المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌فصل وَقد استشرف بعض الطالبين إِلَى معرفَة الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف بَين - الجمع بين الصحيحين للحميدي - جـ ٤

[الحميدي، ابن أبي نصر]

فهرس الكتاب

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنهما

- ‌أَفْرَاد البُخَارِيّ

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ فَاطِمَة بنت رَسُول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ أم سَلمَة بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي رضوَان الله عَلَيْهَا

- ‌أَفْرَاد البُخَارِيّ

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب رضي الله عنهما

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب ابْن أُميَّة بن عبد شمس رضي الله عنها

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم الْمُؤمنِينَ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة رضي الله عنها

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ مُسْند أم الْمُؤمنِينَ جوَيْرِية بنت الْحَارِث ابْن أبي ضرار الْخُزَاعِيَّة من بني المصطلق رضي الله عنها

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من حَدِيث أم الْمُؤمنِينَ زَيْنَب بنت جحش بن رِئَاب بن يعمر رضي الله عنها

- ‌ مُسْند أم الْمُؤمنِينَ صَفِيَّة بنت حييّ بن أَخطب رضي الله عنها

- ‌ مُسْند أم الْمُؤمنِينَ سَوْدَة بنت زَمعَة ابْن قيس بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر بن مَالك ابْن حسل بن عَامر بن لؤَي بن عَامر بن فهر رضي الله عنها

- ‌ مُسْند أم هَانِئ بنت أبي طَالب بن عبد الْمطلب رضي الله عنها

- ‌ مُسْند أم الْفضل لبَابَة بنت الْحَارِث أم عبد الله بن الْعَبَّاس رضي الله عنهم

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أَسمَاء بنت أبي بكر رضي الله عنهما

- ‌أَفْرَاد البُخَارِيّ

- ‌أَفْرَاد مُسلم

- ‌ أم كُلْثُوم بنت عقبَة بن أبي معيط

- ‌ أم قيس بنت مُحصن الأَسدِية

- ‌ زَيْنَب بنت أبي سَلمَة ربيبة رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَرَضي الله عَنْهَا

- ‌ فَاطِمَة بنت قيس رضي الله عنها

- ‌ سبيعة الأسْلَمِيَّة رضي الله عنها

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم حرَام بنت ملْحَان بن خَالِد الخزرجية

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم سليم بنت ملْحَان أم أنس ابْن مَالك، رضي الله عنهما

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند زَيْنَب الثقفية

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم شريك

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند الرّبيع بنت معوذ بن عفراء الْأَنْصَارِيَّة رضي الله عنها

- ‌ الْمُتَّفق عَلَيْهِ من مُسْند أم عَطِيَّة وَاسْمهَا نسيبة بنت كَعْب الْأَنْصَارِيَّة رضي الله عنها

- ‌أَفْرَاد البُخَارِيّ من الصحابيات رضوَان الله عَلَيْهِنَّ

- ‌ أم خَالِد بنت سعيد بن الْعَاصِ [رضي الله عنها]

- ‌ أم رُومَان، أم عَائِشَة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنهم

- ‌ خنساء بنت خدام رضي الله عنها

- ‌ أم الْعَلَاء الْأَنْصَارِيَّة رضي الله عنها

- ‌ خَوْلَة بنت ثامر الْأَنْصَارِيَّة رضي الله عنها

- ‌ حَدِيث لصفية بنت شيبَة بن عُثْمَان الْقرشِي [رضي الله عنها]

- ‌أَفْرَاد مُسلم من الصحابيات رضي الله عنهن

- ‌ خَوْلَة بنت حَكِيم السلمِيَّة رضي الله عنها

- ‌ جدامة بنت وهب الأَسدِية رضي الله عنها

- ‌ أم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة [رضي الله عنها]

- ‌ أم هِشَام بنت حَارِثَة بن النُّعْمَان [رضي الله عنها]

