الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق
(1)
رأى عبد الملك بن مروان أن يدعو الناس إلى مبايعة ابنيه: الوليد، وسليمان بولاية العهد، وكتب فيما كتب إلى والي المدينة هشام بن إسماعيل أن يدعو أهل المدينة إلى هذه المبايعة، ففعل، وأطبق أهل المدينة على البيعة إلا سعيد بن المسيّب؛ فإنه امتنع بعلة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين، فكتب هشام إلى عبد الملك يخبره بأن أهل المدينة بايعوا قاطبة، ولم يأب منهم البيعة إلا سعيد بن المسيّب، فكتب عبد الملك إلى هشام بأنه يأمر سعيداً بالمبايعة، فإن أبى، عرضه على السيف، فإن أصر على عدم المبايعة، جلده خمسين صوتاً، وطيف به في أسواق المدينة.
وصل كتاب عبد الملك إلى هشام، واتصل بهشام ثلاثة من أصدقاء سعيد، وهم: سليمان بن يسار، وعروة بن الزبير، وسالم بن عبد الله، فأخبرهم هشام بما أُمر به في شأن سعيد، والظاهر أن هشامًا لم يطلعهم إلا على ما أمر به عبد الملك من عرض سعيد على السيف إن امتنع من البيعة، ولم يذكر لهم ما جاء في الخطاب من قتله إذا أصر على رأيه، واستبدال الجلد بالقتل. ارتاع الفقهاء الثلاثة لهذا الخبر، وخشوا أن يصمم سعيد على عدم
(1) مجلة "الهداية الإِسلامية" - الجزآن الثالث والرابع من المجلد الثالث عشر.
المبايعة، فيناله عقاب القتل، فأخذوا يدبرون وجهاً لتخليص سعيد من هذه الورطة متى صمّم على عدم البيعة، حتى وصلوا إلى تدبير عرضوه على الوالي، فقبله، وكانوا يظنون أن ما دبروه من الوجوه لإنقاذ سعيد من عقوبة القتل سيجد من سعيد ليناً وقبولاً حسناً.
كذلك ذهب الفقهاء الثلاثة إلى سعيد، وقالوا: جئناك في أمر عظيم: إن عبد الملك كتب إلى الوالي يأمره بأن يعرض عليك المبايعة، فإن لم تفعل، ضرب عنقك، ونحن نعرض عليك خصالاً ثلاثاً، فأعطنا إحداهن، وهي:
أن يقرأ عليك الكتاب، فتسكت، ولا تقل:"لا"، ولا "نعم"، فيكتفي منك الوالي بهذا السكوت، فتمضي على ما صممت عليه من عدم المبايعة، وتدرأ عن نفسك عقوبة القتل.
سعيد: ما أنا بفاعل؟
الفقهاء الثلاثة: تجلس في بيتك، ولا تخرج إلى الصلاة أياماً، فيعتمد الوالي في عدم إنفاذ أمر عبد الملك على أنه قد طلبك من مجلسك فلم يجدك.
سعيد: أفعل هذا، وأنا أسمع الأذان فوق أذني: حي على الصلاة، حي على الصلاة؟! ما أنا بفاعل.
الفقهاء الثلاثة: انتقل من مجلسك بالمسجد إلى مكان غيره، فإن الوالي يطلبك في مجلسك، فإن لم يجدك، أمسك عنك.
سعيد: أفرقاً من مخلوق؟! ما أنا بمقدم شبراً ولا متأخر.
ولما رأى الفقهاء صلابة سعيد، وأيسوا من قبوله إحدى الخصال التي
عرضوها عليه، خرجوا والأسف على سفك لم سعيد يملا صدورهم.
وما كان من سعيد إلا أنه خرج إلى صلاة الظهر، وجلس في مجلسه الذي اعتاد الجلوس فيه من قبل، ولم يكن من الوالي إلا أن بعث إليه، فأتي به، فقال له: إن أمير المؤمنين كتب يأمر إن لم تبايع ضربنا عنقك. سعيد: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين.
هشام: اخرجوا سعيداً إلى السدة، ومدوا عنقه، وسلّوا عليه السيوف، ففعلوا، وسعيد مصر على عدم البيعة.
فلما رأى هشام إصراره، أمر به، فجرد من بعض الثياب؛ ليذوق ألم الجلد، وضرب خمسين سوطاً، ثم طافوا به في أسواق المدينة، ومنعوا الناس أن يجالسوه.
بايع أهل المدينة - علماؤهم وأهل الحل والعقد منهم - بولاية الوليد وسليمان العهد، وكان لسعيد بن المسيّب أن يجاري هذا الاجتماع دون أن يجد من أحد لومًا أو اتهامًا بالانحراف عن أوامر الشريعة، ولكنه رأى أن هذه المبايعة قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فليس له أن يقدم عليها، وإن أجمع عليها أهل الأرض قاطبة.
وكان لسعيد رخصة في أن يقرأعليه كتاب عبد الملك فيسكت، ولكنه خشي أن يفهم الناس أنه موافق على هذه البيعة، فيكون سكوته كالإفتاء بصحتها، وإفتاء العالم بغير ما يراه حكم الله في الواقعة، من باب قوله على الله غير الحق، وهو يعلم أنه غير الحق، وذلك ما لا يصح أن يصدر من مؤمن، فضلاً عن عالم عرف بتقوى الله تعالى، واتخذه الناس قدوة مثل سعيد بن المسيّب.
وكان لسعيد رخصة في أن يمكث في منزله أياماً حتى يصرف عنه عذاب القتل، ولكنه رأى أن الحياة أحقر من أن يترك المسلم من أجلها صلاة أو صلوات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الجماعة.
وكان لسعيد رخصة في أن يترك محله في المسجد، ويجلس في مكان آخر من المسجد، فيتجنب بذلك عقوبة القتل دون أن يخطر على بال أحد أن سعيداً غير رأيه في المبايعة، أو تردد في حكمها، ولكن سعيدًا يزدري الحياة، ولا يهاب الموت، فلا يرى تهديده بالقتل بالأمر الذي يمنعه من أن يكون صريحاً في الحق، وأن يذهب في هذه الصراحة إلى أقصى غاية، فلا يرضى لنفسه أن يترك شيئاً اعتاده، ولا داعي لهذا الترك، سوى اتقاء أذى تجرّه إليه تلك الصراحة.
ثم إن سعيد رضي الله عنه لو قبل إحدى الخصال التي عرضها عليه الفقهاء الثلاثة، لفتح باباً لمن يريد أن ينعته بالجبن والفزع من الموت، وذلك ما لا يصح أن يكون نعت عالم درس الشريعة الغرّاء بحق، وعرف ما تقصد إليه من إقامة صروح العزّة والسيادة.
ومأخذ العبرة في هذه القصة: أن سعيد بن المسيّب قد ضرب مثلاً أعلى لشجاعة العلماء وثباتهم على ما يرونه شريعة، واحتمالهم في سبيل ذلك كل ما يتوقع من أذى، ولو بلغ ضرب الأعناق بالسيوف.