الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مناهج الشرف
(1)
الحمد لله الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم، وعلمه كيف يعرج إلى ذلك المعالي بأسلوب حكيم، والصلاة على سيدنا محمد أشرف الخليقة، وعلى آله الذين استضاؤوا بهديه حتى استقاموا على الطريقة، ثم الرضا عن أصحابه المجاهدين في سبيل إعلاء كلمة الله بالسيف والبرهان، وكل من اقتدى على اَثارهم فارتقى في أوج السعادة أرفع مكان.
أما بعد:
فإن معنى الشرف ومناهجه من أجمل الوجوه التي ينظر فيها الباحث عن حقائق الأشياء وأسرارها، وأعزّ ما يباكر إلى اجتناء معرفته قبل أن يدرج في حياته الاجتماعية، ويسابق في مضمارها، وليست هذه المعرفة دانية القطوف فيتناولها كل باع، من غير أن يفتقر في رسوخها إلى تحرير في العبارة واتساع؛ فإنك ترى كثيراً من الناس لم يستنبطوا المعنى الذي يضمّه الشرف تحت اسمه، ولم يميزوا بينه وبين ما لا يضارعه في وسمه، ولا يدخل معه في رسمه، تتشعب مداركهم في ذلك بحسب اختلاف أذواقهم، وما يلائم طبائعهم، فربما ظنّوا الرذيلة فضيلة، فأَعنقوا إليها، أو حسبوا الفضيلة في قبيل ما يترفع
(1) رسالة للإمام طبعت في جمادى الثانية عام 1331 هـ بدمشق.
عنه من الدنايا، فاعتزلوا ساحتها، وشددوا النكير على من احتفظ بها، ونشأ عن هذا تطرفهم في مقام الحكم بالتفاضل بين الرجلين، إلى أن يذكر بعضهم في نعوت الشرف ما يعده غيره خسة أو لاغية.
هذا ما بعثني على أن أبحث في هذا الغرض مستمداً في تحقيقه من دلائل الشريعة المقدسة، وسيرة علمائها الراشدين؛ فإن الإِسلام لم يلق بهذا المعنى في يد العادات والأذواق، فتلبس ثوب الشرف من تشاء، وتنزعه عمن تشاء، بل أقام له قواعد، ورسم له معالم، من تخطى حدودها، وبنى على غير أساسها، كان في نظره سافلاً وضيعاً.
وإذا تقصينا أثر ما يعدّ من أوضاع الشرف في عادات الأمم، واعتبرناه بنظر الإِسلام، وجدناه على أربعة وجوه:
أحدها: ما وافق الشرعُ على اعتباره شرفاً في نفسه، فأثنى على صاحبه، ووعد بالمثوبة عليه؛ كسماحة اليد، وصدق اللهجة، والصبر للشدائد.
ثانيها: ما منحه التفاتة، وربط به بعض أحكام، ولكنه يصرح بأنه غير معتد به لنفسه، وإنما هو وسيلة إلى غاية شرف؛ كسعة المال، أو أمارة تلوح إلى ما وراءها من فضل؛ كرفعة النسب.
ثالثها: ما تغاضى عنه، ولم ينزل به إلى عدّهِ نقيصة؛ كزيادة علم لا تنبني عليه فائدة عملية.
رابعها: ما أرشد إلى أنه يخدش في وجه الشرف، ويسقط بمن يرتكبه في جرف من المنكر، كبسط يد القوة إلى ما ليس بحق، ونصرة ذي القربى وإن كان مبطلاً.
قال عمر بن الأهتم للأحنف في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنا كنا
نحن وأنتم في دار جاهلية، وكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا نساءكم، واليوم في دار الإِسلام، والفضل فيها لمن حلم.
وأما ما لا يرونه شرفاً، ولا يسوقونه في مقام المفاخرة، فعلى ضربين:
أحدهما: ما كانوا يتخيلونه نقيصة تحط من مكان الرجل، فكشف الشارع عن فساد تصورهم وأيقظهم إلى أنه يلتئم بنظام الشرف؛ كالاحتفاظ بالبنات، والجلوس مع المساكين.
ثانيهما: ما حسبوه غير مناف للفضيلة، وقاسوه بالأعمال التي يسعها أن تقارن كرم الهمة، فنادى عليهم بالخطأ في قياسهم، وأشعرهم بأنه مما ينقض بناء الفضل، ويبلي أطلاله؛ كتعاطي الربا.
* الشرف والتفاضل فيه:
يطلق اسم الشرف، ويراد منه معنى: الفضل، قال في "لسان العرب":"كل ما فضل على شيء، فقد شرف". والفضل: زيادة الشيء فيما هو كمال فيه، والشيء إنما يكمل بالوصف الذي يمتاز به، ويراد منه، كالصرامة في السيف، والعَدو في الفرس، والإضاءة في الكوكب، والحكمة في الإنسان، واستيفاء مطالب الحياة وشرائط السعادة في الأمة، وإجراء النظامات العادلة في الدولة.
يذهب بعضهم إلى أن التفاضل إنما يجري في أفراد النوعِ الواحد؛ لأنها تعمل إلى جهة الكمال في قَرَن، وتتواطأ في سيرها على سُنَن، ويصرح بأن عقد التفاضل بين الأشياء المختلفة في حقائقها المتباينة في غاياتها لا تجتنى من ورائه ثمرة، ويتعسر وضعه في مكان عادل.
وتحرير هذا: أن التفضيل بين الأمور المشتركة في جهة كمالها قريب
المأخذ، بحيث يقل فيه الاشتباه، ولا ينتشر فيه اختلاف العقلاء متى دخلوا إلى تقريره من باب العدالة؛ فإن جهة كمال النوع الواحد إذا تعينت ورسمت حدودها، لم يبق لمن انتصب للتفضيل بين فردين منه سوى أن يقيم الموازنة بينهما من تلك الجهة، فيتجلى له حالهما من مساواة أو رجحان.
وأما الأمور المتمايزة بما هو كمال له، فإنها موضع الالتباس، فتستدعي إجالة نظر متسع، ولا يسهل وضعها في وزن مستقيم، ومما يلقي الشبهة في تحقيق التفاضل بينها: أن الوصف الواحد قد يعتبر في بعض الموجودات كمالًا، ويعدّ في غيره نقيصة، ومن هنا ترى بعض المحكمين في التفضيل بين أمرين، يتخذون افتراقهما في النوع عذراً يتخلصون به من القطع في المفاضلة بينهما.
حكى أبو عبد الله بن الحباب: أن أبا جعفر بن يوسف الفهري الأبلي سأله: ما الأحسن: كتاب "المقرب"، أو "شرح الجمل" لابن عصفور؟ قال: فما تخلصت منه إلا أني قلت له: ذلك تأليف مستقل، وهذا شرح.
ويقف بك على دخول التفاضل بين الحقائق المتباينة، وصحة التصدي للقضاء فيه: قوله تعالى في نسق الامتنان علي بني آدم: {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70]، وإذا أجريت المفاضلة بين المتباينين في الحقيقة، ولم يستند فيها إلى وحي سماوي، فبملاحظة عظم منافعها، وأهمية ما يقصد منها، كما عقدوا التفاضل بين السمع والبصر، والقلم والسيف، والليل والنهار.
يتفاضل البشر بحسب استعداداتهم الفطرية، وما يتهيا لهم من وسائل الارتقاء: إلى رجل تصعد به محامده حتى يسابق الملائكة في سماواتها العلا،
وآخر يهوي إلى درك لو زحزح عنه إلى ما دونه التحق عند أولي البصيرة بمنازل الأنعام، وبين هذين المرتبتين مقامات أوسع من أن يحيط بكثرتها التفضيل.
والذي يلقنك الحكمة في هذا التفاضل: قوله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32]. فلو وقف الناس في الفضل صفًا واحداً، وتماثلوا في هممهم ومكتسباتهم، لفسد نظام الاجتماع، واختل أمر المعاش والعمران؛ فإن فيما تمس إليه حاجتهم، وتستدعيه نشأة حياتهم، ما يأبى بعض أولي الهمم أن يباشر عمله بنفسه، وإن غشيه من الأذى ما غشيه، وقد تضعف به الاستطاعة، أو لا يهتدي السبل إلى تحصيله، فيفتقر في هذه الأحوال إلى ذي همة نازلة، أو قدرة أوسع، أو بصيرة أقوى.
وفيما تدعوك إليه الحاجة ما لا يرضى غيرك أن يصرف جهده فيه، ويشغل به وقته إلا تجاه عوض من المال، ومتى كان الناس في كفاية وغنى عن العوض، لم يتنازلوا إلى معونتك فيما تتقاضاه حياتك من المطالب، وقصر مجهودك عن أن نقوم به وحدك.
وإذا كان التفاضل في الخليقة وارداً على مقتضى الحكمة، فلا يجمل بالرجل يأنس في نفسه المقدرة على إدراك منزلة، ولكنها دون الغاية البعيدة، أن يحبس عنانه، ويبقى عاكفاً في زوايا العجزة؛ بدعوى أنه لا يقنع إلا بالأمد الأسمى من السيادة، ولو أخذ هذا بقبس من مراقبة أسرار الكون، لأمضى عزمه، واندفع في سيره ليبلغ إلى الغاية المستطاعة.
وما كان ينبغي للرجل حين تقوم له في سبيل مجده عقبات تقطع عنه
وجهته، أن يركن إلى خاطر اليأس، فينقض حبل رجائه، وينقلب إلى طبقات الأسافل، وليس له سوى أن يقف في مصارعتها حتى يكسر كُعوبها، ويفت في جَلمدها، فإن ما يتمخض به المستقبل، وتجري به صروف الأقدار، أكبرُ من أن يضبطه قياس، أو تقضي عليه خواطر الأياس.
يتحقق التفضيل بين الشخصين إذا انفرد أحدهما بأصل فضيلة خلي منها الآخر؛ كالعالم والجاهل، والشجاع والجبان، أو بزيادة قسطه منها؛ كالأعلم أو الأشجع يقاس بالعالم أو الشجاع، وقد يختص كل منهما بحلية فضيلة أو فضائل لا يشاركه فيها صاحبه، ولا يعول حينئذ في الترجيح على كثرة الفضائل؛ لجواز أن تكون الفضيلة الواحدة أرجح في الموازنة، وأوفى من فضائل متعددة، وإنما يصار إلى حال كل فضيلة بانفرادها، وتوزن بغيرها، فيعلم أيها أشرف ثمرة، أو أجزل فائدة.
ولا يلزم في إطلاق التفضيل، أن يستوفي الأفضل ما عند المفضول من الكمالات، فقد يستقل المفضول بمزية، ولا يمنع استقلاله بها من إطلاق العبارة في تفضيل غيره عليه. ويصح إذا اختص المفضول بمحمدة، أو كان نصيبه منها أوفر، أن تقرر له الأفضلية من جهتها خاصة؛ كالعالم الكريم لا يتمكن في سجية الإقدام، فتفضله على الجاهل البخيل يبذل نفسه في مواقع الأخطار، ولكنك لا تستطيع أن تغمض لهذا المفضول عن مزية إقدامه حتى لا تقضي له بالأفضلية من جهتها.
وإذا كنا نعد المزية ينفرد بها المفضول، ويسوغ تفضيله من ناحيتها على من ترجح عليه بغيرها من المزايا، فلا يليق بخالص اعتقادنا الاعتراف بأن بعض أفراد الأمة قد يختص بحال كاملة يصدق عليها اسم المزية بدون أن
يتحلى بها أفضل الخليقة صلى الله عليه وسلم. ومن هنا ينكشف لك الستار عما قرره القرافي في قصة فرار الشيطان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ونفقه كيف انتقض جوابه بأن اختصاصه بهذه المزية لا تقتضي تفضيله على النبي صلى الله عليه وسلم؛ اعتباراً بقاعدة: أن المزية لا تقتضي الأفضلية.
والحق ما سنح لخاطر أبي إسحاق الشاطبي من أن فرار الشيطان من ابن الخطاب إنما عدّ مزية له؛ حيث كان كافلًا بحفظه من إغوائه وصيانته عما ينفثه في الصدور من الوساوس، ولا ريب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصوماً من نزعاته، اَمنًا من تزييناته، وإن قرب من ساحته. ويوضح هذا: أن المزية غاية تحصل بوسائل تختلف؛ كالعلم - مثلاً - يناله أحد بمطالعة كتاب، ويتلقاه آخر من تقرير أستاذ، فلا يقال: إن لمكتسب العلم من كتاب مزية عمن تلقفه من فم معلم، متى استويا في الغاية التي هي العلم.
يقول بعضهم: لا يعرف مقدار فضل الرجل إلا من كان مساوياً له في مرتبته، أو أعلى. وهذا مثل ما قال تقي الدين السبكي حسبما نقله التاج في "طبقاته":"لا يعرف قدر الشخص في العلم إلا من ساواه في رتبته، وخالطه". ومقتضاه: أن لا ينتصب للتفضيل بين العالِمَيْن إلا من كان في منزلتهما، أو أرقى درجة.
