المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الركن السادس: ترتيب معظم الأركان - الحج من نظم الإمام العمريطي الشافعي في «نهاية التدريب في نظم غاية التدريب»

[محمد محيي الدين حمادة]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌شروط وجوب الحج

- ‌أركان الحج

- ‌الركن الأول من أركان الحج هو الإحرام

- ‌الركن الثاني الوقوف بعرفة

- ‌الركن الثالث: الحلق أو التقصير

- ‌الركن الرابع: السَّعي

- ‌الركن الخامس الطواف:

- ‌الركن السادس: ترتيب معظم الأركان

- ‌واجبات الإحرام

- ‌الواجب الأول: الإحرام من الميقات

- ‌الواجب الثاني: الرمي

- ‌الواجب الرابع: المبيت بمنى

- ‌الواجب الخامس: التحذير من الوقوع في محرمات الإحرام

- ‌الواجب السادس: طواف الوداع:

- ‌أبرز المستحبات في الحج

- ‌محرمات الإحرام

- ‌الفداء من اقتراف محظورات الإحرام

- ‌الدماء في الإحرام(أقسامها ـ خصوصيتها ـ ما يقوم مقامها)

- ‌دم التخيير والتقدير

- ‌دم التخيير والتعديل

- ‌شرب زمزمٍ ندبٌ

- ‌ملحق هام في أبرز مزارات مكة

- ‌ غار ثور

- ‌دار الندوة:

- ‌دار السيدة خديجة رضي الله عنها:

- ‌الأخشبان:

- ‌شِعبُ أبي طالب:

- ‌المحصَّب

- ‌مسجد الراية:

- ‌مسجد خالد بن الوليد:

- ‌مقبرة المعلاة:

- ‌سَرِف:

- ‌مسجد الفتح بالجموم:

- ‌غار حراء:

الفصل: ‌الركن السادس: ترتيب معظم الأركان

ولأن ستين رحمة من أصل مائة رحمة تنزل على البيت تختص بالطائفين، بينما المصلون هناك ينالهم منها عشرون رحمة ومثلها من نصيب الناظرين.

‌الركن السادس: ترتيب معظم الأركان

بأن يقدم الإحرام على الجميع، ويقدّمَ الوقوف على طواف الإفاضة، وركنِ الحلقِ والتقصيرِ. ولا بد من تقديم الطواف على السعي إن لم يكن قد سعى بعد طواف القدوم.

دليل هذا اتّباع رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطواته المباركة في حجة الوداع.

فهذه هي الأركان التي يقوم عليها بنيان الحج الشامخ، وهي ذاتها

ـ باستثناء الوقوف بعرفة (1) ـ أركان العمرة التي يدخل بها المسلم محرماً إلى مكة لشموله الأدلة السابقة لها، لذلك قال العلامة العمريطي:

وكلّها غير الوقوف تعتبرْ

أركان كلَّ عمرة بها عتمرْ

فالعمرة لها أركان خمسة هي عين ما ذكر في الحج، نذكر منها الإحرام (2)، وهو نية الدخول في نُسكها، وصفته فيها كصفته في الحج من حيث استحباب الغسل للإحرام، والتطيُّب، والتنظيف، والتلبية.

= ولأن الحج لا يفوت إلّا بفواته ثم لم يرد غفران الذنوب في شيء كالذي ورد في الوقوف بعرفة. انظر مغني المحتاج .. للعلامة الشربيني جـ (1) صـ 493.

(1)

أيضاً يستثنى الركن الخامس للحج وهو الترتيب؛ لأن معنى الترتيب في الحج هو ترتيب معظم الأركان وفق ما سبق بيانه، بينما الترتيب في العمرة يقصد به ترتيب جميع الأركان.

(2)

قال العلامة ابن حجر الهتمي في حاشيته على شرح الإيضاح صـ 425: مرّ أن المعتمد إذا اغتسل للإحرام من نحو التنعيم كفاه عن غسل دخول مكة».

ص: 32

وللعمرة إلى جانب هذه الأركان واجبان اثنان (1).

أحدهما: الإحرام من الميقات.

الثاني: اجتناب محرمات الإحرام.

ثم الإحرام بالعمرة المفردة عن الحج له ميقاتان: ميقات زماني، وآخر مكاني.

أما الزماني فجميع السنة وقت لأداء العمرة فيه. قال إمامنا النووي: «فيجوز الإحرام بها في كل وقت من غير كراهة، وفي يوم النحر، وأيام التشريق لغير الحاج (2)، وأما الحاج فلا يصح إحرامه بالعمرة ما دام محرماً بالحج، وكذلك

(1) انظر مغني المحتاج للعلامة الشربيني جـ 1 صـ 513.

(2)

هذا هو مذهب السادة الشافعية لكن اجتهاد أصحاب المذهب الحنفي هو الكراهة التحريمية للعمرة يوم عرفة وأربعة أيام بعده، هي يوم النحر وأيام التشريق، وقد ذهبوا في اجتهادهم إلى وجوب الدم على من فعلها في ذلك عندهم. لاشتغال هذه الأيام بأداء الحج، وبالتالي فإن العمرة فيها تشغل الحاج عن مناسكه، بل ربما وقع له خلل في حجه بسبب ذلك. ومما استدلوا به حديث رواه البيهقي عن عائشة قالت: حلت العمرة في السنة كلها إلّا أربعة أيام: يوم عرفة، ويوم النحر، ويومان بعد ذلك» لكن قال الإمام الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الذي ساق هذا الخبر في السنن الكبرى برقم (8822): وهذا موقوف أي على السيدة عائشة وليس مرفوعاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قال بعد هذا: وهو محمول عندنا على من كان مشتغلاً بالحج، فلا يُدخل العمرة عليه حتى يكمل عمل الحج كله، فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أبا أيوب الأنصاري وهبار بن الأسود حين فات كل واحد منهما الحج بأن يتحلل بعمل عمرة انظر السنن الكبرى للبيهقي جـ 6 صـ 477. وهذا القول عن المذهب الحنفي ساقه أستاذنا الدكتور نور الدين عتر، ثم ساق عن كثير من فقهاء الحنفية قولهم: يكره للمكي العمرة في أشهر الحج لمن أراد الحج في ذلك العام؛ لأنه يصير بذلك متمتعاً، وأهل مكة لا تمتع لهم عند أصحاب المذهب الحنفي. وبالتالي يجب عليهم دم لإساءتهم التمتع حيث لاحق لهم فيه. ثم قال: وقال بعض كبار الحنفية: لا كراهة ولو حج من عامه ذاك ولا دم عليه لكن لا يحصّل فضيلة التمتع المسنون، «ورجحه ابن عابدين» ثم قال في تعليقه على كلامه ذاك في الحاشية: وهو معتمد للفتوى في مذهب الحنفية، أي ابن عابدين. أنظر الحج والعمرة في الفقه الإسلامي د. عتر فقرة (84/صـ 131 - 132).

ص: 33

لا يصح إحرامه بها بعد التحلّلين ما دام مقيماً بمنى للرمي، فإذا نفر من منى النَّفْر الثاني، أو الأول، جاز أن يعتمر فيما بقي من أيام التشريق (1)، لكن الأفضل أن لا يعتمر حتى تنقضي أيام التشريق (2)» (3).

وأما الميقات المكاني للعمرة فهو بالنسبة لمن هو خارج مكة كالحج تماماً، فمن كان آفاقياً قادماً من وراء المواقيت المكانية كأبيار علي، أو ذات عرق أو يلملم أو الجحفة أو غيرها فهذه المواقيت هي المواضع التي لا يجوز لمن أراد عمرة أن يتجاوزها إلّا بعد أن يُهل منها بعمرة وهي ذات المسألة التي عالجناها في ميقات الحج لمن أراد حجاً وقد قدم من الآفاق ماراً بأحد مواقيت الحج المذكورة.

ومن كان يقيم بين حدود الحرم المكي وأحد المواقيت المذكورة، كمن يقيم بين مكة وذي الحليفة مثلاً وهي مسافة تتجاوز بطولها، الأربعمائة كيلومتر، فهذا حكمه في العمرة حكم الحج بالضبط فيحرم من حيث أنشأ من القرية التي يسكنها لا يجاوزها بغير إحرام إن قصد من توجهه إلى مكة المكرمة حجاً أو

(1) قال العلامة ابن حجر الهتيمي في حاشيته على شرح الإيضاح ص 425: فعلمنا أن الملحظ الصحيح أن الوقت مستحق لبقية النسك فلا يصرف لنسك آخر. وقد دلّ على ما قلناه كلام الشافعي والأصحاب حيث قال - وتبعوه - لو نفر النفر الأول، ثم اعتمر لزمت، لأنه لم يبق عليه للحج عمل. قال أصحابه: ومتى لم ينفر نفراً شرعياً واعتمر في بقية أيام التشريق لم تنعقد؛ لأن ما بقي من مناسك الحج وتوابعه يمنع من الاشتغال بها كالصوم. إذا علمت ذلك ظهر لك أنه لا يصح الإحرام وإن قصد ترك الرمي والمبيت». أقول: والنفر الشرعي يكون بعد زوال شمس اليوم الثاني ورميه كما بسطه ابن حجر بعد ذلك.

(2)

تجوز العمرة بعد انقضاء مناسك النفر من منى، حتى ولو لم يؤدِّ طواف الوداع؛ لأن الوداع كما قال العلامة السبكي آخر أفعال الحج، فلا يمكن تقديمه على العمرة، فجاز وقوع العمرة قبله، وإن كان مقتضى الأمر خلاف ذلك، إن قلنا: الطواف نسك (طواف الوداع) وهو المشهور. انظر نفس المرجع والصفحة.

(3)

انظر نفس المرجع والصفحة.

ص: 34

عمرة، وذلك في مذهب الشافعية والحنبلية.

وقال المالكية: يُحرم من دارة أو مسجده لا غير. أي إنّ موقع الإحرام عندهم أضيق من القرية التي يقطنها وفق ما ذكر الشافعية.

