الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مُضَاعَفَةُ الْحَسَنَات
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ، وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا ، وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} (1)
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا ، فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} (2)
وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} (4)
(1)[النساء: 40]
(2)
[البقرة: 245]
(3)
[البقرة: 261]
(4)
[الأنعام/160]
(خ م س حم) وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (" إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ (1) كَتَبَ اللهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا (2) وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقِصَاصُ (3)) (4)(فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ (5) وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ لَهُ بِمِثْلِهَا) (6)(إِلَّا أَنْ يَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهَا (7)) (8)(حَتَّى يَلْقَى اللهَ ")(9)
(1) أَيْ: صَارَ إِسْلَامُهُ حَسَنًا بِاعْتِقَادِهِ وَإِخْلَاصِهِ ، وَدُخُولِهِ فِيهِ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ ، وَأَنْ يَسْتَحْضِرَ عِنْدَ عَمَلِهِ قُرْبَ رَبِّهِ مِنْهُ ، وَاطِّلَاعَهُ عَلَيْهِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْسِيرُ الْإِحْسَانِ فِي حَدِيثِ سُؤَالِ جِبْرِيلَ. (فتح الباري - ح41)
(2)
(أَزْلَفَ) أَيْ: أَسْلَفَ وَقَدَّمَ.
قَالَ النَّوَوِيّ: الصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ - بَلْ نَقَلَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الْإِجْمَاع - أَنَّ الْكَافِر إِذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَة ، كَالصَّدَقَةِ ، وَصِلَة الرَّحِم ، ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَام ، أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ. اِنْتَهَى.
وَالْحَقُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كِتَابَةِ الثَّوَابِ لِلْمُسْلِمِ فِي حَالِ إِسْلَامِهِ تَفَضُّلًا مِنْ اللهِ وَإِحْسَانًا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِكَوْنِ عَمَلِهِ الصَّادِرِ مِنْهُ فِي الْكُفْرِ مَقْبُولًا، وَالْحَدِيثُ إِنَّمَا تَضَمَّنَ كِتَابَةَ الثَّوَابِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْقَبُولِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ يَصِيرُ مُعَلَّقًا عَلَى إِسْلَامِهِ ، فَيُقْبَلُ وَيُثَابُ إِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا قَوِيّ، وَقَدْ جَزَمَ بِمَا جَزَمَ بِهِ النَّوَوِيُّ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيّ وَابْنُ بَطَّال ، وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْقُدَمَاء ، وَالْقُرْطُبِيُّ، وَابْنُ الْمُنِيرِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ.
وَقَالَ ابْن بَطَّال: لِلهِ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَى عِبَادِهِ بِمَا شَاءَ ، وَلَا اِعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.
وَاسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِأَنَّ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب يُؤْتَى أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ الصَّحِيح، وَهُوَ لَوْ مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ الْأَوَّل ، لَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِح، بَلْ يَكُونُ هَبَاءً مَنْثُورًا. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ عَمَلِهِ الْأَوَّلِ يُكْتَبُ لَهُ مُضَافًا إِلَى عَمَلِهِ الثَّانِي.
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا سَأَلَتْهُ عَائِشَةُ عَنْ ابْن جُدْعَانَ ، وَمَا كَانَ يَصْنَعُهُ مِنْ الْخَيْرِ ، هَلْ يَنْفَعُهُ؟ ، فَقَالَ:" إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اِغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين "، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَالَهَا بَعْد أَنْ أَسْلَمَ ، نَفَعَهُ مَا عَمِلَهُ فِي الْكُفْر. (فتح-ح41)
(3)
أَيْ: كِتَابَةُ الْمُجَازَاةِ فِي الدُّنْيَا. (فتح الباري - ح41)
(4)
(س) 4998
(5)
زَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ التَّضْعِيفَ لَا يَتَجَاوَزُ سَبْعمِائَةٍ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَالله يُضَاعِف لِمَنْ يَشَاء} وَالْآيَة مُحْتَمِلَة لِلْأَمْرَيْنِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ تِلْكَ الْمُضَاعَفَةِ ، بِأَنْ يَجْعَلَهَا سَبْعمِائَةٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ يُضَاعِفُ السَّبْعمِائَةِ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا.
وَالْمُصَرِّحُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَدِيثُ اِبْنُ عَبَّاس عِنْد (خ) 6126: " مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ ، إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ "(فتح الباري - ح41)
(6)
(خ) 2442 ، (م) 129
(7)
فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى الْخَوَارِج وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْمُكَفِّرِينَ بِالذُّنُوبِ ، وَالْمُوجِبِينَ لِخُلُودِ الْمُذْنِبِينَ فِي النَّار، فَأَوَّلُ الْحَدِيثِ يَرُدُّ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ فِي الْإِيمَان ، لِأَنَّ الْحُسْنَ تَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُه، وَآخِرُهُ يَرُدُّ عَلَى الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَة. (فتح الباري - ح41)
(8)
(س) 4998
(9)
(م) 205 - (129) ، (حم) 8201
(خ م)، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (" قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ: رَبِّ ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً)(1)(فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً ، فلَا تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا)(2)(فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا)(3)(فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً فَإِنْ عَمِلَهَا ، فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ ")(4)
الشرح (5)
(1)(م) 129 ، (حم) 8203
(2)
(خ) 7062 ، (م) 128
(3)
(م) 129
(4)
(خ) 7062 ، (م) 128
(5)
مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْر بْنِ الطَّيِّبِ أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ بِقَلْبِهِ ، وَوَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَيْهَا، أَثِمَ فِي اِعْتِقَادِهِ وَعَزْمِه ، وَيُحْمَلُ مَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ وَأَمْثَالِهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ فِيمَنْ لَمْ يُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلَى الْمَعْصِيَة ، وَإِنَّمَا مَرَّ ذَلِكَ بِفِكْرِهِ مِنْ غَيْرِ اِسْتِقْرَار، وَيُسَمَّى هَذَا هَمًّا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْهَمِّ وَالْعَزْم.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاض رحمه الله: عَامَّةُ السَّلَفِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْقَاضِي أَبُو بَكْر ، لِلْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِأَعْمَالِ الْقُلُوب، لَكِنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ هَذَا الْعَزْمَ يُكْتَبُ سَيِّئَةً ، وَلَيْسَتْ السَّيِّئَةُ الَّتِي هَمَّ بِهَا ، لِكَوْنِهِ لَمْ يَعْمَلهَا ، وَقَطَعَهُ عَنْهَا قَاطِعٌ غَيْرُ خَوْفِ اللهِ تَعَالَى وَالْإِنَابَة ، لَكِنَّ نَفْسَ الْإِصْرَارِ وَالْعَزْمِ مَعْصِيَةٌ ، فَتُكْتَبُ مَعْصِيَةً ، فَإِذَا عَمِلَهَا كُتِبَتْ مَعْصِيَةً ثَانِيَة.
فَإِنْ تَرَكَهَا خَشْيَةً لِلهِ تَعَالَى ، كُتِبَتْ حَسَنَة كَمَا فِي الْحَدِيث:" وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي " ، فَصَارَ تَرْكُهُ لَهَا لِخَوْفِ اللهِ تَعَالَى ، وَمُجَاهَدَتِه نَفْسَهُ الْأَمَّارَةَ بِالسُّوءِ فِي ذَلِكَ ، وَعِصْيَانُهُ هَوَاهُ حَسَنَةً ، فَأَمَّا الْهَمُّ الَّذِي لَا يُكْتَبُ ، فَهِيَ الْخَوَاطِرُ الَّتِي لَا تُوَطَّنُ النَّفْسُ عَلَيْهَا، وَلَا يَصْحَبُهَا عَقْدٌ وَلَا نِيَّةٌ وَلَا عَزْم.
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِعَزْمِ الْقَلْبِ الْمُسْتَقِرّ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الْآيَة ، وَقَوْله تَعَالَى:{اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ ، إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} .
وَقَدْ تَظَاهَرَتْ نُصُوصُ الشَّرْعِ وَإِجْمَاعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْحَسَد ، وَاحْتِقَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِرَادَةِ الْمَكْرُوهِ بِهِمْ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ وَعَزْمِهَا ، وَالله أَعْلَم. شرح النووي على مسلم - (ج 1 / ص 247)