الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدعوة في نظر الإسلام
للدعوة الأثر الكبير في فلاح الأمم، وتسابقها في مضمار الحياة الزاهرة، وهذا ما يجعلها بالمكانة السامية في نظر الشارع الحكيم، وقد ألقى عليها الإسلام عناية شديدة، فعهد إلى الأمة بأن تقوم طائفة منها على الدعاء إلى الخير، وإسداء النصيحة للأفراد والجماعات. قال تعالى:{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104].
فالآية ناطقة بأن الدعاء إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة ملقاة على رقاب الأمة، لا تخلص من عهدتها حتى تؤديها طائفة على النحو الذي هو أبلغ أثراً في استجابة الدعوة وامتثال الأوامر، واجتناب النواهي. والدعوة إلى الخير- كسائر فروض الكفاية- يوجه خطابها إلى الأمة بقصد إفهامهم وإعلامهم. ومناط التكليف والإلزام إنما هو طائفة يتفق أهل الحل والعقد على تعيينها، أو تتقدم إليه من تلقاء نفسها.
وإذا قلنا: إن الخطاب بفرض الكفاية، والإعلام به يتوجهان إلى الأمة، فإنما نريد من الأمة: القادرين على القيام به خاصة، وهؤلاء هم الذين تحقُّ عليهم كلمة العذاب حيث لا تنهض به طائفة منهم، فلا جُناح على من لا يستطيع الدعاء إلى خير، أو الدفاع عن حق إذا سكت المستطيعون إليه سبيلاً. ولو ضل قوم عن سبيل الخير، أو جهلوا معروفاً، أو ركبوا منكراً، وقامت طائفة تدعوهم،
أو تأمرهم، أو تنهاهم بأسلوب ليس من شأنه التأثير على أمثالهم، لبقيت هذه الفريضة ملزمة في أعناق الذين يستطيعون أن ينفذوا بألمعيتهم إلى نفوس الطوائف، ويصوغوا إرشادهم وموعظتهم على الطراز الذي تألفه نفوس الطائفة التي يحاورونها.
وليست القدرة على الدعوة في قوتي الحجة والبيان وحدهما، بل تأخذ معهما كل ما يتوقف عليه إقامة الدعوة؛ كوسائل نشرها في بيئة نفقت فيها سوق الفسوق، أو خفقت فيها ريح الإلحاد؛ فهذه الفئة الموعز إليها بالدعاية إلى غير هدى وغير أدب، قد ملكت لنشر باطلها وسائل أهمها الإنفاق؛ وإذا وجب على الأمة أن تميط أذى هذه الدعاية عن طريقها، فخطاب هذا الواجب يتوجه إلى الكتّاب والخطباء، ثم إلى كل من له شيء من القدرة على البذل في سبيل الدعوة، كفتح نوادٍ لإلقاء المحاضرات، وإنشاء صحف، أو مساعدة صحف تُظاهر الدعوةَ بإخلاص.
رَفع كتابُ الله منزلةَ القائمين على خطبة الإرشاد، ومن آياته المحكمات قوله تعالى:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران: 110]، فالآية تومئ إلى أن المخاطبين بها يفضلون على سائر الأمم، وإنما نالوا هذه الأفضلية بمزية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله. ومن يطلق النظر فيما يتجشمه الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر من أخطار، وما يلاقونه من أذى؛ ثم لا يلوون أعنَّتهم إلى راحة، ولا يحملون أنفسهم على مصانعة أو إغضاء؛ يعرف أن هنالك بصائرَ ساطعة، وعزائم متوقدة، وهمماً ينحطُّ أمامها كل عظيم. أفلا يكون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر خير أمة أخرجت للناس؟
نوَّه التنزيل بشأن المصلحين، ثم أنحى باللعنة على من يؤتون الحكمة ولا يبسطون ألسنتهم ببيانها، فقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]. فالآية نزلت في وصف حال فريق من غير المسلمين؛ ولكن حكمها- وهو استحقاق اللعن- لا يقف عند حدَّهم، بل يجري على كل من درس آيات الله، أو قبض قبضة من أثر هدايته، ثم أمسك عن بيانها، والناس في جهالة أو حيرة يتخبطون. وكذلك يقول علماء الأصول: إن مقتبس الأحكام من الآيات لا يقتصر على سبب نزولها، بل يمشي في تقرير معانيها على قدر ما يسعه عموم لفظها.
