الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سياسة الدعوة
ضربنا لك الأمثلة في المقال السالف للأدب الذي ينبغي أن يصاغ فيه خطاب الدعوة. أما هذا الفصل، فمعقود في طرق من غير أدب اللسان يراعيها الداعي، ويأخذ بها الدعوة، فيكون لها في النفوس المستعدة للخير أثر حميد.
إذا كان أدب الخطاب يقوم على البراعة في فنون البلاغة، فإن الطرق التي نبحث عنها في هذا الفصل إنما تقوم على نظرٍ تقلَّبَ في أحوال الجماعات أطواراً، ودرسَ سنن الله في الخليقة، فعرف كيف يسوس النفوس الجامحة، ويردّها إلى قصد السبيل.
لا يسهل على القلم استيفاء الحديث عن هذه الطرق، ولا يسعه إلا أن يضرب لها أمثلة، ويأكل الأمر بعدها إلى ألمعيتك، فهي التي تتناول المعنى القليل فتجعله كثيراً، وتتلقى القول مجملاً فتفصله تفصيلاً.
من الحكمة في الدعوة: أن تناجي بها الجاهل أو الغافل في خلوة؛ إبقاءً للستر عليه، ورغبة في حسن إصغائه إليك؛ فإن كثيراً من الناس مَن إذا ألقيت عليه النصيحة في علن، أخذته العزة، وثنى عطفه عن الاستماع أو الامتثال.
فإذا تصامم عن قبولها في خلوة، ساغ لك أن تلقيها عليه في ملأ؛ لعله يتألم من الفضيحة، ويحذر سوء الأحدوثة، فيعود إلى سيرة نقية، ويذكَّر كما يذكَّر أولو الألباب. قال تعالى في قصة نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ
إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا} [نوح: 5] إلى أن قال: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 8، 9].
ومن الحكمة: الجمعُ بين الإعلان والإِسرار؛ إزالة لما يقع في نفس المدعو من اتهام الداعي بأنه ما أراد من دعوته علانية إلا تلويث عرضه، وإذاعة كلمة السوء عن سيرته.
ومن حسن النظر: أن تكون الدعوة إلى المطالب العظيمة بطريق الترقي؛ كأن يبتدئ المصلح بما هو أيسر عملاً، أو أقرب إلى المألوف لدى الأمة، أو أظهر حكمة لعقولهم. وعلى هذه القاعدة وضع الإسلام سياسته، فنجد في تاريخ التشريع: أنه أمر بالصلاة، وسكت عن الكلام في أثنائها، ثم نهى عنه، وجعله من مبطلاتها. وأمر بالإنفاق على وجه التطوع، ثم شرع فريضة الزكاة. ونبه على مفسدة الخمر بقوله تعالى:{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. ثم منع منها في حال الصلاة خاصة فقال: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]. ثم حرّمها في كل حال تحريمًا لا هوادة فيه فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].
وروي عن بعض الصحابة: أنه قال: لو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين وبالقرآن دفعة، لثقلت هذه التكاليف علينا، فما كنا ندخل في الإسلام. ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها، وعرفنا حلاوة الإيمان، قبلنا ما وراءه كلمة بعد كلمة، على سبيل الرفق، إلى أن تم الدين، وكملت الشريعة.
ويحكى عن عمر بن عبد العزيز: أن ابنه عبد الملك قال له: ما لك
لا تنفذ الأمور؟! فو الله! لا أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق. فقال له عمر: لا تعجل يا بنيَّ؛ فإن الله ذمَّ الخمر مرتين، وحرَّمها في الثالثة، وإنني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة، وتكون من ذا فتنة.
ويشابه هذا: أن يقصد الداعي إلى أمر فيه مشقة، فيضع أمامه تمهيدًا يخفف وقعه، ويقلل شأنه؛ حتى لا تكبره النفوس، وترتخي دونه العزائم خَورًا. ومثال هذا: ما سلكه التنزيل في التكليف بفريضة الصيام؛ حيث شرعه أولاً في أمر مجمل فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183]، وذكر أن هذا النوع من القربة قد فرض على الأمم السالفة، فقال تعالى:{كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فهو عمل مألوف، وشريعة غير خاصة، وفي هذه التذكرة ما يدخله في قبيل السنن الجارية، ويجعله أمراً هينًا. ثم أشعرهم بأن أيامه في الحساب قليلة، فقال تعالى:{أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184]. وبعد أن هيأ النفوس لقبول فريضته، قال:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
وجرى التنزيل على هذه السنّة عند الترغيب في أمر صعب المركب، شديدِ الأثر على النفس، وهو الصبر على الأذى، ومقابلة الإساءة بالعفو، فأمر بالعدل في المجازاة، ونهى عن تجاوز المثل في العقوبة، فقال:{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، ثم بيّن في قوله تعالى:{وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]: أن الأكمل لهم الإغضاء عن السيئة، وترك المؤاخذة عليها، فالصفح عن الأذى - مع القدرة على الانتقام -
ضرب من الكرم، ومظهر من مظاهر الرحمة. ثم قال تعالى:{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل: 127]، فرغب في الصبر بطريق أبلغ؛ إذ وجّه الخطابَ به إلى الرسول اللأعظم، وهو أسرع الناس إلى الاستقامة على الطريقة، فيجدون من سنّة التأسي به نشاطاً للطاعة، وباعثاً على التجمل بالصبر، وإن ثقلت على النفوس وطأته.
