المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأصول النظرية الشرعية - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٤/ ١

[محمد الخضر حسين]

الفصل: ‌الأصول النظرية الشرعية

‌الأصول النظرية الشرعية

لم يختلف المسلمون في أن الشريعة الإِسلامية نزلت لتقرير أحكام الوقائع، فلا واقعة إلا لها مدلول عليه بالنص، أو بأصل من الأصول المستمدة من النصوص.

أما الأحكام المستفادة من النصوص، فهي الأحكام المأخوذة من الكتاب والسنّة؛ كتحريم الميسر، ومنع القاضي من أن يقضي وهو غضبان، وجواز الشفعة للشريك. وقد أريناك بوجه عام أن كل ما قرره الشارع من أحكام مفصلة هو دائر بين حفظ المصالح ودرء المفاسد. وسنتناول بإذن الله تعالى القول في هذه الأحكام بتفصيل كما اقتضى المقام بيانها.

وأما الأحكام المدلول عليها بأصول عامة، فيستبين أمرها بالنظر في هذه الأصول، وهو ما أزمعنا البحث عنه منذ الآن. وسترى من هذه الأصول كيف تيسر للشريعة أن لا تدع واقعة من غير حكم، وكيف تتحرى بالأمة أرشد طرق المدنية، وأعدل نظم القضاء. واحتواء الشريعة على أصول عامة، وتناول الأصول لما لا يتناهى من الوقائع مما يزيدنا تفقهًا في قوله عليه الصلاة والسلام:"بعثت بجوامع الكلم"، ويضع في أيدينا معجزة ما زال كثير من الناس عنها في غطاء، وهي شريعة سمحة حكيمة تتناول كل ما يمكن تصوره من الحوادث على تباعد المواطن واختلاف الأجيال. وما جاءت على هذا

ص: 28

النحو إلا لأن رسالة المبعوث بها عامة؛ كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبا: 28].

ونحن نعلم أن الألفاظ وضعت للدلالة على ما في النفس، فمتى أتى المتكلم بلفظ شأنه أن يدل على ما في نفسه، وششبين منه المخاطبون قصده، وقف عنده، سواء كانت دلالته بالمنطوق، أو المفهوم، أو بمقتضى المعنى، أو بقرينة حال، أو عادة مطردة.

ويكفي في الخطاب الموجه إلى الناس كافة أن يفهمه القوم المستنيرون منهم، وهم الذين يبلّغون سائر الطبقات ما فيه من أحكام وحكمة. وإذا كان هذا شأن المتكلم بلغة العرب، بل شأن المتكلمين بألسنة غيرها فيما يظهر، فمن حكمة الشريعة العامة الخالدة أن تسلكه في إرشادها، وفيما تسنّه من أحكام لا تنقضي وقائعها.

والأصول التي نريد البحث عنها في هذا المقام هي: القياس، والاستصحاب، ومراعاة العرف، وسد الذرائع، والمصالح المرسلة، والاستحسان:

* القياس:

حقق علماء الإِسلام أن لكل حكم شرعي حكمة تلائم شرعه، ومرجع الحكمة إلى رعاية المصالح والمفاسد، وقد قرر المحققون؛ كأبي إسحاق الشاطبي، وغيره: أن أحكامه تعالى معللة بمصالح العباد، وهذا معروف باستقراء موارد الشريعة؛ كقوله تعالى:{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]. وقوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ

ص: 29

وَطَرًا} [الأحزاب: 37] وقوله صلى الله عليه وسلم في وجه طهارة الهرة: "إنها هي من الطوافين عليكم والطوافات"، وقوله في وجه منع بيع الثمرة قبل بدوِّ صلاحها:"أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟! ".

وإذا كانت الأحكام المنصوص عليها قائمة على رعاية المصالح، فإذا قرر الشارع للواقعة حكماً، ونبَّه في الآية أوالحديث على وجه المصلحة المناسبة لتقريره، أو كان ذلك الوجه ظاهراً ظهوراً لا تحوم عليه شبهة، صحَّ للمجتهد أن يعمد إلى كل واقعة تحقق فيها ذلك الوجه من المصلحة، ويسوِّي بينها وبين الواقعة المنصوص عليها فيما علّقه عليها الشارع من حكم، وذلك ما نسميه بالقياس.

فالقياس: أن يعمد المجتهد إلى حكم أمر معلوم، فيثبته لأمر آخر؛ لاشتراك الأمرين في علة الحكم. ومثال هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتناجى اثنان دون واحد"، وعلة هذا النهي: أن الاثنين إذا تناجيا دون رفيقهما، قد يقع في نفسه أن حديثهما في شأنه، ويحدث له من الظنون ما يكدر صفو الإخاء بينهم. وللفقيه متى اطمأن إلى هذه العلة أن يقرر حرمة محادثة اثنين بلسان لا يعرفه الثالث متى كانا يحسنان لساناً لا يعرفه رفيقهما؛ لأن علة النهي متحققة في هذه الصورة تحققها في المناجاة.

فأي عالم يتلو قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِوَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]، ولا يفهم أن علة الأمر بترك البيع عند النداء للصلاة كونه شاغلاً عن أدائها؟ وهذه العلة موجودة في غير البيع؛ نحو: الإجارة بلا فارق، فيصح إلحاقها بالبيع في منعها عند النداء لصلاة الجمعة.

ص: 30

وأي عالم يسمع قوله عليه الصلاة والسلام: "لا يبيع بعضكم على بيع بعض"، ولا يفهم أن علة النهي: ما يحدثه هذا البيع من التقاطع والعداء، ثم ينتقل بوسيلة العلة إلى حرمة استئجاره على إجارته؟

وإنما جعلنا القياس في صدر البحث من نوع دلالة اللفظ بالمعقول؛ لأن اللفظ إذا دل بمقتضى وضعه على حكم واقعة، وعرفت علة الحكم؛ فإن العقل متى وجد هذه العلة متحققة في واقعة أخرى، أدرك أن حكمها حكم الأولى، نظراً إلى أن الشارع يسوّي بين الواقعتين حيث اشتركتا في الوصف المؤثر في الحكم، وتماثلتا فيه من كل وجه.

فالقياس أصل من أصول الشريعة، وبه اتسع نطاقها، وصارت تتناول من الوقائع مالا يتناهى.

قال الإمام أحمد بن حنبل: لا يستغني أحد عن القياس.

وقال إبراهيم النخعي: ما كل شيء نسأل عنه نحفظه، ولكنَّا نعرف الشيء بالشيء، ونقيس الشيء بالشيء.

وقال الشعبيّ: إنا نأخذ في زكاة البقر فيما زاد على الأربعين بالمقاييس.

وقال المزني: الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل.

وقال ابن عقيل الحنبلي: قد بلغ التواتر المعنوي عن الصحابة باستعمال القياس، وهو قطعي.

وحقق أبو إسحاق الشاطبي أن أصل العادات (1) الالتفات إلى المعنى؛

(1) يعني بالعادات: ما سوى العبادات.

ص: 31

أي: إنها معقولة الحكمة، واستدل على هذا بامرين:

أحدهما: الاستقراء، فقال: إنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معها حيثما دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كانت فيه مصلحة جاز.

ثانيهما: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات، وأكثر ما علل بالمناسب الذي إذا عرض على المعقول، تلقته بالقبول، ثم قال: ففهمنا من ذلك: أن الشارع قصد منها اتباع المعاني، لا الوقوف على النصوص.

جرى العمل بالقياس لعهد الصحابة رضي الله عنهم، ثم التابعين، وظهر العمل عليه في العراق لعهد الإِمام أبي حنيفة وأصحابه أكثر من ظهوره في الحجاز، فاستكثروا منه، وبرعوا فيه، وما زال الناس يأخذون بالقياس إذا لم يجدوا في الواقعة نصاً، حتى جاء إبراهيم بن سيار النظام المتوفى سنة 221، فأحدث القول بإنكار القياس زاعماً الاستغناء عنه بالنظر إلى ما يدعونه من وصف الفعل بالحسن أو القبح الذاتيين.

قال أبو القاسم عبيد بن عمر في كتاب "القياس": ما علمت أن أحداً من البصريين ولا غيرهم ممن له نباهة سبق إبراهيم بن سيار النظام إلى القول بنفي القياس والاجتهاد، ولم يلتفت إليه الجمهور، وممن خالفه في ذلك فريق من زعماء المعتزلة؛ كأبي الهذيل، وبشر بن المعتمر، وبشر المريسي.

وظهر بعد هذا داود بن علي الأصبهاني المتوفى سنة 270، ونشأ بظهوره مذهب الظاهرية، وروي عنه: أنه كان ينكر القياس، إلا أن يكون جلياً، وهو ما يكون المقيس فيه أولى بالحكم من المقيس عليه؛ كتحريم ضرب الوالدين

ص: 32

قياسًا على التأفيف الثابتة حرمته في قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]. أو مساويًا؛ كحرمة إتلاف مال اليتيم باللبس قياسًا على أكله الثابتة حرمته بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]. وهذان النوعان يسميهما الأصوليون: مفهوم الموافقة. وأجاز بعضهم القياس الذي وقع النص على علته خاصة، وأنكروا ما كانت علته مستنبطة.

وجاء بعد هؤلاء أبو محمد علي بن حزم الأندلسي المتوفى سنة 456، فوقف في جمود، وأنكر أن تكون أحكام الشريعة معللة، وبنى على هذا الرأي الجامد. إنكار القياس جملة، ولم يفرق بين جليّ وخفيّ، وبين ما كانت علته منصوصة، وما كانت علته مستنبطة، قال في كتابه "الأحكام": ذهب أهل الظاهر إلى إبطال القياس جملة، وهو الذي ندين الله به، والقول بالعلل باطل" وقال:"لا يشرع الله شيئاً من الأحكام لعلة أصلًا، فإذا نص الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم على أن أمر كذا بسبب كذا، أو من أجل كذا، أو لأنه كان كذا، فعندي أنه جعل ذلك سبباً للشيء في ذلك الموضع خاصة، ولا توجب تلك الأسباب شيئاً من تلك الأحكام في غير تلك المواضع البتة" وأغلظ القول على القائلين بالقياس، وحمل عليهم حملة جافية.

والناظر في الشريعة بتدبر، القائم على سير الأئمة المجتهدين بيقظة، يدرك أن ابن حزم سار في غير سبيل، واعتمد على غير دليل.

تحدث أبو بكر بن العربي في كتاب "العارضة" عن طائفة الظاهرية، وقال: وغُرّ بهم رجل كان عندنا يقال له: ابن حزم، انتدب لإبطال النظر، وسدِّ سبل العبر، ونسب نفسه إلى الظاهر اقتداءً بداود وأشياعه، واعتمد

ص: 33

الرد على الحق نظمًا ونثراً.

