الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنن والحكم النّبوية
(1)
عن ابن عباس رضي الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: "إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب، فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم، فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإياك وكرائمَ أموالهم، واتق دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب".
رواه البخاري في "صحيحه".
اشتمل هذا الحديث الشريف على ثلاثة أركان من أركان الإِسلام، وهي: كلمة الشهادة، وفريضتا الصلاة والزكاة. ودل بعد هذا على أحكام متعددة، ومواعظ حسنة، فهو معدود من الأحاديث العظيمة الشأن.
وقصة إرساله عليه الصلاة والسلام معاذاً إلى اليمن مشهورة، أرسله ليدعو إلى الإسلام، ويلي أمر اليمن، ويقضي بين الناس.
فكان معاذ داعياً ووالياً وقاضياً.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء السابع المجلد الحادي عشر، محرم 1358 هـ.
أما الدعوة، فيدل لها هذا الحديث؛ فقد قال له:"فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله"، وهذه هي الدعوة، وأمره بأن يأخذ منهم الزكاة، وقال:"فإياك وكرائم أموالهم"، وذلك معنى الولاية.
وأما القضاء، فيدل له الحديث الآخر، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -لما بعث معاذًا إلى اليمن، قال له:"كيف تصنع إن عرض لك قضاء؟ "، قال: أقضي بما في كتاب الله، قال:"فإن لم يكن في كتاب الله؟ "، قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:"فإن لم يكن في سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ "، قال: أجتهد رأي لا آلو؛ أي: لا أقصر (1).
قال في الحديث: "إنك ستأتي أقواماً من أهل الكتاب":
كان في اليمن أهل كتاب من يهود ونصارى، وغير أهل كتاب؛ كعبدة الأوثان، ومعاذ مرسل إلى أهل الكتاب وغيرهم من المشركين، وخص في الحديث أهل الكتاب بالذكر؛ لينبهه على أنه سيأتي قوماً أولي علم في الجملة، فيحتاج إلى عناية ويدل جهد في دعوتهم، وإقامة الحجة عليهم أكثر مما يحتاج إليه في دعوة غيرهم.
ودخلت اليهودية اليمن منذ عهد بعيد، حتى دخل فيها بعض ملوك حمير، وقامت هناك دولة متهودة إلى أن جاء الحبش - وهم نصارى - كما فقوضوا أركانها، وبقيت طوائف من اليهود مفرقين في البلاد.
وكانت النصرانية في نجران من بلاد اليمن، ومن المعروف في السيرة: أن وفد نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من نصارى العرب، وهم
(1) صححه ابن العربي، وابن القيم.
الذين نزلت فيهم آية المباهلة: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61].
"فإذا جئتهم، فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله":
أمره في الحديث بأن يدعو أهل الكتاب إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وظاهر هذا: أنهم غير مؤمنين بأن الله واحد، أما النصارى، فلأنهم يقولون: إن المسيح ابن الله، وانه إله، وهذه العقيدة تخرج بهم عن الإيمان الحق، وتجعلهم في حاجة إلى أن يُدعوا إلى توحيد الله قبل أن يُدعوا إلى الإيمان برسوله الكريم.
وأما اليهود، فكانوا يعتقدون في عزير أنه ابن الله هو {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] وقد تبرأ بعض اليهود المتأخرين من هذه العقيدة، وبراءتهم هذه لا تقف في صدق الآية الكريمة، فقد نزلت واليهود بالمدينة، وحول المدينة ولم ينقل عن أحد منهم إنكار هذه العقيدة، فليس من شك في أنها كانت معروفة عندهم، ويكفي في صدق الآية أن تكون عقيدة طائفة منهم.
وزِيَد في كلمة الشهادة: التصديق بالرسالة المحمدية؛ لأن حقيقة الإيمان لا تحصل إلا به، فمن لم يشهد برسالة النبي - صلوات الله عليه - فهو كافر. هذا ما اتفق عليه علماء الإِسلام، وأصبح معلوماً من الدين بالضرورة، ومن دلائله قوله تعالى:{وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا} [الفتح: 13].
"فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة":
والحديث ظاهر في أن لا صلاة واجبة - أي: يعاقب على تركها - غير الصلوات الخمس، وصلاةُ الوتر في مرتبة السنّة، وقد استدل عبادة بن الصامت على عدم وجوبها بمثل هذا الحديث، روى مالك في "الموطأ": أن عبادة ابن الصامت رضي الله عنه سئل عمن قال: إن الوتر واجب، فأنكر عبادة ذلك، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله عز وجل؛ على العباد، فمن جاء بهن، لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن، كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن، فليس له عند الله عهد، إن شاء عذبه، وإن شاء أدخله الجنة".
"فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم":
نص في هذا الحديث على من تؤخذ منه الزكاة، وهم الأغنياء، والغني: من يملك نصابًا من الأنصبة المفصلة في أحاديث أخرى، وقوله:"أغنيائهم" جمع مضاف، والجمع المضاف يفيد العموم، ويؤخذ من عمومه: أن الزكاة واجبة في مال الصبي، وبهذا قال مالك، والشافعي، وكثير من الفقهاء، وأضافوا إلى دليل العموم في هذا الحديث: أثرين أوردهما الإمام مالك في "الموطأ":
أولهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة.
ثانيهما: أن عائشة رضي الله عنها كان في حجرها يتيمان، وكانت
تُخرج من أموالهما الزكاة.
وذهب بعض الأئمة إلى عدم وجوب الزكاة في مال الصبي، وقالوا: إن العموم في قوله: "من أغنيائهم" يحمل على المكلفين، والصبي فاقد لأحد شروط التكليف، وهو البلوغ، وأجابوا عن الأثرين - أعني: أثر عمر بن الخطاب، وأثر عائشة -: بأنهما من قبيل الاستدلال بمذهب الصحابي، ومذهب الصحابي لا يمنع المجتهد من أن يبحث عن الحكم في أصول الشريعة بنفسه، ويقرر في الواقعة الحكم الذي يصل إليه من طريق الاجتهاد.
ويؤخذ من قوله: "أغنيائهم": أن الزكاة تجب في الحلي الذي تملكه المرأة لتتجمل بلبسه، فإنها تصير به غنية، وهو مذهب جماعة من الصحابة، وبه قال الإمام أبو حنيفة.
وذهب جماعة من الصحابة إلى عدم وجوب الزكاة فيه، وبه أخذ الشافعية، والمالكية، وأورد مالك في "الموطأ" على هذا أثرين:
أحدهما: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحلّي بنات أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي، فلا تخرج عن حليهن الزكاة.
وثانيهما: أن عبد الله بن عمر كان يحلي بناته وجواريه الذهب، ثم لا يخرج من حليهن الزكاة.
فإن اتخذ الرجل حلي النساء ليلبسه أهله منهن، وكان عنده من اتخذه من أجلهن من نحو زوج أو بنات، فلا زكاة فيه، فإن اتخذه رجاء أن تكون له أهل يتجملن به، فهذا لا يسقط عنه الزكاة؛ لأنه اتخذ ما لا يباح له لبسه، وليس عنده أهل للتحلي به.
ولا زكاة في الحلي المباح يتخذه الرجل للعارية؛ لأنه متخذ للبس
مباح، مع ما اقترن بذلك من قصد القربة.
وقوله: "فترد على فقرائهم" يدل على أن الزكاة تصرف للفقراء.
واختلفوا في المقدار الذي يملكه الشخص، فينتفي عنه الفقر، وتحرم عليه الصدقة، وهذا الحديث يدل على أن من ملك نصاباً مما تجب فيه الزكاة، فهو غني، فلا حق له في الزكاة، ووجه دلالة هذا الحديث: أنه قال: "تؤخذ من أغنيائهم" فوصف من تؤخذ منه الزكاة بالغنى، ولا تحل الصدقة لغني.
وظاهر هذا الحديث: أن الصدقة تصرف للفقير، ولو كان قادراً على الكسب؛ فإنه قال:"فترد على فقرائهم"، فجعل صرفها منوطاً بصفة الفقر.
وذهب بعض الأئمة إلى أن الزكاة لا تحل لمن كان قوياً على الكسب، وإن لم يملك شيئاً؛ لأنه بالقدرة على الكسب أصبح في حكم الأغنياء.
والمراد بالقوي على الكسب: من يقدر على كسب ما يقوم بضرورات الحياة، فسليم البنية الذي يبذل جهده في الكسب، ولا يصل إلى ما يقوم بالضروري من عيشه، أو عيش من يعولهم، يجوز صرف الزكاة له؛ لأنه لم يقدر على كسب ما يكفي حاجته.
ودل قوله: "على فقرائهم" على أن الزكاة إنما تعطى للفقير المسلم، ولا حق فيها للفقير الكافر؛ فإن الضمير في قوله:"فقرائهم" يعود على من أطاعوا بالشهادتين، وصاروا بذلك من القوم المسلمين.
ويؤخذ من قوله: "فقرائهم": أن الزكاة تفرق على الفقراء الذين هم بالبلد الذي أخذت منه الزكاة، وهذا هو الوجه، إلا أن تكون حاجة غيرهم أشد، فيجوز لولي الأمران يفرق بعض الصدقة بموضعها، وينقل الباقي
إلى موضع الحاجة.
