الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وانتشر في السودان، وبلغ بلاد "السنغال"، و"غيانا"، و"ساحل العاج"، و"سيراليونا"، و"نيجيريا"، و"ساحل الذهب"، و"توجو"، و"الكمرون"، وجنوب أفريقية "مستعمرة الكاب"، و"مدغشقر"، و"زنجبار"، و"بلاد الحبشة".
وانتشر الإسلام بالفتح العثماني في آسيا الصغرى، والآستانة، وشرقي أوربا، وهو اليوم في بولونيا، ويوغوسلافيا، وألبانيا، وبلاد اليونان. وانتشر في المغول "التتار"، وبلاد روسيا بالدعوة الخالصة.
*
عوامل انتشار الإسلام:
انتشر الإسلام ذلك الانتشار الواسع المدى في زمن غير بعيد، بعوامل اقتضتها حكمة الله:
وأول هذه العوامل: متانة أصول الدين، وسماحة شريعته، ووضاءة ما دعا إليه من أخلاق وآداب، فإذا صادفت الدعوة ذا فطرة سليمة، وعقل راجح، فنظر فيما يدعو إليه الدين من عقائد وأحكام وآداب، لم يلبث أن يتقبل دعوته، ويصير إلى إيمان لا تزلزله عواصف التضليل.
في خطاب العلاء الحضرمي عند دعوة المنذر بن ساوي ملك البحرين: "هذا النبي الأميّ الذي والله! لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه ليته أمر به، أو ليته زاد في عفوه، أو نقص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية العقل، وفكر أهل البصر".
وكذلك قال المنذر في جواب العلاء: "قد نظرت في هذا الأمر الذي في يدي، فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم، فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة، وراحة الموت".
ولما بلغ أبا ذزّ الغفاري مبعثُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل أخاه إلى مكة؛ ليسمع من قول النبي - صلوات الله عليه -، ويأتيه بخبره، فانطلق إلى مكة، وعاد إلى أبي ذر، وقال له:"رأيته يأمر بمكارم الأخلاق".
وكذلك قال المقوقس عندما جاءه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإسلام: "إني قد نظرت في أمر هذا النبي، فوجدته لا يأمر بمزهود فيه، ولا ينهى إلا عن مرغوب عنه".
وسلك الكتاب والسنّة في كثير من هذه الأصول والأحكام والآداب طريق الاحتجاج لها، وبيان الداعي لها، وما يترتب عليها من المصالح؛ لتزداد القلوب إيماناً بصحتها، وتطمئن إلى أن دعوة هذا الدين دعوة قائمة على رعاية المصالح؛ كما قال تعالى في الاستدلال على الوحدانية:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقال صلى الله عليه وسلم في علة النهي عن بيع الثمر قبل بدوِّ صلاحه:"أرأيت إذا منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟ "، وقال لمن سأله عن الاستئذان على أمه:"استأذن عليها، أتحب أن تراها عريانة؟ ".
ثانيها: استقامة الدعاة، وتحليهم بما يدعون إليه من خير. وانظر إلى قول ملك عمان لعمرو بن العاص إذ أبلغه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً إلى الإسلام:"إنه والله! لقد دلني على هذا النبي الأمي: أنه لا يأمر بخير إلا كان أول من أخذ به، ولا ينهى عن شر إلا كان أول تارك له، وأنه يَغلب فلا يبطر، ويُغلب فلا يضجر، وأنه يفي بالعهد، وينجز الموعود".
ومن نظر في تاريخ الخلفاء الراشدين، وجدهم يقتدون برسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل: الزهد في الدنيا، والعدل في القضاء، والجد في العبادة، فكانوا
دعاة للإسلام بسيرتهم قبل أن يدعوا إليه بالسنتهم.
وفد على الخليفة الأول ذو الكلاع من ملوك اليمن، ولما شاهد ما كان عليه الخليفة أبو بكر من الزهد والتواضع، أخذ يتزيا بزيه حتى رئي ذو الكلاع وهو حامل لجلد شاة، فأنكر عليه بعض قومه أن يفعل هذا بين المهاجرين والأنصار. فقال:"أفأردتم أن كون ملكاً جباراً في الإسلام؟ لا والله! لا تكون طاعة الرب إلا بالتواضع والزهد".
وانظر إلى ما كانوا يوصون به عمالهم من إنصاف أهل الذمة، وعدم إيذائهم، ومن هذا ما رواه الطبري في "تاريخه": أن عمر كتب إلى أمير البصرة أن يبعث إليه جماعة من ذوي الرأي والبصيرة، فأرسل إليه وفدأ فيهم الأحنف ابن قيس، فسألهم عن أهل الذمة، وقال: أيشكون ظلماً؟ فقالوا: لا. ولم يكتف بهذا حتى سأل الأحنف، وكان يطمئن له ويثق بخبره، فأجاب بمثل جوابهم، ثم صرفهم.
ومن نظر إلى تاريخ أمراء الجيوش الفاتحة للفرس والعراق والشام ومصر وأفريقية، رآهم على سير قيمة، وآداب سنية، يكبرهم من أجلها المخالفون، وأقل ما يكون لها من الأثر: أن تستدعيهم إلى النظر في الدين الذي هو يدعو إليه هؤلاء العظماء.
أرسل المقوقس رسلاً إلى عمرو بن العاص، فحبسهم عمرو عنده يومين وليلتين؟ ليروا حال المسلمين، فلما عادوا إلى المقوقس، وصفوا له المسلمين فقالوا: "رأينا قوماًالموتُ أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إلى أحدهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، إنما جلوسهم على التراب، وكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم،
ولا السيد منهم من العبد، وإذا حضرت الصلاة، لم يتخلف منهم أحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم".
