المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌طرق الدعوة تؤدَّى الدعوة باللسان تارة، وبالقلم تارة أخرى. ولكل منهما - موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين - ٥/ ٢

[محمد الخضر حسين]

فهرس الكتاب

- ‌(9)«الدَّعْوَةُ إلى الإِصْلاحِ»

- ‌المقدمة

- ‌مقدمة الإمام محمّد الخضر حسين

- ‌الحاجة إلى الدعوة

- ‌الدعوة في نظر الإسلام

- ‌المبادرة إلى الدعوة

- ‌التعاضد على الدعوة

- ‌من الذي يقوم بالدعوة

- ‌الإخلاص في الدعوة

- ‌طرق الدعوة

- ‌أدب الدعوة

- ‌سياسة الدعوة

- ‌الإذن في السكوت عن الدعوة

- ‌علل إهمال الدعوة

- ‌آثار السكوت عن الدعوة

- ‌ما يدعى إلى إصلاحه

- ‌أثر الدين في إصلاح المجتمع

- ‌أثر أدب اللغة في نجاح الدعوة إلى الإصلاح

- ‌حريّة الدعوة فى دليل على رقي الأمة وعظمة الدولة

- ‌أصول الإصلاح الاجتماعي

- ‌من هو الواعظ بحق

- ‌الإسلام والعلم

- ‌التربية الدينية والشباب

- ‌التعليم الديني في مدارس الحكومة

- ‌العلماء وأولو الأمر

- ‌تعاون الدولة والأمّة على انتظام الأمن

- ‌من هو الشاب المسلم

- ‌إلى شباب محمد صلى الله عليه وسلم أيها الشباب الناهضون

- ‌مقاصد الاسلام في إصلاح العالم

- ‌انتشار الإسلام في العالم وعوامل ذلك

- ‌ عوامل انتشار الإسلام:

- ‌ ما يثار حول انتشار الإسلام من شبه:

- ‌نهوض الشباب بعظائِم الأمُور

- ‌جيل يؤمن بالأخلاق

- ‌مثل أعلى لشجاعة العلماء واستهانتهم بالموت في سبيل الحق

- ‌شجاعة العلماء وإنصاف الأمراء

- ‌محاربوا الأديان ونموذج من سلاحهم

- ‌العلماء وحياتهم الاجتماعية

- ‌العناية بالتعليم الديني

- ‌العناية بالتعليم الديني

- ‌مناهج الشرف

الفصل: ‌ ‌طرق الدعوة تؤدَّى الدعوة باللسان تارة، وبالقلم تارة أخرى. ولكل منهما

‌طرق الدعوة

تؤدَّى الدعوة باللسان تارة، وبالقلم تارة أخرى. ولكل منهما مقام هو أحق به من الآخر؛ ففي الناس من يُسعده لسانه، فيعبر كيف يشاء، ويمسك القلم، فلا يجده مطواعاً. وفي الناس من إذا نطق، وقع في كبوة، واذا كتب، أباع، وبلغ ببيان ما يجول في ضميره الأمدَ الأقصى.

فينبغي للداعي أن يُبصر في نفسه، ويعرف من أي صنف هو، ثم يأخذ الناس بالطريق التي يركبها ذلولًا. فإن كان الداعي طلق اللسان، بليغ القلم، راعى في إرشاده حال المدعوين؛ فإن الناس طبقات، وإذا استوى في نظر الطبقة المستنيرة الخطيب البارع والكاتب الفائق، فإن الخُطب أسرع إلى فهم العامة، وأنهض بهم إلى ما تأمر أو تنهى، ولشدة ما تؤثر الخطب في نفوسهم ترى الرئيس المستبدّ يحنق على الخطباء كبر مما يحنق على الكتّاب.

والدعوة بالكتابة أوسع جولة، وأخلد أثراً، ومن فوائدها: إرشاد من لا يمكنك أن تخاطبه فوك إلى أذنه، وإرشاد المنحرفين عن السبيل، مع البعد من ساحتهم، والسلامة من أن يواجهك سفهاؤهم بالسخرية والأذى.

عُني الإسلام بالخطابة، فشرعّ الخطب أيام الجمع والأعياد؛ ليقوم فيها الخطيب بإرشادٍ يراعي فيه حال الأمة، فيقرع أسماعها بالموعظة الحسنة، ويستنهضها للأعمال الكافلة بعزها في الدنيا، وسعادتها في الأخرى.

