الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليم الديني في مدارس الحكومة
(1)
يشعر كل من يطلع على ما ينشر في الصحف، أو يشهد مجالس طوائف من الناس مختلفة: أن انحرافاً غريباً طرأ على الأخلاق، وأخذ يدب في نفوس النشء دبيب السم الناقع في جسم اللسيع، ويمتاز هذا الانحراف بأنه ناشئ عن زيغ العقيدة، لا عن مجرد الأهواء الغالبة. وزيغ العقيدة مصدر الأخلاق المرذولة في كل حين، إلا أن الدعاية إلى القبائح - فيما مضى - لم تبلغ في علانيتها ما بلغته اليوم، ألم يبلغ الحال أن يكتب الكاتب، أو يخطب الخطيب داعياً إلى ما يمزق رداء العفاف والكرامة، مخادعاً الشباب باسم الحرية، أو الفن الجميل؟ ولا جمال إلا مع الفضيلة، ولا حرية إلا لمن يلقى الناس بعرض سليم.
والانحراف الناشئ عن زيغ العقيدة أصعبُ علاجاً من الانحراف الناشئ عن طغيان الشهوة؛ فإن زائغ العقيدة يستهين ببعض محاسن الآداب؛ بزعم أنها ليست من الحسن في شيء، ويخرج عن حدود المكارم؛ بدعوى أن هذه الحدود رسمت على غير حكمة.
والمغلوب للشهوة وحدها قد ينصرف عن الحسنة معترفاً بأنه أقبل على سيئة، وينتهك حرمة الحق غير منازع في أنه ارتكب جريمة، وإذا احتجت
(1) مجلة "نور الإسلام" - الجزء السادس من المجلد الثاني - القاهرة.
في تهذيب أخلاق الزائغ إلى إصلاح عقيدته بالحجة، فإنه يكفيك في تقويم أخلاق المنحط في أهوائه شيء من الموعظة، وتاثير الموعظة في زجر من يعرف الحق حقاً، والباطل باطلاً، أيسرُ من تأثير الحجة فيمن يبصر الباطل حقاً، أو الحق باطلاً.
وقد يندى جبين المغلوب لأهوائه إذا أنبّته، ويعرف لك فضل النصيحة إذا ذكّرته، أما زائغ العقيدة، فإنه يحمل بين حاجبيه وناصيته ما هو أشد قسوة من الحجارة، ويرى إرشادك له لغواً في القول، فلا يعيرك فؤاداً صاغياً إلا أن تبقى فيه للإنصاف وحرية النظر بقية.
ولا مرية في أن انحراف الزائغين أظهر فساداً، وأشد فتنة من انحراف الشاعرين بقبح ما يفعلون؛ فإن الزائغ يندفع فيما لا يليق إلا أن يرهب قانوناً حازماً؛ ولا يبالي أن يبصر به من لا يملك للقانون نفاذاً، أما الشاعر بقبح ما سيفعل، فشأنه أن يجتهد في التستر عن أعين الناس- حتى في حال أمنه- من أن يناله القانون بأذى، فإذا قست الجاحد بأمثاله في التعلم أو الأمية، وجدت لخروجه عن مكارم الأخلاق مواطن أكثر، ومشاهد أظهر؛ فتكون جنايته في الناس أكبر وأفظع، فلا شبهة في أن إصلاح العقائد أساس لتهذيب الأخلاق، وأن الأخلاق الكريمة لا تستقيم إلا على العقيدة السليمة.
لم يتفشّ زيغ العقيدة فيما سلف تفشيه اليوم؛ لأن وسائل ساعدت على سريان وبائه لم توجد قبل، وأمهات هذه الوسائل ثلاثة أمور:
أحدها: هذه المدارس التي يفتحها الأجانب في أوطاننا باسم العلم، ويغفل بعض المسلمين عن سريرتها، فتأخذهم بمظاهرها، حتى يسلموا أطفالهم - وهم على الفطرة - إلى من يصبغ هذه الفطر بسواد، وينزع منها
روح الأدب الذي يجعلهم أولياء لعشيرتهم، نصحاء لأمتهم.