وقال الحنفية: ميقاته الحل كله فيحرم من أي موضع شاء من الحلّ وبهذا يكون مذهبهم أوسع المذاهب الإسلامية في إحرام القاطن في أرض المواقيت بينها وبين مكة (1).

أما بالنسبة لمن هو في منطقة مكة، سواء كان من أهلها أو غريباً عنها فميقاته في العمرة أدنى الحل، فيلزم المسلم هناك إذا أراد العمرة أن يخرج إلى جهة الحل، ولو بخطوة منه على حدود الحرم المكي، أو بأقل منها، ولو بأن يضع قدماً داخلها وأخرى خارجها. ويصح ذلك من أي جانب شاء من الحرم (2).

وفي هذا تفترق العمرة عن الحج، فمن كان في مكة مقيماً أو مستوطناً وأراد الحج فإنه يحرم من داره لكن من أراد عمرة فإنه يحرم من أدنى الحل. ويذكر بعض الفقهاء الحكمة من هذا أنّ الحج يؤدّى من خارج مكة وهو عرفة فأبيح الإحرام به لمن هو في مكة من مكة نفسها، أما العمرة فيبدأ العمل بها بالنسبة لأهل الحرم وينتهي في المسجد الحرام، فلم يَجُزْ أن يحرم به من مكة، وإنما من أدنى الحل. ويذكر الشافعية أنه إنْ أحرم بالعمرة من الحرم، ثم أدى أركانها دون أن يخرج إلى الحل، فقد أجزأته، وصحت منه، لكن يلزمه دم (3) في أصحّ قولي

(1) انظر الحج والعمرة في الفقه الإسلامي د. نور الدين عتر فقرة (84) ص 132.

(2)

الحاشية للعلامة ابن حجر على شرح الإيضاح للنووي ص 422

(1)

نفس المرجع ص 424، والمنهاج القويم على المقدمة الحضرمية للعلامة ابن حجر الهيتمي ص 410.

ص: 35

الشافعي رحمه الله (1) وبالتالي، فإنْ أحرم بالعمرة داخل حدود الحرم المكي، فقد انعقد إحرامه، (وهذا هو الركن الأول من أركان العمرة) ويلزمه الخروج إلى يدخل الحل محرماً، ثم يدخل لحرم، فيطوف طواف العمرة (الركن الثاني فيها)، ثم يسعى بين الصفا والمروة (الركن الثالث فيها)، ثم يحلق أو تقصير متحللاً بذلك (الركن الرابع) وبذا تكون قد تمّت عمرته، مع مراعاة الترتيب بين الأركان، ولا دم عليه، لكن الأفضل أن يؤخر الإحرام بعمرته إلى الحل.

وأما ميقات التنعيم فقد أمر النبي محمد صلى الله عليه وسلم زوجه المبجلة فلأمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار من هناك في الحديث المتفق عليه الذي أُمر فيه عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر أُخته عائشة رضي الله عنهم جميعاً من التنعيم، وهو الموضع الذي صار يعرف اليوم بمساجد عائشة، والذي هو أقرب الحلّ إلى مكة (2).

وأما الحديبية، فلأنه صلى الله عليه وسلم اعتمر منها عمرته الأولى حين صده المشركون سنة ست للهجرة، ثم اعتمر صلى الله عليه وسلم عمرته الثانية في العام القابل سنة سبع من الحديبية أيضاً (3)، فيما يعرف بعمرة القضاء أو القضية (4).

(1) القول الثاني عند الشافعي أن عمرته لا تجزيه حتى يخرج إلى الحل، وأنه لا يزال محرماً حتى يخرج إلى هناك.

(2)

لهذين الأمرين: اعتمار عائشة وقرب الميقات اختار الحنفية والحنبلية التنعيم على غيرها من المواقيت، فهو عندهم الميقات الأفضل. انظر الفقه الإسلامي وأدلته د. وهبة الزحيلي جـ 3 ص 2126، والمنهاج القويم لابن حجر ص 410.

(3)

قال الإمام ابن حجر العسقلاني في فتح الباري جـ 3 صـ 759: . « .. ؛ لأنَّ كلاً منهما كان من الحديبية» .

(4)

قال العلامة ابن حجر العسقلاني: وقال ابن التين: في عدهم عمرة الحديبية التي صُدَّ عنها ما يدل على أنها عمرة تامة، وفيه إشارة إلى صحة قول الجمهور إنه لا يجب القضاء على من صُدَّ عن البيت خلافاً للحنفية. ولو كانت عمرة القضية بدلاً من عمرة الحديبية لكانتا واحدة، وإنما سميت عمرة القضية والقضاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً فيها، لا أنها وقعت قضاء عن العمرة التي صُدّ عنها، إذ لو كان كذلك لكانتا عمرة واحدة». انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ 3 ص 760.

ص: 36

هذا والجعرانة (1) موضع مشهور بين مكة والطائف، وإلى حدود الحرم أقرب، وعن مسجده يبعد ستة فراسخ أي بما يزيد عن خمسة وعشرين كيلومتراً.

قال العلامة ابن حجر: سميت باسم امرأة كانت تلقب بالجعرانة من تميم. وقيل: من قريش وهي المشار إليها بقوله تعالى: كالتي نقضت غزلها (2).

وبالجعرانة ماء شديد العذوبة. قال الفاكهي: يقال إنه صلى الله عليه وسلم حفر موضعه بيده الشريفة المباركة فانبجس فشرب منه وسقى الناس، أوغرز رمحه فنبع.

قال الواقدي كمجاهد: وإحرامه صلى الله عليه وسلم بها من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالعدوة القصوى. قال: وكانت ليلة الأربعاء ثنتي عشرة بقين من ذي القعدة اهـ. ولا يقال: إنما اعتمر بها مجتازاً في رجوعه من الطائف لما صح من أنه صلى الله عليه وسلم خرج منها ليلاً معتمراً ثم عاد، وأصبح كبائت» (3).

وميقات التنعيم أمام أدنى الحل قليلاً وليس بطرفه، يقال إنه سمّي بذلك؛

(1) للجعرانة ضبطان: الأشهر الذي نقله النووي عن الشافعي أن ذلك بكسر الجيم وسكون العين وتخفيف الراء، وهذا الضبط عند المحققين وأئمة اللغة. الثاني بكسير الجيم وكسر العين وتشديد الراء وهو صواب أيضاً، وعليه عامة المحدثين. ولا وجه لمن قال: إنه من تصحيف المحدثين. والله أعلم. انظر حاشية العلامة ابن حجر الهيتمي على شرح الإيضاح في مناسك الحج للنووي ص 422.

(2)

تمام الجملة القرآنية هذه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا} [النحل: 92]، والنقض والنكث واحد، والجمع أنكاث، وفي الآية تشبيه بمن يحلف ويبرم العهد ثم ينقضه بامرأة تغزل غزلها، وتفتله محكماً قوياً، وفي الآخر تنقضه وتحلّه، فتكون قد أضاعت وقتها دون أن تنتفع منه بشيء. وهل المثل على امرأة بعينها؟ هذا قول للمفسرين أنه في امرأة حمقاء بعينها. والقول الثاني أن ذلك ورد مضرباً للمثل، لا على امرأة بعينها، ويبدو لي أنه الصحيح، والله تعالى أعلم. انظر تفسير القرطبي جـ 10 صـ 153.

(3)

الحاشية لابن حجر الهيتمي ص 422 - 423.

ص: 37

لأنّ على يمينه جبلاً يقال له نعيم، وعلى يساره آخر يقال له ناعم، وهوبواد يقال له نعمان (1).

وإنما قدّم على الحديبية لأمره صلى الله عليه وسلم عائشة بالاعتمار من هناك، ولما قيل من أنه صلى الله عليه وسلم جعله ميقاتاً لأهل مكة (2)، ولما ذكر من أنه صلى الله عليه وسلم غير ثوبي الإحرام هناك حين أتى مكة حاجاً (3).

وميقات الحديبية (4) وهو على الطريق بين جدة ومكة، من جانب طريق جدة القديم الذي لم يعد يسلكه الحجاج والعمار اليوم، وهي في الأصل اسم لبئر هناك.

وتفضيل الحديبية على غيرها من المواقيت سوى ما ذكرنا يعود إلى دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم منها لعمرته التي أحرم بها من ذي الحليفة، ثم صدّ عنها هناك، ثم لإحرامه في العام القابل منها أيضاً. فهي تمتاز بأنه صلى الله عليه وسلم حلَّ بها معتمراً، وصلى فيها، وبايع فوق أرضها أصحابه الكرام، وكتب فيها الصلح المعروف بصلح الحديبية، وقبله البيعة المذكورة في القرآن المشهورة ببيعه الرضوان، حيث جاء هذا كله مقدمة لفتح مكة المكرمة، لاسيما وأن سورة الفتح نزلت بشأن الحديبية،

(1) نفس المرجع ص 423، وانظر حاشية العلامة الباجوري جـ 1 ص 470

(2)

قال العلامة ابن حجر في حاشيته في نفس الصفحة: ويؤيده رواية الفاكهي وغيره كأبي داود في مراسيله عن ابن سيرين أنه صلى الله عليه وسلم وقَّت لأهل مكة أي لعمرتهم ـ كما في رواية ـ التنعيم أقول: ومن البدهي أن المرسل وهو الذي من سنده ذكرُ الصحابي سقط، يندرج تحت مسمّى الحديث الضعيف.

(3)

قال العلامة ابن حجر في المرجع والصفحة: لما أخرجه الطبراني أنه صلى الله عليه وسلم غيّرَ ثوبي الإحرام عند التنعيم حين دخل مكة

(4)

الضبط بحاء مضمومة ثم ياء أولى مخففة ثم ياء ثانية مخففة، وهي لغة أهل الحجاز. الضبط الثاني بتثقيل الياء الثانية وهي لغة أهل العراق. انظر فتح الباري جـ 7 ص 548.

ص: 38

لذلك قال الإمام القرطبي: نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأْن الحديبية من أولها إلى آخرها (1).

