المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكلام في المقدمات - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ١

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

فهرس الكتاب

- ‌شكرٌ وتقديرٌ

- ‌سبب الاختيار

- ‌خطة البحث

- ‌(تمهيد)

- ‌الباب الأول في التعريف بالكوراني وكتابه

- ‌الفصل الأول في التعريف بالكوراني

- ‌المبحث الأول في‌‌ اسمه، ونسبه، ونسبته، وشهرته

- ‌ اسمه، ونسبه

- ‌نسبته، وشهرته:

- ‌المبحث الثاني لقبه، و‌‌تاريخ، ومحل ولادته

- ‌تاريخ، ومحل ولادته

- ‌المبحث الثالث نشأته

- ‌الفصل الثاني في حياته العلمية

- ‌المبحث الأول رحلاته في طلب العلم والتعليم

- ‌المبحث الثاني شيوخه الذين أخذ عنهم العلوم المختلفة

- ‌المبحث الثالث تلامذته

- ‌المبحث الرابع أقرانه

- ‌الفصل الثالث في أعماله، وصفاته، ووفاته

- ‌المبحث الأول الأعمال التي تولاها

- ‌المبحث الثاني صفاته، وأخلاقه

- ‌المبحث الثالث وصيته، ووفاته

- ‌الفصل الرابع في مؤلفاته، وآثاره

- ‌المبحث الأول مؤلفاته

- ‌المبحث الثاني دراسة تحليلية لكتاب "الدرر اللوامع

- ‌المطلب الأول: عنوان الكتاب، ونسبته إلى المؤلف:

- ‌نسبة الكتاب إلى المؤلف:

- ‌المطلب الثاني: سبب تأليف الكتاب، والظرف الذي ألفه فيه:

- ‌أولًا: سبب تأليفه:

- ‌ثانيًا: الظرف الذي ألفه فيه:

- ‌المطلب الثالث: منهج المؤلف في الكتاب:

- ‌المطلب الرابع: أهمية الكتاب:

- ‌المطلب الخامس: تقويم عام وموجز لشروح "جمع الجوامع" التي اطلعت عليها:

- ‌المطلب السادس: وصف مخطوطتي الكتاب:

- ‌المطلب السابع: عملي في التحقيق:

- ‌ملاحظة:

- ‌تنبيه:

- ‌الباب الثاني ترجمة موجزة لتاج الدين السبكي صاحب الأصل

- ‌الفصل الأول في التعريف به

- ‌المبحث الأول في اسمه، ونسبه، ونسبته، وكنيته، ولقبه

- ‌المبحث الثاني أسرته، ومولده، ونشأته

- ‌ولادته، ونشأته:

- ‌الفصل الثاني حياته العلمية، وأعماله

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم وشيوخه

- ‌المبحث الثاني تلامذته

- ‌المبحث الثالث أعماله، وصفاته

- ‌صفاته، وأخلاقه:

- ‌المبحث الرابع مؤلفاته، ووفاته

- ‌ المؤلفات

- ‌وفاته:

- ‌الكلام في المقدمات

- ‌الكتاب الأول في الكتاب ومباحث الأقوال

- ‌باب المنطوق والمفهوم

الفصل: ‌الكلام في المقدمات

‌الكلام في المقدمات

ص: 191

الكلام في المقدِّمات

قوله: "أصول الفقه".

أقول: لما ذكر أن كتابه يشتمل على الأصول الآتي بالقواعد القواطع، واشتاقت نفس السامع إلى ذلك المؤلف الموصوف، فاستشرف للسؤال عنه، فأغنى السائل عن السؤال، وقال: أصول الفقه كذا، فأخذ بتعريفه.

واعلم أن حقيقة كل علم مسائله، ولا بد من أن نضبط تلك المسائل الكثيرهَ جِهَةَ الوحدة، فإن كل من طلب كثرة، وشَرع في تحصيلها من غير ضبط جهة الوحدة يقع في ورطة الحيرة، ومن تلك الجهة يؤخذ تعريفه، فإن كان ذلك الحد مسمًّى اسمه، فهو الحد (1)

(1) الحد -لغة-: المنع والفصل، ومنه سمى البواب حدّادًا؛ لأنه يمنع من يدخل الدار، وسمي التعريف حدًّا لمنع الداخل من الخروج، والخارج من الدخول، وسميت الحدود حدودًا لأنها تمنع من العود في المعصية.