ص: 28

ذهل كثير من الخطباء عن هذه الحكمة، فالتزموا لكل شهر خطبًا معينة يسردونها سردًا، ولا ينظرون فيها إلى ما يقتضيه حال الناس في التعليم أو التذكير. وبصنيعهم هذا خرجوا بالخطب عن أن تكون طريق الدعوة إلى إصلاح.

ويزيد في حسن الخطبة ونفعها: أن تكون من إنشاء الداعي، ويكون نفعها أبلغ إذا استطاع أن يرتجلها ارتجالاً؛ فإن الأقوال التي ينزع معناها بنفسه، ويسبك عباراتها بطبعه؛ تكون أبلغ أثراً في نفوس السامعين، وأملك لعواطفهم من أقوال صنعت من قبل، فأخذ يحكي ألفاظها حرفاً فحرفًا. والأقوال المنشأة حال إلقائها تصدر عن انفعال نفسي، وقوة إرادة، فتنفذ في نفس السامع بألفاظ جديدة، وهيئة غير مصطنعة. ويمكنك أن تعرف مقدار انفعال الخطيب وقوة إرادته مما تشاهده في هيئته الظاهرة من تبسم أو استعبار، وعبوسة جبين أو طلاقته، ورفع صوت أو خفض، إلى ما يماثل هذا من الآثار التي لا تشاهدها على ظاهر الناقل أو المترجم لكلام غيره، إلا أن يتكلّفها.

وتختلف طرق الدعوة - من حيث طرز الكلام، ومبلغ الاستدلال- إلى ما يفيد يقينًا لا ريب فيه، وإلى ما يفيد ظنًا غالباً. قال تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن المراد من الحكمة: الحجة المفيدة لليقين، ومن الموعظة الحسنة: الأمارات الظنية، والدلائل الاقناعية، ومن المجادلة بالتي هي أحسن: الدليل المؤلف من مقدمات مسلمة عند المنازع. وفصَّل الإمام الغزالي في كتاب "الاقتصاد" هذه الأنواع من الحجج، وقسم المخاطبين

ص: 29

إلى ثلاث طبقات، وعيّن لكل طبقة نوعاً، قال: والبرهان يخاطب به الأذكياء، والخطابة يخاطب بها العوام؛ لأنهم لا يفهمون البرهان، والجدل لا يخاطب به إلا المعاندون في الاعتقادة لأنهم لا يرجعون عن مذهبهم بالموعظة.

ولم يرتضِ الشيخ ابن تيمية تفسير الآية بهذه الطرق المنطقية، وقال في رسالة "معراج الوصول": بل الحكمة هي معرفة الحق، والعمل به؛ فالقلوب التي لها فهم وقصد تُدعى بالحكمة، فيبين لها الحق علماً وعملًا، فتبلغه وتعمل به. وآخرون يعترفون بالحق، لكن لهم أهواء تصدهم عن إتباعه، فهؤلاء يُدعون بالموعظة الحسنة المشتملة على الترغيب في الحق، والترهيب من الباطل. والدعوة بهذيْن الطريقين لمن قبل الحق، ومن لم يقبله، فإنه يجادل بالتي هي أحسن. ثم قال: والقرآن لا يَحتج في مجادلته بمقدمة لمجرّد تسليم الخصم لها - كما هي الطريقة الجدلية عند أهل المنطق وغيرهم -، بل بالقضايا والمقدّمات التي تسلمها الناس، وهي برهانية. وإن كان بعضهم يسلمها، وبعضهم ينازع فيها، ذكر الدليلَ على صحتها.

والواقع أن القرآن لا يحتجُّ إلا بقاطع؛ فإن دعوته للناس كافة، وهدايته للعقول، كبيرة كانت أو صغيرة. ومن حكمته- وهو يدعو البشر قاطبة- أن يقيم على الحق أدلة لا تحوم عليها ريبة، ولا يستطيع لها كبار الفلاسفة نقضًا. أما غيره من الدعاة الذين قد يقصدون لإصلاح طائفة معينة، فلا جناح عليهم أن يسلكوا في الاستدلال على الحق ما يجعله مألوفاً للمخاطبين، وإن لم يبلغ في قوة الدلالة أن يقع من طلاب اليقين موقع التسليم.

ص: 30