الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من الذي يقوم بالدعوة
؟
أطلق الإسلامُ في أمر الدعوة، فأعطى لكل إنسان الحقَّ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أذن لأدنى الناس منزلة أن يصعد إلى مقام الأمير الأعلى، ويجاهره بالنصيحة وطلب الإصلاح. وقد كان الفرد من سائر الناس يأمر الولاة في عهد السلف وينهاهم.
روى البخاري في "جامعه الصحيح" عن طارق بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة: مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة. فقال: قد تُرك ما هنالك، قال أبو سعيد الخدري: أما هذا، فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله يقول:"من رأى منكم منكراً، فليغيره بيده، فإن لم يستطعْ، فبلسانه، فإن لم يستطعْ، فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".
وجاء في حديث آخر رُوي في الصحيح أيضاً: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان - حين رآه يصعد المنبر -، فردَّ عليه مروان بمثل ما ردَّ به على ذلك الرجل. ولعلهما قضيتان كما قال شارحوالحديث: إحداهما وقعت لأبي سعيد، والأخرى كانت من الرجل بحضرته.
ويضاهي هذا ما روى مسلم في "صحيحه" عن كعب بن عجرة: أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعداً، فقال: انظروا إلى
هذا الخبيث يخطب قاعداً، وقد قال الله تعالى:{وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11].
واعتبروا بعد هذا في قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3]، وقوله تعالى:{كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة: 79]، فالتعبير بصيغة الفاعل في قوله:{وَتَوَاصَوْا} ، وقوله:{لَا يَتَنَاهَوْنَ} يدلُّ على تبادل الوصاية، والتناوب في النهي عن المنكر. ويشير إلى أن الشخص الذي يُوصي آخر بحق، أو ينهاه عن منكر، لا يعلو به قدره عن طاعة ذلك الموصَى أو المنهي إذا دعاه إلى صالح، أو إلى النزوع عن باطل.
ويجري على هذا الباب: أن الفقهاء يطلقون للخصوم أن يخاطبوا القاضي بنحو: "اتق الله"، أو "اذكر الله"، ولم يعدّوه من اللمز بقلة التقوى. ولو أجري على مثل هذا حكم الجفاء أو الطعن الذي يستحق به الخصم الأدب، لاتخذه الحاكم المستبد ذريعة إلى كفّ الرعية، وسدّ أفواههم عن إحضاره النصيحة، ودعوته إلى القيام بصالح الأعمال.
يروى أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب في كلام دار بينهما: "اتَّقِ الله"، فأنكر عليه بعض الحاضرين، وقال له: أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فقال له عمر: دعه فليقلها لي، نِعْمَ ما قال؛ لا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها.
إنما يعتمد في شرط المصلح: أن يكون على بيّنة من حكم ما يأمر به، أو ينهى عنه، تلك المزية المومأ إليها بقوله تعالى:{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125]، وقوله تعالى:{أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف: 108].
والناس في إدراك الحقائق أربع طبقات:
فمنهم: من يشعر بوجه الحق، فيستولي عليه نظراً وعلماً، وفي استطاعته أن ينصب عليه الدلائل الصريحة؛ ليهتدي بها المقتدون على أثره. ولا تنبعث أمة من مرقدها، وتمتطي غارب عزّها إلا إذا نبتت فيها نابتة من أهل هاته الطبقة.
ومنهم: من لم يبلغ في قوة الشعر وسرعة المخاطر أن ينتبه إلى جهة الحق من تلقاء نفسه، ولو ترك بحاله، وخُلي سبيله، لتمادى في جهالته، واستمر على غوايته. ولكنه يسمع الكلمة تشير إلى موضع الحق، فيرمي ببصره إليه، ويأخذ في نصب الدلائل الموصلة إلى معرفته.
وبعض الناس لا ينتبه للحق بنفسه، ولا يتمكن من إقامة الشواهد عليه لو أنبأته بناحيته، فيفتقر إلى أن تأخذ بيده، وتقوده بما تلقيه من الأدلة حتى يراه رأي العين. إلا أنه انطوى على فطرة سليمة، ونظر صحيح، فلا يمكنك بعد أن يفقه الرشد، ويستقرَّ على علم أن تنتزعه منه، وتغرس في مكانه جهلًا أو ضلالاً.