- ‌ أم الْحصين الأحمسية [رضي الله عنها]

- ‌ حَدِيث صَفِيَّة بنت أبي عبيد [رضي الله عنها] عَن بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عليه وسلم

- ‌ حَدِيث لأم الدَّرْدَاء [رضي الله عنها]

- ‌فصل

الفصل: ‌ ‌فصل وَقد استشرف بعض الطالبين إِلَى معرفَة الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف بَين

‌فصل

وَقد استشرف بعض الطالبين إِلَى معرفَة الْأَسْبَاب الْمُوجبَة للِاخْتِلَاف بَين الْأَئِمَّة الماضين رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ، مَعَ إِجْمَاعهم على الأَصْل الْمُتَّفق عَلَيْهِ المستبين، حَتَّى احْتِيجَ إِلَى تكلّف التَّصْحِيح فِي طلب الصَّحِيح، وَقربت على هَذَا الطَّالِب معرفَة الْعذر فِي اخْتِلَاف الْمُتَأَخِّرين لبعدهم عَن الْمُشَاهدَة، وَإِنَّمَا تعذر عَلَيْهِ معرفَة الْوَجْه فِي اخْتِلَاف الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم مَعَ مشاهدتهم نزُول التَّنْزِيل، وَأَحْكَام الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وحرصهم على الْحُضُور لَدَيْهِ، والكون بَين يَدَيْهِ، وَالْأَخْذ عَنهُ، والاقتباس مِنْهُ، وَهَذَا الَّذِي وَقع لهَذَا الطَّالِب الباحث قد وَقع لبَعض من قبله الْخَوْض فِيهِ، والبحث عَنهُ.

وَخرج فِي هَذَا الْمَعْنى بعض الْأَئِمَّة من عُلَمَاء الْأَمْصَار فصلا رَأينَا إثْبَاته هَا هُنَا لإِزَالَة هَذِه الشُّبْهَة عَن هَذَا الطَّالِب الباحث وَعَن غَيره مِمَّن يخفى ذَلِك عَنهُ، ويتطلع إِلَى معرفَة الْوَجْه فِيهِ. وَبِهَذَا الْفَصْل يتَصَوَّر للْكُلّ صُورَة وُقُوع ذَلِك مِنْهُم، وَكَيْفِيَّة اتفاقه لَهُم، حَتَّى كَأَنَّهُ شَاهده مَعَهم. وَهَذَا أول الْفَصْل الْمخْرج فِي ذَلِك، أوردناه بِلَفْظ مُصَنفه رَحْمَة الله عَلَيْهِ:

قَالَ لنا الْفَقِيه الْحَافِظ أَبُو مُحَمَّد عَليّ بن أَحْمد بن سعيد اليزيدي الْفَارِسِي رضي الله عنه فِي بَيَان أصل الِاخْتِلَاف الشَّرْعِيّ وأسبابه.

تطلعت النَّفس بعد تيقنها أَن الأَصْل الْمُتَّفق عَلَيْهِ المرجوع إِلَيْهِ، أصلٌ وَاحِد لَا يخْتَلف، وَهُوَ مَا جَاءَ عَن صَاحب الشَّرْع صلى الله عليه وسلم، إِمَّا فِي الْقُرْآن، وَإِمَّا من فعله أَو قَوْله الَّذِي لَا ينْطق عَن الْهوى فِيهِ، لما رَأَتْ وشاهدت من اخْتِلَاف عُلَمَاء الْأمة فِيمَا سَبيله وَاحِدَة، وَأَصله غير مُخْتَلف، فبحثت عَن السَّبَب الْمُوجب للِاخْتِلَاف، ولترك من ترك كثيرا مِمَّا صَحَّ من السّنة، فوضح لَهَا بعد التفتيش والبحث أَن كل

