الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاجة إلى الدعوة
في فطرة الإنسان قوّة يعقل بها طرق الصلاح والفساد، ويفقه بها الحق والباطل. ولكن هذه القوة العاقلة لا تستقلّ وحدها بتمييز المعروف من المنكر، وليس من شأنها أن تطلع على كل حقيقة، ولا أن تدبر أعمال البشر على نظام لا عوج فيه؛ فإنها- وإن بلغت في الإدراك أشُدها - قد تنبو عن الحق، ويعزب عنها وجه المصلحة، ولا تهتدي إلى عاقبة العمل؛ وربما ألقت على الحسنة نظرة عجلى، فتحسبها سيئة، وقد يتراءى لها الشر في شبهٍ من الخير، فتتلقاه بالقبول.
وقد تصدى رجال من أصحاب هذه القوى العاقلة للبحث في نشاة الخليقة، فكانت عاقبة بحثهم: أن خرّوا للأحجار أو الكواكب أو الحيوان سُجّداً. وتصدى آخرون لإنشاء نظُم اجتماعية، فوضعوا ما يذهب بالجماعة في غير طريق، ويكبو بها في خسار؛ وأمثلة هؤلاء مشهودة حديثاً، ومضروية في كتب التاريخ قديماً. وليس القانون الذي يسيغ المقاتلة الشخصية (المبارزة) إلا صنع نفس عريقة في الهمجية، وليس القانون الذي يساعد الفتيات على إراقة ماء الحياة والعزّة من وجوههن، والزهد في صيانة أعراضهن، إلا وليد عقل غمرته الغباوة، أو حفت به الشهوات من كل ناحية. وأراد ذو عقل كبير - وهو الحجّاج بن يوسف - معاقبة شخص على جريمة ارتكبها بعض ذوي قرابته، فدافعه بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]، فما كان إلا أن استمع للآية وارْعوى.
وإذا وقف صاحب القوة العاقلة على وجه الخير أو الشر، فقد يساوره الغضب، أو تسيطر عليه اللذة، فيترك الصالح، أو يأتي المنكر، ولا يبالي بما يوقعه فيه التهاون بالصالحات، أو ارتكاب المنكرات من شقاء بعيد.
وقد تخلص النفوس من تخبط الغضب، أو أسر الشهوات، ثم لا يستطيع أصحابها البقاء دون أن ينشب بينهم نزاع؛ فإن المدارك تتفاوت إما بحسب فطرتها، وإما بالنظر إلى استعدادها المكتسب من التجارب، فترى الرجل يستحسن عينَ ما يستقبحه غيره، بل النفس الواحدة قد يبدو لها الأمر حسناً في حال، فإن لم يوافق غرضها في وقت آخر، انقلب في رأيها شيئاً نكراً. وكثيراً ما يشتمل الأمر في الواقع على وجهي الإثم والمنفعة، فيريد بعضهم جلب منفعته، فيسعى في تقريره، ويرغب آخر في درء مفسدته، فيلوي عنها صفحاً. وربما يشاهد الإنسان الحادثة تنزل بغيره، فيقضي عليها برأي، ولو عرضت له في نفسه، وأدرك مقدار تأثيرها، لعاد إلى الحكم عليها بأشدّ مما قضى به أولاً، أو أدنى.
ولما كانت الأنظار تقصر، والأهواء تتغلب، والعقول تتفاوت وتختلف؛ اشتدت حاجة الناس إلى مصلح إلهيّ يطلق نفوسهم من قيود الأوهام، ويهديهم السبيل إلى ما فيه خير، وينذرهم عاقبة الانهماك في اللذائذ، ويعلمهم كيف يتحامون الفتنة إذا اختلفوا.
هذا وجه من حكمة بعثة الأنبياء عليهم السلام، وصعودهم بالناس إلى مراقي السعادة، وإقامتهم القضاء على أسس عادلة.
فبهذه الدعوة الإلهية لبست النفوس أدبًا ضافيًا، وأخذ الاجتماع سُنّة منتظمة، وبصرت العقول بحقائق كانت غامضة. وإذا كان للشرائع السماوية مزية تقويم النفوس، وإنارة البصائر، وفتح طرق الحكمة؛ فإن نصيب الإسلام
من هذه المزية أوفر وأجلى.
وما برح الناس - بعد انطواء عهد النبوة - في حاجة إلى من يعلمهم إذا جهلوا، ويذكرهم إذا نسوا، ويجادلهم إذا ضلوا، ويكفُّ بأسهم إذا أضلوا. واذا سهل عليك أن تعلّم الجاهل، وتذكر الناسي، فإن جدال الضال، وكف بأس المضل لا يستطيعهما إلا ذو بصيرة وحكمة وبيان.
وما برحت العصور تلد من الضالين المعاندين، والمضلين المخادعين، من يحاولون إثارة الفتن، وإطلاق النفوس من قيد الأدب والعفاف؛ وفي كل عصر لا يفقد هؤلاء أولي عزم وإخلاص يقرعونهم بالحجة، ويهتكون الستار عن مكايدهم؛ فيزهق باطلهم، وترهق وجوههم قترةُ الخيبة والخذلان.
ولا تنس أن المضلين المخادعين في هذا العصر قد تهيأ لهم من وسائل الدعاية ما لم يتهيأ لإخوانهم الغابرين: فمن نوادٍ تفتح، وصحف تنشر، وجمعيات تعقد، وأموال تنفق، وجاه يبذل، وسلطات تمالئ وتستبد؛ وهذا ما يجعل الدعوة الرشيدة من أفضل الواجبات، وأحمد المساعي، وهذا ما يقضي على حكماء الأمة بأن يعدّوا للدعوة ما استطاعوا من قوة، ويكسروا شوكة هذه النفوس المحشوّة بالغواية والشهوات، قبل أن تبلغ أمنيتها. وهناك طائفة لم تفسق عن جحود وتمرد، وإنما أُتيت من قِبل الجهل، وعدم صفاء البصيرة، فوضعت بجانب حقائق الإسلام ما يتبرأ منه الإسلام؛ ومن أيدي هؤلاء نزلت البدع، ومن ألسنتهم هبطت المزاعم والخرافات، ومن آرائهم دخل في الكتاب والسنّة ضرب من سوء التأويل. وحاجتنا إلى تقويم أصحاب هذه البدع، تضاهي حاجتنا إلى إنقاذ النفوس الزاكية من أن تقع في حبائل أولئك الذين يضلون عن سبيل الحياة الطيبة، ويبغونها عوجاً.