الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعاون الدولة والأمّة على انتظام الأمن
(1)
يطمح كل أحد إلى أن يحيا حياة طيبة، ولا حياة طيبة إلا مع ارتياح الضمير، وطمأنينة النفس، وإنما ترتاح الضمائر، وتطمئن النفوس عندما يكون الأمن الشامل ضارباً أطنابه في البلاد.
ونريد من الأمن: أن تسير الأمة في حياتها وهي آمنة على نفوسها ودينها وأعراضها وأموالها، وكل اعتداء على نفس أو دين أو عرض أو مال يعد خرقاً في سياج الأمن.
والمخل بالأمن أحد رجلين: رجل يباشر الأعمال المخلة بنفسه؛ كالقاتل، والقاذف، والغاصب، ورجل ينصب للأعمال المخلة وسائل، فتقع على غير يده؛ كالنمام، والمحرّض على الجناية، والمفتي إذا أفتى بجهالة، والقاضي إذا قضى بغير علم.
ويدخل في الاعتداء على النفوس: حال الطبيب الذي لا يفحص العليل بعناية وروية، فيخطئ في فهم الداء ووصف الدواء، فيقع العليل في موت، أو يصاب بآفة مزمنة.
ويدخل في الاعتداء على الدين: تحريف كلمة عن مواضعها، وحملها
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء التاسع من المجلد الثالث عشر.
على غير ما يقصد منها.
ويدخل في الاعتداء على الأعراض: الطعن فيها بنحو الكنايات الجلية، وقد ذهب بعض أهل العلم؛ كمالك بن أنس إلى أن القاذف بالكناية المفهومة مستحق للعقوبة.
ويدخل في الاعتداء على الأموال: الرشوة؛ فإن لها شبهاً بالغصب؛ حيث تؤخذ من صاحبها وهو يبصر، وشبهاً بالسرقة؛ حيث تؤخذ على استخفاء من الناس، وإن شئت فقل: تزوج الغصب السرقة، فولدا الرشوة.
وللأمن الشامل وسائل يقوم عليها، وآثار يحمد من أجلها. والقصد من هذا الحديث: إلقاء نظرة على وسائل الأمن، وإتباع هذه النظرة بنظرة أخرى فيما يأتي به الأمن من خير وسعادة.
أعظم وسيلة لبسط ظلال الأمن في البلاد: التعليم المثمر، والتربية الصحيحة. فمتى انتشر التعليم بين الأمة، وأصبح كل فرد يدرك ما له من حقوق، وما عليه من واجبات، رأيت الرجل يبادر إلى أداء ما عليه من واجب، ولا يطالب غيره إلا بما هو حق له.
والتعليم الصحيح يرفع همّة الرجل من أن يتعرض لنقيصة، وإن من أنقص النقائص امتناعَ الإنسان من أن يقضي حقا حضر وقت قضائه، أو إطلاق يده إلى حق فرد أو جماعة، وانتزاعه بخدل أو بقوة، قال بشير بن عبيد الله: إياك والخصومات، فإنها تذهب بالمروءة.
والتعليم الصحيح يسمو بالرجل إلى منزلة من الشرف متى قدرها حقَّ قدرها، يأبى كل الإِباء أن يدنسها بعمل قد يساق من أجله إلى القضاء، أو إلى دار لا يساق إليها إلا المجرمون، ومن هنا نرى الجنايات تقل من طبقات
المتعلمين، ولاسيما الطبقة الراقية منهم، وإذا صدر من متعلم اعتداء على نفس أو عرض أو مال، نظر الناس إلى هذا الاعتداء بتعجب، وتكون شدة تعجبهم على قدر منزلته من العلم.
والتربية الصحيحة تغرس في النفوس أخلاقاً وآداباً تجعلها بعيدة من أن يصدر عنها ما يمس الأمن العام بسوء: تغرس فيها الحلم والأمانة والسخاء، وإيثار طهارة العرض على الحطام الزائل.