ص: 323

وَاحِد من الْعلمَاء بشرٌ يسنى كَمَا ينسى الْبشر. وَقد يحفظ الرجل الحَدِيث وَلَا يحضرهُ ذكره حَتَّى يُفْتِي بِخِلَافِهِ، وَقد يعرض هَذَا فِي آي الْقُرْآن، أَلا ترى أَن عمر رضي الله عنه أَمر على الْمِنْبَر أَلا يُزَاد فِي مُهُور النِّسَاء على عدد ذكره، ميلًا إِلَى أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم لم يزدْ على ذَلِك الْعدَد فِي مُهُور نِسَائِهِ، حَتَّى ذكرته امرأةٌ من جَانب الْمَسْجِد بقول الله تَعَالَى {وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النِّسَاء] فَترك قَوْله وَقَالَ: كل أحدٍ أعلم مِنْك حَتَّى النِّسَاء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: امرأةٌ أَصَابَت وَرجل أَخطَأ. علما مِنْهُ رضي الله عنه بِأَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَإِن كَانَ لم يزدْ فِي مُهُور النِّسَاء على عددٍ مَا، فَإِنَّهُ لم يمْنَع مَا سواهُ، وَالْآيَة أَعم.

وَكَذَلِكَ أَمر رضي الله عنه برجم امرأةٍ ولدت لسِتَّة أشهر، فَذكره عليٌّ رضي الله عنه قَول الله تَعَالَى {وَحمله وفصاله ثَلَاثُونَ شهرا} [الْأَحْقَاف] مَعَ قَوْله تَعَالَى:{والوالدات يرضعن أَوْلَادهنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلين} [الْبَقَرَة] فَرجع عَن الْأَمر برجمها.

وهم أَن يَسْطُو بعيينة بن حصن إِذْ جَفا عَلَيْهِ، حتي ذكره الْحر بن قيس بقول الله عز وجل {وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} [الْأَعْرَاف] فَأمْسك عمر.

وَقَالَ رضي الله عنه يَوْم مَاتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم:

مَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَلَا يَمُوت حَتَّى يكون آخِرنَا، حَتَّى قُرِئت عَلَيْهِ {إِنَّك ميت وَإِنَّهُم ميتون} [الزمر] فَرجع عَن ذَلِك. وَقد كَانَ علم الْآيَة، وَلكنه نَسِيَهَا لعَظيم الْخطب الْوَارِد عَلَيْهِ فَهَذَا وجهٌ عمدته الْخلاف لِلْآيَةِ أَو للسّنة بنسيان لَا بِقصد. وَقد يذكر الْعَالم الْآيَة أَو السّنة، لَكِن يتَأَوَّل فِيهَا تَأْوِيلا من خُصُوص أَو نسخ أَو معنى مَا، وَإِن كَانَ ذَلِك يحْتَاج إِلَى دَلِيل.

وَلَا شكّ أَن الصَّحَابَة رضي الله عنهم كَانُوا بِالْمَدِينَةِ حوله عليه السلام مُجْتَمعين، وَكَانُوا ذَوي معايش يطلبونها، وَفِي ضنكٍ من الْقُوت، وَمن متحرفٍ فِي الْأَسْوَاق، وَمن قَائِم على نخله، ويحضره عليه السلام فِي كل وقتٍ مِنْهُم طَائِفَة إِذا وجدوا أدنى فراغٍ مِمَّا هم بسبيله. وَقد نَص على ذَلِك أَبُو هُرَيْرَة رضي الله عنه فَقَالَ: إِن إخْوَانِي من الْمُهَاجِرين كَانَ يشغلهم الصفق بالأسواق، وَإِن

ص: 324

إخْوَانِي من الْأَنْصَار كَانَ يشغلهم الْقيام على نَخْلهمْ، وَكنت أمرا مِسْكينا أصحب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم على ملْء بَطْني. وَقد قَالَ عمر رضي الله عنه: ألهاني الصفق بالأسواق فِي حَدِيث اسْتِئْذَان أبي مُوسَى.

فَكَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يسْأَل عَن الْمَسْأَلَة، وَيحكم بالحكم، وَيَأْمُر بالشَّيْء، وَيفْعل الشَّيْء، فيحفظه من حَضَره، ويغيب عَمَّن غَابَ عَنهُ.

فَلَمَّا مَاتَ عليه السلام وَولي أَبُو بكر رضي الله عنه كَانَ إِذا جَاءَت الْقَضِيَّة لَيْسَ عِنْده فِيهَا نصٌّ سَأَلَ من بِحَضْرَتِهِ من الصَّحَابَة فِيهَا، فَإِن وجد عِنْدهم نصا رَجَعَ إِلَيْهِ، وَإِلَّا اجْتهد فِي الحكم فِيهَا. وَوجه اجْتِهَاده غَيره مِنْهُم رضوَان الله عَلَيْهِم رجوعٌ وَإِلَى نصٍّ عَام، أَو إِلَى أصل إِبَاحَة مُتَقَدّمَة، أَو إِلَى نوع من هَذَا يرجع إِلَى أصل. وَلَا يجوز أَن يظنّ أحدٌ أَن اجْتِهَاد أحدٍ مِنْهُم هُوَ أَن يشرع شَرِيعَة باجتهادٍ مَا، أَو يخترع حكما لَا أصل لَهُ - حاشاً لَهُم من ذَلِك.

فَلَمَّا ولي عمر رضي الله عنه فتحت الْأَمْصَار، وتفرق الصَّحَابَة فِي الأقطار، فَكَانَت الْحُكُومَة تنزل بِمَكَّة أَو بغَيْرهَا من الْبِلَاد، فَإِن كَانَ عِنْد الصَّحَابَة الْحَاضِرين لَهَا نصٌّ حكم بِهِ، وَإِلَّا اجتهدوا فِي ذَلِك. وَقد يكون فِي تِلْكَ الْقَضِيَّة نصٌّ مَوْجُود عَن صَاحب آخر فِي بلد آخر، وَقد حضر الْمدنِي مَا لم يحضر الْمصْرِيّ، وَحضر الْمصْرِيّ مَا لم يحضر الشَّامي وَحضر الشَّامي مَا لم يحضر الْبَصْرِيّ، وَحضر الْبَصْرِيّ مَا لم يحضر الْكُوفِي، وَحضر الْكُوفِي مَا لم يحضر الْمدنِي. كل هَذَا مَوْجُود فِي الْآثَار، وتقتضيه الْحَالة الَّتِي ذكرنَا من مغيب بَعضهم عَن مَجْلِسه صلى الله عليه وسلم فِي بعض الْأَوْقَات وَحُضُور غَيره، ثمَّ مغيب الَّذِي حضر وَحُضُور الَّذِي غَابَ، فيدري كل وَاحِد مِنْهُم مَا حَضَره، ويفوته مَا غَابَ عَنهُ. هَذَا أمرٌ مشَاهد.

ص: 325

وَقد كَانَ علم التَّيَمُّم عِنْد عمارٍ وَغَيره، وَغَابَ عَن عمر وَابْن مَسْعُود حَتَّى قَالَا:

