المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قبل من عَبَدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل - تفسير الطبري جامع البيان - ط دار التربية والتراث - جـ ١٣

[ابن جرير الطبري]

الفصل: قبل من عَبَدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل

قبل من عَبَدة العجل توبتهم بعد كفرهم به بعبادتهم العجل وارتدادهم عن دينهم. يقول جل ثناؤه: والذين عملوا الأعمال السيئة، ثم رجعوا إلى طلب رضى الله بإنابتهم إلى ما يحب مما يكره، وإلى ما يرضى مما يسخط، من بعد سيئ أعمالهم، وصدَّقوا بأن الله قابل توبة المذنبين، وتائبٌ على المنيبين، بإخلاص قلوبهم ويقين منهم بذلك= "لغفور"، لهم، يقول: لساتر عليهم أعمالهم السيئة، وغير فاضحهم بها= "رحيم"، بهم، وبكل من كان مثلهم من التائبين. (1)

* * *

القول في تأويل قوله: {وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الألْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ‌

(154) }

قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولما سكت عن موسى الغضب". ولما كفّ عنه وسكن. (2)

* * *

(1)(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية في فهارس اللغة.

(2)

(2) في المطبوعة: ((ولما كف موسى عن الغضب)) ، وهو اجتهاد من ناشر المطبوعة الأولى، ولم يصب. فإن المخطوطة أسقطت تفسير العبارة، وجاء فيها هكذا:((ولما سكت عن موسى الغضب، وكذلك كل كاف......)) ، والتفسير الذي أثبته الناشر الأول تفسير ذكره الزجاج قال:((معناه: ولما سكن. وقيل: معناه: ولما سكت موسى عن الغضب - على القلب، كما قالوا: أدخلت القلنسوة في رأس، والمعنى: أدخلت رأسي في القلنسوة. قال والقول الأول الذي معناه سكن، هو قول أهل العربية)) . ولو أراد أبو جعفر، لفسره كما فسره الزجاج، فآثرت أن أضع تفسير أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 229، لأن الذي يليه هو قول أبي عبيدة في مجاز القرآن.

ص: 137

وكذلك كل كافٍّ عن شيء: "ساكت عنه"، وإنما قيل للساكت عن الكلام "ساكت"، لكفه عنه. (1)

وقد ذكر عن يونس الجرمي أنه قال (2) يقال: "سكت عنه الحزن"، وكلُّ شيء، فيما زعم، ومنه قول أبي النجم:

وَهَمَّتِ الأفْعَى بِأَنْ تَسِيحَا وَسَكَتَ المُكَّاءُ أَنْ يَصِيحَا (3)

* * *

= "خذ الألواح"، يقول: أخذها بعد ما ألقاها، وقد ذهب منها ما ذهب = "وفي نسختها هدى ورحمة"، يقول: وفيما نسخ فيها، أي كتب فيها (4) = "هدى" بيان للحق= "ورحمة للذين هم لربهم يرهبون"، يقول: للذين يخافون الله ويخشون عقابَه على معاصيه. (5)

* * *

واختلف أهل العربية في وجه دخول "اللام" في قوله: "لربهم يرهبون"،

(1)(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 229.

(2)

(2) انظر ما سلف ص: 129، تعليق:3.

(3)

(3) لم أجد البيتين. وكان في المطبوعة: ((تسبحا)) و ((تضبحا)) ، وهو خطأ وفساد، ولأبي النجم أبيات كثيرة من الرجز على هذا الوزن، ولم أجد الرجز بتمامه. وصواب قراءة ما كان في المخطوطة هو ما أثبت.

(4)

(4) انظر تفسير ((النسخة)) فيما سلف 2: 472. = وكان في المطبوعة هنا، مكان قوله: ((أي: كتب فيها)) ، ما نصه: ((أي: منها)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتبها بخط دقيق في آخر السطر، فوصل الكلام بعضه ببعض، فساءت كتابته.

(5)

(5) انظر تفسير ((الهدى)) فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .

ص: 138

مع استقباح العرب أن يقال في الكلام: "رهبت لك": بمعنى رهبتك= "وأكرمت لك"، بمعنى أكرمتك. فقال بعضهم: ذلك كما قال جل ثناؤه: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ)، [سورة يوسف: 43] ، أوصل الفعل باللام.

* * *

وقال بعضهم: من أجل ربِّهم يرهبون.

* * *

وقال بعضهم: إنَّما دخلت عَقِيب الإضافة: الذين هم راهبون لربهم، وراهبُو ربِّهم= ثم أدخلت "اللام" على هذا المعنى، لأنها عَقِيب الإضافة، لا على التكليف. (1)

* * *

وقال بعضهم: إنما فعل ذلك، لأن الاسم تقدم الفعل، فحسن إدخال "اللام".

* * *

وقال آخرون: قد جاء مثله في تأخير الاسم في قوله: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ)[سورة النمل: 72] . (2)

* * *

وذكر عن عيسى بن عمر أنه قال: سمعت الفرزدق يقول: "نقدت له مائة درهم"، يريد: نقدته مائة درهم. (3) قال: والكلام واسع.

* * *

(1)(1) في المطبوعة: لا على التعليق)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه يعني بقوله:((التكليف)) معنى التعليق)) ، لأن ((التكليف)) هو ((التحميل)) ، ولم أجد تفسير هذه الكلمة في مكان آخر، ولعلها من اصطلاح بعض قدماء النحاة.

(2)

(2) انظر ما سلف 6: 511 / 7: 164، ومعاني القرآن للفراء 1:233.

(3)

(3) نقله الفراء في معاني القرآن 1: 233 عن الكسائى، قال:((سمعت بعض العرب يقول: نقدت لها مئة درهم، يريد: نقدتها مئة، لامرأة تزوجها)) .

ص: 139

القول في تأويل قوله: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واختار موسى من قومه سبعين رجلا للوقت والأجل الذي وعده الله أن يلقاه فيه بهم، (1) للتوبة مما كان من فعل سفهائهم في أمر العجل، كما: -

15152-

حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناسٍ من بني إسرائيل، يعتذرون إليه من عبادة العجل، ووعدهم موعدًا، فاختار موسى قومه سبعين رجلا على عينه، ثم ذهب بهم ليعتذروا. فلما أتوا ذلك المكان قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة، فإنك قد كلمته، فأرناه! فأخذتهم الصاعقة فماتوا، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول: رَبِّ ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم، لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي! (2)

15153-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلا الخيِّر فالخيرَ، وقال: انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم، صوموا وتَطَهَّروا، وطهِّروا ثيابكم! فخرج بهم إلى طور سيْناء، لميقات وقَّته له ربه. وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم. فقال السبعون =فيما ذكر لي= حين صنعوا ما أمرهم به، وخرجوا معه للقاء ربِّه، لموسى: اطلب لنا نسمع كلام ربِّنا! فقال: أفعل. فلما دنا موسى من الجبل، وقع عليه عمودُ الغمام، حتى تغشى الجبلَ كله. ودنا موسى فدخل فيه، وقال للقوم: ادنوا! وكان موسى إذا كلمه الله وقَع على جبهته نور

(1)(1) انظر تفسير ((الميقات)) فيما سلف 3: 553 - 555 / 13: 87، 90.

(2)

(2) الأثر: 15152 - مضى مطولا برقم 958، ومراجعه هناك.

