المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١٣

[ابن جرير الطبري]

الفصل: على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني

على قول من قال: معناه: أنا أول المؤمنين من بني إسرائيل= لأنه قد كان قبله في بني إسرائيل مؤمنون وأنبياء، منهم ولدُ إسرائيل لصُلْبه، وكانوا مؤمنين وأنبياء. فلذلك اخترنا القول الذي قلناه قبل.

* * *

ص: 105

القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ‌

(144) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، قال الله لموسى:"يا موسى إني اصطفيتك على الناس"، يقول: اخترتك على الناس (1) = "برسالاتي" إلى خلقي، أرسلتك بها إليهم = "وبكلامي"، كلمتك وناجيتك دون غيرك من خلقي. = "فخذ ما آتيتك" يقول: فخذ ما أعطيتك من أمري ونهيي وتمسك به، واعمل به [

] (2) = "وكن من الشاكرين"، لله على ما آتاك من رسالته، وخصك به من النجوى، (3) بطاعته في أمره ونهيه، والمسارعة إلى رضاه.

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((الاصطفاء)) فيما سلف 3: 91، 96 / 5: 312 / 6: 326، 393.

(2)

(2) في المطبوعة: ((واعمل به يريد)) وفي المخطوطة: ((واعمل به يديك)) ، ولا معنى لذلك هنا، وكأنها محرفة عن ((بجد)) أو ما أشبه ذلك، ولكني لم أحسن معرفتها، فتركت مكانها نقطا بين قوسين. وانظر تفسير قوله في ((سورة البقرة)) : 63 ((خذوا ما آتيناكم بقوة)) ج2: 160، 161.

(3)

(3) في المطبوعة والمخطوطة: ((وحصل به من النجوى)) ، وصواب قراءتها ما أثبت.

ص: 105

القول في تأويل قوله: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكتبنا لموسى في ألواحه.

* * *

وأدخلت الألف واللام في "الألواح" بدلا من الإضافة، كما قال الشاعر:(1)

والأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِب (2)

وكما قال جل ثناؤه: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى)، [سورة النازعات: 41] ، يعني: هي مأواه. (3)

* * *

وقوله: "من كل شيء"، يقول: من التذكير والتنبيه على عظمة الله وعز سلطانه= "موعظة"، لقومه ومن أمر بالعمل بما كتب في الألواح (4) = "وتفصيلا لكل شيء"، يقول: وتبيينًا لكل شيء من أمر الله ونهيه. (5)

* * *

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

15106-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =: أو سعيد بن جبير، وهو في أصل

(1)(1) هو النابغة الذبيانى.

(2)

(2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 5: 160، تعليق: 3، ولم يذكر هناك موضعه هناك، فليقيد، والبيت، بروايته آنفاً:لَهُمْ شِيمَةٌ لم يُعْطِها الدَّهْرُ غَيْرَهُمْ

من الناسِ، فَالأحْلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ

(3)

(3) انظر ما سلف 5: 160، 161.

(4)

(4) انظر تفسير ((الموعظة)) فيما سلف من فهارس اللغة (وعظ) .

(5)

(5) انظر تفسير ((التفصيل)) فيما سلف ص: 68، تعليق: 5، والمراجع هناك.

ص: 106

كتابي: عن سعيد بن جبير= في قول الله: "وتفصيلا لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.

15107-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.

15108-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء"، من الحلال والحرام.

15109-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، سمعت مجاهدا يقول في قوله:"وتفصيلاً لكل شيء"، قال: ما أمروا به ونهوا عنه.

15110-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال عطية:(1) أخبرني ابن عباس: أن موسى صلى الله عليه وسلم انْصَلتَ لما كربه الموت، (2) قال: هذا من أجل آدم! قد كان الله جعلنا في دار مثوًى لا نموت، فخطأ آدم أنزلنا هاهنا! فقال الله لموسى: أبعث إليك آدم فتخاصمه؟ قال: نعم! فلما بعث الله آدم، سأله

(1)(1) هو ((عطية العوفي)) ، وهو جد ((محمد بن سعد)) الأعلى. انظر تفسير هذا الإسناد في رقم:305.