قال الشاعر:
أقي العرض بالمال التلاد وما عسى
…
أخوك إذا ما أُضيع العرض يشتري
وقال مهيار:
ومتى تسمع بقوم أعجفوا
…
ليعزّوا فابغني فيهم تجدني
وكذلك ترى الرجل الذي نشأ في بيئة عفاف وكرم نفس يؤثر بقاء العرض على الشهوات؛ كما قال العجير السلولي:
يبين الجار حين يبين عني
…
ولم تأنس إليّ كلاب جاري
وتظعن جارتي من جنب بيتي
…
ولم تستر بستر من جوار
وتأمن أن أطالع حين آتي
…
عليها وهي واضعة الخمار
كذلك كان آبائي قديماً
…
توارثه النِّجار عن النجار
ويروى: أن عبد الملك بن مروان قال لمؤدب ولده: إذا روَّيتهم الشعر، فلا تروِّهم إلا مثل قول العجير السلولي: (يبين الجار حين يبين عني
…
إلخ الأبيات).
وللتربية الدينية في ترقية النفوس، وتهذيب الأخلاق أثر أعظم من كل
أثر، فإن التربية غير الدينية قد تضعف أمام كثير من الأهواء الطاغية، فلا تستطيع كبح جماحها، أما التربية الدينية فلديها من المتانة ما يطارد هذه الأهواء، وليس الذي يؤمن بأنه سيقف بين يدي علاّم الغيوب، ويحاسبه على ما يرتكبه من جنايات، ويجازيه عليه جزاء العادل الحكيم، مثل الذي لا يعرف زاجراً عن الجناية سوى أنها موضع لوم من يطلعون عليها، أو عقوبة من ترفع إليهم قضيتها.
ومما يعد في وسائل انتظام الأمن العام: براعة الرجال الذين يتولون استنطاق مرتكبي الجرائم، فمتى عرف المجرمون أن الذي يتولى استكشاف الجنايات قد رزق ألمعية تصل به إلى معرفة مرتكب الجريمة ولو بالغ في إخفائها ما شاء، أدركتهم الرهبة، وأحجموا عن الأِجرام؛ مخافة أن ينكشف أمرهم، ويقعوا في عقوبة لا يطيقونها.
وتتصل بوسيلة براعة المتصدين للبحث عن الجنايات وسيلة أخرى، هي: اختيار العيون؛ أي: المخبرين من الرجال النبهاء الأمناء، حتى يصلوا بنباهتهم إلى ما يقع في الخفاء من أعمال الفساد، ويبلغوا ما يطلعون عليه إلى ولي الأمر بصدق وأمانة، وكان أحمد بن طولون يوجه في ملأ من الناس تهمة جناية على بعض الأشخاص، ويبعث بهم إلى السجن على أنهم من أرباب الجرائم، حتى يتصلوا بالمسجونين، ويتعرفوا منهم أسراراً كانوا قد أصروا على كتمانها من قبل، ثم يأذن بإخراجهم؛ ليبلغوه ما أفضى به إليهم المسجونون من أنباء الجنايات الخفية.
وينتظم الأمن العام بالقضاء العادل، فإذا عرف من يتهم بالجناية أن القاضي يقضي على كل جان بما يستحقه من العقاب، ولا تأخذه في تنفيذ
ما يقضي به لومة لائم، كان هذا من أسباب إحجامهم عن الجناية؛ حذراً من أن تناله عقوبتها المؤلمة.
فالقاضي العادل هو الذي يأخذ أرباب الجرائم بالحزم، ولا يجيب عاطفة الرأفة في إهمال عقوبتهم، ولا يقبل شفاعة من يشفع عنده لإِطلاق الجاني وتخلية سبيله من غير عفو المجني عليه.
وقد تقع ولاية الحكم إلى من ليس فيه كفاية لها، فتكون سيرته عاملاً من عوامل الإخلال بالأمن، ورؤساء الدولة المخلصون يحترسون من مثل هذا الحال بإرسال عيون من وراء كل ذي ولاية، حتى يكونوا على بينة من استقامتهم أو انحرافهم، وكذلك كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يرسل وراء كل عامل بعض من يثق به؛ ليطلع على سيرته، ويأتيه بخبرها، وقالوا في سيرة هشام بن عبد الرحمن أمير قرطبة: وكان يبعث بقوم من ثقاته إلى نواحي البلاد، فيسألون الناس عن سير عمالهم، ويخبرونه بحقائقها، فإذا انتهى إليه حيف من أحدهم، أنصف منه، وأسقطه، ولم يستعمله بعد.