ثم أورد القاضي أبو بكر أبياتاً في الرد عليه، ومما يقول في الأبيات:

إنَّ الظواهر معدودُ مواقعها

فكيف تحصي بيانَ الحكم في البشر

فالظاهريةُ في بطلانِ قولهم

كالباطنية غير الفرق في الصور

كلاهما هادم للدين من جهة

والمقطع العدل موقوف على النظر

هذي الصحابة تستمري خواطرها

ولا تخاف عليها غرة الخطر

وتعمل الرأي مضبوطاً مآخذه

وتخرج الحق محفوظاً من الأثر

بالغ ابن حزم في إنكار القياس وجحوده أن تكون أحكام الشريعة معللة، وادعى أن نصوص الشريعة وافية بكل ما يحتاج إليه من أحكام، وقد خرج بهذه النزعة عن طريقة السلف، ولم يرتضها منه المحققون من الخلف، وجمهور أهل العلم يتمسكون بأصل القياس، وإن كانوا يختلفون في بعض ضروبه، وهؤلاء اختلفوا في تقدير الأحكام المستفادة من النصوص، فمنهم من يراها قليلة بالنسبة لما يؤخذ من طريق الأقيسة، حتى قال إمام الحرمين: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة، وسائرها مأخوذ من طريق القياس.

وقال قوم منهم ابن تيمية: إن النصوص وافية بمعظم أحكام العباد، والبقية مشروعة على طريق القياس.

وقد يكون اختلافهم في هذا التقرير راجعاً إلى اختلافهم في فهم النصوص، وفيما تتناول من معان، فبعضهم لا يتعدى في تفسير اللفظ صورة واحدة، وغيره يذهب في تأويله إلى معنى واسع، ويجعله شاملاً لصور شتى، فالخمر المحرّمة بالكتاب - مثلاً - يحملها بعضهم على عصير العنب خاصة، وعليه فما لا يكون من عصير العنب من المسكرات، يرجع في حرمته إلى

ص: 34

دليل آخر؛ كالقياس.

ويذهب آخرون إلى أن الخمر في القرآن يتناول كل مسكر، واستدلوا على هذا بحديث مسلم:"كل مسكر خمر"، فعلم من الحديث أن لفظ الخمر لم يكن مخصوصًا بعصير العنب، فيكون المسكر من غير عصير العنب محرمًا بنص الآية، سواء أكان، الحديث مبيناً لمعنى الخمر لغة، أم مبيناً له على مقتضى عرف الشارع، فإن الشارع يتصرف اللغة، ومن تصرفاته فيها: أن يستعمل اللفظ فيما هو أعمّ من معناه؛ كما يستعمله فيما هو أخص منه.

ونحن لا ننكر أن من أنصار القياس من أوردوا في الاستدلال على صحته ما يقصر عن أن يفيد علماً، أو يكسب ظنًا، كما أن منكري القياس ساقوا آيات واَثارًا تعسفوا في جعلها أدلة على بطلانه، وإنما يقصد بتلك الآيات والآثار: الآراء التي لا تستند إلى علم، والأقيسة التي تتكئ على غير أصل؛ كقياس الذين قالوا:"إنما البيع مثل الربا"،

وأما القياس بمعنى: الحكم على الشيء بحكم نظيره الموافق له في المعنى، المقتضي للحكم بدون فارق، فذلك ما لا يختلف أولو الألباب في صحته.

قال ابن قيِّم الجوزية: وهل يستريب عاقل في أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان" إنما كان ذلك لأن الغضب يشوش عليه قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين إنعام النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، فمن قصر النهي على الغضب وحده دون الهم المزعج، والخوف المقلق، والجوع، والظمأ الشديد، وشغل القلب

ص: 35

المانع من اللهم، فقد قلَّ فقهه وفهمه.

فالقياس أصل في الشريعة أصيل، وإذا تعرض له نفر بعقول غير راجحة، أو بقلوب غير عامرة بالتقوى، فابتغوه وسيلة إلى أحكام تتبرأ منها الشريعة، فقد بليت النصوص - وهي حقائق كالصبح إذا أسفر - بامثال هؤلاء، فخرجوا بها عن مقتضى الحكمة والبلاغة، وجاؤوا في تأويلها بما يشاكل عقولهم، ويرضي شهواتهم.

قال الإِمام الشافعي رضي الله عنه: "ولا يكون لأحد أن يقيس حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس واختلافهم، ولسان العرب، ويكون صحيح العقل، حتى يفرق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول، ولا يمتنع من الاستماع ممن خالفه؛ لأن له في ذلك تنبيهاً على غفلة ربما كانت منه، أو تنبيهاً على فضل ما اعتقد من الصواب".

* الاستصحاب:

يجد الإنسان في نفسه أنه إذا تحقق عدم شيء أو وجوده، كان على ظن من استمرار ذلك الشيء على ما تحقق فيه من عدم أو وجود، ويبني على ذلك الظن أعمالاً ليس من شأنه أن يفعلها في حال ما إذا كان في شك من استمرار الشيء على العلم أو الوجود، فإذا ناقش أحد في مراسلة الشخص ممن عرف وجوده، وزعم أن مثل هذه المراسلة يكفي فيها أن يكون على شك من استمرار وجوده، فإنه لا يستطيع أن يناقش في أن من اشترى حيواناً غائبًا - مثلاً - كان قد رآه من قبل، ودفع ثمنه، أنه اعتمد على ظن استمرار حياته، ولا يستطيع أن يناقش في أن من اقتحم بصبيته مفازة مغبرَّة الأرجاء، دون أن يحمل معه ماءً كافياً، إنما اعتمد على ظنّه بقاء ما عرفه فيها من آبار

ص: 36

نابعة. ولولا ما يغلب على ظن الأب العطوف من حياة ابنه الغائب في سفر، لما كان يبيت إلا في قلق وحيرة. وإنك لتجلس إلى الإنسان العاقل، وتسأله عن شخص عرف أحواله، ثم انقطع عنه شهرًا أو سنة، فيتحدث عنها بكلام من لا يشك في أنها واقعة في الحال، فيقول: هو موسر، أو بائس، له ولد، أو لا ولد له، وبينه وبين فلان عداوة أو صداقة.

وظنُّ الإنسان لاستمرار ما تحقق عدمه أو وجوده، منبّه إلى أن الأصل في عدم الشيء أو وجوده الاستمرار حتى يقوم الشاهد على انقطاعه، وهذا الأصل مما نظر إليه الفقهاء عند تقرير الأصل الذي يسمونه:(الاستصحاب). الاستصحاب: أصل من أصول الشريعة التي تجعل العلماء في فسحة، وتخلصهم من مواقف الحيرة، وهو أصل متفق على العمل به في الجملة، وإن اختلفوا في بعض ضروبه.

قال القرطبي: "القول باستصحاب لازم لكل أحد؛ لأنه أصل تنبني عليه النبوة والشريعة، فإن لم نقل باستمرار حال تلك الأدلة، لم يحصل العلم بشيء من تلك الأمور".

واستمرار حال أدلة النبوة والشريعة من الاستصحاب الذي لا يختلف العقلاء في صحته، ولا يتطرق إليه الريب في حال.

ونحن لا نقصد في هذا المقام إلى بسط القول بذكر مذاهب الفقهاء في الاستصحاب، وتقرير أدلتها، فموضع ذلك كتب الأصول، والقصد أن نتحدث عنه بمقدار ما يستبين القارئ حقيقة أصل من الأصول التي جعلت مجال الاجتهاد فسيحًا، وطريق الفتوى ممهدة، ولا تنجلي حقيقته إلا ببيان أقسامه، وضرب المثل لكل قسم منها، وذلك ما نتحرَّاه في هذا المقال:

ص: 37

الاستصحاب: ثبوت أمر في الزمن الحاضر بناء على ثبوته فيما مضى، فالأمر الذي علم وجوده، ثم طرأ الشك في عدمه، فالأصل بقاؤه، والأمر الذي علم عدمه، ثم عرض الشك في وجوده، فالأصل استمراره في حال العلم، فمن تزوج فتاة على أنها بكر، ثم ادعى بعد البناء بها أنه وجدها ثيبًا، لم تقبل دعواه إلَّا ببينة؛ لأن حال البكارة ثابت من حين نشأتها، فيستصحب إلى حين البناء حتى تقوم على عدمه البينة. ومن اشترى طائراً أو كلباً على أنه يحسن الصيادة، وادعى بعدُ أنه وجده غير متعلم لها، سُمعت دعواه هذه، إلا أن تدفع ببينة؛ لأن حال الحيوان في الأصل عدم معرفة الصيادة حتى يعلَّمها، فإذا وقع فيها تردد، استصحب الأصل حتى يقوم الشاهد على ثبوتها.

والاستصحاب كسائر الأصول التي يستخلصها المجتهد من استقراء جزئيات كثيرة من موارد الشريعة، ويرجع بمقتضى ما ذكره علماء الأصول إلى أربعة أقسام:

أحدها: استصحاب ما هو حكم الأشياء في الأصل حتى يقوم الدليل على ما يخالفه، وبيان هذا: أن كثيراً من أئمة الشريعة ذهبوا إلى أن الأشياء في الأصل خالية من الحكم؛ أي: أنها لا توصف بشيء من الأحكام الشرعية من الوجوب والحرمة، والندب والكراهة والإباحة، ومقتضى هذا: رفع الحرج والإثم عن الفعل والترك، ورجَّح فريق أنها على الإباحة. ومآل القولين واحد، فإن الحرج في الفعل والترك مرفوع على كلا المذهبين، وإنما يمتاز مذهب الإباحة بأنه صريح في التخيير، أما مذهب انتفاء الأحكام، فغايته رفع الحرج، ورفع الحرج لا يستلزم التخيير في الأمر، لاحتمال أن يكون مكروهاً.

ص: 38

ورأى آخرون أنها على المنع. وأدلة هذه المذاهب مبسوطة كما ذكرنا في كتب الأصول.

وتظهر فائدة الخلاف في الأشياء التي لا يجد المجتهد على حكمها من دليل.

أو الأشياء التي تتعارض عندها الأدلة، ولا يبدو له في جانب أحدها وجه من الترجيح.

فهذه الأشياء يرجع بها كل فريق من أصحاب هذه المذاهب إلى استصحاب ما يراه أصلًا للأشياء، فهذا يستصحب فيها انتفاء الحكم، فتلحق بما لا حرج فيه، وذاك يستصحب فيها الإباحة، فتكون من قبيل المخير في فعله وتركه، والآخر يستصحب فيها المنع، فتدخل فيما لا يجوز الإقدام عليه.

وقد يسبق إلى ظنك أن القول بانتفاء الأحكام واستصحاب هذا الانتفاء فيما لا يطلع له المجتهد على حكم، يجعل بعض الأفعال خالية من أحكام الشريعة، فيدفع هذا الظن بأن المجتهد يصل به الدليل المعتدّ به في نظر الشارع إلى أن ما لا يجد له حكماً في نص أو قياس، يستصحب الأصل الذي هو انتفاء الأحكام الخمسة المقتضي رفع الحرج، فيرجع إلى أن حكم الشارع فيه رفع الحرج في الفعل والترك.