وعند المناطقة: قول دال على ماهية الشئ، وقد يكون بجميع الذاتيات أو بعضها، وهذا هو المراد هنا، وهو نوعان:

أ- تام: وهو ما يتركب من الجنس، والفصل القربيين، كتعريف الإنسان بالحيوان الناطق.

ب- ناقص: وهو ما يكون بالفصل القريب وحده، أو به، وبالجنس: كتعريف الإنسان بالناطق، أو بالجسم الناطق. =

ص: 193

الحقيقي، وإن كان مستلزمًا له، فهو الرسم، وإن شئت زيادة تحقيق، فاسمع لما يتلى عليك، فنقول: الماهية المعروفة على قسمين: حقيقية، واعتبارية؛ لأنها إما أن يكون لها تحقق في حد ذاتها- مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر، أو لا؟ فالأولى: الحقيقية: كالإنسان، والمثلث (1)، والثانية:

= والحد -عند الأصوليين- الوصف المحيط بموصوفه، أو بمعناه، أو هو الجامع المانع؛ أي بجميع جزئيات المحدود، ويمنع من دخول غيرها فيها، وقيل: حد الشئ نفسه، وقيل: غير ذلك.

وعند الفقهاء: الحد عقوبة مقدرة شرعًا وجبت حقًّا لله تعالى في معصية لتمنع من الوقوع في مثلها.

والرسم -لغة-: الأثر، والخاصة أثر من أثر الحقيقة إلى تدل عليها وتميزها عن غيرها، وهو نوعان: تام: وهو ما يتركب من الجنس القريب، والخاصة: كتعريف الإنسان بالحيوان الضاحك.

وناقص: وهو ما يكون بالخاصة وحدها، أو بها وبالجنس البعيد كتعريف الإنسان بالضاحك، أو بالجسم الضاحك.

راجع: المفردات: ص/ 109، والمصباح المنير: 1/ 124، 227، والقاموس المحيط: 1/ 286، والحدود للباجي: ص/23، والعدة: 1/ 74، والمستصفى: 1/ 21، والروضة: ص/ 14، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 4، وشرح العضد: 1/ 68، وكشف الأسرار: 1/ 21، والمسودة: ص/ 570، والتعريفات: ص/ 83، 110 - 111، والدر المختار: 4/ 3، والروض المربع: 3/ 305، تكملة المجموع: 20/ 3، وشرح الأخضري على السلم: ص/28، وإيضاح المبهم: ص/ 9، وحاشية الباجوري: ص/ 43، وشرح الكوكب المنير: 1/ 89، وخلاصة المنطق: ص/34، ومذكرات في علم المنطق: ص/ 52، وضوابط المعرفة: ص/ 58.

(1)

جاء في هامش (أ، ب): "المثلث شكل أحاط به ثلاثة أضلاع متساوية".

ص: 194

الاعتبارية كالأصول، والفقه إذ الواضع لهما اصطَلَح على أمور، ووضع بإزائها ألفاظًا.

ثم الماهية الحقيقية لا تخلو إما أن يكون الواضع -حينئذ- وضع اللفظ بإزائها متعلقه هو نفس الحقيقة، أو وجهًا واعتبارًا من اعتباراتها، فتعريف الماهية الحقيقية على الأول تعريف حقيقي، سواء كان بالذاتيات (1) كلها أو بعضها، أو بالعرضيات (2) وحدها، أو بالمركب منها. وبالاعتبار الثاني تعريف اسمي، فالأول يفيد تصوير الماهية في الذهن، والثاني: يفيد تصوير مفهوم الاسم، فمنهم (3) من اقتصر على هذا القدر، وحصر التعريف في القسمين، ومنهم (4) من زاد قسمًا ثالثًا، وجعله تعريفًا لفظيًا كقولنا: الغضنفر الأسد، وهذا هو الحق إذ في التعريفين الأولين تحصيل

(1) الذاتي: ما لا يتصور فهم الذات قبل فهمه: كاللونية للسواد، والجسمية للإنسان؛ لأنهما لو خرجتا عن الذهن بطل فهمهما، وهو أقسام ذكرت في مصادرها.

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص/6، والتعريفات: ص/107.

(2)

العرضي: بخلاف الذاتي، وينقسم إلى لازم، وعارض، فاللازم لا يتصور مفارقته، وهو لازم الذات بعد فهمها: كالفردية للثلاثة، ولازم في الوجود خاصة كالحدوث للجسم.