وأنت إذا علمت: أن من الناس من لا يصل إلى أن يستظهر الحقائق من مخبآتها، ولكنها إذا استخرجت، ووضعت أمامه في أخلاط من الباطل، عرفها بصفاء فطرته، وميّزها من غير أن تلابسه ريبة، تحققتَ أن الرجل قد يبلغ به الذوق الخالص إلى أن يعرف من كان ينطق بالقضايا التي تنحو نحو المقاصد البعيدة، ويفرق بينه وبين من لم ترتفع بهم مداركهم عن الخوض
في المسائل القريبة، وإن لم يبلغ في نفسه أن ينسج على منواله، ويرمي في تحقيق المباحث إلى غايته.
ويعجبني قول بعض تلامذة الغزالي: لا يعرف فضل الغزالي إلا من بلغ، أو كاد يبلغ الكمال في عقله. وهي مقالة أمكن في الصواب من قول تاج الدين السبكي: لا يعرف أحد ممن جاء بعد الغزالي قدر الغزالي، ولا مقدار علمه؛ إذلم يجئ بعده مثله.
* شرف الإنسان:
من ضرب بنظره في سيرة رجل ممن شهدت لهم العقول الراجحة، ورفعتهم في رتب السيادة إلى السنام، وأخذ يتبصر في الأحوال التي امتاز بها عن سائر الحيوان، فأول ما يطالعه في صحيفة آثاره: عمل منتظم، وسير لا عوج فيه، يتحرك فتتناثر الصالحات من خلال حركاته، وشمكن فتبتهج العيون بسكينته. وليست هذه الشؤون الظاهرة مما يعرض لأعضائه بغتة، مثل ما يعرض الاختلاج للعين، والارتعاش لليد، بل هي ناشئة عن قلب حاضر، ومنسوجةبإرادة ثابتة. ونفقه أن هذه الإرادة لا تخطر على قلبه؛ كما يريد الرضيع ليقبض على ذُبالة السراج ، فيمد يده إليها، وإنما هي أثر علم يتقدمها، وشعور بما يترتب على صنع كذا، أو الإمساك عنه؛ من جلب محمدة أو التخلص من معتبة.
ولا يستقل العلم وحده بإنشاء هذه الإرادة على وجه منسجم؛ فإنك ترى المسلم يعترف بفريضة الزكاة، ويشعر بما يترتب على منعها من العقوبة في الدار الآخرة، ثم يمسك عن إعطائها مطاوعة لطبيعة الشح بمكتسب المال، أو حرصاً على إتلافه في تحصيل لذة عاجلة. فيؤخذ لصدور الإرادات
الحسنة على منهج لا ينخرم شرط تنقيح النفس من الطباع السيئة، وترشيحها بالآداب الراقية.
ثم إن العلوم صور ترتسم في النفس بواسطة قوة نسميها بالعقل، وقد يتفق لبعض من تخلصت له مزية العقل والعلم والأدب وحسن الإرادة، أن لا يصدر عنه من العمل الصالح ما يصدر عن ذلك الرجل الذي ضربناه مثلاً. وهذا يستلفتنا لتعرف وصف آخر له مدخلٌ في إبراز المساعي الحميدة إلى طرف الوجود، وهو الاستطاعة.
فتحرر بهذا الاستقراء: أن مدار كمال الإنسان على: عقل وعلم وأدب، وإرادة واستطاعة وعمل.
* القوة العاقلة:
هي استطاعة النفس الانتفاع بالمعلومات عند الحاجة إليها. ومما لا يحتمل الشبهة: أن حصص النفوس من هذه القوة متفاوتة، فمن الناس ذكي يقرأ من صفحات الوجوه ولحظات العيون ما يكنه الرجل في خبايا سريرته. ومنهم غبي لا يصل إلى المعاني القريبة إلا بالعبارات الواضحة وإعادتها عليه مرة بعد أخرى.
لماذا ترى الرجلين استويا في مقدار ما احتسياه من لبان المعارف، وأحدهما يتناول قلمه، فيملي عليه فكره من الإفهام ما لم يروه عن معلمه، ويمسك الآخر القلم، فلا يرشح له بكلمة زائدة عما تلقاه من فم أستاذه؟.
ذلك لأن في مدرك الرجل الأول فضل قوة يحسن بها التصرف في معلوماته، وينتزع بها المعاني الغامضة من منازع بعيدة، ثم يؤلفها في صور قضايا مبتكرة؛ بخلاف عقل الثاني؛ فإنه لضعف شعوره بالمناسبات بين
المعاني المتفرقة، وقصوره عن تصور ما ينتج عنها إذا ركبت في نظام واحد، لم يزد على الاحتفاظ بما اقتنصه سمعه من إفهام معلمه.
تتفاوت العقول بحسب فطرتها، وقد تتقارب باعتبار الفطرة، ويدركها التفاضل بما يتقدم إلى بعضها من التعاليم الراقية بحسن أساليبها وصدق قضاياها؛ فإن مبكرة الفطرة بالمطالب الصحيحة الواردة في الأساليب الحسنة، يربيها من مبدأ نشأتها على معرفة الطيبات من العلم، ويشب بها على طريقة الإفهام القيمة، وإذا انطبعت الفطرة بالتعاليم الثابتة، وأنست بها منذ أخذت في طور التعلم، كانت أقدر على تمييز درر المباحث من حصبائها، وأدرى بالصواب والخطأ ممن ترشحت فطرته بالقضايا المنحرفة، والقصص الواهية؛ فإن الفطرة إذا تزيت بزي التلقينات الزائغة، وتلطخت بحمأتها الخبيثة، صارت مستعدة لقبول الأقوال الساقطة، وإدراجها في زمرة معلوماتها. وعلى فرض أن تمد تلك القوة عنقها لاستنتاج ما لم تتعلم، فلا تتحاشى أن تستجلب القضايا المستضعفة التي هي من نوع ما سبق لها في التلقين.
قد يتسع عقل الإنسان لإدراك مطالب يضيق عنها نظر آخر هو أقدرُ منه طى ضور مطالب أخرى. وربما كان هذا التفاضل الذي تقاسماه بينهما ناشئًا بحسب ما يتسابق إلى كل منهما، ويتجمع عنده من العلم بالمقدمات والقضايا القريبة من المطالب التي فاق قرينه في تحصيلها. ومما يضع أمامك أن الفكر قد يبلغ أشده في بعض المباحث، ويدركه الفشل في بعضها: أن قدماء الفلاسفة أقبلوا على بعض علوم؛ كالحساب والهندسة والمنطق، وأعملوا فيها الروية، فأصابوا مفاصلها بصوارم الأدلة، واستولوا على خبرة بها لا تنازعهم فيها ريبة. وهذه الأنظار التي عهدت لهم هناك بجودة التصرف
وإصابة الغرض، هي التي أداروا عنانها نحو الإلهيات، فطرحتهم في فضيحة، وألقت على أفواههم كلمات يعدها المؤيد بحجج الشرائع من قبيل ما يهذي به المبرسمون.
وفد العلاء الحضرمي على منذر بن ساوي، فقال له: يا منذر! إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة:
فَطِنٌ بكل رزية في ماله
…
وإذا يُصاب بدينه لم يشعر
نوه الإِسلام بشأن العقل، وشمله بعناية كبرى، ونكتفي في تقرير هذه العناية بثلاثة شواهد:
أحدها: أنه منع من تناول ما يؤثر فيه خللاً؛ كالمسكرات، وأغلظ القول في تحريمه.
ثانيها: ما وضعه على من ضرب شخصًا، فأزال عقله من دية مبلغها ألف دينار.
ثالثها: توسيع طرق النظر أمامه، واستدعاؤه إلى التدبر في أسرار الموجودات.
رفع الإِسلام مكان العقل، وأثبته في سجل الشرف على شرط أن يوجهه صاحبه في البحث عن مكان الحقيقة، وينافس به لإحراز العلوم النافعة.
ومما ينبهك على هذا الشرط الوثيق: قوله تعالى في ذم قوم حبسوا عقولهم في ظلمة الباطل، ولم يطلقوها من أسر المتابعة والجمود:{إنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان: 44]. فتمثيل حالهم بالأنعام، إنما ساقه إليهم إغفالُ عقولهم، وبقاؤها تائهة في أودية الجهالة، إلى أن حرموها حلاوة اليقين وراحة الاعتقادات الراسية.
وقد مثّل تعالى حال من نفروا عن العظة، ونأوا بجانبهم عن الإصاخة إليها، بحال الحمر المتوحشة إذا عاينت أسداً، امتلأت منه فزعًا، وطاشت عن ساحته فالتة، فقال:{كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 50، 51]. وفي إلحاقهم بالحمر، ووضعهم معها في قران التشبيه، إيذان بأن منزلتهم في الحطّة ما برحت بإزاء منازلها، وأن قوى مداركهم لم تصعد بهم إلى مطالع الشرف قيد أنملة؛ حيث أصبحت عارية عن إدراك ما فيه سعادة دائمة.
وقال تعالى في جملة ما قصه علينا من أقوال الضالين عن سنّة هدايته: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10]، الآية؛ فهؤلاء لم يريدوا سلب حقيقة العقل من أنفسهم بحسب الواقع، وإنما اعتبروه بمثابة المعدوم، وأطلقوا في نفيه حيث لم يجتنوا به ثمرة الإيمان الواجب، ولم يستضيئوا به في البحث عن التعاليم المفيدة.
ولا تلابسك الحيرة في قضية أن العقل مطلع كل شرف، إذا بلغت إلى قول الفقهاء: إن شدة الذكاء تفوت بصاحبها عن أهلية الولاية للقضاء. فاشترطوا للحاكم أن لا يكون زائدًا في الدهاء، فإن المراد من الذكاء: سرعة انقداح النتائج، وسهولته على النفس، وهذه هي الفضيلة. ويعني بالإفراط فيها: اختطاف صورة الأمر أو القضية من غير إحكام فهم، ولا تثبت في المأخذ.
ووجه العيب في هذا: ما قد يعرض له من الاختلال في التصورة حيث لم يضع فكره على غضون الصورة أو القضية ولم يحط بها من سائر أطرافها.
قال ابن خلدون: إن فرط الذكاء والكَيس عيب في صاحب السياسة؛ لأنه إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود، والطرفان مذمومان
من كل صفة إنسانية، والمحمود هو التوسط. وساق على هذا: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما عزل زياد بن أبي سفيان عن العراق، قال: لم عزلتني يا أمير المؤمنين، ألعجز، أم لخيانة؟ فقال: لم أعزلك لواحدة منهما، ولكنني كرهت أن أحمل فضل عقلك على الناس.
ويلوح في التفقه من هذه القصة: أن فضل عقل زياد لم يكن من قبيل اختطاف الصورة من غير إحكام فهم حتى يكون خدشة في نفس تصوره، بل كان زياد بصفة من يحيط بالقضايا، وما ينشر لديه من النوازل، ويوفيها حقها من النظر وتطبيق الدليل، وإنما يدركه الذهول عن سبر عقول الجمهور، وتحرير قدر ما تحتمله من الأوامر في السياسة، فقد يقتضي الحال تأخير ما لا تصل إليه أفهامهم، ولو كانت المصلحة المرتبطة به أعظم؛ كيلا يعتقدوا به العنت والاعتساف، ويهوشوا عليه بالنكير، فيفضي الأمر إلى نزل وسخط لا تحمله عاقبته. ففضل عقل زياد بمعنى: اتساع أنظاره، والرمي بها إلى غايات من المصالح التي تكلّ دونها أبصار الجمهور، لا يسحب إليه خللاً في نفس ذكائه؛ ضرورة أن الجمهور لو اقتربوا من أنظاره، وتلقوها على كاهل القبول، لما وجه إليه عمر بالمؤاخذة، ولو كان فضل عقله من قبيل الوجه الأول، وهو الاستعجال في فهم الأمر من غير ترّو منه، لم يعبر عنه عمر بفضل العقل، ولحق عليه الانفصال عن الولاية، ولو رضيه الناس.
ويزيدك خبرة بأن ما توفر لزياد وأمثاله من فضل العقل، ليس من العيب الذي تلمز به قوتهم الناطقة أنهم لو أضافوا إلى حدة بصائرهم ممارسة طبائع الرعية، وتحري ما يلاقي مداركهم، ولا يضطرب له نظام راحتهم، كانوا على شرط الكفاءة لأي ولاية تلقى إلى عهدتهم. وبهذا التحرير يظهر أن فرط
الذكاء؛ حيث يراد منه الرمي بالفهم إلى أغراض في السياسة غامضة، لا يكون مانعا من ولاية الأحكام بذاته، أو على إطلاقه.
يذكر بعض الناس أن واسع العقل يكون أنكدَ عيشًا في هذه الحياة ممن قصرت أنظارهم، وجمدت مداركهم، ومنهم من يقول: إنما الراحة فيها على مقدار اتساع العقل، وبعد مراميه.