لَا يتَيَمَّم الْجنب وَلَو لم يجد المَاء شَهْرَيْن. وَكَانَ حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ عِنْد عَليّ وَحُذَيْفَة وَلم تعلمه عَائِشَة وَلَا ابْن عمر وَلَا أَبُو هُرَيْرَة، على أَنهم مدنيون. وَكَانَ تَوْرِيث بنت الابْن مَعَ الْبِنْت عِنْد ابْن مَسْعُود وَغَابَ عَن أبي مُوسَى. وَكَانَ حكم الاسْتِئْذَان عِنْد أبي مُوسَى وَأبي سعيد وَأبي، وَغَابَ عَن عمر. وَكَانَ حكم الْإِذْن للحائض فِي أَن تنفر قبل أَن تَطوف عِنْد ابْن عَبَّاس وَأم سليم وَلم يُعلمهُ عمر وَزيد ابْن ثَابت. وَكَانَ حكم تَحْرِيم الْمُتْعَة والحمر الْأَهْلِيَّة عِنْد عليٍّ وَغَيره وَلم يُعلمهُ ابْن عَبَّاس. وَكَانَ حكم الصّرْف عِنْد عمر وَأبي سعيد وَغَيرهمَا، وَغَابَ ذَلِك عَن طَلْحَة وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر. وَكَذَلِكَ حكم إجلاء أهل الذِّمَّة من بِلَاد الْعَرَب، كَانَ عِنْد ابْن عَبَّاس وَعمر، فنسيه عمر سِنِين، فتركهم حَتَّى ذكر بذلك فَذكره، فأجلاهم.

وَمثل هَذَا كثير.

فَمضى الصَّحَابَة على هَذَا، ثمَّ خلف بعدهمْ التابعون الآخذون عَنْهُم، وكل طبقَة من التَّابِعين فِي الْبِلَاد الَّتِي ذكرنَا فَإِنَّمَا تفقهوا مَعَ من كَانَ عِنْدهم من الصَّحَابَة، فَكَانُوا لَا يتعدون فتاويهم، لَا تقليداً لَهُم، وَلَكِن لأَنهم أخذُوا وَرووا عَنْهُم الْيَسِير مِمَّا بَلغهُمْ عَن غير من كَانَ فِي بِلَادهمْ من الصَّحَابَة رضي الله عنهم، كاتباع أهل الْمَدِينَة - فِي الْأَكْثَر - فَتَاوَى ابْن عمر، وَاتِّبَاع أهل مَكَّة - فِي الْأَكْثَر - فَتَاوَى ابْن عَبَّاس، وَاتِّبَاع أهل الْكُوفَة - فِي الْأَكْثَر - فَتَاوَى ابْن مَسْعُود.

ثمَّ أَتَى من بعد التَّابِعين فُقَهَاء الْأَمْصَار، كَأبي حنيفَة وسُفْيَان وَابْن أبي ليلى بِالْكُوفَةِ، وَابْن جريج بِمَكَّة، وَمَالك وَابْن الْمَاجشون بِالْمَدِينَةِ، وَعُثْمَان البتي وسوار بِالْبَصْرَةِ وَالْأَوْزَاعِيّ بِالشَّام، وَاللَّيْث بِمصْر، فجروا على تِلْكَ الطَّرِيقَة من أَخذ كل واحدٍ مِنْهُم عَن التَّابِعين من أهل بَلَده وتابعيهم عَن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم.

وَرُبمَا كَانَ عِنْدهم وَفِي اجتهادهم فِيمَا لَيْسَ عِنْدهم وَهُوَ مَوْجُود عِنْد غَيرهم، وَلَا يُكَلف الله نفسا إِلَّا وسعهَا، وكل من ذكرنَا مأجورٌ على مَا أصَاب فِيهِ أَجْرَيْنِ،

ص: 326

ومأجورٌ فِيمَا خَفِي عَنهُ وَلم يبلغهُ أجرا وَاحِدًا. قَالَ الله تَعَالَى: {لأنذركم بِهِ وَمن بلغ} [الْأَنْعَام] .

وَقد يبلغ الرجل مِمَّن ذكرنَا نصان ظاهرهما التَّعَارُض، فيميل إِلَى أَحدهمَا بضربٍ من الترجيحات، ويميل غَيره إِلَى النَّص الَّذِي ترك الآخر بِضَرْب من الترجيحات أَيْضا، كَمَا رُوِيَ عَن عُثْمَان فِي الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ: أَحَلَّتْهُمَا آيةٌ وحرمتهما آيةٌ.