ص: 140

ساطع، لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه! فضرب دونه بالحجاب. ودنا القوم، حتى إذا دخلوا في الغمام وقَعوا سجودًا، فسمعوه وهو يكلِّم موسى، يأمره وينهاه: افعل، ولا تفعل! فلما فرغ الله من أمره، انكشف عن موسى الغمام. أقبل إليهم، (1) فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة! فأخذتهم الرجفة= وهي الصاعقة= فَافْتُلِتَتْ أرواحهم، (2) فماتوا جميعًا، وقام موسى عليه السلام يناشد ربّه ويدعوه ويرغب إليه، ويقول: رب لو شئت أهلكتهم من قبلُ وإياي! قد سفهوا! أفتهلك مَنْ ورائي من بني إسرائيل؟ (3)

15154-

حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان الله أمرَه أن يختار من قومه سبعين رجلا فاختار سبعين رجلا فبرزَ بهم ليدعوا ربَّهم. فكان فيما دَعَوُا الله قالوا: اللهم أعطِنا ما لم تعط أحدًا بعدنا! فكره الله ذلك من دعائهم، فأخذتهم الرجفة. قال موسى: ربِّ لو شئت أهلكتهم من قبل وإيَّاي!

15155-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر، عن ميمون:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: لموعدهم الذي وعدهم.

15156 -

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: اختارهم لتمام الوعد.

* * *

وقال آخرون: إنما أخذتهم الرجفة من أجل دَعْواهم على موسى قتلَ هارون.

(1)(1) في المطبوعة: ((وانكشف عن موسى......... أقبل)) ، غير ما في المخطوطة. كما فعل آنفاً في رقم:957.

(2)

(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فالتقت أرواحهم)) ، ولا معنى لها، صوابها ما أثبته. ((افتلتت نفسه)) (بالبناء للمجهول) : مات فلتة، أي بغتة. وانظر ما سلف 2: 87، تعليق:1.

(3)

(3) الأثر: 15153 - مضى هذا الخبر برقم 957، ومراجعه هناك.

ص: 141

* ذكر من قال ذلك:

15157-

حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو إسحاق، عن عمارة بن عبد السَّلولي، عن علي رضي الله عنه قال: انطلق موسى وهارون وشبر وشبير، فانطلقوا إلى سفح جَبَلٍ، فنام هارون على سرير، فتوفاه الله. فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا له: أين هارون؟ قال: توفّاه الله. قالوا: أنت قتلته، حسدتنا على خُلقه ولينه= أو كلمة نحوها= قال: فاختاروا من شئتم! قال: فاختاروا سبعين رجلا. قال: فذلك قوله: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: فلما انتهوا إليه، قالوا: يا هارون، من قتلك؟ قال: ما قتلني أحد، ولكنني توفّاني الله! قالوا: يا موسى لن تعصَي بعد اليوم! قال: فأخذتهم الرجفة. قال: فجعل موسى يرجع يمينًا وشمالا وقال: "يا رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء"، قال: فأحياهم الله وجعلهم أنبياءَ كلهم. (1)

15158-

حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن رجل من بني سلول، أنه سمع عليًّا رضي الله عنه يقول في هذه الآية:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، قال: كان هارون

(1) الأثر: 15157 - ((عمارة بن عبد السلولي)) ، هو أخو ((سليم بن عبد السلولى)) و ((زيد بن عبد السلولي)) ، قال العجلي:((هم ثلاثة إخوة: سليم بن عبد، وعمارة بن عبد، وزيد بن عبد، ثقات، سلوليون، كوفيون)) . روى عن علي، وحذيفة. لم يرو عنه غير أبي إسحق الهمداني.قال أحمد بن حنبل:((عمارة بن عبد، مستقيم الحديث، لا يروى عنه غير أبي إسحق)) . وقال أبو حاتم: ((شيخ مجهول لا يحتج بحديثه)) . مترجم في ابن سعد 6: 158، وابن أبي حاتم 3/1/367، وميزان الاعتدال 2: 248، ومر ذكره في التعليق على رقم 8754.

وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 561، 562:((وهذا أثر غريب جدا، وعمارة بن عبد هذا، لا أعرفه)) . فقد تبين مما ذكرت أنه معروف، وأن ابن كثير لم يستوعب بحثه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 128، ونسبه إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في كتاب: من عاش بعد الموت، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ ولم أجده في كتاب ((من عاش بعد الموت)) المطبوع، فدل هذا علي نقص النسخة المطبوعة منه.

ص: 142

حسنَ الخلق محبَّبًا في بني إسرائيل. قال: فلما مات، دَفَنَه موسى. قال: فلما أتى بني إسرائيل، قالوا له: أين هارون؟ قال: مات! فقالوا: قتلته! قال: فاختار منهم سبعين رجلا. قال: فلما أتوا القبرَ قال موسى: أقُتِلت أو مِتّ! قال مت! فأُصعقوا، فقال موسى: ربِّ ما أقول لبني إسرائيل؟ إذا رجعت يقولون: أنت قتلتهم! قال: فأحيُوا وجُعِلوا أنبياء.

15159-

حدثني عبد الله بن الحجاج بن المنهال قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الربيع بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد =يعني الرقاشي= وقرأ هذه الآية: "واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقال: كانوا أبناءَ ما عدا عشرين، ولم يتجاوزوا الأربعين، وذلك أن ابن عشرين قد ذهب جهلُه وصباه، وأنّ من لم يتجاوز الأربعين لم يفقد من عقله شيئًا. (1)

* * *

وقال آخرون: إنما أخذت القوم الرَّجفة، لتركهم فِراق عبدة العجل، لا لأنهم كانوا من عَبَدته.

* ذكر من قال ذلك:

15160-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، فقرأ حتى بلغ:"السفهاء منا"، ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: إنما تناولتهم الرجفة، لأنهم لم يزايلوا

(1)(1) الأثر: 15159 - ((عبد الله بن الحجاج بن المنهال)) لم أجد له ترجمة. وأبوه ((الحجاج بن المنهال الأنماطي)) ، مضى مرارا كثيرة.

و ((الربيع بن حبيب الحنفي)) ، ((أبو سعيد)) . روى عن الحسن، وابن سيرين، وأبي جعفر الباقر. روى عنه أبو داود الطيالسي، ويحيى القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث. وثقه أحمد ويحيى. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/253، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 457. و ((أبو سعيد الرقاشي)) هو فيما أرجح ((قيس، مولى أبي ساسان حضين بن المنذر الرقاشي)) . وكان أبو سعيد قليل الحديث. مترجم في ابن سعد 7/1/154 والكبير 4/1/151، وابن أبي حاتم 3/2/106. وهناك أيضا ((أبو سعيد الرقاشي)) ، البصري وهو ((بيان بن جندب الرقاشى)) ، روى عن أنس. مترجم في الكبير 1/2/133، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 424، ولسان الميزان 2:69. قال ابن حبان في الثقات: ((يخطئ)) .

ص: 143

القوم حين نَصَبُوا العجل، وقد كرهوا أن يجامِعُوهم عليه.

15161-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"، ممن لم يكن قال ذلك القول، على أنهم لم يجامعوهم عليه، فأخذتهم الرجفة من أجل أنهم لم يكونوا باينوا قومَهم حين اتخذوا العجل. قال: فلما خرجوا ودعوا، أماتهم الله ثم أحياهم. فلما أخذتهم الرجفة قال:"رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا".

15162-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو سعد قال، قال مجاهد:"واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا"= و"الميقات"، الموعد= فلما أخذتهم الرجفة بعد أن خرج موسى بالسبعين من قومه يدعون الله ويسألونه أن يكشف عنهم البلاءَ فلم يستجب لهم، علم موسى أنهم قد أصابوا من المعصية ما أصابَه قومهم= قال أبو سعد (1) فحدثني محمد بن كعب القرظي قال: لم يستجب لهم من أجل أنهم لم ينهوهم عن المنكر ويأمروهم بالمعروف. قال: فأخذتهم الرجفة، فماتوا ثم أحياهم الله.

15163-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عون، عن سعيد بن حيان، عن ابن عباس: أن السبعين الذين اختارهم موسى من قومه، إنما أخذتهم الرجفة، أنهم لم يرضَوا ولم ينهَوا عن العجل.

15164-

حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عون قال، حدثنا سعيد بن حيان، عن ابن عباس، بنحوه.