وقد فكّ ابن حزم التعارض بين المقالين؛ بأن استراحة العقلاء من جهة تلقي المكاره بعزيمة ثابتة، وعدم التأثر لصدمات المصائب، بخلاف صاحب النظر الفاترة فإن خاطره ينزعج لأقل بلاء ينزل بساحته، وأما نكد عيش العاقل، فمن أجل ما يشاهده من إطفاء نور الحق، والنفخ في مزمار الباطل، أو الاستماع إلى ألحانه بطرب وارتياح، وهذا بخلاف من انطفت بصيرته؛ فإنه لا يهمه بعد انتظام شؤون بيته أن تنهض الحقوق قائمة، أو تحز أعناقها على نصب الشهوات.
* فضيلة العلم:
إذا كانت العقول في مثال السيوف تقطع الباطل أن يتشبث بأطراف الحقائق، فإن العلم ثقافها الذي يقوم أَودها، ومصقلتها التي تجلو أصداءها. أترون السيف الذي احدودب متنه، أو تكاثف الخبث على غراره، كيف يقبح منظره، وينبو عند الضراب به؟
كذلك العقل إذا غشيته الشبه، وانحدرت به في نواحي الضلالة، حتى التوى غصنه بالتواء شعبها، أو بقي في مستنقع من الجهالة حتى التف عليه من سوادها حجاب كثيف، فإنه يدنو من ذوي البصائر، فتشمئز فطرهم السليمة نفوراً منه، ويذهب إلى البحث عن الحقيقة، فلا يقع على مكامنها.
وما اللسان إلا مرآة تمثل خواطر العقل، وتنقل مداركها من شعور إلى شعور. والمرآة إذا تكور سطحها، أو تجهم وجه زجاجها بغبش، أخذت الصور على غير نظامها، وعرضتها في أشكال غير مطابقة.
كذلك اللسان إذا ألقت عليه الفَهاهة أثقالها، وشدت عليه اللُّكنة عقدتها، فإنه لا يحتفظ بما يمليه عليه الفكر من المعاني، فيضبطها من سائر حواشيها، بل يوديها في مثال شخص حذفت بعض أعضائه، أو تخاذلت هيئته، فتصوب رأسه إلى أسفل، وتصعدت قدماه إلى أعلى.
فمن العلوم ما يرجع إلى إصلاح النفوس، أو تكميل العقول؛ كعلوم الشريعة، وصناعة المنطق والتاريخ.
ومنها: ما يرجع إلى تقويم اللسان، وتهذيب صناعة الكلام؛ كعلوم اللغات وآدابها.
ومنها: ما يتخذ في وسائل الحياة، والتفنن في أساليب العمران؛ كالهندسة والطب والطبيعيات.
أصبحت مزية العلم في جلائها وشهرتها مثل فلق الصبح، لا يسع أحداً جهالتها، فيكاد بسط العبارة في هذا الصدد يلحق بإسهاب المقال في المعاني المطروحة على البداهة عند العامة والأطفال، ولكنا نستوقف النظر برهة في تفاضل العلوم في أنفسها، ونعرِّج على الوجه الذي كان به العلم ركنًا من أركان السيادة.
تتفاضل العلوم بحسب أهمية ثمرتها، أو عموم نفعها، أو قوة براهينها، أو شرف موضوعها، كاللغة تفضل على المنطق بعلو ثمرتها التي هي فهم دلائل القرآن والحديث، وكالفلاحة تفضل على معرفة الصياغة بعموم نفعها،
والهندسة تفضل على علم الهيئة بقوة براهينها، ومثل التوحيد يفضل على
الفقه بموضوعه، وثمرته، وبراهينه.
قد تقوى عناية قوم ببعض العلوم، فيجعلونها الغاية في الشرف، ويفضلون العارف بها على من قام بغيرها من العلوم، وإن كان أعلى حكمة، وأقرب وسيلة إلى السعادة، فيرفعون في بعض العصور أو البلاد مقام حافظ اللغة على مقام حافظ الحديث، ويؤثرون العارف بالمنطق على القائم بعلم الفرائض، ويفضلون صاحب البلاغة على العالم بالفقه.
وكان للفقه عند أهل الأندلس المقام الأعلى، حتى إذا أرادوا تعظيم الملك أو الوزير، لقبوه بالفقيه، وربما دعوا به النحوي أو اللغوي؛ حيث قصدوا إجلاله؛ لأنه أشرف الألقاب في ندائهم.
وقد يأخذ العلم اعتباراً لدى الشعب ورواجاً، إذا كان له مساس بتصرفات الدولة؛ كعلم العربية في قوم يكون لسان دولتهم عربيًا، ولرجال الدولة اهتمام بفصاحة الرسائل، ورفعة أسلوبها.
قال ابن السبكي في "طبقاته": كان محمد بن برّي المولود عام 499 متوليًا أمر التصفح في ديوان الإنشاء، وذكر أن الكتب لا تصدر عن الدول إلى ملوك النواحي إلا بعد أن يتصفحها إمام من أئمة اللسان، وإن القاضي الفاضل كان يتصفح الكتب التي يكتبها العماد، ومن كان دونه.
فمثل هذه العناية يكون له مدخل قوي في الإقبال على علوم العربية، والتنافس في صناعة الإنشاء.
يثبت الشرف للعلم في اعتبار الإِسلام من جهة أنه يثمر عملاً نافعاً، فإذا لم يكن له أثر في عمل يشكر، فإما أن يعد ضرباً من المباح؛ كمسائل
الخلاف التي لا تترتب عليها فائدة، وإما أن يحسب فيما يصف صاحبه بوصف الحطة؛ كالسحر والطلمسات.
مما يحقق أن الشرف لا يثبت للعلم إلا من حيث إنه ينبت المحامد، ويجلب السعادة: قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5]، الآية، فانظروا كيف ذم الذين درسوا التوراة، وأتوا عليها تلاوة، ثم أحجموا عن العمل بموجبها في أسلوب بليغ، فضرب في وصفهم مثل الحمار يحمل أسفارًا من حيث خلوَّهم عن المزية، وعدم استحقاقهم للحاق بزمرة العلماء، إذ لا ميز بين من يحمل كتب الحكمة على غاربه، وبين من يضعها داخل صدره أو دماغه إذا صدَّ وجهه عن العمل بها، وتنسحب هذه المذمة على كل من حفظ علماً طاشت به أهواؤه عن اقتفائه بصورة من العمل تطابقه.
ومن الناس من يندفع في سبيل التعليم، فيتلقف المسائل على غير بينة من أمرها، ويضمها في حفظه جئدها على رديها، بدون أن يتفقه في ثمرة وضعها وتدوينها، ولا يتدبر كيف انصرفت الأفكار إلى استنباطها، وما الصنع الذي اقتحمته حتى تمكنت من اقتناصها، فأمثال هذا هم الذين إذا سمعوا مناديًا ينادي اسم العلماء، جاؤوا إليه يهرعون، وإذا وقف العاملون على ساق الاجتهاد، وشدّوا حيازيمهم للسعي، رأيتهم اضطجعوا على صماخ آذانهم يتماوتون.
ومنهم من يأخذ القضايا العلمية، فيدير فيها نظره يميناً وشمالاً، ويجمع بين طرفي مبدئها وغايتها، فإذا نزلت في أعماق صدره، واختلطت بمسلك روحه، اشتد حرصه على الاحتفاظ بها، وأصبح يغار لعدم إجراء العمل
بموجبها غيرةَ من جرّد قريحته في البحث عنها، وأفرغ وسعه في انتزاعها وترتيب نظامها، وأمثال هذا هم الذين لا ينفضون أيديهم من صلة العلم، وإن كسدت بضاعته، ولم يتقدم صاحبه عن موقف الجاهلين خطوة، فإنهم أحسوا في الحكمة بلذة لا يشوبها كدر، ودخلوا في مطالع إيناس لا تمر بها سحائب الوحشة.
ومما لا يرضى التحرير لنفسه، وإن لم يصر أهلاً لبدء القواعد والأحكام: أن يكون راوياً لأقوال العلماء من غير أن يتصرف فيها بمقتضى صناعة التحقيق، كأن يكشف عن الزائف، ويرجح جانب المصيب، أو يفرق بين ما يظهر في صورة التعارض، ويضع كل مقالة في موضعها، أو يستنبط الجواب عما يتوجه على القواعد المسلمة من البحث والاستشكال، وهذا أحد الوجوه التي يتفاضل بها العلماء، وترفع بعضهم فوق بعض درجات.
قال الشيخ ابن عرفة في حديث: "أو علم ينتفع به": تدخل التآليف في ذلك إذا اشتملت على فوائد زائدة، وإلا فذلك خسار للكاغد.
قال الأبي: ويعني بالفائدة الزائدة على ما في الكتب السابقة عليها، وأما إذا لم يشتمل التأليف إلا على نقل ما في الكتب المتقدمة، فهو الذي قال فيه: خسار للكاغد، وهكذا كان يقول في مجالس التدريس:"إذا لم يكن في مجلس الدرس التقاط زيادة من الشيخ، فلا فائدة في حضور مجلسه، بل الأولى ممن حصلت له معرفة الاصطلاح والقدرة على فهم ما في الكتب، أن ينقطع لنفسه، ويلازم النظر". وضمّن ذلك في أبيات نظمها، وهي:
إذا لم يكن في مجلس الدرس نكتة
…
وتقرير إيضاح لمشكل صورةِ
وعزْوُ غريب النقل أو حلّ مقفلٍ
…
أو اشكال أبدته نتيجة فكرةِ
فدع سعيه وانظر لنفسك واجتهدْ
…
ولا تتركن فالترك أقبحُ خلةِ
وإذا كان ظل العز والشرف يمتد حول العالِم بمقدار سعة معارفه، فيجدر بالرجل أن يلج بفكره في كل علم أمكنته مزاولته، ويأخذ من كل فن بطرف، ولو ألقى رحله في بعض علوم وجد من نفسه استعدادًا وانعطافاً زائداً نحوها.
عكف أبو صالح أيوب بن سليمان مرةً على كتاب "العروض" حتى حفظه، فسأله بعضهم عن وجه إقباله على هذا العلم بعد الكبر، فقال: حضرت قوماً يتكلمون فيه، فأخذني ذل في نفسي أن يكون باب من العلم لا أتكلم فيه.
جرت سنة الله أن علم الشريعة إنما ينال بالأخذ عن علمائها، وينحرف بعض العامة عن هذه العبادة، فيشهدون رجلاً كيف نشأ بينهم، ولم يدخل مجلس تعليم، ولم يصاحب أستاذاً يتلقى عنه ما تجب معرفته من أحكام الدين، فيغترون بمزاعمه، ويعتقدون له مقاماً سامياً في الصلاح، ثم يقتدون بسيرته، ويؤثرون أقواله عما يرويه العلماء من بينات الكتاب والسنّة.
قال العلامة ابن حجر الهيتمي في "فتاويه": إن الجاهل بمبادئ العلوم الظاهرة مما يجب عليه تعلمه لا يكون وليًا، وإن علم الشراع لا يدرك إلا بالتعليم الحسي. قال: ويؤيد هذا: أن المحقق ابن عرفة المالكي حكى الإجماع على أن علم الشراع لا يكون إلا بقصد التعليم. وهذا واضح؛ فإن القرب من رب العالمين يكون على قدر سلامة الطوية، وصحة العبادة، ومن لم يتعلم شروط العبادات وواجباتها ومبطلاتها، اختلت أعماله، وكانت عارية عن الصحة، وإذا كان يخرج عن رسم الشرع، ويأتي بعمله على غير
وضع، فكيف يصدق إن ادعى المرتبة القريبة من رضاء منزل الشرائع، ويتخذ قدوة يعمل على آثاره قولاً وعملاً.
* أدب النفس:
يظهر جلياً أن توجه الإنسان لعمل يحمد، هو أثر اعتقاده بكماله، والفوز بغايته، ولكن العمل لا يسهل مأخذه، وتنشط له الجوارح بدون تردد، إلا إذا صاحب ذلك الاعتقاد خلقًا ثابتاً، فالخلق حال راسخ في النفس تصدر عنه الأفعال بسهولة.
واعتبر في هذا بموسرين، يبصر أحدهما المسكين في حال احتياج إلى نائل، فتهتز عواطفه رغبًا في إمداده، ويحيى بالارتياح لمواساته، كيف يسري في عروق فؤاده كما يسري الشفاء في مواضع الألم. ويقف في جنب الآخر سائل تحف به شواهد الفاقة والعجز عن الاكتساب، فيشمئز خاطره لاستعطائه، ويحيد عنه بنظره، ولكنه يتذكر ما قرر في فضيلة البر، وما يجازى به المنفق في سبيل الله، فيدفعه ذلك إلى أن يقطع فلذة من فاضل ما عنده، ويضعها في يد السائل، ونفسُه متابعة لها.
فالأول لم يزد على الثاني في صنعه الظاهر، والقيام بمعونة الفقير، سوى أنه بذل ماله عن كرم سجية، ورقة عاطفة، والثاني إنما فارق ما بيده بعد منازعة طبيعته، ومحاورتها بأن العوض عن ذلك أوسع ثواباً وأنقى. وهذا قد ينسج على قلبه الذهول، وتعزب عنه فضيلة البذل، فيصرف السائل خائباً.