وكما مَال ابْن عمر إِلَى تَحْرِيم نسَاء أهل الْكتاب جملَة بقوله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا المشركات حَتَّى يُؤمن} [الْبَقَرَة] وَقَالَ: لَا أعلم شركا أَكثر من قَول الْمَرْأَة: إِن عِيسَى رَبهَا، وَغلب ذَلِك على الْإِبَاحَة المنصوصة فِي الْآيَة الْأُخْرَى. وَمثل هَذَا كثير.

فعلى هَذِه الْوُجُوه ترك بعض الْعلمَاء مَا تركُوا من الحَدِيث وَمن الْآيَات، وعَلى هَذِه الْوُجُوه خالفهم نظراؤهم، فَأخذ هَؤُلَاءِ مَا ترك أُولَئِكَ. وَأخذ أُولَئِكَ مَا ترك هَؤُلَاءِ، لَا قصدا إِلَى خلاف النُّصُوص، وَلَا تركا لطاعتها، وَلَكِن لأحد الْأَعْذَار الَّتِي ذَكرنَاهَا، إِمَّا من نِسْيَان وَإِمَّا أَنَّهَا لم تبلغهم، وَإِمَّا لتأويل مَا، وَإِمَّا لأخذ بِخَبَر ضَعِيف لم يعلم الْآخِذ بِهِ ضعف رُوَاته وَعلمه غَيره، فَأخذ بِخَبَر آخر أصح مِنْهُ، أَو بِظَاهِر آيَة. وَقد يتَنَبَّه بَعضهم فِي النُّصُوص الْوَارِدَة إِلَى معنى، ويلوح لَهُ مِنْهُ حكم بدليلٍ مَا، ويغيب عَن غَيره.

ثمَّ كثرت الرحل إِلَى الْآفَاق، وتداخل النَّاس، وانتدب أَقوام لجمع حَدِيث النَّبِي صلى الله عليه وسلم وضمه وتقييده، وَوصل من الْبِلَاد الْبَعِيدَة إِلَى من لم يكن عِنْده، وَقَامَت الْحجَّة على من بلغه شيءٌ مِنْهُ، وجمعت الْأَحَادِيث المبينة لصِحَّة أحد التأويلات المتأولة فِي الحَدِيث. وَعرف الصَّحِيح من السقيم، وزلف الِاجْتِهَاد الْمُؤَدِّي إِلَى خلاف كَلَام رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَإِلَى ترك عمله، وَسقط الْعذر عَمَّن خَالف مَا بلغه من السّنَن ببلوغها إِلَيْهِ، وَقيام الْحجَّة بهَا عَلَيْهِ، فَلم يبْق إِلَّا العناد والتقليد.

وعَلى هَذِه الطَّرِيقَة كَانَ الصَّحَابَة رضي الله عنهم وكثيرٌ من التَّابِعين يرحلون فِي طلب الحَدِيث الْأَيَّام الْكَثِيرَة، طلبا للسنن، والتزاماً لَهَا، وَقد رَحل أَبُو أَيُّوب من الْمَدِينَة إِلَى مصر فِي حَدِيث وَاحِد إِلَى عقبَة بن عَامر، ورحل عَلْقَمَة وَالْأسود إِلَى

ص: 327

عَائِشَة وَعمر، ورحل عَلْقَمَة إِلَى أبي الدَّرْدَاء بِالشَّام، وَكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغيرَة: أكتب إِلَيّ بِمَا سمعته من رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، وَمثل هَذَا كثير.

قَالَ أَبُو مُحَمَّد: فقد بَينا - وَالْحَمْد لله - وَجه ترك بعض الحَدِيث، وَالسَّبَب الْمُوجب للِاخْتِلَاف، وشفينا النَّفس مِمَّا اعْترض فِيهَا، ورفعنا الْإِشْكَال عَنْهَا، وَالله عز وجل الْمعِين على الْبَحْث، وَالْهَادِي والمرشد بمنه.