* * *

واختلف أهل العربية في وجه نصب قوله: "قومه سبعين رجلا لميقاتنا". فقال بعض نحويي البصرة: معناه: واختار موسى من قومه سبعين رجلا = فلما نزع "من" أعمل الفعل، كما قال الفرزدق:

(1)(1) في المخطوطة والمطبوعة: ((قال ابن سعد)) ، والصواب ما أثبت، كما سلف في إسناد الخبر.

ص: 144

وَمِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً وَجُودًا، إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ (1)

وكما قال الآخر: (2)

أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ، فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ (3)

(1)(1) ديوانه: 516، النقائض: 696، سيبويه 1: 18، الكامل 1: 21، أملى الشجرى 1: 186، الخزانة 3: 669، 672، اللسان (خير) وغيرها كثير. وهو أول قصيدة ناقض بها جريراً، وذكر فيها فضائل قومه بني تميم ومآثرهم، وعنى بهذا البيت أباه غالبا، وهو أحد أجواد بني تميم، ثم قال بعده:ومِنَّا الَّذِي أَعْطَى الرَّسُولُ عَطِيَّةً

أُسَارَى تَمِيمٍ، والعُيُونُ دَوَامِعُ

يعني الأقرع بن حابس، الذي كلم رسول الله في أصحاب الحجرات، وهم بنو عمرو بن جندب ابن العنبر بن عمرو بن تميم، فرد رسول الله سبيهم. ثم أفاض في ذكر مآثرهم.

(2)

(2) هو أعشى طرود: ((إياس بن عامر بن سليم بن عامر)) . وروى هذا البيت أيضاً في شعر نسب إلى عمرو بن معد يكرب، وإلى العباس بن مرداس، وإلى زرعة بن السائب، وإلى خفاف بن فدية (الخزانة 1: 166) .

(3)

ديوان الأعشين: 284، سيبويه 1: 17، والمؤتلف والمختلف: 17، الكامل 1: 21، أمالي الشجري 1: 265 / 2: 240، الخزانة 1: 164 - 167، وغيرها كثير. فمن نسبها إلى أعشى طرود قال من بعد أبيات يذكر وصية أبيه له: إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأَقْوَامِ مَكْرُمَة

قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي

وَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي عِلْمٍ وَتَجْرُبَةٍ

بِسَالِفَاتِ أُمُورِ الدَّهْرِ وَالحِقَبِ

أَمَرْتُكَ الرُّشْدَ، فافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ

فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ

لا تَبْخَلَنَّ بِمَالٍ عَنْ مَذَاهِبِهِ

فِي غَيْرِ زَلَّةِ إِسْرَافٍ وَلا تَغَبِ

فَإنّ وُرَّاثَهُ لَنْ يَحْمَدُوكَ بِهِ

إِذَا أَجَنُّوكَ بَيْنَ اللِّبْنِ وَالخَشَبِ

((التغب)) : الهلاك، يعني إهلاك المال في غير حقه. ويروى:((ذا مال وذا نسب)) بالسين، وهو أجود، لأن النشب هو المال نفسه. وقوله:((بين النشب والخشب)) ، يعني: ما يسوى عليه في قبره من الطين والخشب.

أما الشعر المنسوب إلى عمرو بن معد يكرب أو غيره فهو: إِنِّي حَوَيْتُ عَلَى الأقْوَامِ مَكْرُمَةً

قِدْمًا، وَحَذَّرَنِي مَا يَتَّقُونَ أَبِي

فَقَالَ لِي قَوْلَ ذِي رَأيٍ وَمَقْدِرَةٍ

مُجَرَّبٍ عَاقِلٍ نَزْهٍ عَنْ الرَّيَبِ

قَدْ نِلْتَ مَجْدًا فَحَاذِرْ أَنْ تُدَنِّسُهُ

أبٌ كَرِيمٌ، وجَدٌّ غَيْرُ مُؤْتَشَبِ

أَمَرْتُكَ الخَيْرَ................

. . . . . . . . . . . . . . . . . . .

واتْرُكْ خَلائِقَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ

وَاعْمِدْ لأَخْلاقِ أَهْلِ الفَضْلِ والأدَبِ

وَإِنْ دُعِيتَ لِغَدْرٍ أوْ أُمِرْتَ بِهِ

فَاهْرُبْ بِنَفْسِكَ عَنْهُ آبِدَ الْهَرَبِ

ص: 145

وقال الراعي:

اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ غَثَّتْ خَلائِقُهُمْ وَاعْتَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ (1)

* * *

وقال بعض نحويي الكوفة: إنما استُجيز وقوع الفعل عليهم إذا طرحت "من"، لأنه مأخوذ من قولك:"هؤلاء خير القوم" و"خير من القوم"، فلما جازت الإضافة مكان "من" ولم يتغير المعنى، (2) استجازُوا: أن يقولوا: "اخترتكم رجلا"، و"اخترت منكم رجلا"، وقد قال الشاعر:(3)

فَقُلْتُ لَهُ: اخْتَرْهَا قَلُوصًا سَمِينَةً (4)

(1)(1) لم أجد البيت في مكان. وكان في المطبوعة والمخطوطة: ((إذ عنت)) بالعين المهملة والنون. ولا معنى لها، ورجحت أن الصواب ((غثت)) بالغين والثاء. يقال:((غثثت في خلقك وحالك غثاثة وغثوثة)) ، ولذلك إذا ساء خلقه وحاله. و ((الغث)) الردئ من كل شيء. و ((اعتل)) ، طلب العلل لمنع العطاء.

(2)

(2) في المطبوعة والمخطوطة: ((فإذا جازت الإضافة)) ، وأثبت صواب سياقها من معاني القرآن للفراء، فهو نص كلامه.

(3)

(3) هو الراعي النميري.

(4)

(4) طبقات فحول الشعراء، لابن سلام: 450، وما قبلها، وشرح الحماسة 4: 37، وما قبله، ومعاني القرآن للفراء 1: 395 (وهذا روايته) ، وغيرها. وهو من شعر قاله الراعى لما نزل به ضيف من بنى كلاب في سنة حصاء مجدبة، وليس عنده قرى، والكلابي على ناب له (وهي الناقة المسنة) ، فأمر الراعى ابن أخيه حبتراً، فنحرها من حيث لا يعلم الكلابي، فأطمعه لحمها، فقال الراعي في قصيدته يذكر أنه نظر إلى ناقة الكلابي: فَأَبْصَرْتُهَا كَوْمَاءَ ذَاتَ عَرِيَكَةٍ

هِجَانًا مِنَ الَّلاتِي تَمَتَّعْنَ بِالصَّوَى

فَأَوْمَضْتُ إيمَاضًا خَفَيًّا لِحَبْتَرٍ

وَللهِ عَيْنًا حَبْتَرٍ! أَيَّمَا فَتَى

فَقُلْتُ لَهُ: أَلْصِقْ بِأَبْيَسِ سَاقِهَا

فَإنْ يُجْبَرِ العُرْقُوبُ لا يَرْقَأُ النَّسَا

فَقَامَ إِلَيْهَا حَبْتَرٌ بِسِلاحِهِ،

مَضَى غَيْرَ مَنْكُودٍ، ومُنْصُلَهُ انْتَضَى

كَأَنِّي وَقَدْ أشْبَعْتُهُ مِنْ سِنَامِهَا

كَشَفْتُ غِطَاءً عَنْ فُؤَادِي فَانْجَلَى

وهذا تصوير جميل جيد، لهذه الحادثة الطريفة. ثم قال: فَقُلْتُ لِرَبِّ النَّابِ: خُذْهَا فَتِيَّةً

وَنَابٌ عَلَيْهَا مِثْلُ نَابِكَ فِي الحَيَا

أي: خذ مكانها ناقة فتية، وناقة أخرى مسنة مثل نابك المسنة، يوم يأتي الخصب، وتحيي أموالنا.