لهذا الذي سبق ذكره ذهب بعض علماء الشافعية إلى تقديمها على التنعيم. قال العلامة ابن حجر الهيتمي: ومن ثمة قدمها الشيخ أبو حامد على التنعيم، وعليه فأُجيب بأنّ الأمر باعتمار عائشة منه إنما كان لضيق الوقت (2).

ولبالغ الأهمية الذي يتربّع عليه ميقات الحديبية في منعطفٍ بارز من تاريخنا الإسلامي، فإنني أتوقف عند أهم المحطات التي لوّنت تلك البقعة التي شرفت بمزيد من الفضل بحلول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بها معتمراً، مستقبلاً وحي ربه، لهذا أقول:

صلح الحديبية جرى في شهر ذي القعدة، آخر سنة ست للهجرة. تعود أسبابه إلى شوق المسلمين الذي جاش في قلوبهم إلى مكة المكرمة، ونفحاتها الإيمانية، حتى إذا سنحت الفرصة وأذن الله أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الملأ أنه متوجه إلى مكة معتمراً، فما لبث أن تبعه جمع غفير من المهاجرين والأنصار، وسائر إخوانهم من المسلمين (3)، الذين كانوا خيرَ أهل الأرض آنذاك (4)، وبلغوا

(1) الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله القرطبي جـ 16 ص 221.

(2)

الحاشية لابن حجر ص 424.

(3)

في صحيح البخاري في كتاب المغازي برقم (4155) بترقيم أحاديث فتح الباري: وكانت أسلمُ ثُمْنَ المهاجرين.

(4)

جاء في صحيح البخاري في كتاب المغازي برقم (4154) بترقيم أحاديث فتح الباري قال عمرو: سمعت

جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خيرُ أهل الأرض. وكنا ألفاً وأربعمائة» . قال الإمام ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري: هذا صريح في فضل أصحاب الشجرة، فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما، وعند أحمد بإسناد حسن عن أبي سعيد الخدري قال: لما كان بالحديبية قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: لا توقدوا ناراً بليل، فلما كان بعد ذلك قال: أوقدوا واصطنعوا فإنه لا يدرك قومٌ بَعْدَكم صاعكم ولا مدّكم. وعند مسلم من حديث جابر مرفوعاً: لا يدخل النار مَن شهد بدراً والحديبية، وروى مسلم أيضاً من حديث أم مبشر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل النار أحد من أصحاب الشجرة. وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأن علياً كان من جملة من خوطب بذلك، وممّن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائباً كما تقدم في المناقب من حديث ابن عمر، لكن تقدم في حديث ابن عمر المذكور أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم إلى بعض، .... انظر فتح الباري جـ 7 صـ 552 - 553.

ص: 39

ألفاً وأربعمائة معتمر، خرجوا مع نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم من المدينة المنورة يوم الاثنين لهلال ذي القعدة (1).

قافلة المدينة أحرمت بعمرتها من ذي الحليفة في وادي العقيق على مقربة من المدينة المنورة (2).

وقد ساق قائد هذا الركب المبارك صلى الله عليه وسلم الهدي معه، لتعلم قريش أنه جاء معتمراً، معظماً للبيت، لا محارباً، فيأمن الناس ويطمئنوا (3).

وفي درس جديد من دروس الخبرة والحكمة والأخذ بالأسباب الدنيوية بعد تمام التوكل على الله تعالى، أرسل رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم بِسْرَ بن سفيان من خزاعة عيناً له (4)، يأتيه بأخبار مكة ليدرس أحوالهم، قبل أن يصل إليهم، وسار رسول الله حتى إذا كان بغدير الأشطاط التقى بالعين، الذي قال له: إن قريشاً جمعوا لك جموعاً، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت

(1) فتح الباري جـ 7 صـ 548.

(2)

صحيح البخاري بترقيم أحاديث فتح الباري (4157)(4158).

(3)

نفس المرجع والحديث.

(4)

فتح الباري جـ 5 صـ 409.

ص: 40

ومانعوك»! هناك التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه يخاطبهم باللغة التي اعتاد أن يتبادلها معهم، وهي لغة استطلاع الآراء وسبرها ودراستها، واختيار المناسب منها على طريقة الدول المتحضرة اليوم، وفي سبق واضح عليها، فقال:

«أشيروا أيها الناس عليّ» .

فقال له أبو بكر: يا رسول الله، خرجتَ عامداً لهذا البيت لا تريد قتلَ أحد، ولا حرب أحدٍ، فتوجَّهْ له، فمن صدّنا عنه قاتلناه.

حينئذ أخذ رسولنا صلى الله عليه وسلم بزمام الناقة وقال للركب الكريم: امضوا على اسم الله (1).

وترسيخاً منه صلى الله عليه وسلم للعمل بالأساليب الحربية الحكيمة، التي تفاجئ العدو، ولا تريق دماً، وحرصاً منه على رسالة الأمن والسلام، وتجلية لحقيقة القصد الذي من أجله جاء وهو العمرة وثوابها دون أي رغبة أخرى قد تتمخض عن سنيّ الصراع بين الحق والباطل، أو التوحيد والوثنية فقد قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه بعد أن أُخبر بأنّ خالد بن الوليد في موضع يقال له الغميم (2)، في خيل لقريش طليعةً (3) لهم: من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم (4)؟ فأجابه رجل من أسلم (5):

(1) نفس المرجع ورقم الحديث.

(2)

الغميم هو مكان بين مكة والمدينة. قال العلامة ابن حجر العسقلاني جـ 5 صـ 410: وسياق الحديث ظاهر في أنه كان قريباً من الحديبية قال: وهو قريب من مكان بين رابغ والجحفة

(3)

الطليعة مقدمة الجيش، وقد كان خالد في مائتي فارس فيهم عكرمة بن أبي جهل. انظر نفس المرجع والجزء والصفحة.

(4)

انظر فقه السيرة لأستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، فصل بعنوان: صلح الحديبية صـ 339.

(5)

قبيلة يقال لها: (أَسْلَمْ).

ص: 41

أنا يا رسول الله، فسلك بهم طريقاً وَعْراً بين الشعاب، فو الله ما شعر بهم خالد بن الوليد حتى رأى من بعيد قَتَرَةَ الجيش (1)، فانطلق يركض نذيراً لقريش، يخبرها بتسلل محمد صلى الله عليه وسلم إلى تخوم مكة، أي في الوقت الذي وصل فيه المسلمون فعلاً إلى طريق في الجبل يشرف على الحديبية، ويُهبَط منها عليهم، يدعى ثنية المِرار (2)، حيث بركت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزجرها الناس بالقول المعهود عندهم إذا تركت ناقةٌ السير، وهو: حَلْ، حَلْ، طلباً لقيامها فامتنعت، ولم تستجبْ لهم، فظنوا أنه قد أصابها ما يصيب النوق من الأحوال، فقالوا: خَلأتِ القصواء (3)! فتدخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم ليذكرهم بسلطان الله على الوجود، وأنّ الناقة التي بركت يوماً في المدينة لتحدد للمسلمين موضع المسجد النبوي الذي تشد إليه الرحال من كل أرض، هي ذاتها التي تبرك اليوم بإلهام من خالقها، لأمر لا يدري عنه المسلمون شيئاً، لذلك قال لهم: ما خَلأتْ القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل (4).

(1) القَتَرَة الغبار الأسود، أي غبار الجيش.

(2)

فتح الباري جـ 5 ص 410.

(3)

القصواء اسم ناقة رسول صلى الله عليه وسلم، ومعنى خَلأت أي تأبت عن القيام؛ لأن الخَلاء للإبل كالحران للخيل. نفس المرجع والجزء ص 411.

(4)

أي حبسها الله عز وجل عن دخول مكة كما حبس الفيل عن دخولها. قال العلامة ابن حجر العسقلاني: ومناسبة ذكرها أن الصحابة لو دخلوا مكة على تلك الصورة وصدّهم قريش عن ذلك لوقع بينهم قتال قد يفضي إلى سفك الدماء ونهب الأموال كما لو قُدّر دخول الفيل وأصحابه مكة، لكن سبق في علم الله تعالى في الموضعين أنه سيدخل في الإسلام خلق منهم، ويستخرج من أصلابهم ناس يسلمون ويجاهدون، وكان بمكة في الحديبية جمع كثير مؤمنون من المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، فلو طرق الصحابة مكة لما أمن أن يصاب ناس منهم بغير عمد كما أشار إليه تعالى في قوله:{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} [الفتح: 25] الآية .. انظر فتح الباري نفس الجزء والصفحة.

ص: 42

قال: ثم زجرها فوثبت: أي بعد أن ظنوا أولاً أنها خلأت، وفي هذا تأكيد أنها عندما بركت فإنما فعلت ذلك بأمرِ الله إشارةً منها إلى ما لم تنتبه له العقول، وأنها بمجرد وصول الرسالة عادت تستجيب للزجر فقامت من جديد.

بعد الوثوب عدل بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ورائه قافلة ضيوف الرحمن، حتى نزل بأقصى الحديبية على حُفَيرة فيها ماء مثمود، أي قليل فلم يلبث الناس حتى نزحوه، وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فو الله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه (1).

وفي رواية أنهم نزلوا يوم الحديبية على بئر فنزحوها، فأتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى البئر، وقعد على شفيرها، ثم قال: ائتوني بدلومن ما ئها، فأُتيَ به، فبصق، فدعا، ثم قال: دعوها ساعة. فأَرْوَوْا أَنفسهم ورِكابهم حتى ارتحلوا (2).

وفي رواية أن الناس عطشوا يوم الحديبية، وبين رسول الله رَكْوَةٌ، فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مالكم؟ قالوا: يا رسول الله، ليس عندنا ماء نتوضأ به، ولا نشربُ إلّا ما في رَكْوَتك. قال: فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده في الرَّكْوَة، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوَضَّأنا (3).

هذه الروايات جمع بعض العلماء بينها بأَنَّ ذلك وقع أكثر من مرة (4)، وبأَنّ حديث نبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم، والذي يرويه جابر كان حين حضرت صلاة

(1) صحيح البخاري في كتاب الشروط برقم (2731)

و (2732).