(2)

(2) في المطبوعة، والدر المنثور 3: 21: ((أن موسى صلى الله عليه وسلم لما كربه الموت)) . أسقط الذي كتبت: ((انصلت)) ، وهي في المخطوطة هكذا:((الطيب)) غير منقوطة، ولم أجد لها لفظاً يطابق رسمها، ويجرى في معناها أقرب من ((انصلت)) . يقال:((انصلت في الأمر)) ، إذا انجرد وأسرع. يقال:((انصلت يعدو)) إذا أسرع، و ((المنصلت)) : المسرع من كل شيء. وقد روى البخاري في صحيحة، عن أبي هريرة قال: أرسل ملك الموت إلى موسى عليه السلام. فلما جاءه صكه فرجع إلى ربه عز وجل فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد أن يموت، الحديث. فكأن هذا كان منه لما كره الموت وأبغضه، فأسرع لما رآه يقول ما قال. هذا ما رأيت، وفوق كل ذي علم عليم. وانظر أخبار وفاة موسى عليه السلام في البداية والنهاية 1: 316 - 319.

ص: 107

موسى، فقال أبونا آدم عليهما السلام: يا موسى، سألت الله أن يبعثني لك! قال موسى: لولا أنت لم نكن هاهنا! قال له آدم: أليس قد أتاك الله من كل شيء موعظة وتفصيلا أفلست تعلم أنه ما أصاب في الأرض من مصيبة ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن يبرأها؟ (1) قال موسى: بلى! فخصَمه آدم صلى الله عليهما. (2)

15111-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول في قوله: "وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء"، قال: كتب له: لا تشرك بي شيئًا من أهل السماء ولا من أهل الأرض، فإن كل ذلك خلقي. لا تحلف باسمي كاذبًا، فإن من حلف باسمي كاذبًا فلا أزكِّيه، ووقِّر والديك.

* * *

القول في تأويل قوله: {فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقلنا لموسى إذ كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء: خذ الألواح بقوة.

* * *

وأخرج الخبر عن "الألواح"، والمراد ما فيها.

* * *

(1)(1) هذا تضمين آية ((سورة الحديد)) : 22.

(2)

(2) الأثر: 15110 - هذا خبر ضعيف الإسناد جداً، كما سلف في شرح إسناده رقم:305. واحتجاج آدم وموسى عليهما السلام، روى خبره البخاري ومسلم، وسائر كتب السنن، وانظر فصلا جيداً جمعه ابن كثير في البداية والنهاية 1: 81 - 85. ويقال: ((خاصمه، فخصمه)) أي غلبه في الخصام. وهو الاحتجاج.

ص: 108

واختلف أهل التأويل في معنى "القوة"، في هذا الموضع.

فقال بعضهم: معناها بجدٍّ.

* ذكر من قال ذلك:

15112-

حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا ابن عيينة قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فخدها بقوة"، قال: بجدّ.

10113-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فخذها بقوّة"، قال: بجد واجتهاد.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك، فخذها بالطاعة لله.

* ذكر من قال ذلك:

15114-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:"فخذها بقوة"، قال: بالطاعة.

* * *

وقد بينا معنى ذلك بشواهده، واختلاف أهل التأويل فيه، في "سورة البقرة" عند قوله:(خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ)[سورة البقرة: 63] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قلنا لموسى: "وأمر قومك"، بني إسرائيل = "يأخذوا بأحسنها"، يقول: يعملوا بأحسن ما يجدون فيها، كما:-

(1)(1) انظر ما سلف 2: 160، 161.

ص: 109

15115-

حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، بأحسن ما يجدون فيها.

15116-

حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، قال: أمر موسى أن يأخذها بأشدّ مما أمر به قومه.

* * *

فإن قال قائل: وما معنى قوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"، أكان من خصالهم ترك بعض ما فيها من الحسن؟.

قيل: لا ولكن كان فيها أمرٌ ونهيٌ، فأمرهم الله أن يعملوا بما أمرهم بعمله، ويتركوا ما نهاهم عنه، فالعمل بالمأمور به، أحسنُ من العمل بالمنهي عنه.

