الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعاضد على الدعوة
ذكر بعض أهل العلم أن قيام الواحد بفريضة الدعوة كافٍ، واستشهدوا بقوله تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]. وقالوافي وجه الاستشهاد: إن الطائفة في لسان العرب: الواحد فما فوقه. وهذا القول مستقيم بالنظر إلى إبلاع الأمر والنهي، ووضع الحق بين أيدي الغافلين عنه. أما من حيث فعل الدعوة في النفوس، ودخولها مدخل الإقناع، فمن البيّن بنفسه أن للدعوة التي تقوم بها الجماعة أثراً لا تبلغه دعوة الفرد، وربما كان النظر في هذا يرجع إلى حال المدعوين، أو حال ما تتعلق به الدعوة، أو ما يقصد من الدعوة.
أما النظر إلى حال المدعوين، فقد يغني العدد القليل في دعوة جماعة تتقارب مشاربهم، وتتشابه أحوالهم النفسية، أما إذا اختلفت مشاربهم، وتعمَّدت نزعاتهم، فلكثرة القائمين بالدعوة، وتظاهرهم عليها وقعٌ في نفوسهم، وأخذٌ لها من بين تلك النزعات المتباينة، والمسالك المتشعبة؛ فإن الدعاة إذا تعمَّدوا، اختلفت أساليبهم في الدعوة غالباً، وقد يبدو للداعي من وجوه تحسين الأمر أو التنفير منه ما لا يخطر على بال آخر، وإن كان أغزر علماً، وأوسع نظراً، وقد تخضع النفس لأسلوب دون أسلوب، وتهتدي بطرز من الجدل أو الموعظة أكثر مما تهتدي بغيره، ولو كان أقرب دلالة بحكم المنطق، وأوضح إنتاجاً.
وأما حال ما تتعلق به الدعوة، فإن الإرشاد إلى أحكام الدين العملية - مثلاً - أيسر من إصلاح العقائد ووضع الإيمان موضع الجحود بالله، فداعي المطمئنين بالإيمان إلى مثل الأحكام العملية إنما يتلو قرآناً أو حديثاً، أو نصوصَ من يُقتدَى باجتهادهم، والداعي إلى الإيمان يقصد إلى نقل النفوس من ملة إلى ملة، وتحويلُ النفوس من عقيدة إلى أخرى يبلغ من الصعوبة أن يحتاج دعاته إلى من يشد أزرهم في إبلاغ الحجة، أو مطاردة الشبهة، وكذلك سأل موسى عليه السلام ريه أن يجعل أخاه هارون شريكًا له في الرسالة، فقال:{وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه: 29 - 32]. وبَعث عيسى عليه السلام إلى أهل أنطاكية برجلين اثنين؛ ليدعواهم إلى الإيمان، فقابلوهما بعناد وتكذيب، فأضاف إليهما ثالثاً يؤيد بعثتهما، قال تعالى:{وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 13، 14].
وأما حال ما يقصد من الدعوة، فإنك ترى رجالاً انحرفت عن أدب الإسلام قلوبهم، وساعدتهم الأيام على أن أصبحوا يسيطرون على بعض شعوبه، ويفسدون عليهم دنياهم وآخرتهم، فيعتدون على أحكام دينهم، ويناصرون الأشخاص الذين يملؤون أفواههم بالجهل على رسوله الاكرم. فإذا كان أولئك المنحرفون عن أدب الإسلام ممن لا يُقبِلون على الحق بعين باصرة، أولا ينقادون إلى الحقائق المبصَرة، فمن المحتمل ألا يراد من دعوتهم إصلاح نفوسهم، وإنما يراد منها صرفهم عن هذه السيرة الخرقاء، وإراءتهم أن الأمة التي تتقلد الإسلام شريعة لا تستطيع أن تبقى أمامَ تعسفهم هذا معقودة الألسنة، أو مقبوضة الأيدي. فالذين يرضون عن عبث هذه الأرواح
غير الطيبة، إنما يغني في دعوتهم جماعة من زعماء الأمة لا يحوم على ألسنتهم مَلق، ولا يشترون متاع هذه الحياة بكتمان ما أوتوا من حكمة، فيوقظونهم من غرورهم، وُيرونهم أن العزَّة للمؤمنين. أما صوت الواحد ونحوه، فإنما يلقى منهم آذان الصمّ الذين لا يفقهون.
وإنما تفيد كثرة الدعاة عند اتحادهم وقصدهم إلى إقامة المصالح، ونصرة الحقيقة في نفسها، وبذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى، ومُعاذَ بن جبل حين بعثهما إلى اليمن: قال لهما: "يسّرا ولا تعسّرا، وبشّرا ولا تنفرّا، وتطاوعا". وُيشعر بهذا الشرط التعبير عن الدعاة باسم "الأمة" دون "القوم " في قوله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ} [آل عمران: 104].
قال القفّال: الأمة: القوم المجتمعون على الشيء الواحد، يقتدي بعضهم ببعض، مأخوذ من الائتمام. وهو الوجه في إيثار التعبير به أيضاً في آية: وَ {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)} [الأعراف: 159]، فإن لفظ:"القوم" يطلق في اللسان على عدد أقلّ مما يطلق عليه لفظ: "الأمة"، وهو من هاته الجهة أنسب عادة بدعاة الإصلاح، لقلة عددهم، ولفظ:"الأمة" أليق بسائر الأفراد؛ لكثرتهم؛ ولكنه اختير للدعاة اسم "الأمة"؛ لأن إشعاره بمعنى اتحادهم وتآلفهم أقوى مما يشعر به لفظ: "القوم".
فالقرآن يرشد إلى أن يكون دعاة الإصلاح جماعة، وأن يكون أدب هذه الجماعة الاتحاد والتعاضد. ومن الواجب صرف الهمة إلى مشروع الدعوة حتى تقام على نظام يحفظ الحقائق والمصالح، أما بقاؤها مطروحة إلى داعية الأفراد، فقد يفضي بها إلى ضياع، وطالما جعلها تفقد حيث يجب أن تكون.