(2)

صحيح البخاري في كتاب المغازي برقم (4151).

(3)

صحيح البخاري في المغزي برقم (4152).

(4)

نقل ذلك العلامة ابن حجر العسقلاني في فتح الباري عن الإمام ابن حِبَّان جـ 7 صـ 551.

ص: 43

العصر، عند إرادة الوضوء لها.

كما يحتمل أن يكون الماء لما تفجر كم بين أصابعه ويده الشريفة في الرَكوة، حيث توضؤا جميعاً وشربوا، حينئذ أمر صلى الله عليه وسلم بصب الماء الذي بقي في الرَكوة في بئر الحديبية، فتكاثر الماء من جديد، بعد أن كان تكاثر يوم ألقى سهمه الشريف فيه.

والحق أنها روايات ثابتة نأخذ بها جميعاً.

قال: فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر معه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي (1) نزلوا أعداد مياه الحديبية (2) ومعهم العُوْذُ والمطافيل (3)، وهم مقاتلوك وصادّوك عن البيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إنّا لم نجئ لقتال أحد، ولكنّا جئنا معتمرين» .

هذا القول الفصل ينفي من جديد أي احتمال لاجتياح أو نية سوء مبيتة، ثم إنّ الإحرام والعدد الذي صاحب نبينا صلى الله عليه وسلم يعضد ذلك.

(1) قال العلامة ابن حجر العسقلاني: إنما اقتصر على ذكر هذين لكون قريش الذين كانوا بمكة أجمع ترجع أنسابهم إليهما. انظر نفس المرجع جـ 5 صـ 414 ـ.

(2)

قال العلامة ابن حجر في المرجع والجزء والصفحة: «الأعداد بالفتح جمع عِدّ بالكسر والتشديد وهو الماء الذي لا انقطاع له وغفل الداوُدي فقال: هو بموضع بمكة. وقول بديل هذا يشعر بأنه كان بالحديبية مياه كثيرة، وأن قريشاً سبقوا إلى النزول عليها فلهذا عطش المسلمون حيث نزلوا على الثَمَدِ المذكور» . أقول: الثَمَدُ حُفَيرة فيها ماء.

(3)

العُوْذُ جمع عائذ وهي الناقة ذات اللبن، والمطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها. قال العلامة ابن حجر في الموضع المذكور: يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزوّدوا بألبانها ولا يرجعوا حتى يمعنوه، أو كنى بذلك عن النساء معهنّ الأطفال، والمراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم وأولادهم لإرادة طول المقام، وليكون أدعى إلى عدم الفرار ....

ص: 44

لكنّ الرسول الخاتم ينطق بالمبادئ الأساسية لأمته، لتتعلم أن لا تفريط في ثوابت الشريعة، ومقدساتها، ومن ذلك البيت ساحة الإسراء، والأقصى فضاء المعراج، والمسجد النبوي أحد المساجد الثلاثة التي تشدّ إليها رحال المسلمين.

قال صلى الله عليه وسلم ما يقدم لنا الجانب الآخر الذي تتكامل به الشخصية الصحيحة للحاج والمعتمر:

وإنّ قريشاً قد أنهكتهم الحرب، وأضرّت بهم، فإنْ شاؤوا ما دَدْتُهم مدة ويخلّوا بيني وبين الناس، فإنْ أظْهَرْ فإنْ شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلَّا فقد جَمُّوْا (استراحوا)، وإن هم أبَوْا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي (1)، ولينفذنّ الله أمره».

فقال بديل: سأبلغهم ما تقول: فانطلق بديل فحدّث قريشاً بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عروة بن مسعود يعرض على المشركين أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيكلمهم في تفصيل ما جاء به بديل بن ورقاء. فقالوا له: دونك فاذهب.

ذهب عروة فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جولة أخرى بمثل ما كلمه به بديل، لكن قال له عروة: أرأَيْتَ إن استأصلتَ أمرَ قومك، هل سمعتَ بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك».

(1) السالفة صفحة العنق، وكنّى بذلك عن القتل؛ لأن القتيل تنفرد مقدمة عنقه. قال العلامة ابن حجر العسقلاني في موضعه ص 415:«وقال الداوُدي: المراد الموت، أي حتى أموت وأبقى منفرداً في قبري. ويحتمل أن يكون أراد أنه يقاتل حتى ينفرد وحده في مقاتلتهم» . وقال ابن المثير: لعله صلى الله عليه وسلم نَبَه بالأدنى على الأعلى، أي إنّ لي من القوة بالله والحول به ما يقتضي أن أُقاتل عن دينه لو انفردتُ، فكيف لا أقاتل عن دينه مع وجود المسلمين وكثرتهم ونفاذ بصائرهم في نصر دين الله تعالى».

ص: 45

هذا هو الاحتمال الأول للصورة التي ستؤول إليها الأمور، أما الاحتمال الآخر فقد عرضه بطريقة فيها شيء من التأدب، مع مكرٍ وخبث ودهاء في طبيعة ما ألقاه على مسامع المسلمين:«وإن تكن الأخرى، فإني والله لا أرى وجوهاً، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفرُّوا ويدَعوك! » .

فلم يصرح له بالأخرى وهي أن تكون الغلبة لقريش، لكنه صرّح بشيء مسموم دسه في فؤاد هذا الكلام، وهو أنه لا يأمن على محمد صلى الله عليه وسلم من نكران أصحابه له إنْ غُلب؛ لأنهم حسب وصفه ليسوا بالوجوه التي تحفظ حق الصحبة، وتعرف قدر المتبوع! كلهم أشواب أي من أخلاط شتى (1)، حقيقاً (2) أن يسلّموك إلى قدرك المحتوم حينئذ وينفضوا عنك.

وربما أشار هذا الكلام إلى العادة التي جرت في الجيوش في عرف تلك الأيام أن القوات المجمَّعة من قبائل وأصقاع شتى لا يؤمن عليها الفرار يوم الزحف، بخلاف المقاتلين المنتسبين إلى قبيلة واحدة؛ لأن التقاليد القبلية إنّ التقاليد تجعلهم يأنفون مثل هذا الخُلُقِ الذميم.

لمز عروة لهذا، دون أن ينتبه إلى أن الإسلام الذي خرج ضياء ينير الطريق في ظلام الجزيرة العربية وسائر أنحاء العالم، إنما جمع أتباعه من عرب وعجم، سادة وموالٍ، فقراء وأغنياء بداوةٍ وحضر، خلف محور جامع هو العقيدة

(1) قال العلامة ابن حجر العسقلاني: والأشواب الأخلاط من أنواع شتى، والأوباش، والأخلاط من السفلة، فالأوباش أخصّ من الأشواب. انظر نفس المرجع والجزء صـ 416 - 417.

(2)

حقيقاً هي تفسير للفظة خليقاً وزناً ومعنى. يقال: خليق للواحد والجمع، ولذلك وقع صفة لأشواب. اُنظر نفس المرجع والجزء والصفحة.

ص: 46

الإسلامية التي رمزت لها كعبة الله المشرفة في قلب المسجد الحرام، الذي يقف المسلمون اليوم على أبوابه.

هذا الكلام الاستفزازي الذي يطلقه لسان كافر حاقد جاحد بالله ورسوله والكتاب المبين، جاهل بالركائز التي يقوم عليها هذا الدين، لم يتركه الصحابة ليمرّ دون محاسبة، فانبرى أبو بكر الصديق رضي الله عنه صاحب المواقف الرجولية الحاسمة، فردّ هراءه باسم الصحب الكرام جميعاً بالقول الذي لم يكن ينتظره أو يتوقعه:

امصَصْ بظْرَ اللات، أنحن نفر عنه وندعه (1)؟ !

فالتفت عروة قائلاً وقد أدهشه الردّ الجرئء: من ذا؟

قالوا: أبو بكر (2).

قال عروة: أما والذي نفسي بيده، لولا يد كانت لك عندي (3) لم أجزك بها، لأجبْتُك (4).

(1) قال العلامة ابن حجر العسقلاني في الموضع المذكور:

والبظر بفتح الموحدة وسكون المعجمة قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتمَ بذلك لكن بلفظ الأم، فأراد أبو بكر المبالغة في سب عروة بإقامة من كان يعبد مقام أمه، وحمله على ذلك ما أغضبه منه من نسبة المسلمين إلى الفرار، وفيه جواز النطق بما يستبشع من الألفاظ لإرادة زجر من بدا منه ما يستحق به ذلك. وقال ابن المنير: في قول أي بكر تخسيس للعدو، وتكذيبهم، وتعريضٌ بإلزامهم من قولهم: إنّ اللات بنتُ الله! تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً، بأنها لو كانت بنتاً لكان لها ما يكون للإناث.

(2)

وفي رواية ابن إسحاق: فقال: من هذا يا محمد؟ قال: هذا ابنُ أبي قحافة.

(3)

اليد هي أن المغيرة بن شعبة كان قد قتل قبل إسلامه ثلاثة عشر رجلاً، فودى له عروة المقتولين، فأعانه أبو بكر فيها بعون حسن.

(4)

وزاد ابن إسحاق: ولكن هذه بها أي جازاه بعدم إجابته عن شتمه، عن يده التي كان قد أحسن إليه بها.

ص: 47

بعد هذا الحوار الاعتراضي عاد الكلام بين الرسول صلى الله عليه وسلم وعروة مندوب قريش، الذي جعل يكلّم النبي صلى الله عليه وسلم، ويأخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف، وعليه المغفر، فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية نبيّنا عليه السلام، ضرب المغيرة يده بنَعْل السيف (1)، وقال له: أَخِّر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهناك رفع عروة رأسه ليتساءل عن هذا الذي آذاه مراراً، وأغضبه (2)، فقال: من هذا يا محمد؟

فأجابه رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ابنُ أخيك المغيرة بن شعبة (3) فقال عروة: أيْ غُدَر، ألستُ أسعى في غَدْرتِك (4)؟ وكان المغيرة صحب قوماً (5) في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم بعد ذلك أسلم. هذا وقد علّق رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم على القصة يومها بقوله: أما الإسلام فأقبل، وأما المال فلستُ منه في شيء (6).