ومن ذهب من الأئمة إلى جواز نقل الزكاة من بلد إلى آخر، يرى أن الضمير في قوله:"فقرائهم" يعود على من يدعوهم معاذ من أهل اليمن بصفتهم مسلمين، فكأنه يقول: يرد على فقراء المسلمين.
وظاهر هذا الحديث - حيث اقتصر على الفقراء -: أنه يجوز صرف زكاة أهل البلد إلى صنف من الأصناف الثمانية المشار إليها بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60] ، وبهذا قال مالك، والقائلون بوجوب توزيعها على الأصناف الثمانية يتاولون هذا الحديث على أن الاقتصار على ذكر الفقراء روعي فيه الغالب؛ لأنهم أغلب جهة تصرف إليها الزكاة.
ثم قال: "فإن هم أطاعوا لك بذلك فإياك وكرائم أموالهم":
الكرائم: جمع كريمة، والمراد: نفائس الأموال من أي صنف كان.
نهاه عن أخذ خيار المال؛ لأنه إجحاف بحق أصحاب الأموال، إلا أن يعطوا الخيار من أنفسهم، وفي كتاب "الموطأ": أن عمر بن الخطاب مر بغنم من الصدقة، فرأى فيها شاة حافلاً (1) ذات ضرع عظيم، فقال عمر: ما هذه الشاة؟ فقالوا: شاة من الصدقة، فقال عمر:"ما أعطى هذه أهلها وهم طائعون، لا تفتنوا الناس، لا تأخذوا حزرات (2) المسلمين".
(1) الحافل: التي اجتمع اللبن في ضرعها.
(2)
الحزرة من المال: خياره.
لا يجوز للعامل على الزكاة أخذ كرائم الأموال، ولا يجوز له أن يأخذ معايبها، فقد جاء في "صحيح البخاري":"لا يؤخذ في الصدقة هرمة، ولا ذات عوار"، والعوار: العيب.
ويؤخذ من الحديث: أن الحق إذا تعلق بمال تختلف أفراده بالخيار والرداءة، أخذ الحق من الوسط، وذلك ما يقتضيه العدل.
وفي قوله: "واتق دعوة المظلوم" تنبيه على أن أخذ أطايب الأموال في الزكاة ظلم، وأخرج النهي في صيغة عامة؛ ليتناول النهي كل نوع من أنواع الظلم.
"فإنه ليس بينها وبين الله حجاب":
الحجاب في الأصل: الستر الحائل بين الرائي والمرئي.
ولما كان الشأن في الساتر المنعَ من الوصول إلى المقصود، عبر بنفيه عن عدم المانع من وصول الدعوة إلى الله، فقوله:"ليس بينها وبين الله حجاب" يرجع إلى معنى: أنها ليس لها صارف يصرفها، ولا مانع يمنعها، ونفي المانع من وصول دعوة المظلوم إلى الله كناية عن قبولها وإجابتها. ودعوة المظلوم مقبولة، وإن كان عاصياً، يدل على هذا حديث أبي هريرة فيما رواه الإمام أحمد بن حنبل:"دعوة المظلوم مستجابة، وإن كان فاجراً، ففجوره على نفسه".
والحديث يدل على قبول خبر الواحد، ووجوب العمل به؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل معاذًا إلى اليمن، وأمره أن يبلغهم الدعوة إلى الشهادة؛ والصلاة والزكاة، ولولا أن خبره حجة عليهم، لما اكتفى بإرساله إليهم وحده.
وأدلة قبول خبر الواحد فيما يرجع إلى الأحكام العملية قائمة متوفرة،
ويلحق بالأحكام العملية: العمليات التي لا ترجع إلى عقائد الإيمان؛ كالأخبار المتعلقة ببعض الأمور المغيبة مما لا يدخل في حقيقة الإيمان، وأما ما يرجع إلى العقائد، فإنما يتمسك فيه بالأدلة القطعية.
واقتصر في الحديث على الصلاة والزكاة، ولم يذكر فيه فريضتي الصوم والحج، مع أن بعث معاذ إلى اليمن كان في سنّة عشر، وهاتان الفريضتان مشروعتان، ووجه ذلك: أن في الصلاة والزكاة مشقة على النفوس أعظم من مشقة الصوم والحج، أما مشقة الصلاة، فلتكررها في كل يوم خمس مرات، وأما مشقة الزكاة، فلغلبة الشح على النفوس؛ فقد يحتمل الإنسان مشاق بدنية دون أن يبذل شيئاً من ماله في وجه لا يراه يعود عليه بفائدة دنيوية عاجلة، ونرى كثيراً ممن لا يحافظون على الصلاة، ولا يؤدون زكاة أموالهم، قد يلتزمون الصوم، ويسافرون لأداء فريضة الحج.
فمن أجاب دعوة الصلاة والزكاة، وسهل عليه أداؤهما، أجاب دعوة الصوم والحج عند إلاستطاعة من غير تردد.