعية أن تكون العقوبة هي (الإعدام) لكل من يثبت عليه أنه أحدث بين المسلمين فتنة.

وأما علماء المالكية، فإنهم يتركون الحد على هذه الجريمة لاجتهاد الإمام؛ أي: الحاكم، ومن هنا نرى أنه لا سبيل إلى الهوادة أو المهادنة في إقامة الحد على هذه الجريمة النكراء، جريمة إحداث الفتنة بين الصفوف مناصرة لعدو البلاد الأكبر، وهو المستعمر الغاصب.

فلنتق الله في أمتنا ووطننا، وتقوى الله تدفع كل شيء، وتحول دون أي مكروه، والله يوفقنا ويسدد خطانا إلى ما فيه النجاح والرشاد.

ص: 281

* هل للمرأة أن تباشر الوظائف العامة (1):

استهل فضيلته حديثه في هذا الموضوع الخطير بالسؤال عن الغاية التي تهدف إليها المرأة من وراء هذه الدعوى، وقال: هل تريد أن تهجر البيت؛ لتقضي وقتها بين الأندية والمجتمعات والمحافل السياسية في مناقشة القوانين، وفيما يجب أن يفرض من العقوبات، ويرسم من الحدود، وما إلى ذلك من مسائل التشريع والتقنين؟ إن كان هذا مقصدها، فهل لها أن ترشد أهل الصواب والمنطق والحق في أي عصر إسلامي كان هذا؟ وفي أي عهد من العهود التي ازدهرت فيها تعاليم الإسلام وانتشرت أحكامه ومذاهبه تولت المرأة شؤون الولاية العامة!؟

ثم استطرد فضيلته فقال: إن الشريعة الإسلامية تحرم اختلاط المرأة بالرجال. والدعوى بمنح المرأة حقاً سياسيًا إنما هي وسيلة من وسائل الاختلاط تريد المرأة في هذا العصر أن تتذرع بها لتكسو اختلاطها بالرجال ثوب المصلحة العامة، وهذا عمل لا تقره الشريعة الإسلامية، وليس جائزاً في أي مذهب من مذاهبها؛ لأن الشريعة قد فطنت إلى ما ينجم عن اختلاط المرأة بالرجل من مضار اجتماعية وخيمة، ومن شرور لو قلنا إنها محتملة الوقوع، لكان ذلك الاحتمال كافياً لمنعها ودرئها.

وإذا كانت المرأة تريد في سبيل تبرير دعوتها أن تلجأ إلى السباب، وإلى الغض من أقدار سلف العلماء، والطعن عليهم، والنيل من كرامتهم، وتحقير شأن من يريد أن يبصرها بالصواب والرأي السديد، فإنما تكون قد أقامت الدليل القاطع على أنها لا تصلح عضواً في معترك الحياة؛ لأن مثل

(1) مجلة "الأزهر" - الجزء الخامس من المجلد الرابع والعشرين.

ص: 282

هذا الطريق لا يلجأ إليه إلا من ضعفت حجته، واختلطت عليه موازين الأشياء ومقاييس الأمور.

ولقد سبق أن أفتت لجنة الفتوى في الأزهر فتوى شرعية بينت فيها بمختلف طرق التبيين، على مختلف الآراء الفقهية ما للمرأة من حقوق، وما عليها من واجبات، وفصلت لها نوع الولاية، وعرفتها أن الولاية العامة هي السلطة الملزمة في شأن من شؤون الجماعة؛ كولاية سن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام، والهيمنة على القائمين بذلك، وقالت: إن الشريعة الإسلامية قد قصرتها على الرجال إذا توافرت فيهم شروط معينة، وزادت على ذلك في مقام التبيين: أنه لم يثبت أن شيئاً من هذه الولاية العامة قد أسند إلى المرأة، لا مستقلة، ولا مع غيرها من الرجال؛ وقد كان في نساء الصدر الأول مثقفات فضليات، وفيهن من تفضل كثيراً من الرجال، كأمهات المؤمنين، وساقت قصة سقيفة بني ساعدة في اختيار الخليفة الأول بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ بويع أبو بكر البيعة العامة في المسجد، ولم تشترك امرأة مع الرجال في مداولة الرأي في السقيفة، ولم تُدع لذلك.