قال: ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه. قال: فو الله ما تنخَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نُخامة إلّا وقعت في كفِّ رجلٍ منهم، فدلك بها وجهه وجلده.

(1) هو ما يكون عند قبضته من حديد أو فضة.

(2)

قال في فتح الباري: وفي رواية أبي الأسود عن عروة: فلما أكثر المغيرة مما يقرع يده غضب، وقال: ليت شعري، من هذا الذي قد آذاني من بين أصحابك؟ والله لا أحسبُ فيكم ألأَمَ منه، ولا أشرّ منزلة. جـ 5 صـ 418.

(3)

هذا من رواية ابن إسحاق. وعروة بن مسعود هو عم المغيرة بن شعبة.

(4)

ممنوع من الصرف على وزن فُعَل مثل عُمر معدول به عن عامر، بوزن فاعل، وغُدَر عن غادر.

(5)

أي ألست أسعى في دفع شرّ غدرتك. وفي رواية: والله ما غسلت يدي من غدرتك، لقد أورثتنا العداوة في ثقيف أي؛ لأن النفر المقتولين كانوا من ثقيف.

(6)

أي أما الإسلام فأقبله، وأما المال الذي أخذه المغيرة فلا أتعرض له لكونه أخذه غدراً، وفي هذا دليل على أنه لا يحل مال الكفار في حال الأمن غدراً، وأنه لا يحل إلّا بالمحاربة والمغالبة. انظر فتح الباري جـ 5 صـ 418.

ص: 48

وإذا أمرهم ابتدروا أمره.

وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وَضوئه.

وإذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده.

وما يُحدُّون إليه النظر تعظيماً له (1).

(1) هذه الصورة تحتاج منا إلى شرح وتعليق، بيد أني لم أجد لبيانها كلاماً وافياً أرقى وأوفى من كلام أُستاذنا العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في موضعين من كتابه فقه السيرة الأولى في صـ 205: ولقد ضلَّ قومٌ حسبوا أنَّ محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لها معنى إلّا الاتباع والاقتداء. وفاتهم أن الاقتداء لا يأتي إلّا بوازع ودافع. ولن تجد من وازع يحمل على الاتباع إلّا المحبة القلبية التي تهز المشاعر وتستبد بالعواطف. ولذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم مقياس الإيمان بالله القلب بمحبته صلى الله عليه وسلم، بحيث تغدو متغلبة على محبة الولد والوالد والناس أجمعين. وهذا يدل على أن محبة الرسول من جنس محبة الوالد والولد. أي مصدر كل منهما العاطفة والقلب وإلَّا لم تصح المقارنة والمفاضلة بينهما.

الموضع الثاني هو في بيانه حول هذه الصورة مباشرة وفيها يقول في صـ 351 وما بعدها:

حدثني صديق أُجلّه أن رجلاً عمد إلى الصفحة التي فيها كلام عروة هذا، من كتابي هذا: فقه السيرة فاستنسخ منها ما شاء من الصور بالـ (فوتوكوبي) وجعل يدور بها على الناس، متخذاً منها وثيقة اتهام، بل انتقاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم!

وأقول: أمّا ما عمد إليه هذا الرجل من استكثاره لهذه الصفحة التي تضمنت هذا البيان، ونشرها في الناس، ولفْت انتباههم إلى ما قد دلّت عيه، فلا ريب أنه مشكور على ذلك ومأجور، لو خلصت النية وصفا القصد .. فإنّ عمله هذا ليس إلّا تأكيداً لحقيقة ثابتة قد يجهلها كثير من الناس اليوم، ألا وهي شدة تعظيم الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمبْلغ الذي بلغه حبهم العجيب له! .. وما أكثر الألغاز الجاثمة التي تتحدى العقل، في معالم الفتح الإسلامي وأحداثه، لو لم يفسرها هذا الحب العظيم الذي هيمن على مجامع القلوب، وامتد إلى أغوار النفوس، والذي جاء ثمرة اليقين العقلي الجازم بأنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم هو رسول الله ورحمته المهداة إلى الناس أجمعين.

وأما ما قصد إليه هذا الإنسان، من وراء ذلك، من تشويه مكانة محمد صلى الله عليه وسلم في القلوب، وإظهاره في أعين الناس في مظهر المدِلِّ على أصحابه، المتلذذ برؤية هذا الذي يتسابقون إليه، وإبرازه في صورة الثقيل السمج، دأْبه أن يُريَ الناس من نفسه ما كان خليقاً به أن يستره عنهم، يروضهم بذلك على حبه والاستئناس بكل ما قد يتصل به أو ينفصل عنه .. =

ص: 49

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= أقول: أمّا ما قصد إليه هذا الرجل من ذلك، فقد أبْعَدَ النُّجعَةَ، وأخطأ الطريق، وخانه الهدف! .. أقول: كثيرون هم الذين سعوا هذا السعي، واعتصروا الفكر، واستنجدوا بالحيلة، وناشدوا التاريخ، كي يتاح لهم أن ينسجوا صورة من هذا القبيل لمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما عادوا من سعيهم أو محاولتهم بأي طائل. وظل كل من العقل والتاريخ والفكر الحر أميناً على الكلمة الجامعة التي وصف الله بها محمداً صلى الله عليه وسلم:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} .

اقرأ ما تشاء من صفحات أي كتاب في شمائل هذا الرسول العظيم، تجد نفسك أمام المثل الأعلى، والنموذج الأتم للإنسانية السامية الصافية عن الشوائب، وللذوق الرفيع في مقاييس المعاملة والسلوك، والمرهف في رعاية الآخرين والاهتمام بهم، وللنظافة والرتابة وأناقة الشكل والمظهر، وللتواضع المتناهي أمام كل فئات أصحابه.

ولم يكن يستقبل الوافدين إليه إلّا بأنظف الثياب، وأبهى الحلل.

كان أشدّ ما يكون حرصاً على أن لا يرى الناسُ إلّا ما تُسَرُّ به العين، وأن لا تقع أُنوفهم منه إلّا على أطيب رائحة. وقد ثبت أنه كان ينفق جلَّ ماله في الطيب.

لم يكن يأكل ثوماً أو بصلاً أو أي طعام يتأذى الناس منه برائحة كريهة. ولما كان ضيفاً في دار أبي أيوب الأنصاري، في أيامه الأولى من هجرته إلى المدينة، وعادت قصعة الطعام من عنده مرة دون أن يطعم منها شيئاً، فزع أبو أيوب وهرع إلى رسول الله يسأله عن سبب ذلك، فقال: لقد شممت فيه رائحة تلكم الشجرة (أي الثوم) وأنا أُناجى (أي يزورني الناس وأُحادثهم) أما أنتم فكلوا.

وكان إذا مضى لقضاء حاجة، أبعدَ، ثم أبعد، حتى لا يقع الناس منه على أثر. وكان يرجّل شعره، ويتعهد فمه وأسنانه، وربما أبصر صُفْرة في أسنان بعض جلسائه، فتوجه إلى الجميع بنصيحة عامة ونقد رفيق، وقال: ما لكم لا تأتونني قُلما لا تتسوكون؟ هذا هو محمد عليه الصرة السلام، في بعض ما تتحدث عنه شمائله المعبرة عن سمو أخلاقه، ورقة شعوره وشفافية ذوقه ونبل إحساسه فهل ترى في هذه اللوحة الإنسانية النموذجية مساحة ما، لقبول أي عبث أو تزوير وتشويه؟ .

إذن فليس في شيء من حديث عروة بن مسعود عن حب الصحابة لرسولهم، ما يلحق بالرسول أي منقصة في طبعه، أو يصمه بأي غلظة في تعامله وسلوكه، أو يبرزه في مظهر المدلِّ زهُوّاً على أصحابه، أو الدافع لهم على ما فعلوا.

فإن أراد هذا الرجل أن يتحول بعدئذٍ بالنقد والاشمئزاز إلى أولئك الناس الذين ساقهم الحب على ما صنعوا، فإن عليه أن يتبين قبل كل شيء خصمه الحقيقي الذي أثار في نفسه بواعث النقد ولاشمئزاز حتى لا يتهم البرآء ظلماً وعدواناً. =

ص: 50

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= وإنما خصمه في هذه الدعوى هو الحب ....

الحب هو الذي حمل أولئك الناس على فعل ما وصفه عروة بن مسعود، وفعل ما هو أبلغ من ذلك.

والحب هو الذي لين تحت سلطانهم الحديد، وقرب إليهم البعيد، وجعل المستحيل بين أيديهم ممكناً، وجعل القُبْحَ جميلاً، والملح الزُّعَاقَ حلواً طيب المذاق.

هذا هو شان الحب، وذلك هو جبروته وسلطانه.

فإن علم هذا الرجل، أن في نواميس هذه الحياة سلطاناً أقوى نفوذاً إلى النفوس، وهيمنة على القلوب من سلطانه، فليَشْكُهُ إليه، وليَسْتَعْدِهِ عليه، وليصف له اشمئزاز نفسه من هذا الذي يفعله الحب، بنفوس الناس، ومن العمل الذي يحملهم عليه. ولكن يا عجباً

يرى ويعلم هذا الرجل وأمثاله ما يفعله الحب الأرعن بأصحابه، أعني ذلك الحب الذي يتسلل على القلب في غفلة من العقل، أومع تحدّ للعقل وأحكامه، إذْ يسوقه إلى شذوذات عجيبة من السلوك ويزجه في أوحال من المهانة والقذارة التي يشمئز من بيانها البيان، فلا يستعظم من ذلك شيئاً، ولا تشعر نفسه الحساسة بأي قرف أو اشمئزاز، بل ما أكثر ما يبارك كتّابٌ وأدباء، وشعراء، هذا هو الشذوذ (الوري)، وما أسهل أن يتصوره أو يصوّره تجسيداً رائعاً للهيجان الخمريّ المعتق.