وإن شئت شاهداً على أن استقامتهم كانت قائمة على خشية الله، لا على الخوف من رئيسهم الأعلى، فذلك عمير بن سعد عاملُ عمر بن الخطاب على حمص: وفد على عمر، وسأله عن أشياء، ثم قال له: عد إلى عملك. فقال: لا تردني إلى عملي؛ فإني لم أسلم منه. حتى قلت لذمي: "أخزاك الله"، ولقد خشيت أن يخصمني له محمد صلى الله عليه وسلم، فقد سمعته يقول:"أنا حجيج المظلوم، فمن حاججته، حججته"، ولكن ائذن لي إلى أهلي، فأذن له، فأتى أهله (1).
ثالثها: حكمة طرق الدعوة، فإن القرآن الكريم أرشد الدعاة إلى الأخذ بالحكمة والموعظة الحسنة، وأمرهم أن يتحروا في مجادلاتهم أحسن الطرق.
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ومن ينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده يأخذ في الدعوة بالطرق التي تجعلها مالوفة للعقول، قريبة من القلوب، فكان يعرضها في لين من القول، ويخاطب كل قوم بما يفهمون، ولا يخاطب أحداً إلا بما يحتمله عقله، وينظر إلى النفوس وما يلابسها من علل وشبهات، ويضع كلامه موضع الدواء الناجع.
وانظر قصة دعوته عدي بن حاتم حين دخل عليه في المسجد، فأخذ بيده، وانطلق به إلى بيته، وأخذ يدعوه إلى الحق، ويعالج ما في نفسه من شبه، ويزيحها في رفق، ومما يروى في هذه القصة: أنه قال له: "لعلك إنما يمنعك
(1)"سراج الملوك" للطرطوشي.
من دخول في هذا الدين ما ترى من كثرة عدوهم، وقلة عددهم، فإن طالت بك حياة، لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله، ولعلك إنما يمنعك من دخول فيه أنك ترى أن الملك والسلطان في غيرهم، ولئن طالت بك حياة، لتفتحن كنوز كسرى"، قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: "كسرى هرمز"، (1) فأسلم عدي، وكان من أصدق الناس إيماناً.
وقد تعلم الناس من القرآن والسيرة النبوية كيف يدعون إلى الدين والإصلاح على طريق الحكمة، وكانت هذه الحكمة من وسائل نجاح الدعوة، وذهابها إلى أقصى الشرق والغرب.
رابعها: بلاغة القول، وحسن البيان، ذلك أن بلاغة الداعي مما يأخذ إلى قبول الدعوة؛ فإن إخراج الحق في صورة واضحة جميلة يسرع بإلقائه في النفوس، وإذا نظرت إلى الرسل الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بهم للدعوة، وتدبرت في المخاطبات التي كانت تجري بينهم وبين الملوك أو غيرهم من المدعوين، وجدتهم من أبدع الناس بياناً، وأعرفهم بالطرق التي تنفذ منها الدعوة إلى القلوب المستعدة إلى الرشد.
وانظر إلى دعوة المهاجر بن أمية للحارث بن عبد كلال، فمما يقول فيها: "فإذا نظرت في غلبة الملوك، فانظر في غالب الملوك، وإذا سرّك يومك، فخف غدك، وقد كان قبلك ملوك ذهبت آثارهم، وبقيت أخبارهم، عاشوا طويلاً، وأملوا بعيداً، وتزودوا قليلاً، منهم من أدركه الموت، ومنهم
(1) انظر: "سيرة ابن هشام"، وكتاب: علامات النبوة من "الجامع الصحيح" للإمام البخاري.
من أكلته النقم، وإني أدعوك إلى الرب الذي إن أردت الهدى، لم يمنعك، وإن أرادك، لم يمنعك منه أحد".
ثم انظر إلى دعوة عمرو بن أمية الضمري للنجاشي، فمما يقول فيها:"إن عليَّ القول، وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا، وكأنا بالثقة بك منك؛ لأنا لم نظن بك خيراً قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمنّاه، وقد أخذنا عليك الحجة من فيك، الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك وقع المحزّ، وإصابة المفصل، وإلا، فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى بن مريم".
وإذا عُدَّ بذل المال في وسائل نجاح الدعوة، فلأن الإحسان يزيل ما في النفوس من نفور، فيهيئها للنظر في أمر الرسالة، والتأمل في دلائلها، فإذا أذن الشارع بصرف جانب من المال لبعض من لم تطمئن قلوبهم بالإيمان، فإنما أذن في وسيلة من وسائل لفت النفوس المتجافية عن الحق إلى النظر في أمره، لعلها تصل إلى العقيدة الصادقة.
قال بعض من نَفَّلهم النبي صلى الله عليه وسلم، من غنيمة هوازن:(لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض الخلق إليّ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق إليّ).
أما عن سوء سيرة رؤساء الأمم غير المسلمة، وعنف سياستهم، فذلك سبب لنفور أولئك الأقوام منهم، ووهن عزائمهم في الدفاع عن عروشهم، فيصح أن يعد من ميسرات تلك الفتوح التي هي وسيلة إلى الاتصال بالشعوب، وذلك الاتصال وسيلة إلى اطلاعها على مزايا الإسلام، ومحاسن آدابه، فتدخل فيه بركبة تملأ أفئدتها.