الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أصول الإصلاح الاجتماعي
(1)
يعمل المصلحون على أن تكون شؤون أممهم الاجتماعية في نظام وصفاء، ولا تستقيم هذه الشؤون، وتخلص من كل كدر، إلا حيث تكون الأمة قد استوفت وسائل القوة والمنعة، وهي: الارتواء من مناهل العرفان، والرسوخ في مكارم الأخلاق، والاعتصام بحبل الائتلاف والاتحاد، وتوفير الأيدي على العمل لكسب الأرزاق. وهذه الوسائل الأربع إنما تعود على النفس بطمأنينة، وتذيقها طعم حياة لذيذة متى سبقها إيمان يضرب بأشعته في كل سبيل.
فتفاضل الأمم في مراقي العزة والقوة، يجري على قدر تفاوتها في الإيمان والعلم وكرم السجايا، ومتانة الاتحاد، والسعي لاكتساب الطيّب من الرزق.
أما الإيمان، فهو النور الذي يسعى بين أيدي الجماعة، يرد بها كل ورد عذب، ويرتاد بها كل مرعى خصب، وهو الوسيلة التي يبتغون بها رضا الخالق - جل شأنه -، وإذا ظفروا برضا الخالق، وفّقهم لكل عمل مجيد، وجعلهم إذ يجارون غير المؤمنين هم السابقين، وإذ يناضلون غير المؤمنين هم الفائزين.
(1) مجلة "الهداية الإسلامية" - الجزء العاشر من المجلد السابع عشر.
وقد دل التاريخ الصادق، والمشاهدات المتواصلة على أن المنتمين إلى دين حق، لا يدركهم خمول، ولا تعلو عليهم يد ممن سواهم إلا حيث يتضاءل الإيمان في قلويهم تضاؤلاً ينسيهم جلال علاّم الغيوب، ولا يبقى لحكمته البالغة عليهم من سبيل.
والسياسة الرشيدة تعلم يقيناً أن للإيمان الصحيح فضلاً في تقوية صلات الألفة والاتحاد، وفضلاً في تهذيب النفوس، وانتظام الأمن في البلاد، فتوجه عنايتها إلى تربية النشء على تعظيم أمر الله تعظيماً يتجه بهم إلى أفضل السير، وأحمدها عاقبة، وفي الحق أن من يضع في نفس الناشئ إيماناً مسنداً إلى حجة، إنما يبني فيها أساساً للسيرة القويمة، والعواطف الكريمة.
وأما العلم، فنريد منه: المعارف التي طلعت من أفق النبوة الصادقة، واستنبطتها العقول الثاقبة، أو ثمرتها التجارب الصحيحة، وفضل هذه العلوم في استبانة طرق الفلاح، واستكشاف ما في هذا العالم من أسرار، وتوفير أسباب الراحة في هذه الحياة، واضح بحيث يشهد به كل ذي باصرة، أو أذن واعية. والذي أرى التنبيه له في هذا المقام: هو أن الشرف إنما جاء على العلم من ناحية العمل به، فلو بلغ شخص الدرجة القصوى في علم من العلوم، ولم يكن لهذا العلم في حياته العملية من أثر، لكان هو والجاهل به سواء. فلا فضل للعالم بالشريعة إلا أن يقف بجانب حمايتها، ويأخذ نفسه بآدابها، ولا فضل للعالم بالهندسة، إلا أن يكون له قسط في تثبيت قواعد العمران والحضارة، ولا فضل لدارس الطبيعة، إلا أن يضع يده فيما يجلب للإنسانية راحة، أو يزيح عنها نصباً، ولا يحق لدارس علم أن يعد نفسه في قبيل أهل ذلك العلم، إلا أن يستطيع تحقيقه في صور عملية، كما يفعل
علماؤه الراسخون، والطالب الذي يقبل على العلم بداعية قوية من نفسه، هو الذي يسير فيه إلى أقصى غاية، ولا يرضى إلا أن يتجه به إلى الناحية الحيوية التي وُضع ودوِّن لإصلاحها.
وليس من شك في أن المعلم الذي يدرّس علماً برغبة من نفسه، هو الذي يصلح لأن يناط به العمل الذي يتصل بذلك العلم، وهو الذي يرجى لأن ينهض به في غير سآمة، ويعده عزمه على أن يقوم به أفضل قيام.