هذا: وقد اختار كثير من المحققين أن الأصل في الأشياء الإباحة، فهي على التخيير حتى ينهض الدليل على ما سواه من كراهة أو حرمة، أو ندب أو وجوب، فإذا عرض لهؤلاء، أو للقائلين بأن الأصل انتفاء الأحكام أمر، اجتهدوا في تعرف حكمه من الأدلة السمعية أو القياس، فإن لم يظفروا

ص: 39

به هنالك، استصحب الأولون فيه الإباحة، واستصحب الآخرون رفع الحرج والإثم. ومقتضى هذا الأصل أن كل ما يوجد في هذا الكون من جماد أو نبات أو حيوان، ولم يرد في الشرع ما يقتضي النهي عن تناوله واستعماله،

يكون من قبيل المأذون فيه.

ذلك ضرب من الاستصحاب.

وهنا ضرب آخر، وهو استصحاب ما دلّ الشرع على ثبوته؛ كملك الأرض أو البضاعة عند تحقق القول المقتضي له، وحلِّ النكاح بعد امتلاك العصمة، وشغل الذمة عند التزام مال أو إتلافه، فإذا عرض شك في الملك، أو حل النكاح، أو شغل الذمة، ألغي الشك، وقضي باستمرار الملك حتى تقوم البينة على نفيه، وببقاء العصمة حتى يعلم انقطاعها، وببقاء الذمة مشغولة بما التزمت، وقيمة ما أتلفت حتى تثبت براءتها بإقرار أو بينة.

والقضاء ببقاء الملك أو العصمة أو شغل الذمة، مع عروض الشك فيها، يستند إلى استصحاب ما دلّ الشرع على ثبوته قبل حال الشك، فصار بعد حال الشك بمنزلة المعلوم. ولم يختلف أهل العلم في العمل بهذا الضرب من الاستصحاب إلا أن يقوم تجاهه ما يراه المجتهد أقرب دلالة، وأظهر حكماً.

ذانك ضربان من الاستصحاب.

وهنا ضرب ثالث، وهو استصحاب العلم الأصلي؛ كأن يدعي الشريك أو المضارب أن المال لم ينتج عنه ربح، فتقبل دعواه استصحابًا للأصل الذي هو عدم الربح، إلا أن يثبت الربح ببينة. ومن مُثله: أن يشتري المضارب صنفًا من البضائع، فيدّعي صاحب المال أنه نهاه عن شراء هذا الصنف،

ص: 40

وينكر المضارب، فالقول للمضارب؛ استصحاباً للأصل الذي هو عدم النهي. وهذا الضرب من الاستصحاب لا يخالف في العمل به أحد من أهل العلم، إلا أن يصرفه عنه دليل أظهر منه وأقوى.

تلك ثلاثة أضرب من الاستصحاب.

وهنا ضرب رابع منه، وهو أن يعلم ثبوت أمر عقلي أو حسي بإحدى طرق العلم، ثم يقع الشك في زواله، فيستصحب بقاؤه، وتجري الأحكام على هذا الاستصحاب حتى يحصل العلم أو الظن بزواله، ومن أمثلته الدائرة: أن يفقد شخص، فيقوم بعض من شأنه أن يرثه مدعيًا وفاته مطالباً بقسم ما ترك من مال، فترد دعواه بأن حياة ذلك الشخص كانت قبل الفقد معلومة، فتستصحب فيما بعد حتى يقوم الشاهد بوفاته.

وهذا الضرب من الاستصحاب يعمل عليه كثير من أئمة الفقه، وخالف في حجيته أئمة آخرون، وذهبوا فيه مذاهب وسعتها كتب الأصول بحثاً واستدلالاً.

تلك أربعة أضرب من الاستصحاب.

وهنا ضرب خامس يسمى: استصحاب الإجماع، وهو أن يكون الأمر بحالة، ويتفق فيه على حكم، ثم يتغير إلى حالة أخرى، فيستصحب حكم الإجماع في الأمر بعد تغيره حتى يقوم الدليل على أن له حكماً غير ما انعقد عليه الإجماع.

والمثال الذي يوضحه: مناظرة جرت بين أبي سعبد البردعي، وداود الظاهري في بيع أم الولد، قال داود الظاهري: قد اتفقنا على جواز بيعها قبل العلوق بالحمل، فمن زعم أن بيعها بعد الولادة لا يجوز، فعليه الدليل.

ص: 41

فقال أبو سعيد: قد اتفقنا على منع بيعها حاملاً، فمن زعم أن بيعها بعد الوضع جائز فعليه الدليل. فسكت داود، ولم يحر جواباً، وهذا النوع من الاستصحاب قبله بعض أهل العلم وردَّ آخرون.

ذلك الاستصحاب، وتلك أقسامه، وقد استنبط الفقهاء استصحاباً آخر هو على عكس الأول، ويسمى: الاستصحاب المقلوب. وحقيقته: ثبوت أمر في الزمن السابق بناءً على ثبوته في الزمن الحاضر، وللمالكية فتاوى مبنية على رعايته؛ كمسألة الوقف الذي لا يدرى بعد البحث أصلُ مصرفه، وشرط واقفه، ولكنَّا نجده في الزمن الحاضر يصرف على حالة، إذ قالوا: إن هذه الحالة تستصحب فيما قبله، ويحمل على أن مصرفه في الأصل هكذا، وتكون الحالة التي يصرف عليها صحيحة حتى تقوم البينة على عدم مطابقتها لما صدر من الواقف. وكمسألة الزوج يغيب عن زوجته دون أن يترك لها نفقة، فتطالبه بما أنفقت في غيبته، فيدعي أنه كان في مدة الغيبة معسراً، وتدعي هي أنه كان موسراً، إذ قالوا: إنه ينظر إلى حال قدومه من عسر أو يسر، وتستصحب في زمان الغيبة، فإن قدم موسراً، عدّ في الغيبة ذا يسار، وقضي عليه بما تطلب الزوجة من النفقة. فها هنا ثبت أمر، وهو يسار الزوج في الزمن السابق، أعني: زمن الغيبة، بناء على ثبوته في الزمن الحاضر؛ أي: زمن قدومه، بالاستصحاب.

وإنما يعتمد المجتهد على الاستصحاب بجميع أقسامه بعد أن ينظر في الحادثة، ولا يجد لها حكماً في نص أو قياس.

قال الخوارزمي في كتاب "الكافي": "الاستصحاب آخر مدار الفتوى؛ فإن المفتي إذا سئل عن حادثة، يطلب حكمها في الكتاب، ثم في السنَّة، ثم

ص: 42

في الإجماع، ثم في القياس، فإن لم يجده، يأخذ حكمها من استصحاب الحال في النفي والإثبات، فإن كان التردد في زواله، فالأصل بقاؤه، وإن كان التردد في ثبوته، فالأصل عدم ثبوته".

هذا صفوة ما يقوله أهل العلم في الاستصحاب، وقد رأيته كيف يفتح للفقهاء طرقًا يصدرون بها الفتوى في يسر، وينفذون منها إلى فصل القضايا في سرعة، علاوة على ما فيه من الدلالة على سماحة الإسلام، وأنه دين الفطرة الذي لا يشعر أولياؤه بحرج فيما شرع من أحكام.

* مراعاة العرف:

للعادات أثر كبير في شرع النظم والقوانين، فلا غنى للمشرع عن مراعاتها، قليلاً أو كثيراً، ولها قسط وافر من عناية واضعي القوانين في القديم والحديث، فأساس القانون الروماني عادات كانت تجري في مدينة رومة؛ وأساس القانون الإنكليزي عادات السكسون والنورمان الذين فتحوا بلاد إنكلترة.

وكذلك الشريعة الإِسلامية لم تقطع النظر عن العرف، وجعلت رعايته أصلاً من أصولها العامة على شروط نذكرها فيما بعد.

ومن القواعد التي تدور عليها أحكامها السمحة: "العادة المحكمة".

والعرف والعادة: ما يغلب على الناس من قول أو فعل أو ترك.

ومثال العرف القولي من باب الوقف: قول الفقهاء في حبس يقول صاحبه: "هو حبس على ولدي": إنَّه يدخل فيه البنات، إذا كان لفظ الولد يطلق على الذكر والأنثى في عرف بلد الواقف، أو لم يكن هناك عرف، أما إذا كان عرفهم إطلاقه على الذكر فقط، فإنه يختص بالذكور، ولا يدخل

ص: 43

فيه الإناث، وإن كان معنى الولد لغة يعم المصنفين.

ويراعى العرف القولي، وإن لم يوافق لغة العرب، أو ما جاء في لسان الشارع. وعلى هذا ينبني قول بعض أهل العلم فيمن حلف لا يأكل لحماً، فأكل سمكاً: إنه لا يحنث؛ حيث إن السمك لا يسمّى في العرف لحماً، وإن سمي به في قوله تعالى:{وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]. كما أن من حلف لا يجلس على بساط، لا يحنث بجلوسه على الأرض؛ لأنها لا تسمى في العرف بساطًا، وإن كان لفظ البساط يتناولها بمقتضى معناه في لسان العرب، كما قال تعالى:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19].

يعتد بالعرف القولي متى كان عاماً لبلد أو قوم، وتحمل عليه ألفاظ المتكلمين من أهل تلك البلد بإطلاق، سواء في ذلك العقود والالتزامات، والأيمان والنذور، أما إذا كان العرف القولي خاصًا بالمتكلم دون قومه أو أهل بلده، حمل لفظه عند المالكية على عرفه الخاص في الأيمان والنذور والطلاق، أما العقود، فإنما يرجع فيها إلى العرف العام، أو الوضع اللغوي، إن لم يكن هناك عرف عام.

ومثال العرف الفعلي: الزوجان يختلفان في المهر بعد البناء، فيدعي الزوج أنه دفعه لها، وتنكر الزوجة ذلك، فقد قال الإِمام مالك: إن القول للزوج؛ لأن العرف بالمدينة كان جارياً بدفع المهر قبل الدخول. وتطَّرِد هذه الفتوى في كل بلد تجري فيه العادة بدفع المهر قبل البناء. ومن هذا القبيل مسألة الحيازة عند المالكية، فمن حاز عقاراً عشر سنين، ثم قام شخص يدعى استحقاق ذلك العقار، ولم يقم عذراً عن سكوته تلك المدة؛ بنحو غيبته عن البلد، أو عدم علمه بحيازة المدعى عليه للعقار، فإنه لا ينتفع بالبينة

ص: 44

التي تثبت له أصل الملك، ذلك لأن العرف جار على أن الرجل لا يشاهد غيره يتصرف في ملكه هذه المدة الطويلة، ويسكت عنه. وكذلك أفتى الإِمام المازري فيما إذا جرت عادة قوم بقدر الصداق، وعرفها المتعاقدان أن هذه العادة بمنزلة التسمية، ويحكم بذلك القدر المتعارف، ولا يكون النكاح من قبيل نكاح التفويض.

هذا هو الشأن في العرف الفعلي العام لقوم أو أهل بلد، أما العرف الفعلي الخاص بفرد، فقد حكى شهاب الدين القرافي: الإجماع على عدم الاعتداد به، فلا تخصص به العمومات، ولا تقيد به المطلقات. وأنكر عليه بعض الفقهاء المالكية حكاية الإجماع، وأوردوا مسائل في المذهب تدل على التخصيص بالعوائد الفعلية، وإن كانت خاصة. ومما ساقه بعضهم مثالاً لهذا الضرب من العرف: مسألة الرجل يوكَّل آخر على شراء ثوب، فيشتر له ما لا يناسب عادته أو عادة خدمه، فقد أفتوا بأن ما اشترى غير لازم للموكل، بل هو لازم للوكيل.