وفي الناس من يلقي زمامه إلى أيدي الدعاة، ويتلقى أقوالهم بالطاعة، دون أن يكلفهم الدليل على صحة قضية، أو الوجه في بيان حسن عمل، وإنما يعتمد في الاقتداء بهم على ما اشتهروا به من نحو العلم والاستقامة وكثرة المريدين من أولي الأحلام الراجحة. وعلامة هذه الطبقة: أن يرجع مرشدهم عما بثه من علم، أو ندب له من عمل، فينقلبوا معه إلى تقليد مذهبه الجديد.
ولا يختص بواجب الدعوة أهل الطبقة العالية وما يقرب منها؛ فإن من الحق ما يكون واضحاً بنفسه، أو بدليل متوافر؛ بحيث لا يتأتَّى فيه نزاع،
ولا يحتاج الأمر فيه إلى تقرير حجة، أو إزالة شبهة؛ كفريضة الصلاة، وفضيلة العدل، والعمل لتخليص الوطن من سيطرة الأجنبي؛ فأمثال هذه الحقوق إنما يهملها مستطيع القيام بها لآفة سهو، أو داعية هوى. فيحق لكل مسلم - وإن كان من أهل الطبقة السفلى- أن يذكّر فيها غيره، ويوصيه بها، وإن كان من أهل الطبقة العليا. وأما ما لا تدركه العامة من الحقائق، ويضطر الداعي إلى أن يورد في بيانه الأدلة، ويطارد الشبه، فأمر الدعوة إليه من حق العلماء القادرين على تحرير بحثه، وحسن التصرف في سَوق أدلَّته.
يأخذ بعض أهل العلم في وصف الداعي أن يكون صالحًا في نفسه، مستقيمًا في سيرته. وهو شرط صحيح بالنظر إلى انتفاع الناس بإرشاده، وتسابقهم إلى إجابته؛ فإنهم- على ما نرى ونسمع- لا تلين قلوبهم لموعظة واعظ، ولا يقتدون برأي مرشد إلا إذا وثقوا بأمانته، وأبصروا في حالته الظاهرة مثالاً لما ينصحهم به. وقد تبرأ شعيبٌ عليه السلام من مخالفة قومه إلى ما حذَّرهم منه، فقال:{وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود: 88].
وجاء في كثير من الآيات المسوقة في فضل الدعوة ذكر صلاح الداعي في نفسه، واستقامته في عمله، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33]، وقال تعالى:{هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [النحل: 76]،. وجاء في التنزيل مافيه تقريع وتعجب من حال الذي يلقي الموعظة، ويبسط لسانه بالأمر بالمعروف، وهو يترك العمل به ناحية قال تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44]، وفي هذه الآية شاهد على أن من
أرشد غيره إلى صالح، وهو قابض يده عنه، أو حذره مفسدة، وهو لا يغادر موضعها، فقد خالف مقتضى الحكمة، ودخل في قبيل الذين لا يعقلون.
يتوهم بعضُ الناس أن الدعوة إلى احترام حقائق الإسلام وآدابه إنما هي شأن من شؤون علماء الدين، وربما ذهب بهم الوهم في مصر، أو في تونس- مثلاً - إلى أنها شأن علماء الأزهر، أو جامع الزيتونة؛ وانبنى على هذا أن بعض من يدرس حقائق الإسلام وآدابه، ويستطيع بيان حكمتها، ودفع شبه المضلين عنها؛ لا يهز في هذا الغرض قلمًا، ولا يحرّك به لسانًا، ثم لا ترى له من عذر عن هذا التقصير سوى أنه لم يكن من أصحاب العمائم، أو أنه لم يكن من علماء المعاهد الدينية؛ إن لم يلق إليك هذا العذر بمقاله، دلّك عليه بلسان حاله. وقد عرف فريق من حكماء الشرق: أن الداعيَ إلى مبادئ الإسلام خادمٌ للإنسانية، عامل على إنقاذ الشرق من مخالب الاستعمار، فوقفوا حياتهم أو جانباً منها على نشر محاسنه، وإفحام هذه الفئة المتهالكة على محاربته.