الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التربية الدينية والشباب
(1)
سادتي! نقلب النظر في الأيام الخالية، فنقف على وقائع تحدث عنها التاريخ بإعجاب، ذلك أنها كانت مظهر قوة الفكر، ومتانة العزم.
ومن هذه الوقائع ما رفع أمة من خمول إلى نباهة، أو نقلها من استعباد إلى سيادة، فإذا تجاوزنا الوقائع إلى الأيدي التي هزتها وأطلقتها من عقالها، وجدناها أيدي الشباب الذين يشعرون فيعزمون، ويبصرون الخطر فلا يحجمون.
فذلك أبو مسلم الخراساني نهض بالدعوة العباسية، وزلزل عرش الدولة الأموية، وهو ابن إحدى وعشرين سنة.
وتولى محمد بن القاسم الثقفي قيادة جيش قاتل قبائل ثائرة، فأطفأ ثورتها وهو ابن سبع عشرة سنة، وقال فيه الشاعر:
إن السماحة والمروءة والنَّدى
…
لمحمد بن القاسم بن محمدِ
قاد الجيوش لسبع عشرة حجةً
…
يا قربَ ذلك سؤوداً من مولدِ
وقد نبّه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن الولايات منوطة بالكفاية، وأن الكفاية
(1) كلمة الإمام في مهرجان رابطة الشباب المصري - مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء الحادي عشر من المجلد التاسع.
للعظائم قد تتحقق في الشباب، فولى أسامة بن زيد جيشاً تخفق رايته على أمثال أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، ولم يتجاوز أسامة يومئذ الثامنة عشرة من عمره.
ففي الشباب نفوس قريبة من الخير، وهمم لا ترضى من المجد إلا باللباب، فإذا توجه الشباب إلى غايات خطيرة، وساروا في طرق قويمة، فما للأمة إلا أن ترفع رأسها عزّة، وما لخصومها إلا أن يتقوا بأسها، ويجنحوا لسلمها.
ومن أين لنا أن يتوجه شبابنا إلى السيادة لا يبغي بها بدلا؟ وإذا توجهوا إليها، فمن أين لنا أن يسيروا إليها في أقوم الطرق وآمنها؟
ذلك ما يجب علينا أن نفكر فيه بجد، ونبذل في سبيله كل جهد. نعم!
ذهبنا بالفكر في كل مذهب، ورجعنا إلى التاريخ والتجارب، فلم ندع بعيداً إلا دنونا منه، ولا شافياً إلا كشفنا غطاءه، فلم نر لشبابنا سيرة تجعلهم خير شباب أخرج للناس، إلا أن نراهم يستنيرون بهدى الله، ويتنافسون في التجمل بآداب شريعته الغرّاء:
أدب الفتى في أن يُرى متمسكاً
…
بأوامرٍ من ربّه ونواهي
إن الدين ليهدي للتي هي أقوم!
يطبع النفوس على الأخلاق السمحة الكريمة؛ ويضع أمامها موازين تستبين به الرشد من الغي، ويريها كيف تحيا الحياة الزاهرة المطمئنة.
فإذا تلقن شبابنا حقائق الدين نقية من كل بدعة، وابتهجت نفوسهم بحكمته ابتهاج البلد الطيب بالغيث النافع، فقد أعددنا للخوض في غمار
الحياة رجالاً لا يكتفون بالخُطب تلقى على المنابر، ولا بالمقالات تحرر على المكاتب، بل يعلمون فيقولون، ويقولون فيفعلون.
وأراكَ تفعلُ ما تقولُ، وبعضُهم
…
مذقُ اللسان يقولُ ما لايفعلُ
إن الإيمان ليملأ القلوب إجلالاً للواحد الخلّاق، ومَنْ أجلَّ مقامَ خالقه، صغر في عينه كل جبار مخلوق، ومن الأمراض التي تأكل من كرامة الأمم أكلاً ذريعا، وترمي بالمهانة في أوطانها: أن ترهب سطوة المخلوق رهبة تمنعها من أن تقول في صدق، أو تعمل في حكمة.
فحقيق بشبابنا أن يكون الإيمان الصادق رائدهم، فإنا لا نرى من ضعيف الإيمان عملاً إلا أن يكون مخلوطا برياءة ولا نرى له من سيرة إلا أن تنحرف إلى الشمال مرة، وتتأخر إلى الخلف مرة أخرى.
وإذا كان في الأنابيبِ حيفٌ
…
وقعَ الطيشُ في صدورِ الصِّعادِ
وإذا قيل: إن الذمم تباع وتشترى، فإن ذمم المؤمنين الصادقين، لا يملك ثمنها إلا رب العالمين.
كنا رأينا من بعض شبابنا انحرافاً عن الرشد، فخشينا أن تسري عدوى هذا الانحراف إلى سائر الشباب، فتصبح مصر - وهي زعيمة الأقطار الشرقية - مبعث الجحود والإباحية، ولكنا لم نلبث أن رأينا شباباً في المدارس العالية يحرصون على تلقي دروس علوم الدين، ويتبينون أحكامه وآدابه، ويتصلون بالجمعيات الإسلامية، بل أقول: إن للشباب الفضل في إنشاء هذه الجمعيات، أو المؤازرة على نهوضها.
والواقع أن ما قام به بعض العاملين من دعوة الشباب إلى الدين، قد أتى بثمر على قدر الجهاد الذي بذل في هذا السبيل.
فمتى اتسعت دائرة هذا الجهاد، وكثر العاملون في صفوفه من رجال العلم، ووجه أولو الشأن عنايتهم للتربية الدينية أكثر مما وجهوا، متى تحقق هذا الأمل - ولا أراه إلا متحققاً -، أدركنا ما نبتغي من شرف وقوة، وفزنا بحياة آمنة المسالك، محمودة العواقب، ذلك وعد الله، والله لا يخلف الميعاد.