ص: 146

وقال الراجز: (1)

* تَحْتَ الَّتِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ * (2)

بمعنى: اختارَها له الله من الشجر. (3)

* * *

قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى عندي في ذلك بالصواب، لدلالة "الاختيار" على طلب "من" التي بمعنى التبعيض، ومن شأن العرب أن تحذف الشيء من حَشْو الكلام إذا عُرِف موضعه، وكان فيما أظهرت دلالةٌ على ما حذفت. فهذا من ذلك إن شاء الله.

* * *

(1)(1) هو العجاج.

(2)

(2) ديوانه: 15، معاني القرآن للفراء 1: 395، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 229، اللسان (خير) ، ورواية الديوان، ومعاني القرآن:((تحت الذي)) . وهو من قصيدته في مدح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، مضت منها أبيات كثيرة، انظر ما سلف 10: 172، تعليق: 2، وهذا البيت في ذكر نبى الله صلى اله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وبيعتهم تحت الشجرة. وهي بيعة الرضوان في عمرة الحديبية، فذكر عهد رسول الله، وعهد الصديق، وعهد عمر، وعهد المهاجرين، وعهد الأنصار، ثم ذكر بيعة الرضوان فقال: وَعُصْبَةِ النَّبِيِّ إِذْ خَافُوا الحَصَرْ

شَدُّوا لَهُ سُلْطَانَهُ حَتَّى اقْتَسَرْ

بِالْقَتْلِ أَقْوَامًا وَأَقْوَامًا أَسَرْ

تَحْتَ الَّذِي اخْتَارَ لَهُ اللهُ الشَّجَرْ

وفي المخطوطة: ((تحت التي اختارها له الله)) ، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما في المطبوعة.

(3)

(3) انظر مجاز القرآن 1: 229، ونصه:((تحت الشجرة التي اختار له الله من الشجر)) .

ص: 147

وقد بينا معنى "الرجفة" فيما مضى بشواهدها، وأنّها: ما رجف بالقوم وزعزعهم وحرّكهم، (1) أهلكهم بعدُ فأماتهم، (2) أو أصعقهم، فسلب أفهامهم. (3)

* * *

وقد ذكرنا الرواية في غير هذا الموضع وقول من قال: إنها كانت صاعقة أماتتهم. (4)

15165-

حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم.

15166-

حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"سبعين رجلا لميقاتنا"، اختارهم موسى لتمام الموعد= "فلما أخذتهم الرجفة"، ماتوا ثم أحياهم الله.

15167-

حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعد، عن عكرمة، عن ابن عباس:"فلما أخذتهم الرجفة"، قال: رُجف بهم.

* * *

(1)(1) في المطبوعة: ((ما رجف بالقوم وأرعبهم)) ، لم يحسن قراءة المخطوطة لأنها غير منقوطة، ولأنها سيئة الكتابة، فاجتهد واخطأ. وقد مضى اللفظ على الصواب فيما سلف، انظر التعليق التالي رقم: 3، في المراجع.

(2)

(2) في المطبوعة، زاد ((واو)) فكتب:((وأهلكهم)) عطفاً على ما قبله، فأفسد معنى أبي جعفر. وإنما أراد أبو جعفر أن الرجفة: إما أن تعقب الهلاك، وتصعق من تنزل به فتسلبه فهمه من شدة الروع.

(3)

(3) انظر تفسير ((الرجفة)) فيما سلف: 12: 544، 545، 566.

(4)

(4) انظر ما سلف قديماً 2: 84 - 90، ثم ما سلف حديثاً ص:140.

ص: 148

القول في تأويل قوله: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) }

قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: معنى ذلك: أتهلك هؤلاء الذين أهلكتهم بما فعل السفهاء منا، أي: بعبادة من عبد العجل؟ قالوا: وكان الله إنما أهلكهم لأنهم كانوا ممن يَعبد العجل. وقال موسى ما قال، ولا علم عنده بما كان منهم من ذلك. (1)

* ذكر من قال ذلك:

15168-

حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، فأوحى الله إلى موسى: إن هؤلاء السبعين ممن اتخذ العجلَ! فذلك حين يقول موسى: "إن هي إلا فتنتك تُضل بها من تشاء وتهدي من تشاء". (2)

* * *

وقال آخرون: معنى ذلك: إن إهلاكك هؤلاء الذين أهلكتهم، هلاك لمن وراءهم من بني إسرائيل، إذا انصرفت إليهم وليسوا معي= و"السفهاء"، على هذا القول، كانوا المهلَكين الذين سألوا موسى أن يُرِيهم ربَّهم.

* ذكر من قال ذلك:

15169-

حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أخذت الرجفة السبعين فماتوا جميعًا، قام موسى يناشد ربّه ويدعوه ويرغب

(1)(1) انظر تفسير ((السفهاء)) فيما سلف من فهارس اللغة (سفه) = وتفسير ((الهلاك)) فيما سلف (هلك) .

(2)

(2) الأثر: 15168 - مضى قديمًا برقم 958 بتمامه، ومضى صدره قريبًا برقم: 15152

ص: 149

إليه، يقول:"رب لو شئتَ أهلكتهم من قبل وإيّاي"، قد سفهوا، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما فعل السفهاء منا؟ أي: إن هذا لهم هلاكٌ، قد اخترت منهم سبعين رجلا الخيِّر فالخيِّر، أرجع إليهم وليس معى رجل واحد! فما الذي يصدِّقونني به، أو يأمنونني عليه بعد هذا؟ (1)

* * *

وقال آخرون في ذلك بما: -

15170-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، أتؤاخذنا وليس منا رجلٌ واحد تَرَك عبادتك، ولا استبدل بك غيرك؟

* * *

قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ من قال: إن موسى إنما حزن على هلاك السبعين بقوله: "أتهلكنا بما فعل السفهاء منا"، وأنّه إنما عنى ب"السفهاء" عبدةَ العجل. وذلك أنه محالٌ أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم كان تخيَّر من قومه لمسألة ربِّه ما أراه أن يسألَ لهم إلا الأفضل فالأفضل منهم، ومحالٌ أن يكون الأفضل كان عنده مَنْ أشرك في عبادة العجل واتخذَه دون الله إلهًا.

* * *

قال: فإن قال قائل: فجائز أن يكون موسى عليه السلام كان معتقدًا أن الله سبحانه يعاقب قومًا بذنوب غيرهم، فيقول: أتهلكنا بذنوب من عبد العجل، ونحن من ذلك برآء؟ قيل: جائز أن يكون معنى "الإهلاك" قبض الأرواح على غير وجه العقوبة، كما قال جل ثناؤه:(إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ)، [سورة النساء: 176] = يعني: مات= فيقول: أتميتنا بما فعل السُّفهاء منَّا؟ (2)

* * *

(1) الأثر: 15169 مضى قديما برقم 957 بتمامه، ومضى قريبا بتمامه رقم:15153.

(2)

انظر تفسير ((الهلاك)) فيما سلف 9: 30 / 104: 147، وفهارس اللغة (هلك) .

ص: 150

وأما قوله: "إن هي إلا فتنتك"، فإنه يقول جل ثناؤه: ما هذه الفعلة التي فعلَها قومي، من عبادتهم ما عبَدُوا دونك، إلا فتنة منك أصَابتهم= ويعني ب"الفتنة"، الابتلاء والاختبار (1) = يقول: ابتليتهم بها، ليتبين الذي يضلَّ عن الحق بعبادته إياه، والذي يهتدي بترك عبادته. وأضاف إضلالهم وهدايتهم إلى الله، إذ كان ما كان منهم من ذلك عن سببٍ منه جل ثناؤه.

* * *

وبنحو ما قلنا في "الفتنة" قال جماعة من أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

15171-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:(إن هي إلا فتنتك"،) قال: بليّتك.

15172-

.... قال، حدثنا حبويه الرازي، عن يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير:"إلا فتنتك"،: إلا بليتك. (2)

15173-

حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، (3) عن الربيع بن أنس:"إن هي إلا فتنتك"، قال: بليتك.