هذا الحال الذي نسميه خلقاً، وتتأهب به نفس المتأدب للعمل، قد تنشأ عليه النفس من أول فطرتها، كأخلاق الأنبياء عليهم السلام، وقد
يرتسم بواسطة اعتقاد يحضر في النفس، ويتكرر وارده عليها، كخلق الشجاعة ينتقش في الطبيعة بتتابع إدراك أن عاقبة الإقدام شرف دائم، أو راحة خالصة، وأن الحياة على هوان أشد مضاضة، وأمرُّ غصة من الموت في حال عز. فإذا ألقيت بتعليم هذا إلى شخص وبقي بعده مغرماً بحياته، حريصًا على استيفاء ملاذها، فإما أن يكون مع ذلك مستصوباً لآراء الجبناء، فنستيقن أن تلقينك له لم يصل به إلى اعتقاد جازم بقبح الجبن، ومعرة الفزع، وإما أن يعشق حياته، ويرضى برفقة القواعد، وهو يحترم المقدام، ويزدري بمن يماثله في الاندهاش والتسلل من مواقع الخطوب، فنتحقق أن تعليمك إنما أفاده اعتقادًا بفضيلة الشجاعة، ولم يبلغ به إلى أن صيّره خلقاً مكيناً. وإذا كان الخلق نتيجة اعتقاد، فخلق الجبن - مثلاً - حاصل عن اعتقاد أن الإقدام ملقٍ إلى التهلكة، وأن للموت مرارة لا تحتمل، فكيف يجتمع مع اعتقاد فضيلة الشجاعة، وعلو شأن البسلاء؟
إن الخُلق، وإن كان نتيجة اعتقاد، فقد يزول ذلك الاعتقاد، ويخلفه اعتقاد آخر، وتبقى النفس لابسة للخلق الذي أوقعه الاعتقاد الأول، فالقابض يده عن الزكاة- مثلاً -، إن تصرف في إرادته اعتقادٌ يناقض الاعتقاد بفريضتها، كاعتقاد خلوها عن المصلحة، وأنها نقص في الأموال، ومجلبة للفاقة، فقد خرج بذمته عن طوق الإِسلام. ومن أمارة هذا الاعتقاد الزائغ: أنك تسمعه يستخف برأي من يمد يده بها عن سماحة خاطر، وينسبه إلى البله وقلة الكياسة في حفظ المال، أما إذا وثق في اعتقاد وجوبها، ولكنه انكمش عن إيتائها إيثاراً للمنفعة العاجلة، وذهولاً عن هول العاقبة، فهذا هو الذي نثبت له أصل الإيمان، مع استحقاق ذلك الوعيد.
ويؤكد لك أن الاعتقاد بكمال الشيء قد يتفق مع نزوع الطبيعة، ومغالبتها في العمل بخلافه: أنك تجد المتهاون ببعض الواجبات الدينية يرى القائم بحقها على هداية وحكمة، فيعظم في عينه، ويذكره بلسان التمجيد، كما يشهد للفاسق بسفالة الهمة، وسخافة الرأي:
وأبغض مَنْ بضاعتُه المعاصي
…
وإن كنا سواء في البضاعة
يذكر فلاسفة الأخلاق قضية اختلافهم في حال النفس عند ابتداء نشأتها، وليس من الغرض بسط المقال في هذه القضية بسرد المذاهب وتقرير "الدلائل" بل الذي يتشبث بمنهج هذه الورقات: أن نمر على صفوتها، ونأخذ بطرف المحرر منها، وهو: أن النفس في مبدأ فطرتها عارية عن سائر الأخلاق خيرِها وشرها، ولكنها فطرت على استعداد وقبول لما يؤثره فيها التعليم والاقتداء من الأخلاق الفاضلة، وهذا الاستعداد هو الذي جعلها متوجهة بفطرتها نحو السبيل الملاقي للحكمة، فإذا ألقمت ثدي التربية، كانت سرعة انطباع الخلق وبطؤه على قدر ما يبلغه ذلك الاستعداد الفطري من القوة والضعف.
وقد يعرض لهذا الاستعداد إنحراف يزين للنفس بعض تعليمات خاسرة، ويريها وجه الأدب سمجاً، فلا تلتفت إليه بإعجاب، مثلما تبتلى حاسة الذوق بسقم تعاف به الماء القراح، وتستلذ به ما لا طعم له، أو ما له طعمٌ خبيث.
ولا تمترِ فيما أومأنا إليه من أن هذا انحراف تصاب به الفطرة على قلة وغرابة، إذا كنت تشاهد من المتهافتين في مستنقع الأخلاق الدنيئة أكثر من القائمين على الأخلاق المهذبة؛ فإن أصحاب الرذائل قد تكون استعداداتهم
الفطرية مستقيمة، والبليةُ إنما وقعت عليهم من جهة تركهم في مضيعة، وعدم مراقبتهم بالتربية، إلى أن اجتذبتهم الأخلاق السافلة. وليس في استطاعتك أن تدرك بيقين أن النفس قد بليت بانحراف في ذات استعدادها، إلا إذا وجهت همتك إلى أحد الأطفال، وأخذت تلقي إليه من الآداب العالية، وترشحه بها يوماً فيومًا إلى أن قضيت في أدبه أمداً بعيداً، وعندما نصبت له وزن الاختبار، وجدته فرغاً من كل أدب رفيع، ورأيت همته منحطة على درك الرذالة.
ومما يرشد إلى أن النفوس متهيئة بطبيعتها إلى الأحوال الشريفة: قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة"، فقد ذكروا في تفسير الفطرة: أنها الجبلّة السليمة، والطبع المتهيئ إلى قبول الدين. ويلوح إلى ذلك- فيما نبّه عليه بعض المفسرين-: قوله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا} [الأعراف: 58]،؛ فإن الآية ضربت مثلاً للنفوس الخيرة، والنفوس المطوية على شر، وقوله:{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} عائد إلى الأولى، وقوله:{وَالَّذِي خَبُثَ} إيماء إلى الثانية، ووجه الدلالة: أن النفس لما كانت مستعدة بفطرتها لأن تكون طيبة، كان الطيب بمنزلة المغروز في فطرتها، فعبّر عنه بالاسم الدال عند أهل البلاغة على مجرد الثبوت، ولما كان الخبث يعرض لها لعلة انحراف أو تلقين، عبّر عنه بالفعل المشعر عندهم بالحدوث.
ولا يتدافع ما تحقق لديك من استعداد طبيعة النفس للفضائل مع ما غرز فيها من قوة الشهوة، فإن هذه القوة لا تعد سيئة إلا إذا تطوحت عن رسم الاعتدال، وهي إنما تتعاظم بتكرر إدراك المحسوسات اللذيذة، وترددها على
مذاقاتها طعماً بعد آخر. ومع هذا التعاظم، فقد تبقى النفس على فطرتها من التوجه إلى الخير، والتعلق بأطرافه، فلا تدخل في أمر الشهوات، وإن بلغت غايتها، وربما كان فوز النفس عليها وهي متعاظمة أدلَّ على المزية من قهرها لها وهي متفانية؛ كما لاحظوه في مساق التفضيل بين البشر والملائكة.
يتعرض الكاتبون في الأخلاق إلى رسومها الفارقة بينها، بحيث تتمايز حقائقها، ولا تختلط حدودها، والذي يعسر أحياناً إنما هو تطبيق تلك الرسوم على الأحوال الخاصة، ومعرفة أن هذا موقع الإقدام - مثلاً فنسمي الإحجام عنه: جبنًا، أو هو موقع الإحجام، فنسمي الإقدام عليه: جرأة، وقد تلتبس بعض المواطن، فلا يدري الناظر هل يحسن فيها الترفع، فيكون التنازل ذلة، أو يليق بها التنازل، فيكون الترفع كبراً؟ فلا بد حينئذ من جودة الرأي، وإمعان النظر في تعرف المواضع التي يصلح فيها مثل الإقدام، أو الصفح، أو البذل، أو الترفع، التي هي آثار الشجاعة، والحلم، والكرم، وعزة النفس. وفي هذا المقام تظهر مزية التربية الخاصة؛ فإنها تعطي للإنسان ملكة التفرقة بين مواقع الأخلاق الفاضلة، والأخلاق السافلة، فالأب والمؤدب يكرران على الصبي تمجيد الحلم وعزة النفس - مثلاً -، ويزيدان على ذلك تنبيهه على مواقعهما حين يغضب بغير حق، أو يتنازل إلى غير أهل.
قد يمر بك في أقوال الشعراء ما يحث، أو يثني على بعض الأخلاق المعروفة بالمذمة، فلا يغرنك بما يمسح عليه من زخرف الفصاحة؛ كقول بعضهم يأمر بالحمق:
وكنْ أكيسَ الكَيسى إذا كنت فيهم
…
وإن كنت في الحمقى فكن أحمقَ الحمقِ
فعجز هذا البيت لا يتعلق بأذيال الأدب، إلا إذا قصد به ناظمه معنى مقاومة الأحمق ومقابلته بشدة تدفع في أذيته إذا لم يكف في مدافعتها اللينُ والمجاملة، ويماثل هذا قول ابن الرومي يمدح طبيعة الحقد:
وما الحقد إلا توأم الشكر في الفتى
…
وبعض السجايا ينتسبن إلى بعضِ
فحيث ترى حقداً على ذي إساءة
…
فثمَ ترى شكراً على حسن القرض
فالحقد مما اتفق العقلاء على أنه خلق ذميم؛ لأنه طبيعة احتفاظ الإنسان على الجريمة وإمساكها على ظهر قلب؛ ليجازي بها حيث تسنح الفرصة، وإن أصلحها المجرم ببسط المعذرة، أو رجاء المغفرة، فإذا عني ابن الرومي من الحقد الذي عقد النسب بينه وبين الشكر: عدم نسيان الإساءة لمن لا يغني في رد شكيمته الأناةُ وسماحة الضمير، كان شعره بمقربة من الحكمة السائر.
* فضيلة الإرادة:
يخطر على قلب الرجل صورة عمل، فيحس بنفسه كيف تنزوي هرباً منه، أو تهتز رغبة في إيقاعه، حتى تثبت وتستقر على إحدى الحالين. فصفة استقرار النفس على ترك الأمر أو عمله هو الذي نعنيه بالإرادة.
وقد اشتدت عناية الشريعة بالإرادة، فبعد أن أخذتها شرطاً في صحة الفعل أو كماله، نظرت إليها بانفرادها، ووضعتها بمقربة منه، فقدرت للنوايا الفاضلة نصيباً من المثوبة إذا لم يتمكن صاحبها من إنجاز ما عزم عليه.
قال صلى الله عليه وسلم فيما روى البخاري: "من همّ بحسنة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة". كما فرضت للإرادات السيئة كِفْلاً من العقوبة، وإن لم يعقبها أثر في الظاهر على ما ذهب إليه عامة السلف، واستشهدوا في هذا بقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ} [النور: 19]، الآية؛ فقد بني استحقاقهم للعذاب الأليم على عمل قلبي، وهو محبة شيوع الفاحشة، واستدلوا بحديث:"إذا التقى المسلمان بسيفهما، فالقاتل والمقتول في النار"، فقيل: يا رسول الله" هذا القاتل، وما بال المقتول؟ قال: "لأنه أراد قتل صاحبه".
وفي رواية: "أما إنه كان حريصاً على قتل أخيه"؛ فإنه اعتبر في علة العقوبة نفس الإرادة.
وفسر هؤلاء الهم الذي ورد الحديث بعدم المؤاخذة فيه على معنى: حديث النفس بالفعل من غير قرار عليه وتصميم.
وكذلك جاءت الشريعة بتزكية الأرواح، وإعلاء مقامها عن الأوصاف التي شأنها تثبت الآثار السيئة على الجوارح؛ كالحب والبغض والحقد والحسد، وفوضت لها نصيباً من الجزاء، إذا استرسل معها صاحبها، ولم يقوّم عوجها بسيف الحكمة والمجاهدة، وإنما حجز بينها وبين مباشرة العمل مانع في الخارج.
تتفاضل الإرادات بالشدة والضعف، فقد يربط كل من الرجلين على قلبه القصد إلى مساع دونها سبل شاسعة وأخطار، ويشرعان في العمل، فيذهب أحدهما وهو يقاطع المثبطات، ويدافع ما يقف عرضة في سبيله إلى أن يضع يده على الغاية، ويتدرج ثانيهما زمناً، حتى إذا ما أحست قدمه بعثرات تترامى أمامه، قطع سيره، وصرف وجهه شطر همة أخرى. فمنشأ تمادي ذلك،
وانقطاع هذا: إنما هو شدة العزيمة وضعفها.