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص/ 7.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الشريف الجرجاني تغمده الله بغفرانه" وانظر قوله في حاشيته على المختصر: 1/ 17.

(4)

هو العلامة التفتازاني.

راجع: حاشيته على المختصر: 1/ 16 - 17.

ص: 195

مجهول إما حقيقة الماهية، أو مفهوم الاسم، وفي الثالث: لا تحصيل، بل تفسير لفظ بلفظ أشهر إذ السائل يعرف الحيوان المفترس من حيث إنه مدلول الأسد لا من حيث إنه مدلول الغضنفر، بل هو بحث لغوي، ولهذا يقبل المنع بخلاف الأولين: إذ التصور (1) لا يقبل المنع لأن التصور نفس الصورة في الذهن، فلا معنى لمنعه، ثم لا يخفى عليك أن هذا الاصطلاح يخالف اصطلاح المنطق (2)، إذ هناك تقسيم التعريف الأول إلى الحد، والرسم، ثم يقسم كل منهما إلى تام، وناقص، فالحدان بالذاتيات لا غير، ويختلفان نقصانًا وتمامًا، والرسمان بالعرضيات كذلك، وهنا قد ذكرنا أن

(1) التصور: هو إدراك ماهية الشئ من غير حكم عليها بإثبات أو نفي: كإدراك حقيقة الإنسان، وهي كونه حيوانًا ناطقًا من غير حكم عليها بشئ.

راجع: معيار العلم: ص/ 67، والرسالة الشمسية للقطبي: ص/ 4، وشرح الأخضري على السلم: ص/ 24، وإيضاح المبهم: ص/ 6.

(2)

هذا الفن يطلق عليه كذلك معيار العلم، وميزانه، ومدارك العقول وفن النظر، وكتاب الجدل، وقد عرف بتعاريف مختلفة، وذلك بحسب اختلاف النظر إليه، بمعنى هل هو وسيلة، أو غاية؟ فمنهم من عرفه على أنه وسيلة وآلة يتوصل به إلى غيره، فهو ليس مقصودًا لذاته، فقال: هو آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطأ في الفكر، ومنهم من عرفه على أنه غاية، ومقصود لذاته من غير ملاحظة أنه آلة، ووسيلة إلى غيره، فقال: هو علم يبحث فيه عن المعلومات التصورية والتصديقية بسبب أمّا توصل إلى المجهولات التصورية والتصديقية.

راجع: البصائر للساوي: ص/ 4، وشرح مطالع الأنوار: ص/ 15، وشرح الأخضري على السلم: ص/ 23، وإيضاح المبهم: ص/ 4، ومذكرات في علم المنطق: ص/ 4.

ص: 196

الحد الحقيقي قد يكون بالذاتيات كلًّا وبعضًا، وبالعرضيات -أيضًا- كذلك، والسر في ذلك أنهم هناك جعلوا مأخذ الاصطلاح الذاتيات، فحيث كانت كلًّا أو بعضًا فحد، والعرضيات، فحيث كانت كلًّا أو بعضًا فرسم، فإن كان كلًّا فتام في الصورتين، وإن كان بعضًا فناقص، وهنا جعل المناط تقرُّر الماهية وتحققها في نفس الأمر وعدمه، مع قطع النظر عن كون المعرف ذاتيًا (1) أو عرضيًا، كلًّا أو بعضًا، وهنا سؤال مشهور: وهو أن الحد عين المحدود، فكيف يُعرِّف الشئ نفسه؟

والجواب عنه: أن الأشياء تختلف باختلاف الاعتبارات، فالإنسان -مثلًا- إذا وقع محدودًا يعتبر الجنس والفصل (2) فيه إجمالًا، وفي الحد -وهو الحيوان الناطق- تفصيلًا، والمفصل أجلى من المجمل، فجاز أن يكون معرفًا له.

هذا خلاصة كلامهم في باب التعريف، مع تنقيح وتوضيح من جهتنا والله الموفق.

(1) آخر الورقة (4/ ب من ب).

(2)

الفصل: هو مقول على كثيرين مختلفين في العدد دون الحقائق في جواب أي شيء هو ذاته، ويعبر عنه بالصفة إلى لا يتصور الموصوف إلا بها كناطق بالنسبة إلى الإنسان.

راجع تعريف الفصل في: معيار العلم: ص / 77، وبحر العلوم: ص/ 7، وشرح الأخضري على السلم: ص/ 26، وخلاصة المنطق: ص/ 30، وتجديد علم المنطق: ص/ 36.