ثانيها: تهاون بعض الآباء بواجب أبنائهم، إذ يرسلون الناشئ إلى معاهد العلم باوربا قبل أن يتلقن من علوم الدين ما يجعل عقيدته مطمئنة، فيلاقي في أثناء الدراسة هنالك، أو في بعض المحادثات شُبهاً لا يجد في نفسه من الحجج ما يدفعها، وإذا تواردت الشبه على الناشئ، رانت على قلبه، وأصبح يبصر وجه الحق أسود قاتما، فيعود إلى وطنه وهو يحمل لأبويه عقيدة أنهما في ضلال قديم، وذلك جزاء من يستهين بهدى الله، ولا يهمه إلا أن يكون لابنه مورد رزق واسع، أو منصب في أحد الدواوين.
ثالثها: أن كثيراً من الحكومات الإسلامية ضعف فيها روح الاعتزاز بالدين الحنيف، فاستباح واضعو برامج التعليم العام في مدارسها أن لا يضربوا لعلوم الدين بسهم، ومن يضرب لها، فبسهم لا يغني من جهل، والتعليم الذي يهضم فيه جانب العلوم الدينية، لا يرجى منه تهيئة نشء تتساقط عليهم الشبه فيطردونها، أو توسوس إليهم الشياطين فيستعيذون منها.
وإذا كان سوء الأخلاق الذي هو علة اختلال النظام، ينشأ من زيغ العقيدة تارة، ومن طغيان الشهوات تارة أخرى، فإن الإسلام دين ينير العقول بالحجة، ويهذب النفوس بالحكمة، ولكم أخرجت مدارسه، أو مجالس القوّامين على هدايته من رجال يلاقون الأسود فيصرعونها، ويجارون الرياح فيسبقونها، يخفضون أجنحتهم تواضعا للمستضعفين، ويرفعون رؤوسهم عزّة على الجبارين، تعترضهم الأخطار، فيخوضون غمارها، وتعتل قلوب أو عقول، فيضعون الدواء موضع عللها، عدلٌ كأنه القسطاس المستقيم، وسخاء كانه الغيث النافع العميم، وجدٌّ في طلب العلم وإن كان بمناط الثريا، وطموح
إلى المعالي وإن انتبذت وراء الفلك الدّوار مكاناً قصياً، إلى ما يشاكل كل هذا من الخصال التي ترفع بعض الأمم على بعض درجات.
والأمة في حاجة إلى نشء ترتبط قلوبهم بالتعاطف، وتمتلئ صدورهم بالغيرة على حقوق الوطن، والإخلاص في كفاح من يروم اغتصابها، والدين يفجّر ينبوع التعاطف، ويجعل الغيرة على الحقوق حامية، ويبعث في النفوس إخلاصاً يأبى لها أن تتخذ من المنافع الخاصة غرضاً.
والتاريخ يملأ آذاننا بأسماء رجال أحرزوا بعلمهم الزاخر مكانة تكفيهم لأن يعيشوا بين الناس في هناءة وإجلال، ولكن ما يبذره الدين في نفوسهم من غيرة وإخلاص يأبى لها أن يقضوا حياتهم بين جدران المدارس أو المساجد دون أن ينفقوا منها في تعرّف الشؤون العامة، والجهاد في نجاة الأمة قسطاً وافراً، ولو أخذنا نضرب الأمثال على أن التعليم الديني يطبع النفوس على خصال الشرف، ويملؤها همماً لا تقف عند حد، وغيرة لا تلهو عن حق، لملأنا صحفاً كثيرة أو أسفاراً، ولكن المقام للتذكرة، ومن مقامات التذكرة ما يغني فيه الإيجاز عن الإسهاب.