الحقائق التي لا يسوغ كتمانها هي ما ينبني على العلم به أثر في صحة اعتقاد، أو أدب نفس، أو استقامة عمل، فإن كانت من قبيل ما هو من مُلح العلم، فلا حرج عليه في احتكارها، والسكوت عن بيانها. حكى الشيخ ابن عرفة في درس تفسيره: أنه دخل على شيخه ابن الحباب، وجعل ينظر في كتبه، فمنعه من استيفاء النظر فيها، وقال له: للشيخ أن يمتاز عن طلبته بزيادات لا يخبرهم بها.
وعمد بعض الناس لعهد الصديق رضي الله عنه إلى قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة: 105]، فتأوله على غير صواب، فقام الصدّيق خطيباً، وقال: إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105]، وتضعونها في غير موضعها، وإنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الناس إذا رأوا المنكر ولم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقاب".
ولم ينقطع أثر ذلك التأويل الخاطئ، فظلَّ في أوهام بعض العامة إلى هذا العهد، حتى إذا أمرتَ أحد هؤلاء بمعروف، أو نهيته عن منكر، ألقى عليك الآية؛ كالمستشهد بها على أنك تخطيت حدَّك، ورميت بكلامك في فضول. ومنهم من يتلوها على قصد الاعتذار، وتبرئة جانبه من اللائمة متى شهد منكراً، ولم يغيره بيده أو لسانه أو قلبه الذي من أمارات تغييره البعد عن مكان الواقعة المنكرة.
ومعنى الآية الذي تطابق به غيرها من الآيات الآمرة بالدعوة: أنكم إذا استقمتم كما أُمرتم، وقضيتم الواجبات التي من جملتها: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكرة فلا يضرّكم من اشتدَّ به هواه، وتطوَّح به في واد من الغواية.
ولا تُقدَّر الدعوة الواجبة بعدد، أو تضبط بقدر من الزمن إذا قضاه الداعي برئ من عهدتها، وإنما يُرجع في إبلاغها واستئنافها مرة أخرى إلى اجتهاد الداعي، ورجائه تأثيرَها، وأخذها في نفوس المدعوّين مأخذ القبول.
وإذا دعا العالم طائفةً إلى إصلاح شأن من شؤونهم، فعتوا عن أمره، واستكبروا عن إجابته، حتى أيس من إقبالهم على نصيحته، واستيقن عدم الفائدة من تذكيرهم، خلصت ذمته، ولا جناح عليه أن يقف عند هذه الغاية. وحمل بعض المفسرين مفهوم الشرط في قوله تعالى:{فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] على مثل هذا الحال، وبيان هذا التاويل: أنك إذا قمت بذكرى قوم على الوجه الأكمل، ولم ينتفعوا بالذكرى، وتمادوا على غوايتهم، فقد قضيت حق الدعوة، ولا عليك في أن تصرف عنهم نظرك، وتدعهم إلى أيام الله.
ولا يقطع الداعي بعدم نفع الذكرى، وضياعها كصيحة في فلاة، إلا
إذا وجه بخطابها إلى قوم معينين مرة بعد أخرى حتى عجم عيدانهم، وكان على ثقة مما انطوت عليه نفوسهم من التقليد في الباطل، وإنكار الحقيقة في أي صورة ظهرت.
أما مَن دأبه النصيحة العامة - كخطباء المنابر وأرباب الصحف -، فلا يحق لهم أن يهجروا الإرشاد، وإن شهدوا قلة تأثيره في قوم بأعيانهم، فما يُدريهم أن تصادف نفوسًا مستعدة للخير، فتقودها إلى سواء السبيل. قال تعالى:{وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55]. وما سطع الإيمان في نفس إلا كانت كالبلد الطيب يُخرج نباته بإذن ربه، فابذر فيها من الحكمة والموعظة ما شئتَ أن تبذر، فلا تريك إلا نيات صالحة، وأعمالاً راضية.
وكثيراً ما يستخف الناس بالأمر تلقى له الخطبة، أو تؤلف فيه المقالة، فماذا تتابم الترغيب فيه، أو التحذير منه، ولو من المرشد الواحد، أخذوا يعنون بشأنه، ويتداعون إلى العمل به، أو الإقلاع عنه.