يمثل لك شدة العزيمة: أن عبد الملك بن مروان قصد الخروج إلى بعض الحروب، فلما استعد للرحيل، وقفت له عاتكة بنت يزيد بن معاوية تستعطفه إلى التخلف، وتركِ الخروج لموقع الحرب بنفسه، ظناً منها أن سلطان الهوى أشد أثراً على قلب الرجل من عزيمته، فقال لها: هيهات، أما سمعت بقول الأول:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
…
دون النساء ولو باتت بأطهار
ومما يكشف عن ضعف عزيمة الرجل، وتداعيها إلى البلى: أن يعقد إرادته على القيام بعمل يصدق بحكمة وضعه، ثم يتركه وينصرف عنه، حيث يكون بمرأى ممن يخالفه في الاعتقاد بشرفه، ويرى بناءه على غير نتيجة، ونضرب المثل لهذا: رجلاً يدركه وقت العبادة بمشهد من لا يوقنون بفريضتها، أو لا يلتئم وضعها بأذواقهم، فيعقد عن الإحرام بهاة مجاراة لأصحاب هذه الأذواق، ومخافة أن يسقط احترامه من أعينهم؛ كأنه لم يدر أن أقرب الناس منزلة من بهيمة الأنعام: من يخرج أعماله عن سلطان إرادته، ويأخذ فيها بإرادة قوم لا يملكون من أسباب سعادته فتيلاً.
وتتفاضل الإرادات بحسب ما تتوجه إليه من العمل، أو باعتبار ما ترمي إليه من الأغراض، فمن حدثت له إرادة السعي في الإصلاح بين طائفتين، يكون أشرفَ قصدًا ممن همَّ بجهاد الباغية منهما، ومن قصد إلى طلب علم ليستكمل به في نفسه، أو يصلح به قومه، كان أرفع همة ممن يقبل على التعليم لاغتنام معيشة، أو الفوز برئاسة. فملاحظة الباعث مما يجر إلى الإرادة كمالاً زائداً عن الحسن العائد إليها من نفس العمل.
والبواعث تختلف إلى مراتب، أعلاها: التقرب من رضا منشئ الكائنات، والتحلي بحسن طاعته، وأدناها: اقتناص المال، أو إدراك الوجاهة في أعين الخليقة، وبينهما غايات بحث فيها علماء الشريعة من جهة ملائمة الإرادة الخالصة، أو تكدير صفوها، وممن حرر المقال في تفاصيلها، وبسط أدلتها: أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته".
ينبهك على التفاضل في الإرادات الحسنة: أن الرجلين قد يتماثلان في درجة الفضل، وتتحد آثارهما، ولكنك تجد أحدهما قد تمكن من الأخذ بالمكارم، وتجمعت حوله وسائل الارتقاء، حينما احتاج الآخر إلى مصارعة الموانع، وصرف الوسع في تحضير الوسائل، فإنا نقطع لعزيمة الثاني بفضل قوة هي مجهولة في همة الأول؛ إذ من الجائز أن همة الأول لا تثبت لتسوية العقبات، ولا تشد حزامها لتحصيل ما يعوزها من الوسائل المتعاصية.
قال أبو الوليد الباجي يوماً مفاخراً لابن حزم: أنا أعظم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت تُعان عليه، تسهر بمشكاة الذهب "يشير إلى ثروة ابن حزم وآبائه"، وطلبته وأنا أسهر بقنديل بائن السوق "جمع ساق"، فقال ابن حزم: هذا الكلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبتَ العلم وأنت في تلك الحال رجاء تبديلها بمثل حالي، وأنا طلبته في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة.
ويؤيد ابن حزم في جوابه هذا: أن من تربى في مهد الترف، وأحاطت به زخارف الدنيا من كل ناحية، يسكن في قلبه الحرصُ على اللذائذ، ويصعب عليه التخلص من شواغلها، فمن خلع صدره من الشغف بمناظر النعيم، والميل إلى مضاجع الراحة، وهي طوع يمينه، ثم استبدلها بالتوجه في سبيل
المجد الذي لا يخلص سالكه من متاعب واقتحامِ أخطار، فلا بد أن يكون قد ضم بين جنبيه همة سامية، وارادة لنفس الفضيلة خالصة.
سبق لنا في التمهيد: أن الأعمال لا تصدر للخارج إلا مع استطاعة. ووسائل الاستطاعة تختلف باختلاف الأعمال، فمن الأعمال ما يتوقف على صحة الجسم، ومنها ما يتوسل إليه بالمال، وبعضها ينال بفصاحة المنطق، وآخر يفتقر إلى نفوذ الكلمة بوجاهة، أو رئاسة، أو حمية قوم، وقد جاء في مساقات الشريعة ضمّ هذه الأمور إلى أطراف الكمال، باعتبار التوسل بها إلى مقاصده.
* مزية الاستطاعة:
أما قوة الجسم، فاعتبارها من جهة أنها مكملة للشجاعة، وعدة لإرهاب المبطلين ودفاع أذيتهم، قال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة: 247]. فلو كان الجسم الطويل العريض محشوًا بالجبن، وخور العقل، أو وقع التعرض به لمقاومة الحق ونصرة الباطل، لسقط عن ساحة الفضيلة، وكان صاحبه طفلًا، ولكنه في جسم كبير. قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4]. ومثَّلهم بالخشُب المسندة؛ لأنها غير مرجوة النماء أو المنفعة، كما يرجى من الخشب القائمة في مغارسها.
وقال حسان رضي الله عنه في فئة تستبشر بملتقى الضلال؛
لا بأس بالقوم من طول ومن غِلَظٍ
…
جسم البغال وأحلام العصافيرِ
وأما المال، فيعز شأنه في نفوس كثير من البشر، ويتغالون في إجلال صاحبه من غير نظر إلى حال تصرفه فيه.
وفيما روى البخاري: أن رجلاً مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس:"ما رأيك في هذا؟ "، فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله! حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مر رجل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما رأيك في هذا؟ "، فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وان قال أن لا يسمع لقوله. فقوله في وصف الرجل الثاني:"من فقراء المسلمين" يدل على أنه قصد بقوله في نعت الرجل الأول "من أشراف الناس": أنه غني، فأرشده عليه الصلاة والسلام، ونبهه على عدم تحقيقه في معنى الشرف بقوله:"هذا - أي: الفقير - خير من ملء الأرض من مثل هذا"؛ أي: الغني.
وقد يتعاظم في الطبيعة تفخيم قدر المال، حتى يرسل على الفكر ستار الوهم، ويمثل له أن صفة الغنى رأس كل فضيلة، وملاك كل شرط لأهلية التصدر بالمجالس والمناصب، قال تعالى في قصة طالوت:{قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ} [البقرة: 247]، فانظر كيف ذهبوا إلى أن واسع الثروة، هو الجدير بأن يستخلص لرئاسة الملك، إلى أن أيقظهم نبيهم من سكرة الجاهلين، وهداهم إلى أن الوصف الذي يعتمد عليه في كفاءة الرئاسة، إنما هو العلم وصحة الجسم بقوله:{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ} [البقرة: 247]، ففضيلة العلم مطلع الآراء النيرة، والتدابير الماسكة بمحكم السياسة، وصحة الجسم مظهر الشجاعة، أو الإقدام على تنفيذها.
قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان
…
هو أول وهي المحل الثاني
وإذا هما اجتمعا لنفس حرة
…
حازت من العلياء كل مكانِ
والإِسلام يثبت الفضل في المال؛ من جهة أنه معونة على المشروعات العظيمة، ومطية إلى كثير من المقامات العالية، فلو أوتي رجل سعة من الثروة، فركض بها ركض الوحوش في الفلاة، ولم ينفقها إلا في ملبس فاخر، ومطعم لذيذ، أو مطية سابقة، وقصر مشيد، كان أحط رتبة من المسكين الذي يزيد عليه بمثقال ذرة من الخير.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن المكثرين هم المقلون يوم القيامة، إلا من أعطاه الله خيراً، فنفح به يمينه وشماله، وبين يديه ووراءه، وعمل فيه خيراً".
ومما يرجع إلى التكاثر بالمال وسعة الحال: التباهي باللباس، والتفنن فيه أصنافًا وألوانًا، ومثل هذا مطروح من آيات الشرف في نظر الشريعة وعادة العقلاء، ولعلك تذكر ما جاء في "الموطأ" عن جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وعليه بُردان قد خلقا "بليا"، فقال:"أما له ثوبان غير هذين؟ "، فقلت: بلى يا رسول الله، له ثوبان في العيبة كسوته إياهما، قال:"فادعه، فمره فليلبسهما". ثم ولّى يذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أليس هذا خيراً له؟ ".
فهذا الحديث يصرح بفضل الملابس الحسنة، وأن حال الزينة أكمل من التقشف. فنقول: إن الشارع فوض في أمر اللباس إلى حكم العادة، وما يليق بحال الإنسان، فإذا جرت العادة بلبس نوع من الثياب، وكان مستطيعاً له، فعدل عنه إلى صنف أسفل منه، أو أبلى، قبح به هذا الحال، وكره له؛ لأن بذاذة اللباس ورثته مما تقذفها العيون، وتنشز عنها الطباع، فتلقي بصاحبها
إلى الهوان، والالتفات إليه بألحاظ الازدراء، وهذا هو الوجه في إنكاره صلى الله عليه وسلم على الرجل في الحديث السالف.
وأما الخروج عن المعتاد، والتطلع إلى ما هو أنفس وأغلى، فهو الذي رفضناه من حواشي الفضل، ونفينا أن يقفز بصاحبه درجة.
قال المعرّي:
إذا كان في لبس الفتى شرف له
…
فما السيف إلا غمدُه والحمائلُ
بل تجد أكثر الناس يستخفون بمن يتعدى طور أمثاله في ملبسه، ويعدونه سفهًا في العقل، وطيشًا مع الهوى، وكذلك الإِسلام يستحب للإنسان أن يقتصد فيما تستدعيه حياته من المطالب، ولا يعجبه الاستكثار منها، والسرف في الإنفاق عليها، حتى يتخذ منها ما يزيد على الحاجة، ولا يستحق أن يذكر بإزاء الحكمة، فيما نرى قول الشاعر:
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها
…
من بعدهم فبألسن البنيان
إلا إذا كان الشاعر قد عبّر بألسن البنيان عن بناء المدارس والمساجد والمستشفيات، والطرق العامة، وبيوت يأوي إليها الفقراء والمستضعفون. وأما فصاحة المنطق، ففضيلتها من جهة الكشف عما يتجلى في مطالع الأفكار من المعاني، ويخطر على القلوب من المطالب. ولا خفاء أن العبارات والأساليب تتفاوت في إيضاح المراد وتشخيصه لذهن المخاطب، كما تتفاضل برونق الفصاحة، وعذوبة المذاق. وهذا أيضاً له مدخل في تلقي المطالب أو القضايا العلمية بقبول، ووثاقة فهم. ومن هنا رفع الإِسلام ذكرها في سياق الخصال العالية.
قال تعالى: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ
الْبَيَانَ} [الرحمن: 1 - 4]. فإيراد {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} مجرداً عن حرف العطف؛ لكمال اتصال معناه بما قبله، وهو قوله:{خَلَقَ الْإِنْسَانَ} ، ووقوعه منه موقع التفسير لشيء من مفهومه. فيشعر بأن الإنسان إنما يتم خلقه، وتتقوم حقيقته، بتعليمه المنطق الفصيح.
ونريد بالفصاحة: ملكة التعبير عما في الضمير بأي لسان حضر، فللمتضلع من لغة الفرس - مثلاً - مزيةٌ على قصير الباع فيها، متى استعان بها في تقرير الحقائق، وابتغى بها الوسيلة إلى التعريف بمقاصده الحسنة.
وتوهَّم كثير من الأدباء أن الفصاحة وصفُ كمالٍ في نفسه، فإذا اتفق لهم أن يبرزوا معنى في أسلوب فصيح، قذفوه بأفواههم، ولم يبالوا أن يكون ذلك المعنى عبثاً، أو خاذلاً لحق. ونرفع مقالنا هذا أن نسوق فيه أمثلة من منظوماتهم السخيفة، ولاسيما أشعارهم التي قلبوا فيها بعض آداب شرعية، ومدائحهم التي وقعوا بها حول الشرك بواجب الوجود.
وفي الناس من لم يتفقهوا في فضيلة الفصاحة، فإذا سمعوا ناطقاً يجهر بالعبارة، ويطلقها من لسانه بدون حبسة، أدخهلوه باعتقادهم في زمرة الفصحاء، دون أن ينظروا في تحقيق المطابقة بينها وبين المعاني التي قصد إفهامها. والدرّاكةُ قد يرجِّح ذا العقدة في نطقه، حين يُفرغ العبارة في عين الغرض، ويفضله عمن يرمي بكلامه المتتابع، وهو لا يصيب المفصل من المراد.
ولمن أحكم لسانين مزيةٌ ظاهرة على من عرف لساناً واحداً؛ حيث كان يستعمل اللسان الذي انفرد به في مقاصد لا تدرك باللسان الذي شاركه فيه صاحبه.
وإذا أقمت الوزن بينهما، فقد يساوي ذو اللسانين صاحبه في قدر معرفته باللسان المشترك، فتكون فضيلته أظهر. وتارة ينقص عنه، فلا بد لك حينئذ من النظر إلى الزيادة التي حازها ذو اللسان الواحد، وتقيس أثرها بأثر اللسان الذي استقل به صاحبه، فإن استويا، فإن ذا اللسان الواحد وذا اللسانين في منزلة واحدة من الشرف، وإن كان أثر الزيادة في اللسان المشترك أعظم من أثر اللسان المختص به، فذو اللسان الواحد يكون أعرق في المزية وأرقى، وإن كان أثر اللسان الثاني أقوى من أثر الزيادة، فهاهنا يكون ذو اللسانين أرجح وزناً وأرفع درجة.