وقد أفاضت لجنة الفتوى في بيان أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بما يجب أن تمنع منه المرأة من الوظائف العامة، ودعمته بالبراهين القطعية، والأسانيد التاريخية، والأدلة اليقينية. وكان المأمول أن تقف المرأة عند حدودها التي رسمتها لها الشريعة الإسلامية، في بلد إسلامي، ودولة إسلامية، وأن تعمل من جانبها على أن تسترشد بما يراه أهل الرأي من الفقهاء في أمرها، فتلزم بيتها في رعاية زوجها وكنفه، ولكنها عادت مرة ثانية إلى المناداة بوجوب منحها حقوقاً سياسية معينة، ومع أن الشريعة الإسلامية قد أفسحت

ص: 283

لها الطريق في كل ما يتعلق بمسائل الولاية الخاصة، وقد ساوتها بالرجل في هذا النوع من الولايات؛ إذ جعلت لها حق التصرف في أموالها بالبيع والهبة، والرهن والإجارة، وغير ذلك من مختلف ضروب التصرفات، وأجازت لها الوصاية على الصغار، والولاية على المال، والنظارة على الأوقاف، إلا أنها لم تقنع بما رسمته لها الشريعة الإسلامية، وأرادت أن تدفع نفسها بنفسها، وأن ترسم الطريق حسب أهوائها وغاياتها؛ لتتولى وظائف الدولة التي تدخل في نطاق الولاية العامة؛ كسن القوانين، والفصل في الخصومات، وتنفيذ الأحكام

إلخ.

وإذا كانت الشريعة الإسلامية قد جعلت القوامة على النساء للرجال، وقد قال الله تعالى:{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34]، وجعلت حق طلاق المرأة للرجل وحده، ومنعتها من السفر دون محرم، أو زوج، أو رفقة مأمونة، وجعلت لها حق حضانة الصغار دون الرجل، وأوجبت على الرجل حضور الجمعة والجماعة والجهاد، ولم توجب عليها شيئاً من ذلك، أقول: إذا كانت الشريعة الإسلامية قد رسمت لها حدودها، وبينت لها مهمتها، فما بالها تريد أن تخرج من أحكامها؛ لتزج بنفسها في انتخابات تدافع فيها وتدفع، وتختلط في ميدانها بالجماعات والأفراد من الرجال، وهي بطبيعة أنوثتها غير مأمونة ولا معصومة؟! وما بالها تريد أن تثير حولها الزوابع، وتخوض المعامع، في الوقت الذي كفتها فيه الشريعة مؤونة الكفاح، وجنبتها مواطن الزلل، ورسمت لها من الحدود ما يتكافأ وطبيعتها في ميدان العمل المنتج المفيد لها وللجماعة التي تعيش فيها؟!.

وأعتقد أنه من المستحسن أن أسوق بعض ما رأته لجنة الفتوى في

ص: 284

مقام التدليل الفقهي على منع المرأة من الاشتغال بوظائف الولايات العامة، فقد استندت إلى ما رواه البخاري في "صحيحه"، وأخرجه أحمد في "مسنده"، والنسائي في "سننه"، والترمذي في "جامعه".

قال البخاري: حدثنا عثمان بن الهيثم، قال: حدثنا عوف عن الحسن البصري، عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمتين أيام الجمل: لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن فارس ملّكت ابنة كسرى، قال:"لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة".

وقد ذهبت اللجنة في استنتاج المراد من هذا الحديث، وفي استنباط دلالته العامة مذهب صدق، فقالت: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقصد بهذا الحديث مجرد الإخبار عن عدم فلاح القوم الذين يولّون المرأة أمرهم؛ لأن وظيفته عليه الصلاة والسلام بيان ما يجوز لأمته أن تفعله حتى تصل إلى الخير والفلاح، وما لا يجوز لها أن تفعله حتى تسلم من الشر والخسار، وإنما يقصد: نهي أمته عن مجاراة الفرس في إسناد شيء من الأمور العامة إلى المرأة، وقد ساق ذلك بأسلوب من شأنه أن يبعث القوم الحريصين على فلاحهم وانتظام شملهم على الامتثال، وهو أسلوب القطع بأن عدم الفلاح ملازم لتولية المرأة أمراً من أمورهم.

ولا شك أن النهي المستفاد من الحديث يمنع كل امرأة في أي عصر من العصور أن تتولى أي شيء من الولايات العامة، وهذا العموم تفيده صيغة الحديث وأسلوبه؛ كما يفيده المعنى الذي من أجله كان هذا المنع.

