الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإخلاص في الدعوة
الغاية من "الدعوة" صلاح العالم، وانتظام شؤونه على منهج السعادة.
فإذا وجَّه الداعي قصده إلى هذا الغرض، وأقامه نصب عينه، استقام على الطريقة، وقضى حياته في سيرة راضية، وإذا انحرف عن هذا القصد - ولو قيد أنملة -، رأيته يضطرب في حال دعوته كالريشة تخفق بها الرياح أينما تصرَّفت. وقد حكى التنزيل في مواعظه أن شعيبًا عليه السلام قد برَّأ نفسه، ودفعها عن أن تؤم غرضاً من الدعوة سوى الإصلاح حين قال:{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} [هود: 88]. ويرشدنا قوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90]، وقوله تعالى:{اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] إلى أن تشوف الداعي إلى ما في أيدي القوم، وتطلعه إلى أن ينال من وراء إرشاده شيئاً من متاع هذه الحياة، قادح في صدقه، وداخل بالريبة في إخلاصه.
ولا يدخل في زمرة المصلحين من يظهر بدعوى الغضب للعدالة، ويعلن البغضاء لمن يروم انتهاك حرمتها، ثم يبصر مرة أخرى قوماً يعمدون إلى حقوق قائمة، فيفتلون أعناقها، فإذا هو يتبسم لصنيعهم تبسم المرتاح، أو يشاركهم في دفنها ولو بحثية من تراب. ماذا حمله على حب العمل بالحق والانتصار له أولاً، ثم ماذا بعثه على خِذلانه والارتياح لإزهاق روحه ثانياً؟
إقامة الحق في الأولى تعود عليه بمنفعة، فكان من أشياعه، وإطفاء نوره في المرة الأخرى لا يذهب بحظ من لذائذه، فلم يأسف للقضاء عليه.
ومن الناس من يضمن في نفسه لبانة لا تنالها يده إلا بمساعدة قومه، فينصب اسم "الإصلاح" شرَكًا لاستعطافهم والتفافهم حوله، فإذا ضحك الإقبال في وجهه، وحان قِطاف أمنيته، انصرف عن معاضدة العدل، وعرَّى أفراسَ الدعوة ورواحلها.
تهافت كثير من أصحاب الضمائر المعتلة على منصب "الدعوة"، واجتهدوا في كتم سرائرهم بغاية ما يستطيعون، وما لبثوا أن انكشف سرهم، وافتضح أمرهم، سنّة الله في الذين يظهرون بغير ما يعلمون من أنفسهم، وهذا ما يجعل أذكياء الناس يحترسون ممن يخرج في زي مصلح أشد مما يحذرون المجاهر بإرادة العنت والفساد، فأخو العشيرة إذا ظهر لهم في ثوب الناصح الأمين، انخدع لأقواله أهل الغباوة، والتبس حاله على كثير من أهل النباهة، فيجد سبلاً مفتوحة ونفوسًا متهيئة لقبول ما يدسه في مطويّ كلامه، ويكنّه تحت اسم الإصلاح من مقاصد سيئة، فيكون كيده أقرب إصابة، وأنفذ رميةً من خطر المبارز لهم بالعداوة والعمل على شقائهم، فإن من يكشف لهم عن بطانة صدره لا يرميهم بالمكايد تحت ستار، ولو رماهم بها في مواربة، لوجدوا من شعورهم بطويته ما يحملهم على سوء الظن به، وينقذهم من الوقوع في حبائله.
ونحن نرى الذي يصدّون عن الإسلام من المخالفين له علانية لم ينالوا بين الأمم الإسلامية إلا خَيبة وخسارًا، ورأينا الفئة التي ما برحت تُذكر في حساب المسلمين- وهي تحمل لهم عداوة الذين أشركوا- قد فعلت في فريق من شبابنا ما تقر له عين الأجنبي الذي يحاول أن تكون سلطته خالدة.
والتمييز بين مَن وقف ينادي للإصلاح صادقاً، ومن لبس قميص المصلح عارية- لدنيا يصيبها، أو وجاهة يتباهى بها - إنما تَهدي إليه الفراسة المهذَّبة، والاختبار الصحيح: فإذا أبصرنا داعياً ذا يسار، ولم يظهر في طبيعته حرص على نماء ما بين يديه من المال، أو قام يدعو فريقاً ليس من دأبهم بسط أكفهم بصلة الدعاة، فما كان لها أن نرميه بتهمة القصد إلى اصطياد ما في خزائن الناس من زينة هذه الحياة.
ويدلك على سلامة نيته من إحراز رياسة أو وجاهة: أن ينشأ في بيت مساجد، ويحوز في الشرف مكانة سامية، فيقوم وهو يشعر بأن مجاراته للقوم، وإغضاءه عما يشاهدهم عليه من العوج يزيد في إقبالهم عليه، ويضع قلوبهم في الرضا عن سيرته، فيضرب عن مداجاتهم، ويناضلهم بالحجة، ولا ينفكّ يعرض شمس الحقيقة على أبصارهم وهم لها كارهون.
ومن شواهد طيب السريرة: أن ينادي قومه للإصلاح سنين، ويتمادى في سعيه المتواصل إلى آخر رمق من حياته، دون أن يفل عزمه تباطؤهم عن إجابته، أو مقابلتهم لصنيعه بالكفران. والشأن فيمن انطوى صدره على سريرة غير طيبة أن يبتغي إليها الوسيلة، فإذا أبطأت به، ولم تقع عينه إلا على خيبة وإخفاق، ملّ العمل، وصرف جهده إلى وسيلة أخرى.
والذي يواصل سعيه، وينفق معظم حياته في الدعوة، قد نصفه بسلامة النية، وإرادة الخير لقومه، ولكنا لا ننعته باسم:"المصلح"، إلا إذا صفا منهجه، واستقامت آراؤه، فمن الدعاة من تطيب سريرته، ويخلص قصده، وإنما يخونه قلة بضاعته في العلم، أو قصور نظره عند قياس الأشياء بأشباهها، أو اقتباس الفروع من أصولها.