ص: 197

قوله: "دلائل (1) الفقه الإجمالية".

أقول: قد تقرر -في غير هذا العلم- أن لفظ العلم يطلق على معان أربعة:

الأول: إدراك (2) الشيء، الثاني: ملكة تحصل للمدرِك بعد الادراك، وبعد ملاحظة للمدرَك متكررة، وتسمى تلك الملكة عقلًا بالفعل النحوي

(1) جمع المصنف دليلًا على دلائل، رلو قال: أدلة كان أحسن لأن فعيلًا لا يجمع على فعائل إلا شاذًّا.

قال الأسنوي: "قال ابن مالك -في شرح الكافية الشافية-: "لم يأت فعائل جمعًا لاسم جنس على وزن فعيل فيما أعلم، لكنه بمقتضى القياس جائز في العَلَم المؤنث كسعائد جمع سعيد اسم امرأة".

قلت: قد تتبعت كتب الأصول فوجدت مجموعة من الأصوليين استعملوا نفس ما استعمله المصنف، ولعلهم أرادوا أنها جمع لدلالة لا أنها جمع لدليل، فيكون على هذا جمعًا قياسيًّا، والدلالة هنا تكون بمعنى الأمارة، وهي أعم من الدليل، ولو عبروا بالأدلة لخرج كثير من أصول الفقه كالعمومات، وأخبار الآحاد، والقياس، والاستصحاب، وغير ذلك، فإنها أمارات على الدليل لذا نجد الإمام الرازى يقول:"أصول الفقه عبارة عن مجموع طرق الفقه، ثم قال: وطرق الفقه يتناول الأدلة والأمارات".

راجع: المحصول: 1/ ق /1/ 94، والإبهاج: 1/ 24، ونهاية السول: 1/ 19، ومسلم الثبوت: 1/ 10.

(2)

الإدراك -لغة- بلوغ الشيء وتمامه، واصطلاحًا: إحاطة الشئ بكماله، وهو تمثيل حقيقة الشيء وحده من غير حكم عليه بنفي، أو إثبات، ويسمى تصورًا، أو مع الحكم بأحدهما، ويسمى تصديقًا.

راجع: الفروق اللغوية: ص/ 72، والتعريفات: ص/ 14.

ص: 198

مثلًا، فإنه بعد إدراك مسائله تحدث فيه حالة لم تكن موجودة قبل إدراك تلك المسائل النحوية، ثم (1) إذا توجه بالفعل -إلى تحصيل تلك المسائل وملاحظاتها تحدث له حالة أخرى تكون مبدأ التفاصيل، فتلك الحالة تسمى عِلمًا إجماليًا، والتي ينشأ منها عِلْما تفصيليًا، وتارة يطلق على الأصول والقواعد المدركة من حيث تعلق العلم بها.

والمصنف استعمل العلم في القواعد، فإن لفظ أصول الفقه علم وضع بإزاء العلم الباحث عن أحوال الأدلة السمعية التي هي موضوع علم الأصول، أو هي مع الأحكام على ما اختاره بعض (2) المحققين، فلا يحتاج -حينئذ- إلى إضافة العلم إليه إلا بيانًا وتوضيحًا.

فلما قال: دلائل الفقه إجمالًا، أي: من حيث العلم في إذ لا يقول ذو مسألة: إن الدلائل الإجمالية -مع قطع النظر عن تعلق العلم بها-

نفس الفن والعلم المدون.

(1) آخر الورقة (4/ ب من أ).

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو صدر الشريعة" قلت: وهو عبيد الله بن مسعود بن محمود بن أحمد المحبوبي البخاري الحنفي كان فقيهًا، أصوليًّا، محدثًا، مفسرًا، لغويًّا، أديبًا متكلمًا، له مؤلفات، منها: شرح كتاب الوقاية، واختصره في مولف سماه النقاية والتنقيح في الأصول، وشرحه في كتابه التوضيح، وتوفي ببخارى سنة (747 هـ).

راجع: تاج التراجم: ص/ 40، والفوائد البهية: ص/ 109، والفتح المبين: 2/ 155، والأعلام للزركلي: 4/ 354، وراجع رأيه الذى ذكره الشارح في المسألة في كتابه تنقيح الأصول: 1/ 10.