ومثال العرف الجاري بالترك: تسامح الناس في ثمر الغصن الخارج عن حدود البساتين، فمن وجد شيئاً منه واقعًا على الطريق - مثلاً -، ساغ له الانتفاع به دون توقف على الإذن الصريح من صاحبه؛ لأن أصحاب البساتين يتسامحون في مثله، ولا يتعرضون لمن يلتقطه.

والعرف ثلاثة أقسام:

أحدها: ما يقوم الدليل الخاص على اعتباره؛ كمراعاة الكفاءة في النكاح.

ثانيها: ما يقوم الدليل على نفيه؛ كعادة الجاهلية في التبرج، وطوافهم

ص: 45

بالبيت عراة، ومناصرة الأخ وإن كان ظالماً.

ثالثها: ما لم يقم دليل على اعتباره أو نفيه، وهذا موضع نظر المجتهدين، فيذهب كثير منهم إلى مراعاته، ويجعلونه أصلاً من أصول الشريعة يبنون عليه فتاوى وأحكاماً، وأكثر ما تجد هذه الفتاوى في كتب المالكية والحنفية والحنابلة.

وصلة العادة بالشريعة على وجهين:

أحدهما: أن يغلب على الناس أمر، فيقرره الشارع، ويجعله حكماً يقضي به عند الاختلاف. ومثال هذا من الشريعة الغرّاء: وضع الدية على العاقلة، ومراعاة الكفاءة في النكاح. والتحقيق: أن الشريعة العادلة لا تجعل نفس العادة قانونًا إلا أن تكون العادة معقولة صالحة.

ثانيهما: أن يغلب على الناس معنى، فيراعيه في تفصيل حكم الواقعة، حتى إذا تبدلوا بذلك المعنى عرفاً آخر، كان على المفتي إعادة النظر في الواقعة لتقرير حكم يراعى فيه العرف الطارئ، وهكذا يتجدد النظر في الواقعة ما تجددت العادات. ومثال هذا: أن يجري العرف في بضاعة بدفع ثمنها نقدًا، فإذا اشترى أحد شيئاً من هذه البضاعة، ووقع في حيازته، ثم قام البائع يدعي أنه لم يقبض ثمنها، وادعى المشتري أنه سلّم له الثمن حسب العادة الجارية، فأصل مراعاة العرف يقضي بأن يكون القول للمشتري مع اليمين متى عجز الباع عن إقامة البينة. فالحكم الذي بني على العرف في هذا المثال، وهو جعل القول للمشتري حيث صدّقه العرف حتى يكذبه البائع ببينة.

ومن أمثلته: أن العادة جارية في كثير من البلاد على أن الرجل يستودع

ص: 46

زوجته المال، فإذا سلم أحد إلى آخر وديعة، فوضعها عند زوجته، فضاعت منه، لا يكون ضامنًا لها، نظراً إلى هذا العرف، وكأن صاحب المال لعلمه بالعرضي إيداع الرجل لمال عند زوجته يعد راضياً بإيداع المال عند الزوجة، وإنما يضمن المودع إذا تصرف في الوديعة على وجه لا يرضى عنه صاحبها.

* هل يرعى العرف الفاسد؟

إذا جرى عرف الناس ببعض العقود الفاسدة - مثلاً -، فهل يراعى هذا العرف في بناء الأحكام، أو إنما تبنى الأحكام على العرف البخاري على وجه صحيح؟

ذهب كثير من فقهائنا إلى عدم مراعاة العرف الفاسد، وذهب آخرون إلى مراعاته. ومما ينبني على هذا: أن يجري عرف قوم ببعض العقود الفاسدة شرعاً، ويختلف المتعاملان، فيدعي أحدهما أن العقد وقع على الوجه الفاسد، يروم نقض البيع، ويدعي الآخر أنه وقع على الوجه الصحيح، فالقائلون بصحة مراعاة العرف الفاسد يرون العرف هنا شاهداً بصدق مدعي الفساد، فينقض البيع، إلا أن يقيم الآخر البينة على أن المعاملة جرت على وجهها الصحيح.

قال عبد المنعم بن الفرس في كتاب "أحكام القرآن": "وإذا تنازعا في بيع أو إجارة، وادعى أحدهما الصحة، والآخر الفساد، وكان الفساد الذي ادعاه جاريًا بين الناس، فالمشهور أن القول قول مدعي الصحة، ومن أصحاب مالك من يقول: القول عي الفساد، وتفسخ المعاملة".

والقائلون بمراعاة العرف الفاسد يثظرون إلى أن المعنى الذي اقتضى

ص: 47

جعل القول لمدعي الصحة فيما إذا جرى العرف على الصحة حاصل في العرف الفاسد، وهو غلبة معنى على الناس يقتضي غلبة الظن بصدق من اقترن هذا المعنى بدعواه.

وبمراعاة العرف في كثير من الأحكام صحّ أن تختلف أحكام بعض الوقائع باختلاف المكان والزمان؛ لأن العادة قد تجري في موطن دون آخر، وتطرأ في عصر، وتنقطع في عصر، ولا يعد اختلاف الأحكام باختلاف العادات اختلافاً في أصل خطاب الشارع، بل معنى هذا الاختلاف: أن العادات إذا اختلفت، اقتضت كل عادة حكماً يلائمها، فالواقعة إذا صحبتها عادة، اقتضت حكماً غير الحكم الذي تقتضيه عندما تقترن بغيرها من العادات، فإذا جرت عادة قوم باستقباح كشف الرأس في جماعة، كان للقاضي أن يعزر من استحق التعزير الخفيف بكشف رأسه في ملأ من الناس، فعمل من استحق التعزير قد اقترن بعادة استقباح كشف الرأس، فكان التعزير بكشف الرأس مجزئًا. وإذا لم يكن كشف الرأس في عادة قوم مستقبحاً، امتنع أن يكون طريقاً كافياً للتعزير، ولا بدّ للقاضي من اتخاذ طريق آخر يكون له وقع الألم في نفس المستحق للتعزير. فخطاب الشارع الذي تعلق بالواقعة المقتضية للتعزير حال صحبتها لعادة استقباح كشف الرأس، غيرُ الخطاب الذي يتعلق بواقعة مثلها تصاحب عادة عدم استقباح ذلك.

ولاختلاف الأحكام باختلاف العرف ترى فقهاء المذاهب لا يأخذون بفتاوى أئمتهم القائمة على رعاية العرف، متى تحققوا أن العرف قد تغير، وأن الواقعة أصبحت تستحق حكماً آخر غير ما قرره الأئمة من قبل، فلفقهاء المالكية؛ كأبي عبد الله بن عتاب، والقاضي أبي بكر بن العربي، وأبي الوليد

ص: 48

ابن رشد، وأبي الأصبغ بن سهل، والقاضي ابن زرب - فتاوى عدلوا فيها عن المشهور في المذهب، وبنوها على رعاية العرف، وجرى باختيارهم عمل أهل القضاء والفتوى من بعدهم.

قال شهاب الدين القرافي في "قواعده": إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات - أيةً كانت - إضلال الذي الدين، وجهل بمقاصد المسلمين والسلف الماضين.

وكذلك ترى فقهاء الحنفية يخالفون ما نص عليه أبو حنيفة في مسائل بناها على عرف كان جاريًا في زمنه. وقالوا في وجه هذه المخالفة: إن أبا حنيفة لو كان في زمنهم، لما وسعه إلا أن يفتي بما أفتوا به. ولم يعدّوا التصرف في الأحكام القائمة على العرف خروجاً عن المذهب، وإنما هو الأخذ بأصل إمامهم الذي يقتضي الرجوع إلى العرف في الأحكام.

يراعى العرف في القضاء والفتوى، وليس للفقيه أن يفتي أو يقضي بما جرى به العرف المخالف لأصل من أصول الشريعة، إلا أن تدعو إلى ما جرى به العرف ضرورة، فيكون الحكم مبنيًا على مراعاة الضرورة، ويدخل في قبيل الرخصة التي يقررها الفقيه على سبيل الاجتهاد.

فشأن الفقيه أن ينظر في المعاملات المخالفة لأصل من أصول الشريعة، فإن وجدها ناشئة عن ضرورة، كان له أن يستثنيها من أصل المنع، ويجعل الضرورة علة استثنائها من ذلك الأصل. فإن كانت ناشئة عن جهالة، أو هوى غالب، فما له إلا أن يفتي بفسادها، ويعلم الناس وجه المعاملة الصحيحة. ولا يصح جعل ما يجري به العرف الفاسد أمراً مشروعاً، ويفتى بصحته دون

ص: 49

أن تدعو إليه ضرورة يحسن العارف بمقاصد الشريعة تقديرها.

قال العلامة أبو عبد الله بن شعيب أحد علماء تونس في القرن الثامن: "وغلبة الفساد إنما هي من إهمال حملة الشريعة، ولو أنهم نقضوا عقود الفساد، لم يستمر الناس على الفساد".

وقال الأستاذ الشيخ إبراهيم الرياحي التونسي في إحدى فتاويه: "والعرف المعتبر هو ما يخصص العام، ويقيد المطلق، وأما عرف يبطل الواجب، ويبيح الحرام، فلا يقول به أحد من أهل الإِسلام".

فإذا أفتى بعض الفقهاء بصحة عقد مخالف لأصل شرعي، وظهر من عبارته أنه استند في إفتائه إلى جريان العرف بهذا العقد، فاعلم أن العبارة لم تفرغ في قالب التحقيق، أو أنه لم يزن الفتوى بقسطاس الشرع المستقيم.

وقد يذكر بعض الفقهاء العرف في سياق الاستدلال على جواز أمر، ويريدون ما كان جاريًا في عهد النبوة، أو بين أهل العلم، وليس الدليل في الحقيقة نفس العرف، وإنما هو إقرار النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع الذي لا ينعقد إلا على دليل. ومثال هذا: أن الإِمام مالكاً خصّ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] بغير ذوات الأقدار والشرف، وقال: لا يجب على الشريفة إرضاع ولدها؛ لأن العادة جارية بذلك. ولا يريد الإمام: أن مجرد جريان العرف يسوغ هذا التخصص، وإنما أراد: جريان العرف مع عدم إنكار أهل العلم من السلف، فيرجع إلى الاستدلال بالإجماع. وقال بعض أهل العلم: عدم إرضاع الشريفة لولدها عادة عربية، واستمر الأمر فيها بعد الإِسلام إلى زمن مالك رضي الله عنه. ومن هذا القبيل: اكتفاؤهم في صحة البيع بالمعاطاة مستندين إلى العادة. وقالوا: إن استمرار هذه العادة،

ص: 50

يشهد بصحة نقلها خلفاً عن السلف. ويغلب على الظن أنها كانت جارية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

وقد نبه ابن السبكي على ما قلنا من أن العادة لا تخصص العام بنفسه، فقال في "جمع الجوامع":"والأصح أن العادة بترك بعض الأمور تخصيص إن أقرها النبي صلى الله عليه وسلم، أو الإجماع".