15174-

.... قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء"، إن هو إلا عذابك تصيبُ به من تشاء، وتصرفه عمن تشاء. (4)

(1)(1) انظر تفسير ((الفتنة)) فيما سلف 12: 373، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)

(2) الأثر: 15172 - ((حبويه الرازي)) هو: ((إسحق بن إسماعيل الرازي)) ((أبو يزيد)) ، مضى مرارًا، آخرها رقم 15015، والراوي عن حبويه هو ((ابن وكيع)) ، كما هو ظاهر، ولذلك وضعت نقطاً مكان اسمه، في هذا الموضع وما يشابهه من المواضع، حيث يختصر أبو جعفر شيخه من الإسناد.

(3)

(3) في المطبعة والمخطوطة: ((أخبرنا ابن جعفر)) ، وهو خطأ ظاهر جداً، صوابه ما أثبت. وقد مضى هذا الإسناد وشبهه من رواية أبي جعفر الرازي عن الربيع، انظر ما سلف قريباً:15171.

(4)

(4) الأثر: 15174 - شيخ الطبري في هذا الإسناد، هو ((المثنى)) المذكور في الأثر قبله. وسأضع هذه النقط، حيث يختصر أبو جعفر شيخه، ثم لا أنبه إليه، ومعلوم أن المحذوف هو شيخه في الإسناد قبله.

ص: 151

15175-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن هي إلا فتنتك"، أنت فتنتهم.

* * *

وقوله: "أنت ولينا"، يقول: أنت ناصرنا. (1) = "فاغفر لنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبَنا بتركك عقابَنا عليها= "وارحمنا"، تعطف علينا برحمتك= "وأنت خير الغافرين"، يقول: خير من صَفَح عن جُرم، وسَتر على ذنب. (2)

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((ولى)) فيما سلف 11: 282، تعليق: 1، والمراجع هناك.

(2)

(2) انظر تفسير ((المغفرة)) ، و ((الرحمة)) فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) و (رحم) .

ص: 152

القول في تأويل قوله: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مخبرًا عن دعاء نبيه موسى عليه السلام أنه قال فيه: "واكتب لنا"، أي: اجعلنا ممن كتَبت له= "في هذه الدنيا حسنَةً"، وهي الصالحات من الأعمال (1) = "وفي الآخرة"، ممن كتبتَ له المغفرة لذنوبه، كما: -

15176-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة"، قال: مغفرة.

* * *

وقوله: "إنا هُدنا إليك"، يقول: إنا تبنا إليك. (2)

* * *

وبنحو ذلك قال أهل التأويل.

(1)(3) انظر تفسير ((الحسنة)) فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .

(2)

(4) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف 12: 198، تعليق: 1، والمراجع هناك.

ص: 152

* ذكر من قال ذلك:

15177-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، وابن فضيل، وعمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير= وقال عمران: عن ابن عباس = "إنا هدنا إليك" قال: تبنا إليك.

15178-

قال حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، قال: تبنا إليك.

15179-

.... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: تبنا إليك.

15180-

.... قال، حدثنا عبد الله بن بكر، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن سماك: أن ابن عباس قال في هذه الآية: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك. (1)

15181-

حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير= قال: أحسبه عن ابن عباس: "إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك.

15182-

حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنا هدنا إليك"، يقول تبنا إليك.

15183-

حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا

(1)(1) الأثر: 15180 - ((عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي)) ، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 8284، 10885، 11232. و ((حاتم بن أبي صغيرة)) ، هو ((حاتم بن مسلم)) ((أبو يونس)) القشيري، وقيل: الباهلي، و ((أبو صغيرة)) ، هو أبو أمه، ثقة. روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 71، وابن أبي حاتم 1/2/257. وكان في المخطوطة والمطبوعة:((حاتم بن أبي مغيرة)) ، بالميم في أوله، وهو خطأ محض.

ص: 153

سفيان قال، حدثنا عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير في قوله:"إنا هدنا إليك"، قال: تبنا إليك.

15184-

.... قال، حدثنا عبد الرحمن، ووكيع بن الجراح قالا حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، بمثله.

15185-

حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن الأصبهاني، عن سعيد بن جبير، مثله.

15186-

.... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: تبنا إليك.

15187-

.... قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن العوام عن إبراهيم التيمي قال: تبنا إليك.

15187م- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، مثله.

15188-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنا هدنا إليك"، أي: إنا تبنا إليك.

15189-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله:"هدنا إليك"، قال: تبنا.

15190-

حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك.

15191-

حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنا هدنا إليك"، يقول: تبنا إليك.

15192-

حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.

15193-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن

ص: 154

الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال:"هدنا إليك"، قال: تبنا إليك.

15194-

قال، حدثنا أبي، عن أبي حجير، عن الضحاك، قال: تبنا إليك. (1)

15195-

.... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: تبنا إليك.

15196-

وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر مثله.

15197-

قال، حدثنا أبي، وعبيد الله، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد قال: تبنا إليك.

15198-

قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، مثله. (2)

15199-

قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي عليه السلام قال: إنما سميت "اليهود"، لأنهم قالوا:"هدنا إليك". (3)

15200-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إنا هدنا إليك"، يعني: تبنا إليك.

15201-

حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، سمعت رجلا يسأل سعيدًا:"إنا هدنا إليك"، قال: إنا هدنا إليك.

* * *

وقد بينا معنى ذلك بشواهده فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4)

* * *

(1)(1) الأثر: 15194 - ((أبو حجير)) الذي يروى عن الضحاك، ويروى عنه وكيع، قال أحمد ابن حنبل:((ما حدثني عنه إلا وكيع)) ، مترجم في لسان الميزان 6:363. ولم أجد له ترجمة في غيره من كتب الرجال.

(2)

(2) الأثر: 15198 - ((حبويه)) ، ((أبو يزيد)) ، مضى قريباً برقم 15172.

(3)

(3) الأثر: 15199- ((جابر بن عبد الله بن يحيى)) ، هكذا هو في المخطوطة، وفي المطبوعة ((جابر، عن عبد الله بن يحيى)) ، ولم أجد لشيء من ذلك ذكراً في الكتب. وهو محرف بلا شك عن شيء آخر. وانظر ما سلف رقم 1094، عن ابن جريج. بمعنى هذا الخبر.

(4)

(4) انظر تفسير ((هاد)) فيما سلف ص: 152، تعليق. 4، والمراجع هناك.

ص: 155

القول في تأويل قوله: {قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال الله لموسى: هذا الذي أصبتُ به قومك من الرجفة، عذابي أصيب به من أشاء من خلقي، كما أصيب به هؤلاء الذين أصبتهم به من قومك (1) = "ورحمتي وسعت كل شيء"، يقول: ورحمتي عمَّت خلقي كلهم. (2)

* * *

وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.

فقال بعضهم: مخرجه عامٌّ، ومعناه خاص، والمراد به: ورحمتي وَسِعت المؤمنين بي من أمة محمّدٍ صلى الله عليه وسلم. واستشهد بالذي بعده من الكلام، وهو قوله:"فسأكتبها للذين يتقون"، الآية.

* ذكر من قال ذلك:

15202-

حدثني المثني قال، حدثنا أبو سلمة المنقري قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه قرأ: "ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون". قال: جعلها الله لهذه الأمة. (3)

(1)(1) انظر تفسير ((الإصابة)) فيما سلف من فهارس اللغة (صوب) .

(2)

(2) انظر تفسير ((وسع)) فيما سلف 12: 562، تعليق 2، والمراجع هناك.

(3)

(3) الأثر: 15202 - ((أبو سلمة المنقري)) ، هو ((أبو سلمة التبوذكي)) :((موسى بن إسماعيل المنقري)) ، مولاهم، روى عنه البخاري، وأبو داود، وروى له الباقون من أصحاب الكتب الستة بالواسطة. ثقة إمام. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/280، وابن أبي حاتم 4/1/136.