وَبِهَذَا الْبَيَان الَّذِي كشف بِهِ هَذَا الإِمَام فِي هَذَا الْفَصْل صُورَة الْحَال فِي أَسبَاب الِاخْتِلَاف الْوَاقِع بَين الصَّحَابَة فَمن دونهم، صَحَّ للأئمة الْمُتَقَدِّمين رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ - وجوب طلب التَّصْحِيح للنصوص الْوَارِدَة فِي شرائع الدّين، لتقوم الْحجَّة مِمَّا يَصح مِنْهَا على الْمُخْتَلِفين. وَقد قَامَ الْكل مِنْهُم فِي ذَلِك بِمَا قدر عَلَيْهِ، وانتهت استطاعته إِلَيْهِ، إِلَى أَن انْفَرد بالمزيد فِي الِاجْتِهَاد والرحلة إِلَى الْبِلَاد فِي جمع هَذَا النَّوْع من الْإِسْنَاد، بعد التتبع والانتقاد، الإمامان أَبُو عبد الله مُحَمَّد ابْن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ، وَأَبُو الْحُسَيْن مُسلم بن الْحجَّاج النَّيْسَابُورِي رضي الله عنهما، فحازا قصب السَّبق فِيهِ فِي وقتهما. ولفرط عنايتهما بِهِ، وبلوغها غَايَة السَّعْي والتشمير فِيهِ، قويت هممها فِي الْإِقْدَام على تَسْمِيَة كِتَابَيْهِمَا بِالصَّحِيحِ. وَعلم الله عز وجل صدق نيتهما فِيهِ، ومشقة قيامهما بِهِ، وَحسن انتقادهما لَهُ، فَبَارك لَهما فِيهِ، ورزقهما الْقبُول شرقاً وغرباً، وَصرف الْقُلُوب إِلَى التعويل عَلَيْهِمَا، والتفضيل لَهما، والاقتداء فِي شُرُوط الصَّحِيح بهما. وَتلك عَادَة الله فِيمَن أحب: أَن يضع لَهُ الْقبُول فِي الأَرْض، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَر الصَّادِق عَن الْمَبْعُوث بِالْحَقِّ صلى الله عليه وسلم، فهنيئاً لَهما، وَلمن اهْتَدَى فِي ذَلِك بهداهما.

وَالْوَاجِب علينا وعَلى جَمِيع من فهم الْإِسْلَام، وَعرف قدر مَا حفظا من الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام، أَن يخلص الدُّعَاء لَهما ولسائر الْأَئِمَّة الناقلين إِلَيْهِمَا وإلينا قَوَاعِد هَذَا الدّين، وشواهد أَحْكَام الْمُسلمين.

ص: 328

وَنحن نبتهل إِلَى الله تَعَالَى فِي تَعْجِيل الغفران لَهما وَلَهُم، وتجديد الرَّحْمَة والرضوان عَلَيْهِمَا، وَأَن يبوئ الْكل مِنْهُم فِي أَعلَى دَرَجَات الكرامات، من غرفات الجنات، وَأَن يوفقنا أَجْمَعِينَ للاقتداء بهم، والسلوك فِي سبيلهم من الدُّعَاء إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُوله، والانقياد لمحكمات تَنْزِيله، والتفقه فِي دينه، وَالْإِخْلَاص فِي عِبَادَته، والانقطاع إِلَيْهِ، وَصدق التَّوَكُّل عَلَيْهِ، حَتَّى يتوفانا مُسلمين مُسلمين، غير مبدلين وَلَا مغيرين، وان يغْفر لنا ولآبائنا أَجْمَعِينَ، وَلِجَمِيعِ الْمُسلمين.

وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين

وَصلى الله على رَسُوله مُحَمَّد النَّبِي وَآله الأكرمين، وَسلم.

ص: 329