وإذا رأينا في بعض المتلقين لعلوم الدين عوجاً، فتلك سنّة الله في الخليقة أن لا تخلص الطوائف الكثيرة من أفراد يشربون بكأسها، ويظهرون في زيها، ثم هم يشذون عنها، ويسيرون في غير وجهتها؛ لعوارض تجد في نفوسهم من الاستعداد للهو أكثر من الاستعداد للجد، ويكفي شاهداً على استقامة الطريق: أن يبلغ أكثر سالكيه غاية الفلاح، فإن قعد في منتصفه ذو همة خامدة، أو التوى عنه ذو هوى غالب، فالطريق لا يزال طريق رشد وفلاح، والوزر على رقبة من قعد في منتصفه لاهياً، أو التوى عنه قبل أن يدرك من
الاهتداء به حظاً كافياً.
فسماحة الدين، وما له من الأثر الخطير في إعداد أمة روحها البطولة، وزينتها التقوى، وغايتها السيادة، من أشد ما يبعث أولي الأمر منا على أن يضعوا علوم الدين بالمكانة العليا، ويقرروا لها في جميع المدارس، وفي كل سني الدراسة ما فيه الكفاية.
ومما يقضي عليهم بأن يعنوا بها عناية ضافية: أن الأمة مسلمة، والأمة المسلمة لا ترضى إلا أن يكون أبناؤها مطمئنين بحجج الدين الحنيف، سائرين في ضوء حكمته الغراء، فمن سلك في تعليم أبنائها طريقاً لا يأتي بهم على هذه الحجج، ولا يدخل بهم في نهار من ضوء هذه الحكمة، فقد تصرف في شؤونها تصرف من لا يرعى ذمتها، ولا يحترم وكالته على أمرها، وإذا وجد في الناس من لا يؤلمه أن يكون ولده في ظلام من الغي، فامثال هؤلاء - على قلتهم - طائفة استهواهم زخرف الحياة غروراً، ولم يهتدوا إلى خير أبنائهم سبيلاً، وما كان للحكومة الرشيدة إلا أن تقيم سياستها على رعاية ما فيه خير النشء، وما يرتضيه أهل العلم والعقل، ويكون قسط تلك الطائفة من هذه السياسة تقويم عوجهم، وإصلاح ما فسد من أخلاقهم، وإذا أهملت التعليم الديني حكومة باض الإلحاد في أدمغة رؤسائها وفرخ، فأعلنوا فسوقهم عن الدين في غير استحياء؛ فإن حكومة يكون على رأسها ملك يعتز عرشه الرفيع بعزة الدين الحنيف، وينص في دستورها على أن دينها الرسمي الإسلام، لجديرة بان يكون للتعليم الديني في مدارسها شأن لا يقل عن شأن غيره من العلوم النافعة في الحياة.
ولا يكفي في تعليم الدين أن تكون له جامعة كالأزهر، وما يتصل به
من معاهد؛ فإن قصره على الأزهر والمعاهد الدينية يجعل تربيته العالية في طائفة من الناس خاصة، والخير في أن تكون روح الدين سارية في نفوس الأمة قاطبة، وبثها في جميع الأفراد مدعاة إلى الائتلاف والاتحاد الذي هو أساس كل نهضة، وكل عمل اجتماعي يقام على غير هذا الأساس، فمنقلب إلى فساد.
ولو كان التعليم الديني آخذاً حقه في جميع مدارسنا، لم ير الناس ما يرونه من التجافي بين أفراد نشؤوا في مدارس دينية، وآخرين نشؤوا في مدارس ليس للدين فيها من نصيب، ولا منشأ لهذا التجافي إلا بُعد النشأتين، وإدخال العلوم الحديثة في المعاهد الدينية يذهب بجانب هذا التجافي، فإذا عنيت وزارة المعارف بدراسة علوم الدين درساً جدياً، اتحد أبناؤنا في أصل التربية، فيكون فضل المعاهد الدينية والمدارس الرسمية على الشرق في إخراجهما نشئاً يتقارب شعورهم، وتتدانى عواطفهم، فيتسابقون إلى أعباء الحياة بكواهل متساوية، ويرمون في وجوه العظائم عن قوس واحدة.