ص: 156

15203-

حدثني عبد الكريم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، قال سفيان قال، أبو بكر الهذلي: فلما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قال إبليس: أنا من "الشيء"! فنزعها الله من إبليس، قال:"فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فقال اليهود: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن بآيات ربنا! فنزعها الله من اليهود فقال: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لهذه الأمة. (1)

15204-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما نزلت: "ورحمتي وسعت كل شيء"، قال إبليس: أنا من "كل شيء! ". قال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، الآية. فقالت اليهود: ونحن نتقي ونؤتي الزكاة! فأنزل الله: "الذين يتبعون الرسول النبي الأمي"، قال: نزعها الله عن إبليس، وعن اليهود، وجعلها لأمة محمدٍ: سأكتبها للذين يتّقون من قومك.

15205-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"، فقال إبليس: أنا من ذلك "الشيء"! فأنزل الله: "فسأكتبها للذين يتقون" معاصي الله= "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فتمنتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا وَثيقًا بَيِّنًا، فقال:"الذين يتبعون الرسول النبيّ الأمي"، فهو نبيّكم، كان أميًّا لا يكتُب صلى الله عليه وسلم.

15206-

حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد الحذاء،

(1)(1) الأثر: 15203 - لا ((عبد الكريم)) ، هو ((عبد الكريم بن الهيثم بن زياد القطان)) ، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم:892. و ((إبراهيم بن بشار الرمادى)) ، ثقة. مضى برقم 892، 6321. و ((سفيان)) هو: ابن عيينة. و ((أبو بكر الهذلى)) ضعيف مضى مرارًا، آخرها رقم 14690.

ص: 157

عن أنيس بن أبي العريان، عن ابن عباس في قوله:"واكتب لنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، قال: فلم يعطها، فقال:"عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون" إلى قوله: "الرسول النبي الأمي". (1)

15207-

حدثني ابن وكيعٍ قال، حدثنا ابن علية، وعبد الأعلى، عن خالد، عن أنيس أبي العُريان= قال عبد الأعلى، عن أنيس أبي العُرْيان= وقال: قال ابن عباس: "واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنَّا هدنا إليك"، قال: فلم يعطها موسى، قال:"عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها"، إلى آخر الآية.

15208-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان الله كتب في الألواح ذكر محمد وذكرَ أمته، وما ذَخَر لهم عنده، وما يسَّر عليهم في دينهم، وما وَسَّع عليهم فيما أحلّ لهم، فقال:

(1)(1) الأثران 15206، 15207 - ((أنيس أبو العريان المجاشعى)) ، بغير (ابن) بينهما، مترجم في الكبير 1 / 2 / 44، وابن أبي حاتم 1/1/333، ولم يشر واحد منها إلى انه:((أنيس ابن أبي العريان)) . وفي المخطوطة في الخبر الأول: ((أنيس بن أبي العريان)) بإثبات (ابن) ، وفي الخبر الثاني في الموضعين كليهما ((أنيس بن العريان)) بغير (ابن) كما أثبتها، وأما في المطبوعة، فإنه جعله في المواضع كلها ((أنيس ابن أبي العريان)) ، وهو تصرف معيب لا شك في ذلك. والظاهر أنه اختلف على ابن علية رواية اسمه، رواه مرة ((أنيس بن أبي العريان)) ، ثم رواه أخرى ((أنيس أبي العريان)) ، كما في الأثر الثاني منهما، وذكر الطبري قول عبد الأعلى، ليؤيد به هذه الرواية عن ابن علية. فإن صح هذا الاختلاف على ابن عيينة، وإلا فإنه ينبغي أن يكون أحد أمرين:

إما أن يكون صواب الخبر الأول: ((أنيس أبي العريان)) .

والثاني ((أنيس أبي العريان)) في الأولى، وعن عبد الأعلى ((أنيس ابن أبي العريان)) . أو: أن يكون الأول عن ابن عيينة: ((أنيس بن أبي العريان)) ، والثاني أيضاً:((أنيس ابن أبي العريان)) ، وعن عبد الأعلى:((أنيس بن أبي العريان)) . والله أعلم بالصواب في كل ذلك، ولا مرجح عندي..

ص: 158

"عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون" = يعني: الشركَ= الآية.

* * *

وقال آخرون: بل ذلك على العموم في الدنيا، وعلى الخصوص في الآخرة.

* ذكر من قال ذلك:

15209-

حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"ورحمتي وسعت كل شيء"، قالا وسعت في الدنيا البَرَّ والفاجر، وهي يوم القيامة للذين اتَّقوا خاصَّةً.

* * *

وقال آخرون: هي على العموم، وهي التوبة.

* ذكر من قال ذلك:

15210-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين* واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك"، فقال: سأل موسى هذا، فقال الله:"عذابي أصيب به من أشاء"= العذاب الذي ذَكر= "ورحمتي"، التوبةُ = (وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون)، قال: فرحمته التوبةُ التي سأل موسى عليه السلام، كتبها الله لنا.

* * *

وأما قوله: "فسأكتبها للذين يتقون"، فإنه يقول: فسأكتب رحمتي التي وسعت كل شيء= ومعنى "أكتب" في هذا الموضع: أكتب في اللوح الذي كُتِب فيه التوراة "للذين يتقون"، (1) يقول: للقوم الذين يخافون الله ويخشون عقابه على الكفر به والمعصية له في أمره ونهيه، فيؤدُّون فرائضه، ويجتنبون معاصيه. (2)

(1)(1) في المطبوعة والمخطوطة: ((الذين يتقون)) بغير لام، والصواب ما أثبت.

(2)

(2) انظر تفسير ((التقوى)) فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .

ص: 159

وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي وصف الله هؤلاء القوم بأنّهم يتقونه. فقال بعضهم: هو الشرك.

* ذكر من قال ذلك:

15211-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فسأكتبها للذين يتقون"، يعني الشرك.

* * *

وقال آخرون: بل هو المعاصي كلها.

* ذكر من قال ذلك:

15212-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة "فسأكتبها للذين يتقون"، معاصي الله.

* * *

وأما "الزكاة وإيتاؤها"، فقد بيَّنا صفتها فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1)

* * *

وقد ذكر عن ابن عباس في هذا الموضع أنه قال في ذلك ما: -

15213-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ويؤتون الزكاة"، قال: يطيعون الله ورسولَه.

* * *

فكأنّ ابن عباس تأوَّل ذلك بمعنى أنه العمل بما يزكِّي النفسَ ويطهِّرها من صالحات الأعمال.

* * *

وأما قوله: "والذين هم بآياتنا يؤمنون"، فإنه يقول: وللقوم الذين هم بأعلامنا وأدلتنا يصدِّقون ويقرُّون. (2)

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((إيتاء الزكاة)) فيما سلف 1: 573، 574، وما بعده في فهارس اللغة (زكا) و (أتى) .

(2)

(2) انظر تفسير ((الآيات)) و ((والإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) و (أمن) .

ص: 160

القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ}

قال أبو جعفر: وهذا القول إبانةٌ من الله جل ثناؤه عن أنّ الذين وَعَد موسى نبيَّه عليه السلام أن يكتب لهم الرحمة التي وصفَها جل ثناؤه بقوله: "ورحمتي وسعت كل شيء"، هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يعلم لله رسولٌ وُصف بهذه الصفة = أعني "الأمي" = غير نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وبذلك جاءت الروايات عن أهل التأويل.

* ذكر من قال ذلك:

15214-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

15215-

.... قال، حدثنا زيد بن حباب، عن حماد بن سلمة، عن عطاء، عن ابن عباس قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

15216-

حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد في قوله:"فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقال موسى عليه السلام: ليتني خلقت في أمّة محمدٍ!.

15217-

حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"فسأكتبها للذين يتقون"، قال: الذين يتّبعون محمدًا صلى الله عليه وسلم.