ويُقارب هذا النوع من السياسة: أن يأخذ الداعي في تقرير المصالح بوجه عام حتى يأنس لها الناس، ويتفقهوا في طرق الخير على سبيل الإجمال، ثم يندبهم إلى الأعمال المندرجة تحتها ببيان وتفصيل؛ فإن من السهل على البشر قبول القضايا الكلية، وقلما نازعوا في صحتها. وأكثر ما يقع منهم الإنكار والاختلاف في المسائل الجزئية، وأحكام النوازل المعينة، وعلى هذا النمط أدار الإسلام سياسته، فأسسّ معظم قواعده العامة بمكة، وشرع أكثر الأحكام الفرعية بالمدينة المنوَّرة.
ومن حسن السياسة: ألا يجهر برأيه الصريح في صدر مقاله، وإنما يبتدئ بما يخفُّ على المخاطبين سماعه من المعاني الحائمة حول الغرض، ثم يعبر عن المراد بلفظ مجمل، ويدنو من إيضاحه شيئاً فشيئًا حتى لا يفصح عنه إلا وقد ألفته نفوسهم، وهدأت له خواطرهم. وعلى هذه الطريقة جرى ذلك المؤمن من آل فرعون، فقد كان يكتم إيمانه، وهو يحب أن يظهره، ويدعو قومه إلى مثله، وكان يخشى- من التصريح بعقيدته - بادرة غضبهم، أو انتقامهم منه، حتى اغتنم وقت إجماعهم على قتل موسى عليه السلام فرصة، وقام ينكر عليهم هذه المؤامرة المخزية، وتخلص إلى أن دعاهم إلى الإيمان بما بُعث به هذا الرسول دعوةً ظاهرة، قال تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28].
فاتحهم بالإنكار على قتله، وهو لا يدلُّ على أنه مصدّق برسالته، إذ قد ينهى العاقل عن سفك دم الرجل أو اضطهاده، وهو من أبغض الناس إليه، تألماً من مشهد الظلم، أو حذراً مما ينشأ عنه من فتنة، ودل بقوله:{أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] على ما لهذا الرجل من فضل في العقيدة، وأومأ إلى أنه لم يجئ شيئاً نكراً يستحقّ به هذه العقوبة الصارمة، وذكّرهم إذ قال:{وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] بالدلائل القائمة على صدقه في دعوى الرسالة، وقد أخذ يتقرّب بهذه الجملة من دعوتهم إلى الإيمان به، ولم يرد التظاهر بأنه من شيعته، فعزل نفسه عمن جاءهم بهذه البينات، وأضاف مجيئها إليهم خاصة، ثم استرسل في موعظته المنسوجة في أدب الإنصاف إلى أن صدع ببطلان نحلتهم، ودعاهم إلى دين الحق بقوله الصريح، قال تعالى فيما يقصه عنه:{وَيَاقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 41، 42].
قد يسكت المرشد عن بعض ما يكون حقاً، أو يتعرض له بعبارة مجملة، أو ذات وجهين، إذا لم يساعده الحال على أن يصدع به، ورأى ضرر التصريح به أرجح من نفعه. وليس له أن يقول غيرَ الحق بقصد أن يتألف أصحاب النحَل والمذاهب الزائغة، ويستدرجهم إلى ما يُورده بعده، أو يثبته في حديثه من الحقائق والدلائل الفاضحة لمعتقداتهم وأوهامهم. وزعم الرازي صحة هذا الصنيع، وعدَّه من حكمة المتشابه في التنزيل، وحمل عليه قول إبراهيم - عليه
السلام - في محاجّة قومه الواردة في القرآن {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 76] مشيراً إلى النجم، ثم القمر، ثم الشمس. وقد ذكر المحققون للمتشابه وجوهاً أظهر من هذا الوجه، وفهموا قول إبراهيم عليه السلام على غير هذا التأويل.
ومن حكمة الداعي: أن يسبق إلى العمل بما يأمر، فقد يكون اقتداء الناس بأفعال المصلح أقرب من اتباعهم لأقواله، ويشهد بهذا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في شرع الأحكام، فتراه في بعض الأحيان يصرح بالإذن في أشياء، فلا يبادرون إلى فعلها، ويستمرّون على الإحجام عنها حتى يقرّرها بالعمل، ثانياً: تجده قد أذن لهم- وهم على سفر- في الإفطار شهر رمضان، وبقي هو صائماً، فلم يقطعوا صومهم حتى عمد إلى الفطر، فخفّوا إلى الاقتداء بفعله، وأفطروا. وأذن لهم في نكاح من كنَ أزواجًا لأدعيائهم، فكبر عليهم أن يخرقوا هذه العادة حتى تزوج صلى الله عليه وسلم بزينب بعد أن فارقها مولاه زيد، وفي هذا المعنى نزلت آية:{فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37].
ومن الوسائل التي يكون لها أثر في تألّف الجاهلين أو المفسدين، وتهيئتهم إلى قبول الإصلاح: بسط المعروف في وجوههم، وإرضاؤهم بشيء من متاع هذه الحياة؛ فإن مواجهتهم بالجميل، ومصافحتهم براحة كريمة، قد يعطف قلويهم نحو الداعي، ويمهد السبيل لقبول ما يعرضه عليها من النصيحة. والنفوس مطبوعة على مصافاة من يُلبسها نعمة، ويُفيض عليها خيراً. ولمثل هذه الحكمة ذكر القرآن في مصارف الزكاة: صنف المؤلفة قلوبهم، فقال تعالى:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60]