حتى إذا رأى صورة ذلك الحب العلوي الذي ينسكب في المشاعر من القلب والعقل معاً، وأبصر شيئاً من آثاره في حياة صاحبه وسلوكه، تعجب واستغرب، واصطنع التأفف والاشمئزاز، وأخذ يندب اللباقة والذوق الرفيع.

ألا فليعلم هذا الرجل وأمثاله أن كل شيء في الدنيا يخضع لقانون مستقل عنه إلّا الحب، فلن تراه خاضعاً إلَّا لقانونه ذاته.

والويل كل الويل لمن كان حب قلبه تمرداً على عقله.

وليهنأ ذاك الذي كان حبه القلبي تجاوباً مع قراره العقلي. وحسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شرفاً وفخراً أن الحب الذي استبدّ بقلوبهم لرسول الله كان شعاع إيمانهم العقلي بصدق نبوته وسموّ مكانته عند رب العالمين جل جلاله. فليفعل بهم هذا الحب ما شاء، وليحملهم على التبرك والتمسح بعرقه وبصاقه وما يتساقط من شعره، وما يتقاطر من ماء وضوئه .. فإنما هي لغة الحب .. ولا تصاغ لغة الحب إلّا في داخل بوتقته، ولا يتحكم بها غيره.

وإني لأعلم أن في الناس اليوم من لو رأت أعينهم محمداً صلى الله عليه وسلم يمشي على الأرض لهاج بهم هائج الحب ولخروا على الأرض يلعقون الثرى الذي سما وازدهى تحت قدمي رسول الله.

ولا يخاصم منطق الحب هذا إلّا من يقارعه بمنطق الكراهية والبغض.

وخصومة كهذه لا يقرها منطق، ولا يدعمها عقل، إذ من البديهي أن الجدل حول أمر ما، لا يتحرك =

ص: 51

قال فرجع عروة إلى أصحابه، فقال أي قوم والله لقد وفَدْتُ على الملوك ووفَدْتُ على قيصر وكسرى والنجاشي، والله إنْ رأيت مليكاً قط يعظمه أصحابه ما يعِّظمُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم محمداً.

ثم ساق ما سبق ذكره ثم قال لهم:

وإنه قد عرض عليكم خطة رُشدٍ فاقبلوها، فقال رجل من بني كنانة (1): دعوني آتيه، فقالوا: ائْته. فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البُدنَ فابعثوها له (2)، فَبُعِثَتْ له، واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله، ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت. فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البُدنَ وقد قُلِّدَتْ وأُشْعِرَتْ، فما أرى أن يصدوْا عن البيت (3).

قال: فقام رجل منهم يقال له مِكْرَزُ بن حَفصْ، فقال: دعوني آته، فقالوا ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا مِكْرَزٌ، وهو رجل فاجر (4).

= ويتفاعل إلّا فوق أرض من اليقين بحقيقة مشتركة بين الطرفين.

وقد التقطت حكمة الدهر كلمة قيل إنّ مجنون بني عامر قالها يوم سمع في الناس من يعيب عليه وينتقده لتعلقه بليلى، وهي: رفيماً زعموا سمراء دميمة فقال: لو نظروا إليها بعيني لعلموا أنهم مخطئون.

(1)

اسمه الحُليس، وكان من رؤوس الأحابيش وهم: بنو الحارث، وبنو المصطلق، والقارة.

(2)

أي أثيروها أمامه دفعة واحدة.

(3)

وفي رواية ابن إسحاق: وغضب وقال يا معشر قريش، ما على هذا عاقدناكم، أيصدُ عن بيت الله من جاء معظماً له؟ فقالوا: كف عنا يا حُلَيْسٌ حتى نأخذ لأنفسنا ما نرضى .. انظر فتح الباري جـ 5 صـ 419 ـ.

(4)

وفي رواية ابن إسحاق: وهو رجل غادر. وذلك صحيح من سيرة ميكرز فقد كان معروفاً بالغدر، وقد سبق له أن قتل عامر بن يزيد سيد بني بكرة، كما ذكر الواقدي بأنه خرج على المسلمين يوم الحديبية ليلاً بخمسين رجلاً ينوي الغدر، فأُسروا ولأَفلتَ مِكْرَز، وكأنه صلى الله عليه وسلم أشار بعبارة إلى ما سيكون منه، وفي هذا إعجاز جديد. انظر نفي المرجع والجزء صـ 420.

ص: 52

قال: فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، فينما هو يكلمه إذْ جاء سهيل بن عمرو، فلما جاء قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد سَهُلَ لكم من أمركم (1).

قال: فجاء سُهيْل بن عمرو فقال: هاتِ اكتُبْ بيننا وبينكم كتاباً. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتبَ (2).

قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا علي: بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال سُهيْل: أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي، ولكن اكتب: باسمك اللهمّ كما كنت تكتب، فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرحمن الرحيم.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اكتب باسمك: «باسمك اللهمّ» .

ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للكاتب: هذا ما قضى عليه محمد رسول الله.

فقال سُهيْل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «والله إني لرسول الله وإن كذَّبتموني. اكتبْ: محمد بن عبد الله» .

وهذا كما ترى ـ أخي القارئ ـ تساهل يهدف إلى حقن الدماء، وحفظ السلام في ربوع مكة، وجنبات البيت الحرام، وسائر بقاع جزيرة العرب التي يسعى الصحابة المجاهدون إلى جعلها داراً للإسلام بوسائل السلم إن أمكنهم ذلك. وهذا كله انعكاس لما كان قد أقسم به رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله لا يسألونني

(1) وفي رواية ابن إسحاق: فدعت قريش سُهَيْلَ بن عمرو فقالوا: اذهبْ إلى هذا الرجل فصالحه. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا.

(2)

هو علي بن أبي طالب كرم الله وجه كما بينته رواية ابن إسحاق.

ص: 53

خطة يعظمون فيها حرماتِ الله إلّا أعطيتهم إياها» (1).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: على أن تخلوا بيننا وبين البيت، فنطوف به.

فقل سُهَيْلٌ: والله لا تتحدث العرب أنّا أُخِذْنا ضُغْطةً (2)، ولكن ذلك من العام المقبل، فكتب.

فقال سُهَيْلٌ: وعلى أنه لا يأتيك منا رجل ـ وإن كان على دينك ـ إلّا رددته إلينا (3).

قال المسلمون: سبحان الله، كيف يُردُّ إلى المشركين، وقد جاء مسلماً (4)؟ .

فبينما هم كذلك إذْ دخل أبو جندل (5) بن سُهَيْل بن عَمْروٍ يَرْسُفُ في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة، حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سُهَيْل: هذا يا محمد أول من أقاضيكَ عليه أن تردّه إلي.

(1) هذا ما صرح به الزهري أحد حلقات السند في هذا الحديث.

(2)

أي قهراً. وفي رواية ابن إسحاق: عنوة

(3)

وفي رواية ابن إسحاق: على أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليه ردّه عليهم، ومن جاء قريشاً ممن يتبع محمداً لم يردوه عليه. انظر فتح الباري جـ 5 صـ 421.

(4)

وفي رواية عقيل عن الزهري: فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى سهيل إلّا ذلك، فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال في تلك المدة إلّا رده.

ولمسلم من حديث أنس بن مالك أنّ قريشاً صالحت النبي صلى الله عليه وسلم على أنه من جاء منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه إلينا، فقالوا: يا رسول الله: أنكتب هذا؟ قال نعم، إنه من ذهب إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. انظر نفس المرجع والجزء صـ 422.

(5)

والده سهيل بن عمروكما هي الرواية، وقد كان سبق لسهيل أن أوثقه وسجنه حين أسلم، فأفلت من حبسه، وتنكب الطريق، وركب الجبال حتى هبط على المسلمين ففرحوا به وتلقوه بالقبول، ثم كان ما كان من أمر صلح الحديبية، وإصرار أبيه سهيل على أخذه، لا بل في رواية ابن إسحاق أنه قام إلى أبي جندل فضرب وجهه.

ص: 54

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا لم نقضِ الكتابَ بعد.

قال سُهَيْل: فوالله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: فأجزه لي (1).

قال: ما أنا بمجيزهِ لكَ.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى فافعلْ.

قال سُهيْل: ما أنا بفاعل.

قال مِكْرز: بل قد أحزناه لك (2).

قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أُرَدُّ إلى المشركين وقد جئت مسلماً؟ ألا ترون ما قد لقيت (3)؟ .

وكان قد عُذِّب عذاباً شديداً في الله.

قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فقلت: ألست نبي الله حقاً (4)؟ قال رسول صلى الله عليه وسلم: بلى.

(1) أي فأمضه لي، أو فاستثنه لي من الاتفاق.

(2)

لا تتنافى إجازته مع صفة الفجور التي نُعتَ بها؛ لأنه قال ذلك نفاقاً ومراوغة، وقد أشرت لك قبلُ إلى الغدر الذي كان منه يوم الحديبية.

(3)

وزاد ابن إسحاق في روايته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا أبا جندل، اصبرْ وأحتسب، فإنا لا نغدر، وإن الله جاعل لك فرجاً ومخرجاً. انظر فتح الباري ح 5 صـ 423.

(4)

وزاد الواقدي من حديث أبي سعيد: قال عمر: لقد دخلني أمر عظيم، وراجعتُ النبي صلى الله عليه وسلم، مراجعة ما راجعته مثلها قط. أنظر نفس المرجع والجزء صـ 424.

ص: 55

قلت: ـ أي عمر: ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ (1)

قال: بلى.

قلت فلم نعطي الدنيَّة في ديننا إذاً.

قال: إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري (2).

قلتُ: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به (3).

قال: بلى، فأخبرتك أنّا نأتيه العام؟ (4).

قال عمر: قلت: لا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّكَ آتيه، ومطوّف به (5).

قال عمر: فأتيت أبا بكر (6) فقلتُ: يا أبا بكر، أوليس هذا نبيَّ الله حقاً.