15218-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن نوف الحميري قال: لما اختار موسى قومه سبعين رجلا لميقات ربه، قال الله لموسى: أجعل لكم الأرض مسجدًا وطهورًا، وأجعل السكينة معكم

ص: 161

في بيوتكم، وأجعلكم تقرأون التوراة عن ظَهْر قلوبكم، (1) يقرؤها الرجل منكم والمرأةُ، والحرُّ والعبدُ، والصغير والكبير. فقال موسى لقومه: إن الله قد يجعل لكم الأرض طهورًا ومسجدًا. قالوا: لا نريد أن نصلي إلا في الكنائس! قال: ويجعل السكينة معكم في بيوتكم. قالوا: لا نريد إلا أن تكون كما كانت، في التابوت! قال: ويجعلكم تقرأون التوراة عن ظهر قلوبكم، (2) ويقرؤها الرجل منكم والمرأة، والحر والعبد، والصغير والكبير. قالوا: لا نريد أن نقرأها إلا نظرًا! فقال الله: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة" إلى قوله: "أولئك هم المفلحون". (3)

15219-

حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي قال: لما انطلق موسى بوفد بني إسرائيل، كلّمه الله فقال: إني قد بسطت لهم الأرض طهورًا ومساجدَ يصلُّون فيها حيث أدركتهم الصلاة، إلا عند مرحاضٍ أو قبر أو حمّام، وجعلت السكينة في قلوبهم، وجعلتهم يقرأون التوراةَ عن ظهر ألسنتهم. قال: فذكر ذلك موسى لبني إسرائيل، فقالوا: لا نستطيع حمل السكينة في قلوبنا، فاجعلها لنا في تابوت، ولا نقرأ التوراة إلا نظرًا، ولا نصلي إلا في الكنيسة! فقال الله:"فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة"، حتى بلغ "أولئك هم المفلحون". قال: فقال موسى عليه السلام: يا ربّ، اجعلني نبيَّهم! قال: نبيُّهم منهم! قال: رب اجعلني منهم! قال: لن تدركهم! قال: يا ربّ، أتيتك بوفد بني إسرائيل، فجعلت وِفَادَتنا لغيرنا! فأنزل الله:(وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ)[سورة الأعراف: 159] .

(1)(1) في المطبوعة: ((عن ظهور قلوبكم)) ، بجمع ((ظهور)) ، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.

(2)

(2) في المطبوعة: ((عن ظهور)) ، وتنظر التعليق السالف.

(3)

الأثر: 15218 "نوف الحميري" هو نوف البكالي المذكور في الأثريين التاليين: 515219، 15220، وهو "نوف بن فضالة الحميري البكالي الشامي" مضى برقم: 3965، 9446، 9456.

ص: 162

= قال نوف البكالي: فاحمدوا الله الذي حَفظ غيبتكم، وأخذ لكم بسهمكم، وجعل وفادة بني إسرائيل لكم.

15220-

حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن يحيى بن أبي كثير، عن نوف البكالي بنحوه= إلا أنه قال: فإني أنزل عليكم التوراة تقرأونها عن ظهر ألسنتكم، رجالكم ونساؤُكم وصبيانكم. قالوا: لا نُصلّي إلا في كنيسة، ثم ذكر سائر الحديث نحوه.

15221-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير:"فسأكتبها للذين يتقون"، قال: أمة محمد صلى الله عليه وسلم. (1)

15222-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فسأكتبها للذين يتقون"، قال: هؤلاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

15223-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما قيل: "فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون"، تمنّتها اليهود والنصارى، فأنزل الله شرطًا بيّنًا وثيقًا فقال:"الذين يتبعون الرَّسول النبيّ الأمي"، وهو نبيكم صلى الله عليه وسلم، كان أمِّيًّا لا يكتبُ. (2)

* * *

وقد بينا معنى "الأمي" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (3)

* * *

وأما قوله: "الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل"، فإن "الهاء"

(1)(1) الأثر: 15221 - ((إسحق بن إسماعيل)) هو ((حبويه)) ، ((أبو يزيد الرازي)) ، الذي مضى قريباً برقم: 15198، وصرح هنا أول مرة باسمه.

(2)

(2) الأثر: 15223 - انظر الأثر السالف رقم: 15205

(3)

(3) انظر تفسير ((الأمي)) فيما سلف 2: 257 - 259 / 3: 442 / 6: 281، 282، 522/ ثم انظر رقم: 5827، 1774، 6775.

ص: 163

في قوله: "يجدونه"، عائدة على "الرسول"، وهو محمّد صلى الله عليه وسلم، كالذي: -

15224-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ"، هذا محمّد صلى الله عليه وسلم.

15225-

حدثني ابن المثني قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو، فقلت: أخبرني عن صفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفتِه في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومُبَشِّرًا ونذيرًا، وحِرْزًا للأمِّيين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكّل، (1) ليس بفظٍّ ولا غليظ ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن نقبضه حتى نقيم به الملةَ العوجاء، بأن يقولوا:"لا إله إلا الله"، فنفتح به قلوبًا غُلْفًا، وآذانًا صُمًّا، وأعينًا عُمْيًا= قال عطاء: ثم لقيتُ كعبًا فسألته عن ذلك، فما اختلفا حرفًا، إلا أن كعبًا قال بلغته: قلوبًا غُلُوفيا، وآذانًا صمومِيَا، وأعينًا عُمْوميا. (2)

15226-

حدثني أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا فليح بن سليمان، عن هلال بن علي قال، حدثني عطاء قال: لقيت عبد الله

(1)(1) في المطبوعة: ((سميتك)) ، وأثبت ما في المخطوطة.

(2)

(2) الأثر: 15225 - ((عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي)) ، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة، سلف برقم:5458. و ((فليح)) ، هو ((فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزامي)) ، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5090. و ((هلال بن على بن أسامة المدني)) ، وينسب إلى جده فيقال:((هلال بن أسامة)) ، ثقة، مضى برقم:1495. وانظر الآثار التالية.

ص: 164

بن عمرو بن العاص، فذكر نحوه= إلا أنه قال في كلام كعب: أعينًا عمومَا، وآذانًا صموما، وقلوبًا غُلُوفَا.

15227-

قال، حدثنا موسى قال، حدثنا عبد العزيز بن سلمة، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن عبد الله بنحوه= وليس فيه كلام كعب.

15228-

حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال الله:"الذي يجدونه مكتوبًا عندهم"، يقول: يجدون نعتَه وأمرَه ونبوّته مكتوبًا عندهم.

* * *

القول في تأويل قوله: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يأمر هذا النبيُّ الأميُّ أتباعَه بالمعروف= وهو الإيمان بالله ولزوم طاعته فيما أمر ونهى، فذلك "المعروف" الذي يأمرهم به (1) = "وينهاهم عن المنكر" وهو الشرك بالله، والانتهاء عمّا نهاهم الله عنه. (2) وقوله:"ويحل لهم الطيبات"، وذلك ما كانت الجاهلية تحرِّمه من البحائر والسَّوائب والوصائل والحوامي (3) = "ويحرم عليهم الخَبَائث"، وذلك لحم الخنزير والرِّبا وما كانوا يستحلونه من المطاعم والمشارب التي حرمها الله، (4) كما:-

(1)(1) انظر تفسير ((المعروف)) فيما سلف 9: 201 تعليق: 2، والمراجع هناك.

(2)

(2) انظر تفسير ((المنكر)) فيما سلف 10: 496 تعليق: 2، والمراجع هناك.

(3)

(3) انظر تفسير ((الطيبات)) فيما سلف 11: 96 تعليق: 2، والمراجع هناك.

(4)

(4) انظر تفسير ((الخبائث)) فيما سلف 11: 96 تعليق: 2، والمراجع هناك.

ص: 165

15229-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ويحرم عليهم الخبائث"، وهو لحم الخنزير والربا، وما كانوا يستحلونه من المحرَّمات من المآكلِ التي حرمها الله.