هذا أصل من الأصول التي يستند إليها المفتي أو القاضي في تفصيل أحكام الحوادث، فتجيء صالحة عادلة. وبمثل هذا الأصل يعلم أن الشريعة الإِسلامية ملائمة لكل زمان ومكان. وليست كما يزعم خالي الذهن من تعاليمها أنها ضيقة المجال، فلا تقي بأحكام الحوادث، أو أنها قديمة العهد، فلا تحفظ مصالح ما تجدد من الأزمان.

* سد الذرائع:

من أعمال الإنسان أو أقواله ما يشتمل على المفسدة بنفسه؛ كالغصب يحرم الإنسان من الانتفاع بماله، وكالقذف يلوث عرض البريء، ويسقط مكانته من النفوس.

ومن الأعمال أو الأقوال ما لا تنشأ عنه المفسدة مباشرة، بل يكون وسيلة إلى عمل أو قول فيه مفسدة؛ كمناولة السكين لمن يسفك بها دمًا معصومًا، فالمناولة في نفسها عارية عن المفسدة، وإنما هي وسيلة إلى ما فيه المفسدة، وهو سفك الدم بغير حق، وكدلالة الظالم على مكان شخص بريء يريد الظالم أن يناله بأذى، فليس في نفس الدلالة مفسدة تقع بوقوعها، وإنما

(1) البحر "المحيط للزركشي".

ص: 51

المفسدة فيما كانت الدلالة وسيلة إليه، وهو إصابة النفس البريئة بالأذى. ويدلّك على أن مثل مناولة السكين، ودلالة الظالم على مكان البريء لا تحمل في نفسها مفسدة: أنها توجد في بعض الأحيان دون أن ينشأ عنها في الخارج فساد؛ كأن يقوم مانع من استعمال السكين في معصوم الدم، أو ينصرف الظالم عن أذية من دُلَّ على مكانه. وتخلف المفسدة عن الوسيلة لعارض لا يرفع الإثم عن فاعلها؛ لأن الإثم منوط بفعل الوسيلة، مع العلم بما شأنها أن تفضي إليه من فساد.

ومن حكمة التشريع الإِسلامي: أنه لم يقصر النظر على ما يحتوى المفسدة بنفسه، بل وجّة نظره إلى وسائل ما فيه المفسدة، فمنعها. والنصوص الواردة في الكتاب والسنّة للنهي عن وسائل ما تقع المفسدة بوقوعه غير قليلة. ومن شواهد هذا: قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)} [النور: 30]، فالأمر بغض البصر من ناحية أن النظر يثير الهوى، والهوى يدفع إلى ارتكاب مفسدة هتك الأعراض، واختلاط الأنساب.

ومن هذه الشواهد: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] منع المسلمين من أن يقولوا: {رَاعِنَا} ، مع قصدهم إلى طلب الرعاية؛ سدًا لباب كان اليهود يدخلون منه إلى سب النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ يستعملون هذه الكلمة، ولا يقصدون منها طلب الرعاية، وإنما يقصدون بها معنى اسم الفاعل المأخوذ من الرعونة.

ومن هذا الباب: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108]؛ فقد نهى عن سب معبودات المشركين

ص: 52

وهم يسمعون، وأشار إلى أن وجه النهي عن هذا السب: إفضاؤه إلى ما فيه المفسدة، وهو إطلاق ألسنتهم بسب الله تعالى. ويضاهي هذا الشاهد قوله صلى الله عليه وسلم:"إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه"؛ قيل: يا رسول الله! وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه"(1)، فجعل الرجل شاتمًا لوالديه، ولم يصدر منه شتمهما، وإنما تعاطى وسيلة هذا الشتم؛ وهو شتمه لأبي الرجل الأجنبي أو أمه، فدل على أن فاعل الوسيلة بمنزلة فاعل ما يتبعها.

وفي الشريعة أحكام كثيرة تقوم على إعطاء الوسائل حكم ما من شأنه أن يوجد بعدها من ضروب الفساد، تراها قد منعت نكاح المرأة قبل أن تنقضي عدتها؛ حذرًا من اختلاط الأنساب، ثم منعت خطبة المعتدة باللفظ الصريح؛ لأنها تفضي إلى تسرع المعتدة بالإجابة، وادعاء انقضاء العدة قبل انتهاء أجلها، وقبول الهدية مأذون فيه، ولكنه يحرم على المقرض قبول هدية من المفترض كراهة أن تتخذ الهدية طريقاً للربا. وكذلك القاضي لا يجوز له قبول الهدية؛ حذراً من أن تتخذ وسيلة لموبقة الارتشاء. قال ربيعة:"إياك والهدية؛ فإنها ذريعة الرشوة".

وإذا أقبل القاضي على أحد الخصمين دون الآخر، وبشّ في وجهه، انكسر قلب خصمه، وضعف بيانه عن إقامة الحجة، فيضيع حقه. فيحرم هذا الإقبال؛ لأنه وسيلة إلى ضعف البيان الذي هو سبب ضياع كثير من الحقوق.

وقد تلقى تبعة الضمان على فاعل الوسيلة إذا أفضت إلى ما فيه المفسدة؛ كربّان السفينة يخرج في تصريفها عن المعتاد، ويسير بها في خطر، وهو قادر

(1)"صحيح الإمام البخاري".

ص: 53

على اجتنابه، فإنه يضمن ما يضيع بغرقها من الأموال والنفوس، وإن لم يقصد إلى إغراقها. وجاء في فتاوى علمائنا: أن من حفر بئرًا في طريق شخص قاصداً هلاكه، فوقع فمات، كان جزاؤه القصاص.

ولا تختص الذرائع التي يجب سدها بالأفعال، بل يعد في قبيلها ترك الأفعال التي تحمى بها نفوس أو أموال. فمن وجد رضيعاً بمكان خال، وتركه بحاله، وهو قادر على إنقاذه، عالم بأن تركه يفضي إلى موته، فمات، عُدّ تركه للطفل في موقع التهلكة جريمة؛ إذ كان من وسائل الفساد التي يجب سدها، ومعاقبة من يرتكبها.

وجاء في فتاوى الفقهاء: أن من منع فضل مائه مسافراً، وهو عالم أنه لا يحل له منعه، وأنه يموت إن لم يسقه، فمات، حقت عليه عقوبة القصاص. وكذلك الحارس ينام اختياراً في غير الوقت الذي اعتاد فيه النوم، فيضيع شيء مما أقيم لحراسته، فإنه يضمن ما ضاع، وليس نومه إلا تركاً للحراسة، وكان هذا الترك وسيلة إلى ضياع المال.

لم يختلف العلماء في أن سد الذرائع من أصول الشريعة، وإنما يختلفون في بعض الفروع، يذهب بها بعضهم نحو سد الذرائع، ويرجع بها آخرون إلى أصل غير هذا الأصل.

قال أبو إسحاق الشاطبي: "إن سد الذرائع أصل شرعي قطعي متفق عليه في الجملة، وإن اختلف العلماء في تفاصيله، وقد عمل به السلف بناء على ما تكرر من التواتر المعنوي في نوازل متعددة دلت على عمومات معنوية، وإن كانت النوازل خاصة، ولكنها كثيرة". يريد الشاطبي: أن السلف جروا في تفصيل بعض الأحكام على أصل سد الذرائع. ومستندهم في تحقيق هذا

ص: 54

الأصل: ما ورد في الكتاب والسنّة من الأحكام- العائدة إلى هذا الأصل، وهذه الأحكام وإن كان كل واحد منها متعلقًا بنازلة خاصة - قد بلغت من الكثرة مبلغ ما يدل على قصد الشارع إلى سد ذرائع الفساد، فتكون هذه الأحكام الكثيرة بمنزلة قول عام يرد في القرآن أو السنّة مصرحاً ببناء الأحكام على سد الذرائع.

والذرائع ثلاثة أقسام:

أحدها: ما أجمع العلماء على سدِّه، وهي الوسيلة التي تفضي إلى ما فيه مفسدة على وجه القطع، أو الظن القريب منه؛ كإلقاء السموم في الأطعمة، وحفر الآبار في الطرق. فإلقاء السم في الطعام يفضي على وجه القطع أو الظن القريب منه إلى موت من يتناول الطعام، كما أن حفر الآبار في الطرق يفضي إلى وقوع السائرين بها في غفلة أو ظلام.

ومن هذا القسم: صنع الخمر، والاتجار بها؛ فإنه يفضي إلى مفسدة تعاطي شربها قطعاً أو ظناً غالباً، ويدلكم على وجوب سد هذه الوسائل: حديث أنس فيما رواه الترمذي: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وساقيها، وحاملها، والمحمولة إليه، وبائعها، ومبتاعها، وواهبها، وآكل ثمنها"

وللحاكم المسلم أن يمنع بمقتضى هذا من زرع المخدرات، والاتجار بها ويضع على ذلك عقوبة رادعة.

ثانيها: ما أجمعوا على إلغائه، وعدم الالتفات إليه، وهي الوسائل التي يكون إفضاؤها إلى المفسدة نادراً، ومثال هذا: زرع العنب؛ فإنه يكون وسيلة إلى اتخاذ الخمر وتناولها شرباً، ولكن هذه المفسدة نادرة بالنسبة

ص: 55

إلى الانتفاع بالعنب من حيث إنه ثمرة طيبة، فلا تمتد الحرمة من تعاطي الخمر إلى وسيلته التي هي زرع العنب، بل تبقى منوطة بنحو تحويله إلى خمر، أو تعاطي ما أسكر من عصيره.

وقد يكون اتخاذ الخمر من العنب في بعض البلاد كثيراً، ولا تقتضي هذه الكثرة المنع من زرع العنب؛ فإن في هذا المنع حرمانًا للناس من منافعه الطيبة، وقد جعل الشارع لموبقة الخمر عقوبة، متى تولى القيام عليها حازم رشيد، طهرت البلاد من خبث المسكرات، وباهت سائر البلاد برجال لا يخالط عقولهم كدر، ولا يمس نشاطهم كسل، ولا يدنو من جِدِّهم هزل.

وإذا فرض أن أمة تبلغ في السفاهة أن يكون اتخاذ الخمر هو الغالب على أعنابها؛ بحيث يكون انتفاعها من العنب في غير هذا الوجه نادرًا، كان للعارف بأصول الشريعة وسياستها النظر في هذه الحالة؛ ليقرر لها حكماً مطابقاً لها.

وفي صناعة الطب مصلحة الشفاء من أمراض كثيرة، وقد تكون المداواة وسيلة إلى إتلاف بعض النفوس، وهذه الحالة نادرة بالنسبة إلى ما تفضي إليه من الصحة والسلامة، فتلغى الحالة النادرة، وتبقى المداواة مأذوناً فيها بإطلاق، وليس على الطبيب ضمان ما أتلف، إلا أن يتبين تفريطه، وعدم نصحه في العلاج.