(1) وزاد في رواية: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ فعلام نعطي الدنيّة في ديننا، ونرجع ولم يحكم الله بيننا؟ فقال: يا ابن الخطاب إني رسول الله، ولن يضيعني الله. فرجع متغيظاً، فلم يصبر حتى جاء أبا بكر. وأخرج البزار من حديث عمر نفسه مختصراً، ولفظه، وقال عمر:«اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي، وما ألوت عن الحق» . وفيه قال: فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبَيتُ، حتى قال لي:«يا عمر تراني رضيتُ وتأبى» . انظر المرجع والجزء والصفحة.

(2)

هذا ظاهر في أن تصرفات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك كانت تدور وفق الوحي الإلهي.

(3)

وفي رواية ابن إسحاق أن الصحابة ما كانوا يشكون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأوا الصلح دخلهم من ذلك أمر عظيم حتى كادوا يهلكون.

(4)

بتقدير همزة الاستفهام أي: أفأخبرتُك.

(5)

عند الواقدي أن النبي الله صلى الله عليه وسلم كان رأى في منامه قبل أن يعتمر أنه دخل وهووأصحابه البيت، فلما رأوا تأخير ذلك شق عليهم.

(6)

لم يذكر سيدنا عمر بن الخطاب أنه راجع أحداً غير سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وذلك لجلالة قدر الصديق، وسعة علمه عنده. قال في فتح الباري جـ 5 صـ 424: وفي جواب أبي بكر لعمر بنظير =

ص: 56

قال: بلى.

قلتُ: ألسنا على الحق، وعدوُّنا على الباطل؟

قال أبو بكر: بلى.

قلتُ: فلم نعطي الدنيَّة في ديننا إذاً.

قال أبو بكر: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره فاستمسكْ بغَرزه (1) فوالله إنه على الحق.

قلت: أليس كان يحدّثنا أنا سنأتي البيت، ونطوف به؟ .

قال: بلى، أفاخبرك أنك تأتيه العام؟

قلت: لا قال: فإنك آتيه ومطوف به.

قال الزهريُ: : قال عمر: فعملتُ لذلك أعمالاً (2).

= ما أجابه النبي الله صلى الله عليه وسلم سواء، دلالة على أنه كان أكمل الصحابة وأعرفهم بأحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بأمور الدين وأشدهم موافقة لأمر الله تعالى. وقد وقع التصريح في هذا الحديث بأن المسلمين استنكروا الصلح المذكور، وكان رأي عمر في ذلك، وظهر من الفضل أن الصديق لم يكن في ذلك موافقاً لهم، بل قلبه على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء

(1)

الغَرْزُ للإبل بمنزلة الركب للفرس، والمراد: فاستمسك بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، واترك مخالفته، تماماً كالذي يمسك بركب الفارس فلا يفارقه.

(2)

أي أعمالاً من الذهاب والمجيء، والجواب في طلب كشف ما خفي عليه من خطوات هذه المعاهدة التي لا تتماشى ظاهراً مع القوة التي يملكها المسلمون آنذاك وهم على أبواب مكة، والتي ربما تخولهم لاقتحامها عنوة إن أبت قريش دخولهم معتمرين، وهو القوي العزيز الصادق في نصرة دينه، الحريص على عزة المسلمين وإذلال الكفار والمشركين. فالباعث لسيدنا عمر على أعماله تلك لم ينبع من مكمن شك، حاشاه، وهو الراسخ في دينه.

ص: 57

قال: فلما فرغ من قضية الكتاب (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا.

قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات (2) فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يا نبي الله: أتحبُّ ذلك؟ اخرُجْ، ثم لا تكلمْ أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدْنَك، وتدعو حالِقكَ فيحلقَكَ (3).

قال: فخرج، فلم يُكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحر بدنه (4) ودعا حالقَهُ فحلقه فلما رأَوْا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد

(1) زاد ابن إسحاق: فلما فرغ الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ورجالاً من المشركين. ومنهم أبو بكر وعمر وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن سهيل بن عمر ومِكْرَز بن حفص وهو مشرك.

(2)

الذهول من وقع ما حدث واستغراق التفكير فيه، ورؤية ما في هذا الصلح من نقاط الضعف ـ وذلك من حيث الظاهرـ وهم القادرون على صد المنع القرشي، وبلوغ قلب الحرم بالدماء والغلبة. كل هذا لم يكن بالشيء القليل وهم أبناء الحرم، وعلى أبوابه، قد قطعوا إليه مسافة طويلة محرمين ملبين. ثم يحتمل أنهم كانوا ينتظرون نسخ الحكم الشرعي بنحر البدن والتحلل بالإحصار، وربما حملوا الأمر على الندب، وربما اجتمع هذا كله في وجدانهم ومخيلتهم المشوشة فثبتوا في أرضهم لا يدرون ماذا يفعلون، رغم أن صوت نبيهم صلى الله عليه وسلم يأمرهم بالنحر والتحلل بالحلق، لكنهم عنه مشدوهون ومشدودون إلى ما يجول في خلدهم، غافلون عنه، وغارقون تحت وطء الصدمة. فالأمر ليس من باب الرفض أو التأبي أو التحدي، وسياق القصة يؤكد ذلك، وامتداح الله لهم فيما نزل بعد من آيات شاهد آخر، وسيأتي من كلام أمّ سلمة يؤيد قولي في الفقرة التالية مباشرة.

(3)

زاد ابن إسحاق: قالت أم سلمة: يا رسول الله: لا تكلمهم، فإنهم قد دخلهم أمر عظيم مما أدخلت على نفسك من المشقة في أمر الصلح ورجوعهم بغير فتح.

(4)

وفي رواية هديه وعن مجاهد أنه بلغ سبعين، وأن فيه جملاً لأبي لهب كان قد غنمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر، أتى به ليغيظ المشركين.

ص: 58

بعضهم يقتل بعضاً غّماً.

هذا ما دار من أحداث على ثرى الحديبية والتي كان أبرزها الصلح الشهير الذي ينتسب إلى تلك البقعة الطيبة، والذي يحمل اسمها، إنه صلح الحديبية.

والصلح ـ بحد ذاته كان فتحاً عظيماً للمسلمين جميعاً، وصورة تحكي للأجيال المسلمة الفرق الواضح يبن خطي النبوة وتدبيرها، وترتيب الجهد الإنساني وحدوده، كما كان زلزالاً قوياً بالنسبة لمن حضر من المسلمين التوقيع على تلك المعاهدة التاريخية.

أما الفتح العظيم فقد جاء تجلياً واضحاً لتدبير الله عز وجل في هذا الكون، وترتيبه بيت هذا الصلح، في إظهار لعمل النبوة التي برزت خطواتها كما لم تبرز في أي مظهر آخر من قبل، حتى إنه كان مقدمة لكل ما جاء بعده من فتوحات، رغم ما كان يظهر على معالمه من سمات الذل والاستكانة والتقهقر والهوان، في صورة ظاهرة خفيت تدابيرها الإلهية اللطيفة على عامة المسلمين، وظهرت للبعض منهم فقط، لذلك قال الزهري:«فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم من فتح الحديبية، إنما كان القتال حيث التقى الناس، ولما كانت الهدنة ووضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضاً، والتقوا وتفاوضوا في الحديث والمنازعة، ولم يكن أحد بالإسلام يعقل شيئاً في تلك المدة إلّا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل من كان في الإسلام قبل ذلك، أو أكثر، يعني من صناديد قريش» .

ولقد قال العلامة ابن حجر العسقلاني بعد أن ساق كلام الزهري هذا: «ومما ظهر من مصلحة الصلح المذكور غير ما ذكره الزهري أنه مقدمة بين يدي

ص: 59

الفتح الأعظم الذي دخل الناس عقبه في دين الله أفواجاً، وكانت الهدنة مفتاحاً لذلك

».

كما قال: «ولما كانت قصة الحديبية مقدمة للفتح سميت فتحاً كما سيأتي في المغازي فإن الفتح في اللغة فتح المغلق، والصلح كان مغلقاً حتى فتحه الله، وكان من أسباب فتحه صدُّ المسلمين عن البيت، وكان في الصورة الظاهرة ضيم للمسلمين، وفي الصورة الباطنة عِزٌّ لهم، فإنّ الناس لأجل الأمن الذي وقع بينهم اختلط بعضهم ببعض من غير نكير، وأسمع المسلمون المشركين القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرةً آمنين، وكانوا قبل ذلك لا يتكلمون عندهم إلّا خفية، وظهر من كان يخفي إسلامه، فذُلَّ المشركون من حيث أرادوا العزة، وأُقهروا من حيث أرادوا الغلبة» (1).

لذلك لا غرابة أن يسمي الله ما جرى من صلح الحديبية فتحاً، وأن ينزّل على قلب نبيه صلى الله عليه وسلم سورة في طريق العودة من مكة إلى المدينة، تحمل اسم الفتح، صدَّرها بقوله تعالى:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1)} [الفتح: 1].

عمل النبوة في مكنونها الخفي، وغيبها المطوي في علم الله وحده، هو الذي كان يقود تلك المسيرة آنذاك منذ أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها.

فالوحي الإلهي هو الذي دعاه إلى تلك الخطة، وأخبره بها، ورسم محطاتها خطوة بعد خطوة.

(1) فتح الباري شرح صحيح البخاري جـ 5 ص 426 - 427.

ص: 60

ثم أخذت ملامح الأمر تتبدّى منذ أن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد انتصب في الطريق شخص سهيل بن عَمروـ: قد سَهُلَ الأمر عليكم وقد أرادت قريش الصلح حين بعثت هذا.