ومن ينظر في تراجم الأمراء والقضاة الذين استقاموا على سيرة العدل، يجد الأمن في عهدهم سائداً، كما قالوا في سيرة ملك شاه بن ألب أرسلان، وكانت السبل في أيامه آمنة، تسافر القوافل أو الأفراد مما وراء النهر إلى أقصى الشام من غير خوف ولا رهبة.
ومما يساعد القضاء العادل على تثبيت دعائم الأمن: أن يكون الرجل قد عرف الجناية، فيؤدي شهادته على الجاني كما عرفها، وكذلك المحامي يساعد القضاة على تخفيف شر الجنايات، أو قطع دابرها، متى اتجه في دفاعه إلى إظهار الحقيقة، فإذا دافع عن الجاني، وهو يعلم أنه مرتكب الجناية، وبذل
قوة بيانه لينقذه من عقوبتها، فهو أخو الجاني، وعليه نصيب من وزر الإخلال بالأمن والفساد في الأرض.
ورئيس الدولة الذي يقدر الأمن العام قدره يمنح القضاء حريته، فلا يتدخل في شأن من شؤونه، ويساعد على تنفيذ الأحكام، ولو كان الحكم صادراً عليه، أو على بعض شيعته.
كان المنصور بن أبي عامر ملك قرطبة في مجلس عام يسمع فيه شكوى المظلومين، فنادى رجل من العامة: يا ناصر الحق! إن لي مظلمة عند ذلك الفتى الذي هو قائم على رأسك، وقد دعوته إلى الحاكم، فلم يحضر. فقال المنصور: أو عبد الرحمن بن فطيس (يعني: صاحب المظالم) بهذا العجز والمهانة، وكنا نظنه أمضى من ذلك؟!، ثم قال المنصور: ما أعظم بليتنا بهذه الحاشية، وقال للفتى: انزل صاغراً، وساو خصمك في مقامه حتى يرفعك الحق أو يضعك، ففعل، وقال لصاحب شرطته الخاص: خذ بيد هذا الظالم، وقدمه مع خصمه إلى صاحب المظالم، لينفذ عليه حكمه بأغلظ ما يوجبه الحق من سجن أو غيره. وبعد أن نفذ عليه صاحب المظالم حكمه، أبعده المنصور من خدمته.
ومن أهم وسائل الأمن الشامل: أن يكون الملقى على كواهلهم أمرُ المحافظة على الأمن ذوي حزم، وغيرة على الحقوق والنظام؛ بحيث لا تأخذهم غفلة عن الأفراد والجماعات التي شأنها تعكير صفو الأمن، ويكونون على أهبة في كل ساعة من ليل أو نهار للضرب على يد كل من يحاول الاعتداء على نفس أو دين أو عرض أو مال، وإنما يفضل القائم على أمر الأمن بمثل هذه الأهبة التي تساعد على صد حوادث الفساد قبل وقوعها، أو قطعها قبل
استفحال أمرها، والناس يمدحون الأهبة لمكافحة الحوادث، ويجدونها من أكبر مظاهر الحزم واليقظة.
قال مسلم بن الوليد يمدح يزيد بن مزيد الشيباني:
تراه في الأمن في درع مضاعَفَةٍ
…
لايأمن الدهر أن يأتي على عَجَلِ
تتمتع الأمة براحة البال متى كان المسؤولون عن الأمن في حزم ويقظة، ومن متممات الحزم واليقظة: أن يوجهوا عنايتهم إلى الغاية التي نيطت بعهدتهم، لا يشغلهم عنها شاغل ولو طرفة عين، وأن يحملوا في صدورهم قلوب آساد لا تلوي جباهها عن كفاح؛ كما قال لقيط بن يعمر فيمن ينبغي أن يوكل إليه أمر الدفاع:
لا مترفاً إن رَخِىُّ العيش ساعده
…
ولا إذا حلَّ مكروه به خضعا
مسهر النوم تعنيه أموركم
…
يروم منها على الأعداء مطلعا
فليس يشغله مال يثمره
…
عنكم ولاولد يبغي له الرفعا
ومن وسائل انتظام الأمن العام: مكافحة البطالة؛ فإن البلاد التي تكثر فيها طرق الاكتساب من نحو الزراعة والصناعة والتجارة، وتكون عامرة بالجمعيات الخيرية والملاجئ؛ بحيث يجد صحيح البنية طريق العمل ميسوراً، ويجد العاجز باب البر مفتوحاً، يقل فيها ارتكاب جريمة الاعتداء على الأموال التي تفضي في كثير من الأحوال إلى سفك الدماء.