وفي تسيير السفن في البحر منافع لا تحصى، وقد يفضي تسيير السفينة إلى غرقها، وهلاك ركابها، ولكن الغرق نادر بالنظر إلى السلامة، فتلغى الحالة النادرة، ويبقى تسيير السفن مأذوناً فيه بإطلاق، وليس على ربّان السفينة

ص: 56

متى غرقت من ضمان؛ إلا أن يتصرف فيها على وجه يتبين فيه تفريطه.

ويلحق بهذا الضرب اتخاذ السيارات والطيارات والغواصات، فإنه قد ينشأ عن استعمال هذه المخترعات إتلاف بعض النفوس البريئة، ولكن هذا الضرر قليل بالنسبة إلى ما يترتب عليها من نحو مصلحة الدفاع، وقطع المسافات البعيدة في أقرب زمان، فلا تمتد الحرمة من إتلافها لبعض النفوس إلى أصل استعمالها، بل تبقى الحرمة مقصورة على استعمالها بدون روية واحتراس، وهو المفضي إلى نحو إهلاك النفوس أو الأموال.

ثالثها: ما يتردد بين أن يكون ذريعة إلى مفسدة، وبين أن لا يكون، وهذا موضع اختلف فيه أهل العلم، فمنهم من قال بالمنع من هذا القسم؛ نظراً إلى ما قد يفضي إليه من المفسدة، ومنهم من ذهب إلى الإغماض عنه، وعدم عدّه في الذرائع التي يجب سدها، ومثال هذا: استناد القاضي في الحكم إلى ما يعلم من حال القضية ترفع إليه، فمن أهل العلم من منعه. وأوجب على القاضي الرجوع إلى البينات، والوقوف عندها؛ مخافة أن يتخذ القضاة الذين لم تشرب قلوبهم التقوى الاستناد إلى العلم ذريعة إلى الجور في القضية، فيفصل فيها اتباعاً للهوى، بزعم أنه يعلم منها ما لم تعلمه البينة.

فاستناد القاضي إلى علمه متردد بين أن يكون وسيلة إلى حفظ الحق، وأن يكون ذريعة إلى مفسدة الجور في القضاء. والمحققون على سد الذريعة في مثل هذا الفرع. والقاضي الذي يعلم من القضية خلاف ما قامت عليه البينة، يصرف الحكم فيها إلى غيره، ويشهد لديه بما يعلم، فتجري عليه أحكام الشهادة، فإما أن يقبل، وإما أن يلغي.

ص: 57

ومما يساق في الحديث عن هذا القسم: أن الشريعة تحرم على الإنسان أن يقرض آخر عشرة دنانير - مثلاً - على أن يردها إليه خمسة عشرة دينارًا، فإن هذه العقدة هي الربا بعينه، ولو باع زيد سلعة لعمرو بخمسة عشر مؤجلة، ثم اشتراها منه بعشرة نقداً، لكان مآل هذا البيع والشراء إلى أن زيداً دفع إلى عمرو عشرة نقداً، وأخذ منه بعد أجل مسمّىً خمسة عشر، ومثل هذه الصورة قد يقصد فيها زيد وعمرو إلى البيع والشراء على وجه البت، ثم يبدو لزيد أن يشتري ما باع، فيكون هناك عقدان، كل منهما مستقل عن الآخر، فيفارق هذا البيع والشراء عقدة الربا.

فإن قصدا من البيع والشراء إعطاء عشرة ليؤخذ بدلها خمسة عشر عند الأجل، فقد جعلا هذه المعاملة وسيلة إلى ما حرّم من الربا؛ لأنها - وإن جرت بألفاظ البيع والشراء - تشتمل على معنى الربا من جميع أطرافه.

ومن كبار الأئمة من يمنع هذه المعاملة حيث يكثر قصد الناس فيها إلى القرض بمنفعة. ويستند في هذا المنع إلى قاعدة سد ذرائع الفساد.

وقد بلغ بعض الفقهاء في مراعاة سد الذرائع أنه كره فعل بعض المندوبات إذا كان إظهارها، والمواظبة عليها وسيلة إلى اعتقاد العامة سنيتها أو وجوبها. وكان الإِمام مالك رضي الله عنه يكره المجيء إلى بيت المقدس؛ خيفة أن يتخذ الناس ذلك سنّة، وقال سعيد بن حسان: كنت أقرأ على ابن نافع، فلما مررت بحديث التوسعة ليلة عاشوراء، قال لي: حرِّق (1) عليه، قلت: ولم ذلك يا أبا محمد؟ قال: خوفاً من أن يتخذ سنّة، وقد ذكرنا فيما سبق أن الإِمام مالكاً كره إتباع

رمضان بصوم ستة أيام من شوال؛ مخافة أن يعتقد العامة أنها في حكم صوم

(1) كذا في "الاعتصام" للشاطبي. ويطلق التحريق بمعنى: الحك، والبرد بالمبرد.

ص: 58

رمضان، ومن لا يجيزون ترك المندوب لخوف اعتقاد وجوبه أو سنيته، ويعتمدون على أن من واجب العلماء تبيين أحكام الشريعة وآدابها للناس، وإزاحة ما يحوم بأذهانهم من الأوهام الباطلة، وهذا هو الوسيلة التي يكفي بها شر اعتقاد العامة لسنية الأمر المندوب أو وجوبه.

وكمانظر الشارع إلى وسائل الفساد فسدّها، نظر إلى وسائل ما فيه صلاح، ففتحها بالإذن فيها، والحثّ عليها. ومثال هذا: تسعير ما يباع في الأسواق من نحو الأقوات؛ فإنه ذريعة إلى حماية العامة من أن يغبنوا، ويغلي الباعة عليهم ما يحتاجونه في كل يوم. فالإذن في التسعير فتح ذريعة إلى مصلحة اقتصادية لا يستهان بها. فلوليّ الأمران يجمع وجوه أهل السوق، ويحضر غيرهم استظهاراً على صدقهم، فيسألهم كيف يشترون، وكيف يبيعون، ويضع للحاجيات أثماناً محدودة فيها ربح للباعة، ولا تجحف بالعامة.

ونرى الشريعة تأتي إلى الأمر يكون له وجه من الضرر، فتأمر به حيث يكون ذريعة إلى ما فيه مصلحة أكبر من ذلك الضرر، ومن هذا القبيل: بذل المال لفداء الأسرى، فالمال المبذول للعدو يزيده قوة، وحرام على المسلمين أن يمدوا عدوهم، ولو بوزن ذرة من ذهب أو فضة، ولكن هذا البذل ذريعة إلى مصلحة يصغر في جانبها ضرر البذل، والمصلحة هي إنقاذ المسلمين من أيدٍ تسومهم سوء العذاب أو الهوان.

وفي حلف الشخص بالله كاذباً إثم كبير، ومقتضى هذا: أنه لا يجوز لصاحب الحق - متى أنكر المدعى عليه - أن يطالبه باليمين؛ لأنه يدفعه إلى ارتكاب الإثم الكبير، ولكن الشارع الحكيم أذن لصاحب الحق في تحليف

ص: 59

المنكر، مع علمه بأنه سيحلف بالله كاذباً؛ إذ كان التحليف ذريعة إلى ظهور الحق في كثير من الأحيان، حيث يحمل المدعى عليه على الإقرار لأول الأمر، أو على الرجوع إليه بعد الإنكار، فهذه المسألة من المواضع التي أغمض فيها الشارع عن وجه الفساد، وفتح بها الذريعة إلى مصلحة ذات شأن خطير.

وملخص المقال: أن الشريعة الإِسلامية قد بنت كثيراً من أحكامها المنطوق بها في الكتاب والسنة على رعاية سد الذرائع، وقد استخلص الفقهاء من هذه الأحكام الكثيرة: أن من أصول الشريعة: سد ذرائع الفساد، واستمدوا من هذا الأصل أحكاماً حالوا بها بين الناس وبين ما يفضي إلى كثير من مواقع الفساد، فقاعدة سد الذرائع قاعدة محكمة، وفيها شاهد واضح على أن الشرع الإِسلامي صالح لكل زمان ومكان.

* المصالح المرسلة:

من اطمأن قلبه إيماناً بأن الشريعة وحي نزل بها الروح الأمين على أفضل الخليقة، لم يرتب في أنها قائمة على حكمة، وأن الخير في الاقتداء بها، والوقوف عند حدودها، يقطع بهذا كل من صادفت فيه دلائل النبوة فطرة سليمة، أو ألمعية ثاقبة، ويزيد المتفقه في الشريعة بعد هذا الاعتقاد الذي اقتضاه أصل الإيمان؛ أنه يرى حق اليقين كيف قامت أصولها، وفصلت أحكامها على رعاية المصالح في الحياتين: العاجلة، والَاجلة، ولم يختلف أهل العلم في أن كل حكم شرعي مربوط بحكمة، وأن الحكمة هي التي دعت إلى تقريره، ومرجع هذه الحكم إلى المصالح والمفاسد، ومن هذا الأصل الذي دلّ على أن الله تعالى قد شرع الأحكام على طريقة جلب المصالح

ص: 60

ودرء المفاسد، نشأت قاعدة: المصالح المرسلة.

لا نزاع في بناء الأحكام على المصالح التي قام الدليل الشرعي على رعايتها، ومثال هذا: حفظ العقل الذي دلّ على رعايته تحريم الخمر، وإقامة الحد على شاربها، فإذا عرض للمجتهد مطعوم لا يسمّى خمراً، ولكنه يفعل بالعقل ما تفعله الخمر، لم يتردد في تحريمه؛ أخذاً بالدليل القائم على اعتداد الشارع بمصلحة حفظ العقل، وبنائه بعض الأحكام على رعايتها، وهذا هو أصل القياس في الشريعة، فإنه مبني على التفقه في بعض الأحكام المنصوصة، ومعرفة قصد الشارع فيها إلى مصلحة بعينها، حتى إذا وجدت هذه المصلحة في واقعة أخرى، أخذت حكم الواقعة المصرح بها.

ولا نزاع في عدم الاعتداد بالمصالح التي قام الدليل الشرعي على إلغائها، والشارع الحكيم لا يلغي مصلحة إلا إذا عارضتها مصلحة أرجح منها، أو استتبعت مفسدة لا يستخف بأمرها، ومثال هذا: الاستسلام للعدو: قد يبدو أن فيه مصلحة حفظ النفوس من القتل، ولكن الشارع رأى أن هذه المصلحة مغمورة بالمفاسد من كل جانب، فلم يعتدّ بها، وأذن في دفاع العدو؛ نظراً إلى مصلحة أرجح منها، وهي: احتفاظ الأمة بالعزة والكرامة، والتمكن من المسابقة في مضمار الحياة.

ومن هذا الباب: تعدد الزوجات: يتبعه من الضرر أن تتألم المرأة من أن تشاركها في صلة الزوجية امرأة أخرى، ففي ترك التعدد مصلحة هي: قطع وسيلة استياء الزوجة، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكئفيًا بما اشترطه من العدل بين الزوجات، وأباح التعدد؛ نظراً إلى ما قد يترتب عليه من المصالح؛ كتكثير النسمل، ومساعدة الرجل على تجنب الحرام الذي قد

ص: 61

يقع فيه صاحب الزوجة الواحدة إذا عرض مانع من التمتع بها؛ مثل: المرض، والنفاس.