وأما الوجاهة، وهي أن يحصل للرجل شأن يستهوي إليه نفوس قوم بمودة أو رهبة أو رجاء، فتارة تكتسب باستقامة السيرة، وخلوص الطويّة؛ فقد جرت سنّة الله أن من صفت سريرته، وغزرت صالحاته، أحدقت إليه الضمائر الحرة، وأولته وداً وانعطافاً، وهو ما وصف الله به عيسى عليه السلام في قوله:{وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [آل عمران: 45]. وهذا الضرب من الوجاهة وَصْفُ شرف في نفسه، وإذا توسل به الوجيه إلى قضاء ما يهم الناس من المآرب، كان سيادة فوق سيادة. وتارة تدرك بحال تربي رهبة؛ كالقرب من ذي سلطة، أو تحث رغبة؛ كثروة يطمع الطامعون أن يبلّوا صدى حاجاتهم من قطراتها. وهذا الضرب إنما يحتمله العد في مساق الفخر، إذا خدم صاحبه المصلحة، وتناهى به إلى صنيع يشكر عليه.
وإذا اطلعت على أثر يقتضي البعد عن الوجاهة، فإنه مصروف إلى الحرص في طلبها، والتصنع لإحراز سمعة في المجامع الحافلة والبلاد القاصية، وأما إذا اندفعت همة الرجل إلى المكارم بجاذب ابتغاء الفضيلة،
وطفق ذكره يتسع على حسب مساعيه المفيدة، فذلك خير من العزلة والاختباء في زوايا الخمول، قال تعالى فيما قصه من قول إبراهيم عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84] وقال في سياق أقوال لقوم صالحين: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74].
قال الرازي: الأقرب: أنهم سألوا أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم، ويقتدى بهم.
واستحب الفقهاء للصالح أن يسعى في ولاية القضاء؛ ليدرك الناس أمده في العلم، وبراعته في الفهم، فيهرعوا إلى الاستنارة بأفهامه، والاستقاء من وِرد علومه.
وأما الرئاسة، وهي أن يملك الشخص النظر في شؤون قوم بإنفراده، أو بمشاركة غيره، فإنما دخل صاحبها في ذوي الشرف؛ من حيث تطوقت ذمته بقلادة فصل الحقوق، أو تمكينها من أيدي أربابها، ولهذا شرع الإسلام ممن علم من نفسه الكفاءة والاستقامة؛ أن يسعى لإصابتها، ولو برغبة صريحة، قال تعالى فيما قصه من قول يوسف عليه السلام:{اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55].
وقال المازري: قد يستجيب طلب القضاء لمن يرى أنه أنهض به، وأنفع للمسلمين من آخر تولاه باستحقاق.
وأما الآثار المؤذنة بالنهي، أو الوعيد على ولاية خطة القضاء والإمارة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:"إنكم تحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة"، فخطابها متوجه لمن لم يستوف شرائطها؛ من معرفة، وعدالة، وشدة، وعزيمة في التنفيذ.
يقولون: إن الولاية معيار همم الرجال وعدالتهم؛ فإنهم بعدها ثلاثة أصناف:
فمنهم: من يتمادى على سيرته الأولى، ولا ينتقل إلى حال تبعد عما عهد له في الإساءة أو الإحسان.
وبعضهم: ينطوي على نفس عاطفة إلى الخير، فإذا جلس في منصب، استعظم مكان الحقوق، وأخذ يفحص بخاطره عما يلزم اتخاذه من النظامات الكاملة بحفظها، ومتى اهتزت هذه النفس العاطفة، أنبتت من التدابير المثمرة ما يبعثها مقاماً محموداً.
ومنهم: من يحمل في مخبآت صدره خبائث، وقد طبع على صناعة المخاتلة والاحتيال، فيحتفظ في سيرته جهده، ويتحاشى بظاهر عرضه أن يلوث بفضيحة، فإذا قبض بيده على سلطة، خلع ثوب عفته المستعار، وغشي من المخازي ما يجعله هدفاً لسهام الطاعنين. لا يفوت الرئيس الذي يحمل النية السوداء، ويركب في المظالم متن عمياء، أن ينساق إلى ذوي نفوس حرة ينقرون له على وجه نقيصته، ويصبون في أذنه أقوالاً تفيقه من نشوة السلطة، وتكدر عليه حلاوتها إلى مرارة، وإنْ ملك قوة ورجالاً، واتخذ سلاسلاً وأغلالاً.
قتل الحجاج عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق، فأبت أن تأتيه، فانطلق يتبختر حتى دخل عليها، وقال لها: كيف رأيتني صنعت بعدو الله - يعني: ولدها عبد الله - قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك، أما إن رسول الله حدثنا: أن في ثقيف كذاباً ومبيراً "مهلكا"، فأما الكذاب، فرأيناه، وأما المبير، فلا أخالك إلا
أياه. فنفذ سهم هذه المقالة في فؤاده، فأفحمه، وقام عنها.
وأما الاعتصاب بعشيرة أولي قوة على إمضاء عزيمتهم، وحماية ذمارهم، فيحسب في دعائم الشرف إذا استنجد به أخو العشيرة في اقتضاء الحقوق، أو مكافحة الأيدي المتطاولة إليها.
وفي الصحيح: "ما بعث الله نبياً إلا في مَنعَة من قومه".
وقال هرقل في مسألته لأبي سفيان عن حال النبي صلى الله عليه وسلم: كيف هو فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو حسب. فقال هرقل: والرسلُ تبعث في أحساب قومها. قال ابن خلدون: ومعناه: أن تكون له عصابة وشوكة، تمنعه عن أذى الكفار حتى يبلغ رسالة ربه.
وقد يأخذ العرب قلة النفر في موضع الهجاء، ويدرجونها في مساق التعيير، كما قال شاعرهم:
تعيّرنا أنا قليل عديدنا
…
فقلت لها: إن الكرام قليل
ثم إن الفائدة في كثرة عدد القبيلة عائدةٌ إلى اتساع سطوتهم، وبسط رواق العز على من تشبّث بجوارهم، وإذا استتب هذا الغرض لنفر قليل، فلا يلحقهم غضاضة من قلة عددهم، لاسيما إذا قيسوا بقوم غمروا بسوادهم البلاد، وامتدت عروقهم في كل واد، ولكن خمدت غيرتهم، ولم تهب الأنفة على معاطسهم، فيداس عنق المستغيث بحرمهم وأبصارُهم شاخصة، وإلى هذا أومأ بقوله:
وما ضرّنا أنا قليلٌ وجارنا
…
عزيزٌ وجار الأكثرين ذليلُ
* فضيلة العمل:
العمل الفاضل: ما دعا إليه منزّل الشرائع كلَّ واحد بعينه؛ كالعبادات،
أو خاطب عليه الأمة؛ لتقوم به طائفة منها؛ كالتعليم، وحماية الحقوق. ولا يعد في محاسن الأعمال ما لا يطلع له في دلائل الإسلام على ما يشهد باستحسانه، وهذا القسم منه: ما صد عن سبيله، فيدخل الآخذ به في حزب الأراذل؛ كأكل أموال الناس بنحو الارتشاء، ومنه: ما خلى بينه وبين ما يختاره العبد لنفسه؛ كترويح الخاطر باجتلاء الأزهار الرائقة، والأنهار الدافقة؛ فإنه لا يخطو به إلى محمدة، كما أنه لا يجر عليه ملامة.
ومن الأعمال ما يقع على أوضاع متعددة، فيطلق الشارع الإذن في إتيانه بدون أن يحده برسم خاص، ولكن تجري عادة قوم بملابسته على حالة مخصوصة، ويهجرون سائر أحواله، فيتجدد بهذه العادة تخصيص لذلك الإذن العام، فتفضل هذه الحالة المألوفة، ويلحق غير المألوف بما يكره التلبس به؛ فإن من يرفض الطور المعروف، ويستبدل به طوراً مهجوراً على سبيل الهزل أو التقليد أو الإغراب، استحمقه الناس، ورتعوا في عرضه بالوقيعة والاستهزاء، وهذا ما يورده الفقهاء في باب الشهادة، ويسمون الاحتفاظ به: مروعة، فلو نبذ الرجل عادة قومه لوجه ظاهر في المصلحة، لم يكن انصرافه هذا خارقاً لثوب مروءته.
يتسابق الناس في الأعمال الطيبة بحسب تفاضلها في نفسها، وأفضلية العمل تعرف بنص الشارع، أو بعظم ثوابه؛ كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفرد، أو بمصاحبته لفضيلة أخرى؛ كفضل صلاة النبي على صلاة غيره؛ لمقارنتها للنبوءة، أو بشدة المشقة؛ كفضل الدعوة إلى الخير حال الغربة والانفراد على الدعوة إليه في الوطن، أو مع كثرة الأعوان، أو بعموم المنفعة؛ كفضل المنتصب للتعليم على المنقطع للعبادة. ويرتفع بعضها فوق بعض منزلة بقدر الإخلاص فيها، وما يقصده العامل عند مباشرتها.
قد يكون العمل في نفسه شريفاً، فتخالطه بحسب مجرى العادة أحوال سافلة، فيسري في الطباع انتقاصه تبعاً لما حف به من المكاره؛ كما عد طائفة قرض الشعر نقيصة، حيث وضعه كثير من الشعراء في قلب الحقائق، ولم يتحاشوا أن يلمزوا به فاضلاً، أو يداهنوا به ظالماً، حتى قال بعضهم:
ولولا الشعر بالعلماء يزري
…
لكنت اليوم أشعر من لبيد
وسلوك كثير من الشعراء ذلك المسلك الخاسر لا يجرّ المهانة إلى أصل الصناعة، فلو أخذ أحد على عهدته أن لا ينتحله إلا في الحكمة، أو الانتصار على ظالم، كان من أحسن المذاهب في الخير، وأحمدها غاية، ولقد أذن النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن رواحة، وحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وكعب بن زهير في هجاء قريش، وقال لحسان بن ثابت:"قل، وروح القدس معك".
وحطّ ابن خلدون من شأن التجارة، قال: لاستلزامها المكايسة في البيع والشراء، وخلق المكايسة بعيد عن المروءة التي تتخلق بها الملوك والأشراف، ثم ذكر ما يعرض لها من الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الفاجرة. وأنت إذا أمعنت في كلامه، واعتبرت المكايسة ضرورية للتجارة، أخذت منه للتجارة حالين:
أحدهما: أن يرتكب صاحبها الغش والخلابة، وتعاهد الإيمان الكاذبة، وهي بالنظر إلى هذه الحالة نقيصة تنزع عنه ثوب المروءة، وتنزل به عن مرتبة الملوك والأشراف، ولكن هذه الحالة غير داخلة في حقيقة التجارة، ولا هي من مقتضياتها، فكيف يسري نقصها إلى أصل هذه الحرفة، ويجعل سبباً لإخلالها بالمروءة اللائقة بالأشراف؟.
ثانيهما: أن يترفع التاجر عن هذه الحالة المزرية، ولا يبقى معه سوى خلق المكايسة، فإن عنى ابن خلدون: أنه يخل بالمروءة التي يحسن التحفظ عليها في نظر الشارع، فغير صحيح، بل هي معدودة من فروض الكفايات؛ كسائر الصنائع التي يتوقف عليها حياة الأمة، وقد كان أكابر الصحابة يتَّجرون. وإن أراد: مروءة الأشراف بحسب بعض العوائد، فمحتمل، ولكنا لا نعتد من حكم العادة بالشرف أو ما ينافيه، إلا بما قامت شواهد الشرع على صحة اعتباره.
وإذا وثقنا بأن الأعمال الشريفة ما حسنت في نظر الإسلام، انفتح لنا في طريق العلم بمعنى الشرف سبيلان:
أحدهما: أن العمل الفاضل ما ثبت حسنه بالدلائل المثبوتة في الكتاب والسنة، المأخوذة بإفهام المجتهدين على مقتضى وضع اللغة العربية وأساليب بلاغتها، فينهدم فيما بناه الزنادقة تعليم انطلى تمويهه على أعين بعض العامة، فاستزلهم في غواية، وهو أن هناك أحكاماً يتلقاها بعض الأخيار من تعليم باطني؛ ليعمل بها في نفسه، أو يخلعها إن شاء على أتباعه، فيبصرون رجلاً يقلب رسوم الشريعة، ويحيد عن منهجها الصريح، ويستمرون على اعتقاد كماله، بزعم: أن ما انتحله من الأوضاع المخالفة قد بلغ إليه بطريق غيب.
وترى كثيراً منهم يحمل في اعتقاده أن الرجل إذا ارتقى الذروة القاصية في الصلاح، سقطت عنه تكاليف الشريعة؛ كأنهم لم يتعلموا أن رسوم الشرع من عبادات وغيرها هي الحافظة لأركان الشرف، فمن نبذها، فقد نزع عن نفسه ثوب الكمال الإنساني، وأصبح عارياً من كل كرامة.