وأما أثر الأخلاق في رقي الاجتماع، فإن كل خلق يسد ثغرة في بناء المجتمع لا يسدها غيره، فالحاجة إلى إقامة المشروعات الكبيرة ثغرة لا يسدها إلا خلق السخاء، والحاجة إلى دفاع البغاة ثغرة لا يسدها إلا الشجاعة، ورباطة الجأش، والحاجة إلى حرية الدعوة إلى الحق لا يسدها إلى إقدام الدعاة، وحلم أولياء الأمور وأناتهم، ولطالما لهجت الألسنة والأقلام بتمجيد الأخلاق، ونوهت بما لها من فضل في الصعود بالأفراد والأمم إلى أوج السؤدد والكرامة، والذي يحتاج إلى ألمعية مهذبة، وبصيرة نافذة، إنما هو استبانة الطريق التي تسلك لتربية نشأتنا على الأخلاق الماجدة تربية تجعلهم يقدرونها حق قدرها، ويتنافسون فيها كما يتنافسون في العلوم والفنون. ولا يسعني في هذا المقام إلا أن أقول:
إن المعاهد والمدارس التي يدرَّس فيها علم الأخلاق، ويكون رؤساؤها وأساتذتها أنفسهم مثلاً كاملة للأخلاق الراقية، هي الكفيلة بأن تخرج لنا نشئاً نباهي بسمو أخلاقهم، قبل أن نباهي بغزارة علومهم، ورجاجة عقولهم، وطلاقة ألسنتهم.
قال عمرو بن عتبة لمعلم أولاده: ليكن أول إصلاحك لولدي إصلاحك
لنفسك، فالحسن عندهم ما صنعت، والقبيح ما تركت.
وأما الاعتصام بحبل الائتلاف والاتحاد، فإن في الناس من تقصر يده عن الوصول إلى حقوقه الشخصية، ومآربه الحيوية، إلا أن يعينه عليها قوم آخرون، كما أن من مقتضيات الحياة الاجتماعية ما يتعذر القيام به إلا أن تتمالأ عليه الجماعات الكثيرة، والتعاون الفردي أو الاجتماعي إنما يصدر عن ائتلاف وتعاطف يجعل الأمة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، فإن تفرقت القلوب، ضاعت المصالح الفردية، واختل أمر المصالح الوطنية، وصارت البيوت بحال القبور، وإن كانت مفتحة الأبواب، وسكانها بحال الجثث الهامدة، ولكنهم لا يستغنون عن الطعام والشراب.
وأما الثروة، فتدخل في أصول الإصلاح؛ من ناحيةِ أن كثيراً من المصالح الحيوية لا تقام إلا أن يبذل في سبيلها مال غزير، ثم إن كثيراً من الأخطار الداهمة لا يكفي في دفعها إلا قوة يسعدها الأغنياء بأموالهم قبل أن يسعدها الحكماء بآرائهم، وإذا استطاع الفرد أن يعيش في قلة من المال، وهو حافظ لكرامته، فإن الأمة لا تعيش حافظة لكرامتها إلا أن تكون في خزائنها أو بيت مالها ما يسد حاجاتها، ويكفل لها السلامة من كل قوة تحاول أن تسلبها حقاً من حقوقها.
وشعر الناس في القديم بمزية المال، ومساعدته لذي الهمم الكبيرة على أن يدركوا من الحمد ما لا يدركه المقلّون منهم، كما قال أحد أدبائهم:
أريد بسطة مالٍ أستعين بها
…
على أداءِ حقوق للعلا قِبَلي
وكذلك الأمم لا تدرك سيادتها كاملة إلا أن تضيف إلى ما لديها من بسطة العلم وسماحة الأخلاق بسطة في الأرزاق، وقد جعل الله تعالى
لبسطة الرزق أسباباً، وجعل تعاطي هذه الأسباب صالحة معدوداً في الطاعات التي يجازي عليها بالحياة الطيبة في الدنيا، والنعيم الخالد في الآخرة، والزهد الذي يعد في جملة الفضائل لا يراد منه إيثار الفقر على الغنى في كل حال، وإنما يراد منه طهارة القلب من التعلق بالملذات والزينات تعلقاً يدفع إلى الوصول إليها ولو من طرق خبيثة، والتوكل على الله الذي هو شعبة من شعب الإيمان المثمر إنما هو قوة اتجاه القلب إلى الخالق عند العزم على العمل، حتى يسعده بالتوفيق، ويمده بالتأييد، وشاهد هذا قوله تعالى:{فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].