ومما يدخل في هذا السلك: قصة أمير الأندلس عبد الرحمن بن الحكم إذ باشر إحدى نسائه في رمضان، ثم ندم على ما فعل، وجمع الفقهاء، وسألهم عمَّا يكفِّر به، فقال له يحيى بن يحيى الليثي: تكفِّر بصوم شهرين متتابعين، فلما خرجوا، قال له بعض الفقهاء: لم لم تفته بمذهب مالك، وهو التخيير بين العتق والصيام والإطعام؟ فقال: لو فتحنا له هذا الباب، سهل عليه أن يباشر كل يوم، ويعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمور؛ لئلّا يعود.

وقد أقيمت هذه الفتوى على رعاية مصلحة لم يعتدّ بها الشارع، ففي حمل الملك على الصوم مصلحة منعه من اتباع الشهوات، ولكن الشارع ألغى هذه المصلحة مكتفياً بالنهي عن الإفطار، وتأثيم من يرتكبه، وجعل الكفارة العتق أو الإطعام أو الصيام من غير فرق بين الملك وغيره.

ويبقى النظر في المصالح التي لم يقم دليل على رعايتها أو على إلغائها، وهذه هي التي تسمّى: المصالح المرسلة، وقد اعتدّ بهذه المصالح كثير من الفقهاء، وبنوا بعض الفتاوى على رعايتها، والبخاري على بعض الألسنة والأقلام: أنها أصل من أصول المذهب المالكي، والواقع أن لها يداً في سائر المذاهب المعوَّل عليها، وللمالكية القسط الأوفر في استثمارها.

قال ابن دقيق العيد: الذي لا شك فيه: أن لمالك ترجيحاً على غيره من الفقهاء في هذا النوع، ويليه أحمد بن حنبل، ولا يكاد يخلو غيرهما عن اعتباره في الجملة، ولكن لهذين ترجيح في استعماله.

وقال البغدادي في "جنة الناظر": لا تظهر مخالفة الشافعي لمالك في

ص: 62

المصالح؛ فإن مالكاً يقول: إن المجتهد إذا استقرأ موارد الشرع ومصادره، أفضى نظره إلى العلم برعاية المصالح في جزئياته، وكلياته، وأن لا مصلحة إلا وهي معتبرة في جنسها، لكنه استثنى من هذه القاعدة كل مصلحة صادمها أصل من أصول الشريعة، وما حكاه أصحاب الشافعي عن الشافعي لا يعدو هذه المقالة.

ولهذه القاعدة أمثلة مسوقة في كتب الأصول من فتاوى السلف وأقضيتهم، ومن هذه الأمثلة: قضاء الصحابة رضي الله عنهم بتضمين الصناع، فالرجل ينصب نفسه لصناعة؛ كالخياطة، أو الصبغ، فيدفع إليه شخص ثوباً ليخيطه أو يصبغه، فيدعي ضياعه، ولم يقم بينة على أنه تلف بغير سبب منه، فيقضى على الصانع بضمان الثوب؛ أخذًا بقاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة في هذا المثال: أن الناس في حاجة شديدة إلى الصنّاع، وهم يغيبون بالأمتعة عن أعين أصحابها، وليس من شأنهم الاحتياط في حفظها، فمن المصلحة القضاء بضمانهم حتى لا تضيع أموال كثيرة، وهذا معنى قول علي- كرم الله وجهه -:"لا يصلح الناس إلا ذاك"؛ يعني: تضمين الصنّاع.

ومن أمثلته: قتل الجماعة بالواحد؛ فإن القصاص الوارد في النص هو قتل النفس بالنفس، فإذا اشترك جماعة في قتل شخص واحد، فهي قضية لم يوجد لها دليل معين، وقد ذهب الإمامان: مالك، والشافعي إلى قتل الجماعة بالواحد، وهو ما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والمستند في هذا: قاعدة المصالح المرسلة، ووجه المصلحة: أن عدم أخذ الجماعة بالقصاص يذهب بدم القتيل المعصوم هدراً، ويفتح باباً قصد الشارع إلى إغلاقه، وهو باب سفك الدماء البريئة؛ فإن الجماعة متى أمنوا من عقوبة القصاص

ص: 63

حين يشتركون في القتل، سهل على أحقادهم أو شهواتهم أن تسوقهم حتى يمدوا أيديهم إلى إزهاق الأرواح دفعة، ففي قتل الجماعة بالواحد مصلحة حياة نفوس كثيرة، وحفظها من أن يتواطأ على قتلها جماعات ما لها في احترام الأرواح من خلاق.

ومما أسندوه إلى هذه القاعدة: أن يتحفز العدو للهجوم على بلاد الإِسلام، ولم يكن في بيت المال ما يقوم بحاجة الجند المهيأ لقتاله، فقد قال طائفة من علماء الأندلس: للامير العادل أن يفرض على الأغنياء ما يراه كافيًا للجند في الحال، ووجه المصلحة: أن هذا الفرض تقوى به شوكة الدولة، وتخلص به البلاد من استيلاء قوم إن ظهروا عليها، لا يرقبوا فيها إلاًّ ولا ذمة.

وإلى هذه القاعدة يستند الإمام مالك في إجازته سجن المتهم، فالسجن عذاب، والأصل أن لا يعذب أحد لمجرد الدعوى، ولكن الإِمام - رحمه الله تعالى- نظر إلى أن في سجن المتهم مصلحة الوصول إلى الحق، وليس ببعيد أن يقصد الشارع إلى حفظ هذه المصلحة، ويغضي عما يلحق المتهم من ألم الاعتقال، والمراد من المتهم: من تقوم حوله قرينة تحيك في نفس الحاكم، وتؤثر في قلبه شيئاً من الظن.

وليس في الأخذ بالمصالح المرسلة فتحُ طريق يدخل منه العوام إلى التصرف في أحكام الشريعة على ما يلائم آراءهم أو ينافرها - كما ظنه بعض الكاتبين -؛ فإن ما ذكرناه في شرط الأخذ بهذه المصالح؛ من عدم ورود دليل شرعي على رعايتها، أو إلغائها برفعها عن أن تكون في متناول آراء العامة أو أشباه العامة، إذ لا يدري أن هذه المصلحة لم يرد في مراعاتها أو

ص: 64

إهمالها دليل شرعي إلا من كان أهلاً للاستنباط.

قال الشيخ عمر الفاسي في رسالة له في الوقف: "وأنى للمقلد أن يدّعي غلبة الظن أن هذه المصلحة فيها تحصيل مقصود الشارع، وأنها لم يرد في الشرع ما يعارضها، ولا ما يشهد بإلغائها، مع أنه لا بحث له في الأدلة، ولانظر له فيها، وهل هذا إلا اجتراء على الدين، وإقدام على حكم شرعي بغير يقين؟ "، فليس كل ما يبدو للعقل أنه مصلحة يدخل في قبيل المصالح المرسلة، وتبنى عليه الأحكام، وإنما هي المصالح التي يتدبرها من هو أهل لتعرف الأحكام من مآخذها حتى يثق بأنه لم يرد في الشريعة شاهد على مراعاتها أو إلغائها.

ولا يقف في سبيل المصالح المرسلة ما أورده بعض الكاتبين؛ من أنه يفضي إلى اختلاف الأحكام باختلاف المواطن والعصور؛ فإن هذا الاختلاف معدود في محاسن الشريعة، وهو ناحية من النواحي التي روعيت في جعلها الشريعة العامة الباقية. وليس اختلاف الأحكام الناشئ عن مراعاة المصالح المرسلة اختلافاً في أصل الخطاب، وإنما جاء من جهة تطبيق أصل عام دائم هو: أن المصلحة التي لم يرد دليل على مراعاتها بخصوصها أو إلغائها، يقضي فيها المجتهد على قدر ما يراه فيها من إصلاح. فالأحكام المبنية على رعاية المصالح المرسلة تستند إلى أصل تعرَّفه المجتهدون من موارد الشريعة، فكأن الشارع يقول للذين أوتوا العلم: إذا عرض لكم أمر فيه مصلحة، ولم تجدوا في الأدلة التي بين أيديكم ما يدل على رعايتها بخصوصها أو إلغائها، فزنوا تلك المصلحة بعقولكم الراسخة في فهم المقصود من التشريع، وفصّلوا لها حكماً يطابقها.

ص: 65

وقد ادّعى بعض أهل العلم من غير المالكية: أن الإمام مالكاً أفتى - بانياً على قاعدة المصالح المرسلة - بجواز قتل ثلث العامة لمصلحة الثلثين، والمالكية ينكرون نسبة هذه الفتوى إلى الإمام مالك أشد الإنكار، ويقولون: إنها لم تنقل في كتبهم البتة، وإنما تكلموا كما تكلم غيرهم في مسألة العدو يضع أمامه الأسرى المسلمين يتترس بهم في الحرب، فأفتوا بأنه يجوز دفاع العدو بنحو الرمي متى خيف استئصال الأمة، ولو أفضى الدفاع إلى قتل أولئك الأسرى من المسلمين.

ونقرأ في ترجمة الشيخ علاء الدين الجمالي أحد فقهاء الحنفية: أن السلطان سليماً همَّ بقتل جماعة خالفوا أمر السلطان في بيع الحرير، فدخل عليه الشيخ علاء الدين منكراً عليه قتلهم، فقال له السلطان: أما يحل قتل ثلث العالم لنظام الباقي؟ فقال الشيخ علاء الدين: نعم، ولكن إذا أدى الحال إلى خلل عظيم، فعفا السلطان عن الجميع.

وقد حقق الباحثون في المصالح المرسلة النظر، وأجروها في أبواب المعاملات، وتجنبوا بها أصول العبادات؛ لأن المتفقه في علم الشريعة يدرك أن أحكام المعاملات مبنية على رعاية المصالح المدنية التي يتيسر للعقول السليمة، متى تلقتها من الشارع؛ وغاصت في تدبرها من كل جانب، أن تقف على أسرارها، وترى خير الحياة في التمسك بها، وأما العبادات، ففيها ما تستبين حكمته، ويبدو القصد من مشروعيته واضحاً، ومنها ما لم تقف العقول على حكمته الخاصة، وحسب العقل في الإيمان بحكمة ما كان من هذا القبيل: أنه صادر ممن قام الدليل القاطع على أنه لا يأمر إلا بخير. ولا يجد في هذا الإيمان حرجاً، ما دامت العبادات - على اختلاف ضروبها -

ص: 66

بريئة مما تنبذه العقول الراجحة. والفرق بين ما لا يقف العقل على مصلحته الخاصة، وما ينبذه لاشتماله على فساد راجح. لا يخفى إلا على ذي نظر سقيم.

ولما أكثر في العبادات ما تخفى مصلحته الخاصة، قالوا: إن أصلها التعبد، وقصروا الأمر فيها على ما ورد عن الشارع الحكيم. ثم إن الشارع حذر من الزيادة على ما قرره من العبادات، وسمى ما يخترع بقصد القربة بدعة وضلالة، والتصرف في العبادات من طريق المصالح المرسلة يفتح باب البدع، ويدخل بالناس في ضلال بعيد.