* * *

القول في تأويل قوله: {سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لموسى، إذ كتب في الألواح من كل شيء: خذها بجدّ في العمل بما فيها واجتهاد، وأمر قومك يأخذوا بأحسن ما فيها، وانههم عن تضييعها وتضييع العمل بما فيها والشرك بي، فإن من أشرك بي منهم ومن غيرهم، فإني سأريه في الآخرة عند مصيره إليّ، "دارَ الفاسقين"، وهي نار الله التي أعدها لأعدائه. (1)

* * *

وإنما قال: "سأريكم دار الفاسقين"، كما يقول القائل لمن يخاطبه:"سأريك غدًا إلامَ يصير إليه حال من خالف أمري! "، على وجه التهدُّد والوعيد لمن عصاهُ وخالف أمره. (2)

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((الفسق)) فيما سلف. ص: 11، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)

(2) في المطبوعة ((على وجه التهديد)) وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.

ص: 110

وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم بنحو ما قلنا في ذلك.

* ذكر من قال ذلك:

15117-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سأريكم دار الفاسقين"، قال: مصيرهم في الآخرة.

15118-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

15119-

حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، في قوله:"سأريكم دار الفاسقين"، قال: جهنم.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: سأدخلكم أرض الشام، فأريكم منازل الكافرين الذين هم سكانها من الجبابرة والعمالقة.

* ذكر من قال ذلك:

15120-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"سأريكم دار الفاسقين"، منازلهم.

15121-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة:"دار الفاسقين"، قال: منازلهم.

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: سأريكم دار قوم فرعون، وهي مصر.

* ذكر من قال ذلك:

..................................................................................................

ص: 111

..............................................................................................

(1)

* * *

قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لأن الذي قبل قوله جل ثناؤه:"سأريكم دار الفاسقين"، أمرٌ من الله لموسى وقومه بالعمل بما في التوراة. فأولى الأمور بحكمة الله تعالى أن يختم ذلك بالوعيد على من ضيّعه وفرَّط في العمل لله، وحاد عن سبيله، دون الخبر عما قد انقطع الخبر عنه، أو عما لم يجر له ذكر.

القول في تأويل قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.

فقال بعضهم: معناه: سأنزع عنهم فهم الكتاب.

* ذكر من قال ذلك:

15122-

حدثنا أحمد بن منصور المروزي قال، حدثني محمد بن عبد الله بن بكر قال: سمعت ابن عيينة يقول في قول الله: "سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق"، قال يقول: أنزع عنهم فهم القرآن، وأصرفهم عن آياتي. (2)

* * *

(1)(1) هكذا بياض بالمخطوطة قدره خمسة أسطر، وبهامش المخطوطة بالمداد الأحمر:((نقص، كذا الأصل)) .

(2)

(2) الأثر: 15122 - ((أحمد بن منصور بن سيار الرمادى)) ، شيخ الطبري، مضى برقم: 10260، 10521. و ((محمد بن عبد الله بن بكر بن سليمان الخزاعى الصنعانى الخلنجى)) ، صدوق. روى عنه النسائى، وأبو حاتم وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/295.

ص: 112

قال أبو جعفر: وتأويل ابن عيينة هذا يدل على أن هذا الكلام كان عنده من الله وعيدًا لأهل الكفر بالله ممن بعث إليه نبينا صلى الله عليه وسلم، دون قوم موسى، لأن القرآن إنما أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم دون، موسى عليه السلام.

* * *

وقال آخرون في ذلك: معناه: سأصرفهم عن الاعتبار بالحجج.

* ذكر من قال ذلك:

15123-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"سأصرف عن آياتي"، عن خلق السموات والأرض والآيات فيها، سأصرفهم عن أن يتفكروا فيها ويعتبروا.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه سيصرف عن آياته، وهي أدلته وأعلامه على حقيقة ما أمر به عباده وفرض عليهم من طاعته في توحيده وعدله، (1) وغير ذلك من فرائضه. والسموات والأرض، وكل موجود من خلقه، فمن آياته، والقرآن أيضًا من آياته، (2) وقد عم بالخبر أنه يصرف عن آياته المتكبرين في الأرض بغير الحق، وهم الذين حقَّت عليهم كلمة الله أنهم لا يؤمنون، فهم عن فهم جميع آياته والاعتبار والادّكار بها مصروفون، لأنهم لو وفِّقوا لفهم بعض ذلك فهُدوا للاعتبار به، اتعظوا وأنابوا إلى الحق، وذلك غير كائن منهم، لأنه جلّ ثناؤه قال:(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا) ، فلا تبديل لكلمات الله.