لا يغيب عنا أن في بعض الأمم التي لا تعني وزارات معارفها بدرس علوم الدين شيئاً من كمال أو قوة، ونقول مع هذا: إن الأمم التي يقوم تعليمها على روح دينية قوية تبلغ من العظمة ما لا تبلغه أمة تساويها في غير هذه الروح من وسائل الحياة.
فإذا تقدمت فرنسا - مثلاً - على بعض الشعوب الشرقية، وكانت أبسط منه سلطاناً وأنعم بالاً، فإنما فضلته بالقوة المادية، ثم بجانب من الأخلاق التي ينتظم بها شأن الاجتماع في بلادها، ويجعلها قوية أمام خصومها، ولو جاراها ذلك الشعب الشرقي في وسائل الحياة المادية، واستنار في تقويم
أخلاقه بحكمة الدين، لكان أسعد منها حالاً، وأرسخ في السيادة قدماً، وأعلى يوم ينادي المنادي علماً.
وليس في إعطاء علوم الدين بمدارس الحكومة حقها ما يجحف بحق دراسة العلوم الأخرى؛ لأنا لا نرجو من وزارة المعارف أن تغذي التلاميذ من علوم الدين بمقدار ما يتغذى به طلاب العلم بالمعاهد الدينية، وإنما نرجو منها أن تقرر من هذه العلوم ما يستنير به التلميذ في كل سنة من سني الدراسة، وتجعله مادة أساسية في امتحاني النقل والشهادة، وأن تسن لهذه العلوم مناهج حكيمة، ولا تغمض عن كفاية من تعهد إليهم بتدريسها.
وقد دلنا التاريخ والمشاهدات على أن وزارات المعارف في بعض الشعوب الإسلامية، قد تستخف بالتعليم الديني متى ألقي أمرها إلى من نشأ في غفلة عن آداب الدين، وقصر في السياسة شأوه، فليس له بصيرة يحس بها فضل الدين ومحاسنه، ولا بعدُ نظر في السياسة يفقه به أن خير ما تتألف به الأمم الإسلامية رعاية دينها، وجعله روحاً في تربية أبنائها، ومن أشد ما تبلى به المصالح العامة أن يصرفها من لا يدري كنهها، ولا يتدبر العواقب في تصريفها، وإذا انتهز أولئك الخاطئون غفلة الأمة فرصة لاهتضام حق التعليم والتربية، فإنها اليوم في يقظة تميز بها المهوشين من المصلحين، فتقابل المهوش بامتعاض وتنديد، وتلاقي المصلح بإقبال وتأييد، ورجاؤنا في حضرة صاحب المعالي وزير المعارف أن يكون الرجل الذي يؤثر إقبال الأمة على امتعاضها، وتأييدها على تنديدها، بل صلاحها على فسادها، وسعادتها على شقوتها؛ فيوفي للتعليم الديني حقه، حتى تصبح مدارسنا منبع العلم، ومطلع الهداية.
ومن فائدة الشرق: أن تكون له عاصمة تلتقي فيها آراء المصلحين،
ويتدفق منها الشعور السامي إلى سائر الأقطار. وموقع مصر في البلاد يستدعي أن تكون مصر هي ملتقى تلك الآراء، ومصدر ذلك الشعور؛ ولا يكفيها لهذه الزعامة أنهارها التي تجري من تحتها، والعلوم والفنون المالئة ما بين جوانبها، وإنما تحن لها القلوب، وتمتلئ بمهابتها العيون، إذا أضافت إلى هذه الأنهار والمدارس تربية دينية عامة، حتى يقول كل زائر لها فاضل - مثل ما قال العلامة أبو عبد المقري - حين زارها، وعاد إلى المغرب في أثناء المئة الثامنة:"من لم ير مصر، لم ير عز الإسلام".