ثانيهما: أن العمل الذي يأمر به الإسلام لا يحق لأحد أن يتركه ترفعاً، وبرى مباشرته له نقيصة تحط من جلالته.
وترى بعض من ينتمي إلى العلم يعتقد الخير بما يصنعه طائفة من العامة في مظهر الطاعة، ويدافع عنهم صولة المنكرين بتحريف وتأويل، ولو قلت له: أدخل يدك في أيديهم، وضمَّ صوتك إلى أصواتهم، ونقّر على ما ينقرون، فإما أن يستفيق من غفوته، أو يعتذر بأن هذا يقبح بمثله عادة. والذي يقطع هذه المعذرة: أن صوت العادة أضعف صدى، وأحقرُ من أن يسمع في تقبيح ما يحسنه منزّل الشريعة، ويجعله وسيلة يبتغي بها الفوز بالمثوبة والزلفى عنده.
* دلائل الشرف:
يورد الواصفون لحال حياة الرجل شؤوناً تساعفه بها صروف الأقدار، ويقصدون بها: الدلالة على عظم مكانه في الفضيلة؛ مثل: صحبة العظماء؛ فقد جرت العادة أن من اتصل برجل خطير قاصداً الاستقاء من معارفه، أو الاقتداء بسيرته، لا يفوته أن يفيض عليه من تحقيقات علومه، أو يخلع عليه بردة من ملابس آدابه.
ومن هذا: ولاية منصب عظيم؛ كالقضاء والإمارة، والوزارة؛ فإنه يجري في الظنون أن لا يستخلص لهذه المقامات إلا ذو كفاءة، وإنما يصح الاعتماد في شرف الرجل على مجرد الولاية، بدون نظر في سيرته، أو تتبع آثاره، إذا ثبت أن تقليده بها صدر من عارف بحقائق الرجال، ذي عدالة تصده أن يوسد الأمر إلى غير أهله.
ويقولون في سياق المديح: "نشأ في مدينة كذا"، وأصل هذا: أن الرجل
إذا شبّ في مدينة انتشرت فيها الفضيلة، وزخرت فيها المعارف، يغلب على الظن أنه التقم ثدي التعليم ناشئاً، أو ترشح خلقه بالأدب منذ كان صبياً، فيكون علمه أو أدبه ثابت الدعائم، واسعَ المجال. ونسي أسارى الأوهام هذه الملاحظة، فجرى إلى معتقدهم أن الولادة بمدينة علم أو فضل تعد لصاحبها مزية، وإنْ كبر سنه مع الهمج، وولج بعقله في حلق الحمقى.
يخيل لكثير من أبناء الحواضر والقبائل: أن ولادة الشخص على تراب بلادهم من أرجح النعوت التي توضع في وزنه، وتستدعي إيثاره بكل مكرمة. ولم يتيقظ هؤلاء إلى أن هذه الطبيعة بقية مما ترك الجاهلية الأولى، وقد جاء القرآن بمحو آثارها من النفوس المسلمة، وتعليمها الاعتبار برابطة الإيمان، فقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، والوطنية التي تتلاقى بآداب الإسلام: أن يؤكد الرجل الرابطة مع من يضمهم وإياه وطن أو بلد، سواء تمخضت بهم أمهاتهم على تربته، أو استهلوا تحت سماء غير سمائه، ثم طوحت بهم طوائح القدر إليه؛ إذ المراد من تأكيد هذه الرابطة: إنما هو تبادل المنافع، والتعاون على المصالح المشتركة، ومتى صلح الوارد على أرض لأن يكون عضواً عاملاً في مطالب الحياة الاجتماعية، وقف في نظر العقلاء من ساكنيها بجنب الناشئين على ظهرها، حتى إذا ما دعوا إلى مقام الترجيح بينه وبين غيره، دخلوا إليه من ناحية القوة على عمل المصالح، والقيامِ بأعبائها.
يدرك الرؤساء العادلون هذه الحقيقة، وكذلك الفضلاء الذين يرتلون قول خالقهم في وصف الأنصار:{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9]، فيترفعون بأنفسهم أن تستعبدها الطبائع غير
المنقحة، ولا يعدون فيما يخل به وزن الرجل: أن يتباطأ أبوه عن الرحلة إلى مدينتهم أو قبيلتهم حتى تضعه أمه خارجها، ويفوته أن يستهل على مستقر منها.
إنما يكره العلماء السكنى بالقرى، وإن كانت وطناً، ويقصدون إلى الإقامة بالحواضر؛ لأن سوق العلم فيها نافقة، والحرص على التعلم بها أقوى، فيجد العالم من الراغبين في الاستفادة سبلاً مفتوحة، ودواعي باعثة على المطالعة والتحرير.
كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام بدمشق، ثم خرج إلى الديار المصرية لغضب الأمير إسماعيل أبي الخيش عليه، حين أنكر عليه الشيخ إعطاء بلد "صيدا" وقلعة الشفيف إلى الإفرنج، فلما مر بالكرك، تلقاه صاحبها، وسأله الإقامة عنده، فقال له: بلدك صغير على علمي، ولما وصل إلى القاهرة، عرف سلطانها نجم الدين أيوب قيمته، فأكرم منزله.
ويرجحون الرجل بكثرة أتباعه ومعتقدي أفضليته، وهذا وزن صحيح إن كان هؤلاء الأتباع من أولي الأحلام الراجحة، والألمعية المنقحة، أما إذا كانوا فيمن عميت عليهم سبل السيادة، ولا فارق عندهم بين المكارم وأضدادها، فلا ترجح بهم صحيفته، وإن كانوا أكثر من الحصى.
وإذا اعترفوا بالفضل لرجلين، أحدهما حاضر لديهم، والآخر لم تقع عليه أعينهم، جرى في ظنهم أن الغائب أوسع فضلاً، ورفعوه في اعتبارهم مرتبة. ومن علل هذا: أن المقررين لأحوال ذوي الفضل محادثة أو كتابة، إنما يتعرضون - في الغالب - إلى محاسنهم، وقلّما يذكرون لهم سيئة من أعمالهم، فإذا تلقى الإنسان ترجمة فاضل، تصوره بصورة كامل خلصَ من
كل عيب؛ بخلاف اعتقاده بفاضل شهد شخصه، وراقب سيرته؛ فإنه يطلع له على أحوال لا يستحسنها بمقتضى ذوقه أو عادته، أو كانت مما يؤاخذ به الفضلاء، وشأنه أن يندمج في فضائلهم، وتغطي عليه محاسنهم. ومن هنا نشَأت المقالة السائرة:"إن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة".
قال أبو بكر بن العربي في "قانون التأويل": ورد علينا ذا نشمند (يعني: الغزالي)، فنزل برباط أبي سعيد بازاء المدرسة النظامية، فلقيناه لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة، وتحققنا أن الذي نقل إلينا:"إن الخبر عن الغائب فوق المشاهدة" ليس على العموم.
ومن هذا: حسنُ التركيب، وجمال المنظر، فلا يعد في نفس الفضيلة، وإنما هو كالعلامة الرامزة إلى حسن الخلق؛ فإنه - كما يقول الحكماء - دالّ على اعتدال المزاج، وإذا اعتدل المزاج، كان منشأ للأفعال الجميلة - غالباً -، ومن هنا قال الفقهاء بتقديم صبيح الوجه إلى الإمامة إذا ساوى غيره في شرائطها، وأوصافِ كمالها.
فإن تخلف عن وسامة المحيا حريةُ الطبع، وشهامة الخاطر، انفصل عن محل الاعتبار في نظر الشارع وعادةِ الفضلاء. قال المتنبي:
وما الحسنُ في وجه الفتى شرفٌ له
…
إذا لم يكن في فعله والخلائقِ
وإن خطر لك أن تثبت له المزية في نفسه، فلا يمكنك سوى أن تعده مزية في الإنسان من حيث إنه جسم، كما أن قوة حواسه الظاهرة كمال فيه بوصف كونه حيواناً.
ووضع في الطبائع إجلال العالي في السن، وتفضيله على من هو أقصر أجلاً، أو أقرب عهداً بالحياة منه، والسر في هذا: أن الشيخ بامتداد حياته،
وطول تجاربه، صار مظنة لأن يكون أوسع علماً، وأرسخ في الأخلاق الفاضلة:
ما استقامت قناة فكري إلا
…
بعد أن قوّس المشيب قناتي
ولهذا ترى الأشيب أقدرَ على مقاومة الهوى، وأصوبَ رمية في وجه السياسة - غالباً -؛ بخلاف الشباب؛ فإنه يكثر فيهم الجهل بالعواقب، ويأخذهم السرف في اتباع الزينة والملاهي بسهولة، وبهذا كان للإقبال على الطاعة في حالة الشبيبة مزية على القيام بها في حال مشيب؛ كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث:"سبعة يظلهم الله في ظله": "وشاب نشأ في طاعة الله"، فإذا عاش الطاعن في السن وهو يجري مع شهواته بغير عِنان، ولم يستفد من تصاريف الزمان ملَكَة قياس الوقائع بأشباهها، فلا يستحق لطول عمره تجلَّة:
إذا لم يكن مر السنين مترجماً
…
عن الفضل في الإنسان سميته طفلا
وما تنفع الأيام حين تعدها
…
ولم يستفد فيهن علماً ولا فضلا
وينبهون على شأن الرجل بالحديث عن رحلته إلى الأقطار والمدن الآهلة بالعلماء والفضلاء؛ فإن الناهض في الأسفار قلما يفوته أن يلاقي عالماً، أو فاضلاً يقتبس من لقائه مسائل أو أساليب، أو شمائل لا يتوفق لها في وطنه.
ذكر أبو بكر بن العربي مسألة حررها بالمسجد الأقصى عن شيخه أبي الحسن بن مرزوق، وقال في آخر ما كتب: ويوم حصلت هذه المسألة، قلت: الحمد لله الذي أفادني هذه في الرحلة، وعلمت أني لو لم أحصل غيرها، لكفتني، ثم رحلت بعد ذلك إلى العراق، فوجدتها عند علمائهم مبثوثة. وقد خففت كثرةُ التآليف وقيامُ المطابع بنشرها شدة الحاجة إلى الرحلة من الجهة العلمية.
وجرى في قريض أبي الطيب المتنبي: أن من دلائل كمال الرجل: رمي الناقص له بسباب حين يقول:
وإذا أتتك مذمتي من ناقص
…
فهي الشهادة لي بأني كامل
ووجه هذا: أن الوضيع لا تلتفت همته إلى من كان واقفاً في صفه من الأسافل، فتحدثه بأن يلغ في أعراضهم بالمذمة؛ لأنه غني في نشر مثالبهم بما تلبسوا به من الفضائح، حتى إذا ألقى نحوهم بسبة، رماها على شفته من غير حرص وشدةِ اهتمام بالتحدث بها، وإنما تتوجه همته بمجامعها إلى الرجل الكامل؛ حيث يقصد إنزاله في معتقد الجمهور إلى مدرجته، أو ما هو أسفل منها.
وفي جملة ما يلوح إلى فضل الرجل، ويحوز له نصيباً من الوجاهة: اقترانه بذات مجد وسؤدد، كما قال الحسن رضي الله عنه لعبدالله بن الزبير: ولم تكن لجدك في الجاهلية مكرمة إلا تزوجه عمتي صفية بنت عبد المطلب، فبذخ بها على جميع العرب، وشرف بمكانها.
وإنما استفاد الرجل من اقترانه بماجدةٍ التفاتَ الناس إليه باحترام؛ لأن أولياء المرأة الحسيبة يحترزون - غالباً - أن يعزموا عقدة نكاحها لغير ذي كفاءة، فتكون إجابتهم لخطبته، والرضا عن مصاهرته كالشهادة لفضله ورفعة حسبه، ولذلك كان العرب يطلقون على رغبة غير الماجد في تزوج الماجدة، استياداً، أي: طلباً للسيادة وتكلفاً بها:
تبغي ابن كوز والسفاهة كاسمها
…
ليستاد منا إن شتونا لياليا
ورد في الإسلام ما يدل على اعتبار رابطة التزوج بذي فضل، إذا انضم إليها الاحتفاظ بواجبات الشريعة، تجد هذا في قوله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ
لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32]، فيفهم من الآية: أن صلة التزوج بشريف إنما تقابل بوجه من التفضيل، إذا صحبها وصف التقوى.
ويقول بعض المفسرين: إن الوقف في الآية عند قوله: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} ، ثم يبدا بالشرط، ويكون جوابه ما بعده، وهو قوله:{فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} [الأحزاب: 32]، فتفيد الآية حينئذ تفضيلهن على النساء بإطلاق، وهو أبلغ في مدحهن. وهذا الوجه غير مستقيم، والذي يخدش فيه: أن الوقف على ما قبل الشرط غير متعين، وأن الآية لم ترد في سياق المدح والثناء، وإنما جاءت في معرض الوعظ والإرشاد.