* * *

(1)(1) في المطبوعة: ((على حقيقة ما امر به عباده)) ، فعل بها ما فعل بسوابقها. انظر ما سلف ص: 68، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(2)

(2) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .

ص: 113

القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن ير هؤلاء الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و= "وتكبرهم فيها بغير الحق"، تجبرهم فيها، واستكبارهم عن الإيمان بالله ورسوله، والإذعان لأمره ونهيه، (1) وهم لله عبيدٌ يغذوهم بنعمته، (2) ويريح عليهم رزقه بكرة وعشيًّا، (3) = "كل آية"، يقول: كل حجة لله على وحدانيته وربوبيته، وكل دلالة على أنه لا تنبغي العبادة إلا له خالصة دون غيره. (4) = "لا يؤمنوا بها"، يقول: لا يصدقوا بتلك الآية أنها دالة على ما هي فيه حجة، ولكنهم يقولون:"هي سحر وكذب" = "وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا"، يقول: وإن ير هؤلاء الذين وصف صفتهم طريق الهدى والسداد الذي إن سلكوه نجوا من الهلكة والعطب، وصاروا إلى نعيم الأبد، لا يسلكوه ولا يتخذوه لأنفسهم طريقًا، جهلا منهم وحيرة (5) = "وإن يروا سبيل الغي"، يقول: وإن يروا طريق الهلاك الذي إن سلكوه ضلّوا وهلكوا.

* * *

وقد بينا معنى "الغي" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (6)

(1)(1) انظر تفسير ((التكبر)) فيما سلف: 70، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)

(2) في المطبوعة: ((يغدوهم)) بالدال المهملة، والصواب ما أثبت.

(3)

(3)((أراح عليه حقه)) ، رده عليه، يقول الشاعر:إلا تريحى علينا الحق طائعة

دُونَ القُضَاةِ، فَقَاضِينَا إلَى حَكَمِ

(4)

(4) انظر تفسير ((آية)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .

(5)

(5) انظر تفسير ((السبيل)) فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) . = وتفسير ((الرشد)) فيما سلف 3: 482 / 5: 416 / 7: 576.

(6)

(6) انظر تفسير ((الغي)) فيما سلف 5: 416 / 12: 333.

ص: 114

"يتخذوه سبيلا"، يقول: يسلكوه ويجعلوه لأنفسهم طريقًا، لصرف الله إياهم عن آياته، وطبعه على قلوبهم، فهم لا يفلحون ولا ينجحون= "ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين"، يقول تعالى ذكره: صرفناهم عن آياتنا أن يعقلوها ويفهموها فيعتبروا بها ويذكروا فينيبوا، عقوبةً منا لهم على تكذيبهم بآياتنا = "وكانوا عنها غافلين"، يقول: وكانوا عن آياتنا وأدلتنا الشاهدة على حقيقة ما أمرناهم به ونهيناهم عنه= "غافلين"، لا يتفكرون فيها، لاهين عنها، لا يعتبرون بها، فحق عليهم حينئذ قول ربنا فعَطِبوا. (1)

* * *

واختلف القرأة في قراءة قوله: "الرشد".

فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض المكيين وبعض البصريين: (الرُّشْدِ) ، بضم "الراء" وتسكين "الشين".

* * *

وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة وبعض المكيين: (الرَّشَدِ) ، بفتح "الراء" و"الشين".

* * *

ثم اختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى ذلك إذا ضمت راؤه وسكنت شينه، وفيه إذا فتحتا جميعًا.

فذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان يقول: معناه إذا ضمت راؤه وسكنت شينه: الصلاح، كما قال الله:(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا)، [سورة النساء: 6] ، بمعنى: صلاحًا. وكذلك كان يقرؤه هو= ومعناه إذا فتحت راؤه وشينه: الرشد في الدين، كما قال جل ثناؤه:(تُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)[سورة الكهف: 66] ، (2)

(1)(1) انظر تفسير ((الغفلة)) فيما سلف ص: 75، تعليق: 4، والمراجع هناك.

(2)

(2) قراءتنا وقراءة السبعة: ((رشدا)) (بضم الراء وسكون الشين) ، وقراءة أبي عمرو من السبعة كما ذكر أبو جعفر، ولذلك استدل بها أبو عمرو في هذا الموضع. ولم يذكر هذه القراءة أبو جعفر في تفسير الآية من سورة الكهف.

ص: 115