وهذا هو ما فهمه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وجميع أئمة السلف، لم يستثنوا من ذلك امرأة، ولا قوماً، ولا شأناً من الشؤون العامة، فهم جميعاً

ص: 285

يستدلون بهذا الحديث على حرمة تولي المرأة الإمامة الكبرى، والقضاء، وقيادة الجيوش، وما إليها من سائر الولايات العامة.

هذا الحكم المستفاد من هذا الحديث - وهو منع المرأة من الولاية العامة- ليس حكماً تعبدياً يقصد مجرد امتثاله دون أن تعلم حكمته، وإنما هو من الأحكام المعللة بمعان واعتبارات لا يجهلها الواقفون على الفروق الطبيعية بين نوعي الإنسان:(الرجل والمرأة).

ذلك أن هذا الحكم لم ينط بشيء وراء (الأنوثة) التي جاءت كلمة (امرأة) في الحديث عنوانًا لها، وإذاً فالأنوثة وحدها هي العلة فيه.

وواضح أن الأنوثة ليس من مقتضاها الطبيعي عدم العلم والمعرفة، ولا عدم الذكاء والفطنة، حتى يكون شيء من ذلك هو العلة؛ لأن الواقع يدل على أن للمرأة علماً وقدرة على أن تعلم كالرجل، وعلى أن لها ذكاء وفطنة كالرجل، بل قد تفوق الرجل في العلم والذكاء والفهم. فلا بد أن يكون الموجب لهذا الحكم شيئاً وراء ذلك كله.

إن المرأة بمقتضى الخلق والتكوين مطبوعة على غرائز تناسب المهمة التي خلقت لأجلها، وهي مهمة الأمومة، وحضانة النشء وتربيته، وهذه قد جعلتها ذات تأثر خاص بدواعي العاطفة، وهي -مع هذا - تعرض لها عوارض طبيعية تتكرر عليها في الأشهر والأعوام، من شأنها أن تضعف قوتها المعنوية، وتوهن من عزيمتها في تكوين الرأي، والتمسك به، والقدرة على الكفاح والمقاومة في سبيله، وهذا شأن لا تنكره المرأة من نفسها.

ولا تعوزنا الأمثلة الواقعية التي تدل على أن شدة الانفعال، والميل مع العاطفة من خصائص المرأة في جميع أطوارها وعصورها.

ص: 286

فقد دفعت هذه الغرائز المرأة في أسمى بيئة نسوية إلى تغليب العاطفة على مقتضى العقل والحكمة.

وآيات من سورة الأحزاب تشير إلى ما كان من نساء النبي صلى الله عليه وسلم، وتطلعهن إلى زينة الدنيا ومتعتها، ومطالبتهن الرسول أن يغدق عليهن مما أفاء الله به عليه من الغنائم؛ حتى يعشن كما تعيش زوجات الملوك ورؤساء الأمم، لكن القرآن قد ردهن إلى مقتضى العدل والحكمة، من ذلك:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28 - 29].

وآية أخرى من سورة التحريم تحدث عن غيرة بعض نسائه عليه الصلاة والسلام، وما كان لها من الأثر في تغليبهن العاطفة على العقل؛ مما جعلهن يدبرن ما يتظاهرن به على الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ردهن القرآن إلى العبادة:{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4].

هذه هي المرأة في أسمى البيئات النسوية، لم تسلم من التأثر الشديد بدواعي العاطفة، ولم تنهض قوتها المعنوية على مغالبة نوازع الغيرة، مع كمال إيمانها، ونشأتها في بيت النبوة والوحي، فكيف بامرأة غيرها لم تؤمن إيمانها، ولم تنشأ نشأتها، وليس لها ما تطمع به أن تبلغ شأوها أو تقارب منزلتها؟!

فالحق: أن المرأة بأنوثتها عرضة للانحراف عن مقتضى الحكمة والاعتدال في الحكم، وهذا ما عبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بنقصان العقل، ورتب

ص: 287

عليه كما جاء في القرآن الكريم: أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل.

ومجمل القول في هذا كله: أن المرأة لا يجوز لها أن تباشر عملاً من أعمال الولاية العامة مطلقاً، ولا يجوز لها كذلك أن تغشى الأندية والمحافل والمجتمعات العامة، مهما كان السبب الذي يدفعها إلى ذلك؛ لأننا أمة إسلامية، والإسلام يلزمها هذه الحدود، ولا يجيز لها أن تتعداها.

ص: 288