فلا نزاع في بطلان اختراع عبادات ذات أوضاع لم يرد بها كتاب أو سنّة، بدعوى أن فيها مصالح توافق قصد الشارع فيما وضع من العبادات.

وقد يتصرف الفقهاء في أشياء تتصل بأصل العبادة، وينظرون إليها من ناحية المصالح الملائمة لتلك العبادة، فيصيبون في الحكم، ويخطئون، ومن أمثلة تصرفهم الصحيح: أن أذان الجمعة كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده واحداً يقام بباب المسجد، ومن الواضح الجلي: أن القصد من الأذان: الإعلام بدخول وقت الصلاة، ولما أكثر الناس، واتسع العمران بالمدينة، أقام عثمان رضي الله عنه أذاناً بالزوراء (1)، وهذا العمل خارج عن البدعة؛ لأنه تصرف في إحدى وسائل العبادة، لا في أصل العبادة، ولأن القصد من الأذان واضح وضوحًا لا تحوم عليه ريبة، وهو إعلام المصلين بدخول الوقت، وفي الأذان بالزوراء إعلام بدخول الوقت على وجه أكمل، ولم

(1) موضع بالمدينة قرب المسجد.

ص: 67

يكن الباعث على زيادة هذا الأذان، وهو كثرة الناس، واتساع العمران، متحققاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حتى يقال: إن الشارع لم يعتدّ بهذه المصلحة، وإنها ليست من نوع المصالح التي توافق قصده من التشريع.

وقد يتسرع إلى هذه القاعدة من لا يجيد فهمها، فيفتي بغير حق، أو يقضي بغير عدل، وقد رأيت السلطان سليمًا كيف توهم أن في قتل جماعة كثيرة خالفوا أمره في بيع الحرير مصلحة يأذن الشارع بالمحافظة عليها. وظنّ بعض القضاة أن هذه القاعدة تبيح له أن يقطع أنملة شاهد زور ليمنعه من الكتابة، واستشار ابن دقيق العيد في هذه العقوية، فأنكرها أشد الإنكار، وعدّها من المنكرات العظيمة الوقع في الدين، والاسترسال في أذى المسلمين.

وخاتمة المقال: أن رعاية المصالح المرسلة من أهم القواعد التي تأتي بثمر طيب متى تناولها الراسخ في علوم الشريعة، البصير بتطبيق أصولها.

* الاستحسان:

جرى لفظ الاستحسان في عبارات بعض الأئمة على وجه يتوهم منه: أن الاستحسان أصل من الأصول التي يرجع إليها في استنباط الأحكام، وتعرض له علماء الأصول عند بحث الأدلة، ونسبوا الأخذ به إلى بعض الأئمة، ونقلوا إنكاره عن آخرين، واختلفوا في تفسيره، وإليك صفوة ما قيل في هذا الوجه من الاستدلال:

روى محمد بن عبد العزيز العتبي في كتاب "المستخرجة" عن أصبغ ابن الفرج عن ابن القاسم: أن مالكاً قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان". وقال مالك في بعض فتاويه: أستحسن في كذا أن يكون الحكم كذا، وقال ابن خويز منداد، وهو من المالكية في كتابه "الجامع لأصول الفقه": "وقد

ص: 68

عوّل مالك على الاستحسان وبنى عليه أبواباً ومسائل من مذهبه".

واستند الحنفية إلى الاستحسان في تقرير كثير من الأحكام، ويعارضون به القياس، فيقولون في بعض الأحكام: هذا ما يقتضيه الاستحسان، وذاك ما يقتضيه القياس.

وعبر الإمام الشافعي بالاستحسان في أحكام بعض الحوادث، فقال: أستحسن أن تكون المتعة ثلاثين، وقال: أستحسن أن يؤجل الشفيع ثلاثاً.

وأنكر قوم أن يكون الاستحسان دليلاً شرعياً، وشنعوا على القائلين به؛ ظنًا منهم أن استحسان هؤلاء الأئمة من قبيل الرجوع إلى الرأي دون رعاية دليل شرعي ثابت. والرجوع إلى الرأي المحض في تقرير الأحكام الشرعية لا يقول به عامي مسلم، فضلاً عن إمام بلغ رتبة الاجتهاد أو الترجيح. ومن هنا تصدى علماء الأصول من المالكية والحنفية لتفسير الاستحسان الوارد في عبارات أئمتهم. وبينوا أنه عائد إلى أدلة متفق عليها، أو أدلة معروفة في مذهب المعبر به. وحملوا قول الإِمام الشافعي:"من استحسن، فقد شرع" على معنى: الاستحسان الذي لا يقوم على رعاية دليل شرعي، وكذلك الأثر الذي يسوقه بعض المحتجين لصحة القول بالاستحسان، وهو:"ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن (1) " إنما يحمل على أن المراد بالمسلمين: ذوو الكفاية لاستنباط الأحكام، فيكون دليل الاحتجاج بالإجماع.

أما المالكية، فيقول محققوهم؛ كأبي الوليد الباجي: الاستحسان: هو الأخذ بأقوى الدليلين. وكذلك قال ابن خويز منداد: معنى الاستحسان عندنا: القول بأقوى الدليلين. ويضاهي هذا قول الحفيد بن رشد: الاستحسان

(1) هو من قول عبد الله بن مسعود؛ وليس بحديث.

ص: 69

عند مالك: هو الجمع بين الأدلة المتعارضة. ومعنى هذا: أن الاستحسان في مذهب مالك ليس بدليل مستقل، وإنما هو ترجيح أحد الدليلين على الآخر؛ كأن يتعارض في حادثة جزئية قياسان، أو يعارض أصلاً من الأصول عرف، أو مصلحة مرسلة، أو سد ذريعة، فينظر المجتهد، ويرجح أحد القياسين على الآخر، أو يرجح قاعدة العرف، أو المصالح المرسلة، أو سد الذريعة على ذلك الأصل المعارض.

ونكتفي بذكر مثال لما تعارض فيه قياسان، ومن هذا المثال يتبين وجوه الترجيح في الأدلة الباقية:

معروف في مذهب مالك: أن المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو المبيع؛ كان يقول البائع: بعتك بعشرة، ويقول المشتري: إنما بعتني بستة، فوجه الحكم أن ينظر فيمن قوله أشبه؛ أي: أقرب إلى الصدق، فيقضي بقوله مع اليمين، فإن كان المبيع يساوي عشرة، ترجح قول البائع، وإن كان يساوي ستة، ترجح قول المشتري.

ومعروف في المذهب أيضاً: أن المودع - بكسر الدال -، والمودعَ -بفتحها-، أو المعير والمستعير، إذا اختلفا في الشيء المودعَ أو المعار، كان القول للمودع أو المستعير؛ لأن كلًا منهما أمين على ما تسلمه.

وجرت بين الفقهاء حادثة اختلاف المتراهنين؛ كأن يخرج المرتهن رهناً، فيقول الراهن: رهنتك ما هو أفضل منه، ويقول المرتهن: بل هو رهنك، وقد تجاذب هذه الحادثة قياسان: القياس على اختلاف المتبايعين، وهذا يقتضي أن يكون القول قول الراهن إن أشبه؛ أي: صدقه شاهد حال؛ كأن يرهنه رهناً بألف، فيخرج المرتهن رهناً يساوي مئة، وهذا ما ذهب إليه أصبغ

ص: 70

ابن الفرج، والقياس على المودع والمستعير، وهذا يقتضي أن يكون القول للمرتهن، وان لم يخرج إلا ما يساوي درهماً، وهذا ما ذهب إليه أشهب.

وقياس اختلاف المتراهنين على اختلاف المعير والمستعير، أو المودع والمودع، أجلى من قياسه على اختلاف المتبايعين؛ لأن المرتهن يشبه المودع أو المستعير في كونه مأمونًا على ما وضع عنده من الرهن، غير أن قياسه على المتبايعين الذي هو أخفى من قياسه على المودع أو المستعير قد تقوى بقلة الأمانة في الناس، وبأن الراهن سلم الرهن إلى المرتهن عن احتياج إلى الدين، أما المودع والمعير، فإنما سلم الوديعة أو العارية عن اختيار محض.

فيصح أن يقال: إن قول أشهب مبني على القياس، وقول أصبغ مبني على الاستحسان؛ كما قال ابن رشد في كتاب "البيان": قول أشهب إغراق في القياس، وقول أصبغ استحسان، وهو أظهر.

وهذه العبارة من العلامة ابن رشد تريك كيف يطلقون الاستحسان، ويريدون منه: القياس الخفي المعارض للقياس الجلي.

وأما الحنفية، فيقولون: الاستحسان: ترك القياس الجلي بدليل أقوى منه، ويريدون من الدليل الأقوى: ما يشمل الحديث، والإجماع، والضرورة، والقياس الخفي.

وأمثلة معارضة هذه الأدلة للقياس الجلي مفصلة في كتب أصول الفقه، ونكتفي بذكر الأمثال للأخذ بالقياس الخفي المعارض للقياس الجلي، وهو أنهم قالوا: سؤر (1) السباع من الطيور يتبادر إلى الذهن قياسه على سؤر سباع

(1) السؤر: البقية والفضلة - "القاموس".

ص: 71

البهائم في الحكم بنجاسته؛ لاشتراك سباع الطيور وسباع البهائم في نجاسة اللعاب؛ لتولده من لحم حرام، وهذا هو القياس الجلي، ولكن سباع الطيور تشرب الماء بمنقارها، ومنقارها من عظم جافث طاهر، لا رطوبة فيه، فلا يخشى تنجس الماء بملاقاته، فيصح أن يقاس سؤرها على سؤرِ طاهرِ اللعاب؛ كالَادمي، وما يؤكل من الأنعام؛ لعدم ملاقاة الماء للرطوبة التي يلاقيها من ألسنة السباع من البهائم، وهذا هو القياس الخفي.

وإذا كان الاستحسان ترجيح أحد الدليلين المتعارضين فيما يتراءى للمجتهد أول النظر، لا ينبغي أن يجري في صحته اختلاف بين أهل العلم. وهو بهذا المعنى شاهد على دقة أنظار علماء الشريعة؛ إذ كانوا لا ينساقون في تقرير الأحكام إلى ما يتبادر لهم في الاستدلال إلا بعد النظر في الواقعة من جميع وجوهها.

ومن فسَّر الاستحسان بدليل يقذفه الله في قلب المجتهد تقصر عنه عبارته، فقد فسره بما تتضافر أصول الشريعة على إسقاطه وإخراجه من دائرتها. ومن هذا الذي وصل إلى رتبة استنباط الأحكام، ولا يستطيع أن يعرب عمّا في ضميره، ويدل على ما خطر له من المعاني؟! ثم إن قبول مثل هذا الذي ينقدح في النفس، ويعجز اللسان عن بيانه، وعدّه في أدلة الأحكام، يفتح لأصحاب الأهواء باباً يخرجون منه إلى ما يشاؤون من الابتداع في الدين، والعبث بأحكامه.

ص: 72