ومن دلائل شرف الإنسان: اتصال نسبه بمن ثبت له ضرب من السيادة؛ فإن النسب الرفيع مظنة أن يحث النسيب على تنقيح سيرته، ويتحرى به قصد السبل في أدبه. ووجه هذا: أن من نبت في بيت فاضل، ونشأ في مهاد طاهر، من شأنه الاقتداء على أثر سلفه، ولا يفوته أن يقتبس من أنوار فضيلتهم، ولهذا يهجم على الإنسان العجب، ويتقوى في الإنكار، متى شاهد من سلالة الفاضل ما لا يقع منه موقع الرضا؛ كما قصه الله تعالى عن قوم مريم عليها السلام، في قولهم لها حين أنكروا عليها الولد من غير أب:{يَاأُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم: 28].
وما ورد في الإسلام من النصوص النازلة به عن مكان الاعتبار، فمسوقة إلى حال نسب لم يفد صاحبه أدباً، ولم يبعث في همته نية صالحة، قال صلى الله عليه وسلم:"الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارُهم في الجاهلية خيارُهم في الإسلام إذا فَقهوا".
جاء في الشريعة ما يصرح بأن النسب لا يغني غناء العمل الصالح في
الإخلاص من عهدة التكاليف، ولا يرد العقوبة على المظالم في الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم فيما روى مسلم:"من أبطا به عمله، لم يسرع به نسبه"، ولا متمسك في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] على أن الأبناء الذين أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، يلحقون بمراتب آبائهم بدون أن يذوقوا عقوبة ما صنعوا؛ فإنه يقول بعد ذلك:{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21]، وهل يأخذ النسب الفاضل بقسط من الكرامة، بعد أن يخلص صاحبه من تبعات التكاليف العامة؟
قد يستدل لصحة هذا بآية: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ} ؛ فإن أولئك الذرية - في رأي الجمهور - لم يتأهلوا بأعمالهم وحدها أن يرتقوا إلى منازل آبائهم الذين هم أحسن عملاً وأوسع براً، وإنما رفعوا إليها؛ تتميماً لنعمة الآباء، وتوفيراً لأنسهم.
لعلك تستشرف إلى تقرير التوافق بين هذه الآية القاضية بأن الكرامة قد تزداد بطريق غير التقوى، وهو النسب، وبين قوله تعالى:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] المصرّح بأن التفاضل في الكرامة عند الله إنما يكون على قدر التفاوت في التقوى، فنقول في وجه الجمع بينهما: إن الرجل تارة يتأهل لدرجة من الكرامة بكمالات نفسه، وتارة لا تبلغ به مساعيه إلى ذلك المقام، بحيث لو ينظر إليه منفرداً، لقصرت وجاهته أن يحل بساحته، ولكن يفسح له في الدخول فيه تبعاً لعظيم ينعم باله، ويبسط أنسه أن يراه نازلاً بجواره، فهذا التابع، وإن حشر في زمرة متبوعه، وألحق به في المنزلة، فإن إجلال المتبوع عند رب المنزل كمل، ورضاه عنه في نفسه أوفر. فإذا أريد من الكرامة في الآية الثانية: العناية والمحبة النفسية، لا الإنعامات الظاهرة،
اطرد أن يكون التفاضل فيها بحسب التفاوت في التقوى، ولا حرج إن كان قسط التابع في النعيم مساوياً لنصيب المتبوع الذي هو أزيدُ منه طاعة، وأحمد سعياً، أو يقال: إن الآية أفهمت مساواة الذرية لآبائهم في المكان، وهذا يستلزم الاتحاد في مقدار النعيم وكيفيته، أما إذا فهم الإلحاق في قوله:{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] على معنى: المزاورة والمواصلة أحياناً، لا المجاورة بالسكنى، فترتفع شبهة التعارض من حيث نشأت.
وأما عنايته تعالى بذي النسب الفاضل في هذه الحياة، فمن مظاهر قولى تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا} [الكهف: 82]، فقوله:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} يلوح إلى أن من أسباب إقامة الجدار لهذين الغلامين رعاية صلاح أبيهما.
ولم نظفر فيما ثبت من نصوص الشريعة بما يدل على شمول هذه العناية للنسيب الذي فسق عن أمر ربه، وأطلق عنانه في مسابقة الغاوين؛ كما يتوهم بعضهم في أحوال تتفق للنسيب الفاجر، فيلقبونها بالكرامة، ويزعمون أنها انجرّت له من العناية بأبيه الصالح، أو جده، ويسوقون في استشهادهم على ما يزعمون قوله تعالى:{وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} ، والحال أن الآية واردة في قصة غلامين موصوفين باليتم، واليتيم إنما يطلق حقيقة على الولد قبل أن يبلغ الحلم، ويكتب في صحيفته القلم، وكأنهم جهلوا أو تناسوا أن المعاصي والضلالات تزل به في مواقع الهون، وتتخبطه في مصارع الغضب، وكيف يلتقي الغضب والكرامة التي هي من مآثر الرضا في موضع؟.
ألقى الله تعالى على من انتظم في سمط النسب النبوي عناية خاصة، فطهّرهم عن أخذ الزكاة، وأكد في مودتهم ومعاملتهم بالمبرة والاحترام،
لمكان صلتهم بأفضل الخليقة عليه الصلاة والسلام:
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه، كما في الصحيح:"والذي نفسي بيده! لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ أن أصل من أهلي وقرابتي". ولكن الحقوق الشرعية منوطة بذممهم، ومصروفة إليهم بأجمعها كما صرفت إلى غيرهم على سواء، فيجازون بالمحامد عما فعلوا من خير، ويلاقون بالملامة والنكير عما وقعوا فيه من السوء. ومن الصحيح الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم:"يا فاطمة! يا صفية! اعملا؛ فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً". وفيما روى الشيخان والأربعة عنه عليه الصلاة والسلام: "وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
ويعزى إلى بعضهم القول؛ بأن أقارب النبي صلى الله عليه وسلم لا يعذبون على المعاصي، فيعتقد في كل مؤمن منهم مات وهو يعمل بالمعصية: أنه لا يلحق به الوعيد في الآخرة، واستدل على هذا بقوله تعالى:{إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]؛ فإنه علق تطهيرهم وذهاب الرجس عنهم بالإرادة التي لا تتبدل أحكامها، وهذا المذهب لا ينتظم مع قاعدة أهل السنّة من أن أمر العصاة موكول إلى المشيئة، ولا أراه إلا مختلفاً على من نسب إليه، ثم إن فهم الآية على ما قرره غير متعين، ولا هو ظاهر، فإن المراد من آل البيت: علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين رضي الله عنهم كما عزاه ابن عطية للجمهور، أو المراد: - أزواجه عليه السلام، وهؤلاء الأربعة، ورجحه ابن عطية من عند نفسه، وعلى فرض أن يحمل آل البيت على الأشراف ما امتدت فروعهم في الإسلام، فإن الإرادة في الآية واردة بمعنى الأمر كما فسرها بذلك أبو إسحاق الشاطبي في "موافقاته"، وهي تستلزم المحبة والرضا بالمراد، لا وجويه ووقوعه، ويكون سوقها في حقهم خاصة، مع أن الله يحب
ويرضى ذهاب الرجس عن غيرهم؛ للإيذان بأن حكم الآل حكم غيرهم في استقباح المعاصي منهم، وارادة تطهيرهم من آثامها؛ لئلا يتوهم أن قرابتهم من أكمل الخليقة تقوم مقام الأعمال الصالحة، وتجعلهم بحيث لا تستقبح منهم الفحشاء، ولا تكتب في صحائفهم الأوزار.
* مظاهر التشريف:
طبع البشر على أنهم إذا عرفوا رجلاً بنعت شرف، أكبروه في قلوبهم، وهابوه في نفوسهم، بمقدار ما يعتقدون فيه من الكمال. ويشاهد أثر ذلك الإجلال في بعض أحوالهم الظاهرة عند مواجهته.
تنوعت الهيئات التي يقصد بها إجلال الرجل العظيم بحسب اختلاف عوائد الأمم وأذواقهم إلى أنواع شتى، لا داعي في هذه الورقات إلى استقرائها، وإنما نأتي على المنهج الذي يلائم النفوس الفاضلة، ويسعها أن تسلكه عن رضا وسماحة خاطر.
يتجلى لك هذا المنهج، إذا أنست رجلاً سليم الفطرة، حاضر العقل، ولم يحدث له رجاء ولا رهبة من الرجل الأفضل، فإنه لا يصدر عنه من شعائر الاحترام عندما يلاقيه أكثر من أن يبسط يده إلى مصافحته، ويطلق لسانه بتحيته، أو بما يستحق من التمجيد، وإذا تواصلت بينهما المحادثة، سلك في خطابه سبيل الأدب الجميل، وتلقى مطالبه بحسن الطاعة.
طالع التاريخ، تر الرجل من آحاد الرعايا يدخل في مجلس عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فلا يزيده على التحية الإسلامية، فيقنع الخليفة برسم هذه التحية، ويرد عليه بمثلها، أو أحسن منها، وما كان ابن الخطاب يجهل أن الرجل يحترمه بقلبه؛ لأنه لم يلثم راحته، ولم يلبس ثوب العبودية بين يديه، بل كان على خبرة
بأن هذا الذي اقتصر في تحيته على ما أمر الإسلام، يوقره في صدره، ويحافظ على طاعته في الغيب، كما يسارع إلى امتثال أمره عند الشهادة.
يعلم هذا، ولا نحتاج إلى أن نسند علمه إلى نور إيمانه، وصفاء سريرته، ولكنه كان على بصيرة من سيرة نفسه العادلة، وتصرفاته المحكمة، وهي لا تثمر في قلوب الرعية إلا المهابة والتعظيم.
يقول بعضهم: إن مثل هذا لائق أيام كانت الرعايا مؤدبة بهدى يطبعها على حسن الطاعة، وسهولة المأخذ، أما حين ينتزع منها ذلك الأدب، وتضل عن معرفة ما هو كمال في نظر الحكم، فلا غنى من حملها على التظاهر بهيئات الإجلال وشواهد الرهبة بأبلغ مظهر، وهذا القول ضرب من الأوهام، فإن الأمر الذي يبذر المهابة، ويلقي الإجلال في قلوب البشر أدباء أو متوحشين، إنما هو العدل في إجراء القوانين، من بعد إعداد القوة الكافية لتنفيذها على من يريد الخروج عن الامتثال.
إنما ابتدعت هذه المظاهر المتطوحة إلى مهاوي الذلة في عصور الأمراء الذين كانوا يضعون نير الاضطهاد على الرقاب، وقد اعتادها كثير من الناس، وأنسوا بها في جملة آدابهم، حتى لم يبق لهم عند إتيانها عرق ينبض لسماجتها وقبح هيئاتها، وأصبحوا يحسبون المقتصد فيها من ملأ يتكبرون، أو قوم هم عن أساليب الكياسة غافلون.
ترى الوجهاء الذين لم يبلغوا رشدهم في المعرفة، ولم يثقوا من أنفسهم بالعدالة، أعلق همة وأشد حرصاً على أن يحتفظ لهم الناس بهذه المظاهر البالغة، ولهذا لا تجدهم ينظرون إلى سليم الفطرة نيّر القريحة بانعطاف وإعجاب؛ لأنه يجري في معتقدهم أن من كان بتلك الصفة لا تسمح له
همته بأن يتمضمض عندهم بعبارات التملق والإطراء، وينعت نفسه باسم المملوك ومقبّل الأعتاب.
وهذا على خلاف سنّة الوجيه الذي امتلأ معارف، وتمكن من فضيلة العدل، فإنه يكون في غنى بلذة الحكمة والاستقامة عن أن ينتصب الناس لرؤيته قائمين، أو يضعوا شفاههم على ظاهر راحته لاثمين.
وأما تنبيه الرجل عن محاسن نفسه، وتحدثه بمزاياه، فإنما سوغه العلماء في مواضع ذكرها السيوطي في تقييده المسمى بـ "نزول الرحمة في التحدث بالنعمة"، قال: ومنها: إذا لم ينصف أو يوزع، أو كان بين قوم لا يعرفون مقامه، ويستدل لذلك بعمل أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ فإنه لما ولي الخلافة، خطب فقال: أما بعد: أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم.
فجرى على قاعدة التواضع، ثم بلغه عن بعض الناس كلام، فخطب وقال: ألست أحق الناس بها؟ ألست أول من أسلم؟ ألمست صاحب كذا؟ ألست صاحب كذا؟. أخرجه الترمذي، وابن حبان في "صحيحه"، ثم قال: ووقائع العلماء في تحدثهم بمثل هذا لا تحصى.
ومن هذا: ما حكى القاضي تاج الدين السبكي عن والده الشيخ تقي الدين: أنه طلب من خازن كتب المدرسة الظاهرية أن يعيره من الخزانة كتاباً، فتمنع عليه، فغضب السبكي وقال: مثلي لا يحتاج إلى كتب هذه الخزانة، بل كتب هذه الخزانة محتاجة إلى مثلي يحررها.
ومما ينتظم بهذا العدد: ما قصه الله تعالى في قول يوسف عليه السلام لمن لا يعرف صفة عدالته وعلمه: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55]