ومكافحة البطالة ترجع إلى أغنياء الأمة، ورجال الدولة، فأغنياء الأمة يستطيعون عقد شركات تجارية أو زراعية أو صناعية، فتكون طرقاً لاكتساب كثير من أرباب العائلات معايشهم.
أما رجال الدولة، فشأنهم تدبير كل ما يعود على ذوي الحاجات بالرفق واليسر.
وإذا ساد الأمن في البلاد، وقلَّ الاعتداء على النفوس والأعراض، شعر الناس بطمأنينة، وعاشوا في راحة وصفاء، ولم يجهدوا أنفسهم في اتخاذ وسائل السلامة.
وطمأنينة القلوب أهم ركن من أركان الحياة الطيبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا أصبحت آمناً في سربك، معافى في بدنك، عندك قوت يومك، فعلى الدنيا وأهلها العفاء". والأمن في السرب يراد به: الأمن في طريق الحياة.
وقد جعل القرآن الكريم اطمئنان النفوس من أعظم نعم الله على الناس، فقال تعالى:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4].
فامتن على قريش بالإطعام من الجوع الذي هو أساس الحياة الجسمية، وأتبعه بالامتنان عليهم بالأمن من الخوف، ذلك أن التمتع بالحياة الجسمية لا يتم إلا مع راحة النفوس، وعدم اضطرابها بالخوف من الأيدي العادية.
وكذلك نرى القرآن المجيد قد جعل الخوف فيما ينتقم به الله من الجاحدين المجرمين، فقال تعالى:{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل: 112].
أراد تعالى أن يصف أهل قرية بأنهم كانوا على ما يرام من سعادة الحياة، فأشار إلى ذلك بأنهم كانوا آمنين من المخاوف، وكانوا في سعة من العيش، ثم أراد التنبيه لما يوقعهم فيه الكفر بالنعم من شقاء، فذكر ابتلاءهم بضيق
العيش، وتجرع غصص الخوف، ويكفي شاهداً على شدة بلاء الخوف أن ينبه به على سوء عاقبة من يكفر بأنعم الله.
وكذلك نرى الشعراء إذا مدحوا الكبراء، قد يصفونهم بفضيلة البر والإحسان، ويقرنون ذلك بمدحهم بخصلة تأمين الناس من الخوف؛ كما قال المغيرة بن حبناء في مدح المهلب بن أبي صفرة:
أمنٌ لخائفهم فيضٌ لسائلهم
…
ينتاب نائله البادون والحضر
وإذا ساد الأمن في البلاد، وقلّ الاعتداء على الأموال، انتظمت الزراعة والتجارة والصناعة، وتقدمت هذه الأصول في نماء، وعادت على الناس بثراء؛ كما قال الأستاذ محمود قبادو في قصيدة تعرض فيها لصيانة النفوس والأموال والأعراض:
والأمن في تلك الأصول جميعها
…
هو منشأ الإثراء والعمران
وليس الثراء بالأمر الذي يقصد لذاته، وإنما هو وسيلة لبلوغ ذروة العزة، متى صرف في سبيل الخير وحماية الأوطان من أيد تريد إذلالها.
إذن يمكننا أن نقول: إن الأمن الشامل في داخل البلاد، هو الوسيلة إلى أن تكون الأمة بمأمن من أن يستخف عدو أجنبي بحقوقها، أو يبسط يده إلى استعبادها.
وقد عني الإسلام بالأمن العام، ومن شدة عنايته به: أنه لم يلق واجبه على رجال الدولة وحدهم، بل جعل على الأمة قسطاً كبيراً من العمل لمكافحة الجنايات، فكل أحد يرى شخصاً قد عزم على ارتكاب جريمة، وجب عليه زجره ووعظه بكل قوة، وإذا رآه قد أخذ في فعلها، كان رآه يحاول الاعتداء على نفس أو مال أو عرض، وجب عليه رده عنها بيده حسب المستطاع،
قال صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع، فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه".
ويبقى استخلاص الحقوق بعد الاعتداء عليها، أو عقوبات الجنايات بعد وقوعها، فذلك ما يرجع إلى القضاء العادل؛ اتقاء للفتنة، وحذراً من انتشار الفوضى.