وفي تغاضي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تمسكه في تلك المعاهدة، عن بعض الأمور، أمام إصرار الطرف الآخر لوحةٌ أُخرى تنعكس عليها هذه الحقيقة؛ لأن وحي السماء كان يواكب رحلة الصلح منذ اللبنة الأولى لها، يزيل أي صعوبة تعرقل إتمام الوثيقة، لذلك لما طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توضع الحرب بين الفريقين، وأن تخلّيَ قريش بين المسلمين والبيت الحرام، ولما أبي سهيل ذلك، واعتذر بأنه لا يرضى أن تقول العرب: أنّا أُخذنا ضُغْطة أي قهراً فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يتنازل عن هذا الشرط، ويرضي بقول سهيل، رغم أن أصحابه خرجوا معه من المدينة المنورة لأداء العمرة عامهم ذاك، وهم الذين تحمَّلوا لأجلها مشاقَّ السفر، وألم الغربة، ومصاعب الإحرام، ثم ها هو البيت على مرمى نظرهم، أو يزيد، وهاهم يقبلون الهدنة، وتضع الحرب أوزارها سنين عديدة، فعلاً تم التأجيل؟ هذا ما لم يدركه فهم الصحابة الكرام؛ لأنه مما يخفي على كل إنسان إلّا إن نظر بعين النبوة، لأنها تبصر بيد العناية الإلهية التي ترى ما لا يراه الناس، فهي التي كانت تضع اللمسات الأخيرة لكل فقرة من فقرات الصلح، ليرى المسلمون، وتدرك أجيالهم الفرق الشاسع بين الوحي وتعليماته، والمسيرة البشرية ومعطياتها.

قبل هذا الموقف المؤثر كان رسولنا محمد عليه الصلاة والسلام قد استجاب لامتناع سهيل هذا عن كتابة بسم الله الرحمن الرحيم، إلى تصدير الوثيقة بالعبارة التي كانت سائدة آنذاك: باسمك اللهمّ.

ص: 61

ثم تلقّى المسلمون ما هو أشدّ، حين انتبهت أعصابهم المشدودة من هول مايشاهدونه، إلى فقرة هي في ظاهرها أكثر إيلاماً من سابقها، أقرّ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على اشتراطه الذي انتهى الأمر بالتنازل عنه، وهو أنه من أتى محمداً من قريش بغير إذن وليّه رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممّن يتبع محمداً لم يردّوه عليه! هنا تألم المؤمنون، وتعجبوا، وقالوا: سبحان الله، كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلماً.

في خضم هذا الموقف الذي تأثر منه المسلمون كثيراً نزل فيهم ما هو أشدّ منه وقعاً وتأثيراً بما يشبه الزلزال العظيم في كيان كل منهم، حين هبط على ساحة الحديبية التي فيها يجتمعون مسلم أسيرٌ عند قريش، حبس بداخل مكة، فاستنجد بالله والحيلة والجهد، وفرّ بدينه، يركب الجبال، يتنكب الطريق، قاصداً الملجأ الوحيد الذي يمكنه أن يحتضنه، وهو هذا الجمع المبارك بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، لكن والده المفاوض سهيل بن عمرو، يشترط أن يكون ولده أبو جندل أوّل ما يقاضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المعاهدة، ويأبى إلّا أن يستردّه، ويمتنع عن إجازته للمسلمين مع تكرار الطلب بذلك من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا بالمسلمين تلفّهم دهشة أخرى، وإذا بالمشاهد المؤثرة تتقاذفهم بعد أن سمعوا نبيَّهم الكريم صلى الله عليه وسلم يترك إجازة أبي جندل أمام عناد أبيه، فلا يلمحون في اللوحة التي ترتسم أمامهم سوى صغار وهوان المسلمين أمام استكبار وزهو المشركين بالانتصار في هذه المعاهدة التي تحكي ألفاظها الظاهرة هذه النتيجة. لذلك قالوا: أنكتب هذا يا رسول الله؟ ويجيب صلى الله عليه وسلم بلسان الوحي والنبوة التي غفوا عنها لبرهة وجيزة بسبب الوطء الشديد للمعاهدة: إنه مَن ذهب منّا إليهم فأبعده الله، ومن جاء منهم إلينا فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً. لهذا كان عمر في

ص: 62

سؤاله ومجيئه وذهابه كأنه الناطق باسمهم لما عرف عنه من الغيرة والطرجة ويتوجه لسان النبوة إلى أبي جندل بالتوجيه الدقيق التالي:

يا أبا جندل، اصبر واحتسبْ، فإنّا لا نغدر، وإن الله جاعلٌ لك فرجاً ومخرجاً.

وفي تعقيبه على هذه القصة يقول أستاذنا الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: «إن أمر هذا الصلح كان مظهراً لتدبير إلهي محض تجلى فيه عمل النبوة وأثرها كما لم يتجلى في أي عمل أو تدبير آخر. فقد كان نجاحه سراً مرتبطاً بمكنون الغيب المطوي في علم الله وحده ولذلك انتزع كما ـ قد رأيت ـ دهشة المسلمين أكثر مما اعتمد على فكرهم وتدبيرهم، ومن هنا فإنّا نعتبر أمر هذا الصلح بمقدماته ومضمونه ونتائجه من الأسس الهامة في تقويم العقيدة الإسلامية وتثبيتها.

ولنتحدث أولاً عن طرف من الحكم الإلهية العظيمة التي تضمنها هذا الصلح والتي تجلت للعيان فيما بعد، حتى أضحت آيةً من آيات الله الباهرة، ثم نتحدث بعد ذلك عن الأحكام الشرعية التي تضمنتها وقائع هذا الصلح.

فمن الحكم الباهرة أن صلح الحديبية كانت مقدمة بين يدي فتح مكة فقد كانت هذه الهدنة كما يقول ابن القيم باباً له ومفتاحاً. وتلك هي عادة الله سبحانه وتعالى، يوطئ بين يدي الأمور التي تعلقت إرادته بإنجازها، مقدمات تؤذن بها وتدلُّ عليها.

ولئن لم يكن المسلمون قد تنبهوا لهذا في حينه، فذلك لأن المستقبل غائبٌ عنهم، فآن لهم أن يفهموا علاقة الواقع الذي رأوه بالغيب الذي لم يتصوروه بعد؟

ص: 63

ولكن ما إن مضت فترة من الزمن، حتى أخذ المسلمون يستشفّون أهمية هذه الهدنة وعظيم ما قد انطوت عليه من خير. فإن الناس أمن بعضهم بعضاً، واختلط المسلمون بالكفار ونادوهم بالدعوة، وأسمعوهم القرآن، وناظروهم على الإسلام جهرة آمنين، وظهر من كان متخفياً بالإسلام

».

ثم قال:

«ومن الحكم الجليلة، أن الله جل جلاله أراد بذلك أن يبرز الفرق واضحاً بين وحي النبوة وتدبير الفكر البشري، بين توفيق النبي المرسل وتصرف العبقري المفكر، بين الإلهام الإلهي الذي يأتي من فوق دنيا الأسباب ومظاهرها، والانسياق وراء إشارة هذه الأسباب وحكمها.

أراد الله أن ينصر نبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أمام بصيرة كل متأمل عاقل ولعل هذا من بعض تفسيره قوله تعالى: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)} ، أي نصراً فريداً في بابه، من شأنه أن ينبه الأفكار السادرة والعقول الغافلة (1).

فلا غرابة أن يدهش المسلمون من موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم إزاء هذه المعاهدة، وهم يرونه يعطي المشركين كل ما سألوه، ولا عجب أن يستبد الضيق بعمر بن الخطاب؛ لأنهم كانوا يقفون على أرض من بشريتهم، فلا يتبصرون إلّا بمقدارٍ دون أن تتجاوز أبصارهم ما ينتصب حولهم من حواجز الزمان والمكان والأسباب، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يقف في تصرفاته على أرض من حقيقة النبوة التي تتحكم بها عناية السماء بواسطة الوحي الإلهي جبريل، فهو يدرك بها فوق ما يفهمه البشر

(1) فقه السيرة النبوية، القسم السادس الفتح ومقدماته من صـ 345 - 347.

ص: 64

في عقولهم، ويرمي إلى أبعد ما تدركه خبراتهم.

إذن، لا مطعن فيما أصابهم، وهم الذين تمتزج بكينونتهم طبيعة البشر، أمام مشهد لا مطمع فيه ليد واحدٍ منهم أن تمتد إليه بفعل من زيادة أو حذف، وهو ما حدا بعمر بن الخطاب أن يتساءل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلمَ نرضى الدنيَّة في ديننا؟

لكنّ الإيمان الراسخ بداخلهم أقوى من سائر الزلازل التي تمتد إليه لتميد به، لذلك ما إن شاهدوا نبيَّهم صلى الله عليه وسلم ينحر إبله، ويدعو حالقه فيحلق له، حتى قاموا ينحرون الإبل، ويتحللون بالحلق، يحلق بعضهم لبعض، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً لحرصهم ومسارعتهم في تنفيذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهكذا صحا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من الوجوم الذي خيم عليهم في الحديبية، على مزيد من الإيمان بالحكمة الإلهية، ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى إنَّ عمر رضي الله عنه يذكر أنه ما يزال يصلي ويصوم ويتصدق ويعتق خشية أن يناله شيء من الذي استدرجه إليه ظاهر صلح الحديبية.

لقد ترسخ عندهم أن الحق ما جاء به الشرع وإنْ بدا للوهلة الأولى غير ذلك، وهو ما أورثهم يقيناً بالله وبرسوله وبكمال الشرع المطهر وصواب أحكامه وذلك فوق ما لديهم من يقين وإيمان حتى إنهم صاروا يتهمون رأيهم متحررين من غرور العقل حين يعمل على استعباد صاحبه في غفلة عن سلطان الله خالق الكون والإنسان ووسيلة الإدراك فيه هي العقل لا غير.

جاء في الصحيح أن سُهَيْلَ بنَ سعيد رضي الله عنه قال يوم صفين: «أيها الناس اتهموا

ص: 65

رأيكم، لقد رأيتني يوم أبي جندل، ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته (1).

وقال عمر: اتهموا الرأيَ على الدين، فلقد رأيتني أردّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي (2).

(1) نفس المرجع ص 349.

(2)

فتح الباري جـ 5 ص 424.

ص: 66