* * *

وأما قوله: "ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.

فقال بعضهم: يعني بـ"الإصر"، العهدَ والميثاقَ الذي كان أخذه على بني إسرائيل بالعمل بما في التوراة.

* ذكر من قال ذلك:

15230-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جابر بن نوح، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم.

15231-

قال حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك، قال: عهدهم.

15232-

حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن علي قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.

15233-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن مبارك، عن الحسن:"ويضع عنهم إصرهم"، قال: العهود التي أعطوها من أنفسهم.

15234-

.... قال، حدثنا ابن نمير، عن موسى بن قيس، عن مجاهد:"ويضع عنهم إصرهم"، قال: عهدهم. (1)

15235-

حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، يقول: يضع عنهم عهودهم ومواثيقَهم التي أخذت عليهم في التوراة والإنجيل.

(1)(1) الأثر: 15234 - ((موسى بن قيس الحضرمى)) ، مضى برقم:6513.

ص: 166

15236-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، ما كان الله أخذ عليهم من الميثاق فيما حرّم عليهم. يقول: يضع ذلك عنهم.

* * *

وقال بعضهم: عني بذلك أنه يضع عمن اتّبع نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم، التشديدَ الذي كان على بني إسرائيل في دينهم.

* ذكر من قال ذلك:

15237-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم"، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم بإقالةٍ منه وتجاوزٍ عنه.

15238-

حدثني المثني قال حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"ويضع عنهم إصرهم"، قال: البولَ ونحوه، مما غُلِّظ على بني إسرائيل.

15239-

.... قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: شدّة العمل.

15240-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم" قال: من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب، وُضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم.

15241-

حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: قال أبو هريرة لابن عباس: ما علينا في الدين من حَرَج أن نزني ونسرق؟ قال: بلى! ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وُضِع عنكم.

ص: 167

15242-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويضع عنهم إصرهم"، قال: إصرهم الذي جعله عليهم.

* * *

قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ "الإصر" هو العهد= وقد بينا ذلك بشواهده في موضعٍ غير هذا بما فيه الكفاية (1) = وأن معنى الكلام: ويضع النبيُّ الأميُّ العهدَ الذي كان الله أخذ على بني إسرائيل، من إقامة التوراة والعملِ بما فيها من الأعمال الشديدة، كقطع الجلد من البول، وتحريم الغنائم، ونحو ذلك من الأعمال التي كانت عليهم مفروضةً، فنسخها حُكْم القرآن.

* * *

وأما "الأغلال التي كانت عليهم"، فكان ابن زيد يقول بما: -

15243-

حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عنه في قوله:"والأغلال التي كانت عليهم"، قال:"الأغلال"، وقرأ (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [سورة المائدة: 64] . قال: تلك الأغلال. قال: ودعاهم إلى أن يؤمنوا بالنبيّ فيضع ذلك عنهم.

* * *

القول في تأويل قوله: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) }

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فالذين صدَّقوا بالنبي الأمي، وأقرُّوا بنبوّته (2) = "وعزَّروه"، يقول: وَقَّروه وعظموه وحَمَوه من الناس، (3) كما: -

15244-

حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني

(1)(1) انظر تفسير ((الإصر)) فيما سلف 6: 135 - 138، 560.

(2)

(2) انظر تفسير ((الإيمان)) فيما سلف من فهارس اللغة (أمن) .

(3)

(3) انظر تفسير ((التعزير)) فيما سلف 10: 119 - 121.

ص: 168

معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وعزروه"، يقول: حموه وقَّروه.

15245-

حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثني موسى بن قيس، عن مجاهد:"وعزروه ونصروه": "عزَّروه"، سدَّدوا أمره، وأعانوا رَسُوله= "ونَصَرُوه".

* * *

وقوله: "نصروه"، يقول: وأعانوه على أعداء الله وأعدائه، بجهادهم ونصب الحرب لهم = "واتبعوا النور الذي أنزل معه"، يعني القرآن والإسلام (1) = "أولئك هم المفلحون"، يقول: الذين يفعلون هذه الأفعال التي وصف بها جل ثناؤه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، هم المنجحون المدرِكون ما طلبُوا ورجَوْا بفعلهم ذلك. (2)

15246-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: فما نقموا= يعني اليهود= إلا أن حسدوا نبيَّ الله، فقال الله:"الذين آمنوا به وعزّروه ونصروه"، فأما نصره وتعزيره فقد سبقتم به، ولكن خياركم من آمن بالله واتَّبع النور الذي أنزل معه.

* * *

يريد قتادة بقوله "فما نَقَموا إلا أن حسدوا نبي الله"، أن اليهودَ كان محمَّد صلى الله عليه وسلم بما جاء به من عند الله رحمةً عليهم لو اتبعوه، لأنه جاء بوضع الإصر والأغلال عنهم، فحملهم الحسد على الكفر به، وترك قبول التخفيف، لغلبة خِذْلانِ الله عليهم.

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((النور)) فيما سلف 11: 526، تعليق: 2، والمراجع هناك.

(2)

(2) انظر تفسير ((الفلاح)) فيما سلف: 12: 505، تعليق: 5، والمراجع هناك.

ص: 169

القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}

قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد للناس كلهم= "إنّي رسول الله إليكم جميعًا"، لا إلى بعضكم دون بعض، كما كان من قبلي من الرُّسل، مرسلا إلى بعض الناس دون بعض. فمن كان منهم أرسل كذلك، فإن رسالتي ليست إلى بعضكم دون بعض، ولكنها إلى جميعكم.

وقوله: "الذي"، من نعت اسم "الله" وإنما معنى الكلام: قل: يا أيها الناس إني رسول الله، الذي له ملك السموات والأرض، إليكم.

ويعني جل ثناؤه بقوله: "الذي له ملك السموات والأرض"، الذي له سلطان السَّموات والأرض وما فيهما، وتدبير ذلك وتصريفه (1) = "لا إله إلا هو"، يقول: لا ينبغي أن تكون الألوهة والعِبادة إلا له جل ثناؤه، دون سائر الأشياء غيره من الأنداد والأوثان، إلا لمن له سلطان كل شيء، والقادر على إنشاء خلق كل ما شاء وإحيائه، وإفنائه إذا شاء إماتته = "فآمنوا بالله ورسوله"، يقول جل ثناؤه: قل لهم: فصدِّقوا بآيات الله الذي هذه صفته، وأقِرُّوا بوحدانيته، وأنه الذي له الألوهة والعبادة، وصدقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنَّه مبعوث إلى خلقه، داع إلى توحيده وطاعته.

* * *

(1)(1) انظر تفسير ((الملك)) فيما سلف من فهارس اللغة (ملك) .

ص: 170

القول في تأويل قوله: {النَّبِيِّ الأمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }

قال أبو جعفر: أما قوله: "النبي الأمي"، فإنه من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

* * *

وقد بينت معنى "النبي" فيما مضى بما أغنى عن إعادته= ومعنى قوله: "الأمي". (1)

* * *

= "الذي يؤمن بالله"، يقول: الذي يصدق بالله وكلماته.

* * *

ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "وكلماته". (2)

فقال بعضهم: معناه: وآياته.

* ذكر من قال ذلك:

15247-

حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"الذي يؤمن بالله وكلماته"، يقول: آياته.

* * *

وقال آخرون: بل عنى بذلك عيسى ابن مريم عليه السلام.

* ذكر من قال ذلك:

15248-

حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"الذي يؤمن بالله وكلماته"، قال: عيسى ابن مريم.

15149-

وحدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا

(1)(1) انظر تفسير ((النبي)) فيما سلف 2: 140 - 142 / 6: 284، 380، وغيرها من المواضع. = وتفسير ((الأمي)) ، فيما سلف قريباً ص: 163، تعليق: 3، والمراجع هناك.

(2)

(2) انظر تفسير ((الكلمة)) فيما سلف من الفهارس اللغة (كلم) .

ص: 171