ص: 199

فإذا تقرر هذا، فنقول: من زاد -في التعريف- لفظ المعرفة كما فعله (1) البيضاوي (2)، أو قيد العلم كما فعله ابن الحاجب (3)، فقد صرح بالمراد، وأبرز المقدر (4).

(1) قال البيضاوي: "أصول الفقه معرفة دلائل الفقه إجمالًا".

راجع: المنهاج مع نهاية السول: 1/ 5.

(2)

هو عبد الله بن عمر بن محمد بن علي، أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي الشيرازي، كان إمامًا، مبرزًا، نظارًا، خيّرًا، صالحًا، متعبدًا، برع في الفقه والأصول والتفسير، جمع بين المعقول والمنقول، ولي القضاء بشيراز، له مؤلفات كثيرة منها: طوالع الأنوار، ومنهاج الوصول، وشرح المحصول، وشرح مختصر ابن الحاجب، وأنوار التنزيل في التفسير، وشرح مصابيح السنة للبغوي، والكافية في النحو، توفي سنة (685 هـ) على الراجح.

راجع: مرآة الجنان: 4/ 220، وطبقات الأسنوى: 1/ 283، والبداية والنهاية: 13/ 309، وطبقات ابن قاضى شهبة: 220/ 2، ونفح الطيب: 2/ 737، وشذرات الذهب: 5/ 214، ومفتاح السعادة: 1/ 436، والقاضى ناصر الدين البيضاوي للدكتور جلال الدين.

(3)

هو عثمان بن عمرو بن أبي بكر بن يونس، ولد بأسنا سنة (570 هـ)، وأخذ العلم عن الكثير من شيوخ عصره كان إمامًا، فاضلًا، أصوليًّا، متكلمًا، نظارًا، مبرزًا، علامة متبحرًا، محققًا، أديبًا، شاعرًا، له مؤلفات في غاية التحقيق والتدقيق والإجادة، اعتنى بها العلماء شرقًا وغربًا، منها: الأمالي، وشرح المفصل، والكافية في النحو، ومختصر منتهى الوصول والأمل، والمنتهى، وغيرها، نوفي سنة (646 هـ) بالإسكندرية.

راجع: الديباج المذهب: ص/ 189، وشجرة النور الزكية: ص/ 167، وغاية النهاية: 1/ 508، ووفيات الأعيان: 1/ 314، وذيل الروضتين: ص / 16، والطالع السعيد: ص / 188.

(4)

قال ابن الحاجب: "أما حدُّه لقبًا: فالعلم بالقواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية". مختصر المنتهى: 1/ 18.

ص: 200

وتعريف أصول الفقه -على ما فعله المصنف- إنما هو للمعنى اللقبي، إذ هو مركب إضافي له ثلاثة أجزاء: المضاف، والمضاف إليه، ومعنى الإضافة، وهو الجزء المعنوي، فمنهم من نظر إلى الأصل، وعرف الأجزاء، ومنهم من عرف اللقبي، وترك المعنى الإضافى لكون اللقبي هو الأصل والمراد هنا (1).

والدلائل (2) الإجمالية: هي القضايا الكلية التي يستدل بها على المسائل الفقهية كقولنا: هذا حكم دل على وجوبه القياس، وكلُّ ما دل

(1) من الأصوليين من عرف أصول الفقه باعتبار الإضافة وهؤلاء قسمان: فالغزالي والآمدي ومن معهما عرفوا الفقه أولًا، والإمام الرازى، وابن النجار الحنبلي، والشوكاني، وغيرهم عرفوا الأصل أولًا، ومن الأصوليين من عرف أصول الفقه باعتبار اللقب كالشاشى الحنفي والبيضاوى والمصنف وغيرهم.

فمن قدم التعريف اللقبي نظر إلى أن المعنى العلمي هو المقصود في الإعلام، وأنه من الإضافي بمنزلة البسيط من المركب، ومن قدم الإضافي نظر إلى أن المنقول عنه مقدم، وإلى أن الفقه مأخوذ في التعريف اللقبي، فإن قدم تفسيره أمكن ذكره في اللقبي وإلا احتيج إلى إيراد تفسره تارة في اللقبي، وتارة في الإضافي، كما في أصول ابن الحاجب.

راجع: أصول الشاشى: ص/ 8، والمستصفى: 1/ 4، والمحصول: 1/ ق /1/ 91، والإحكام للآمدي: 1/ 5، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 18، والإبهاج: 1/ 19، والتلويح على التوضيح: 1/ 8، ونهاية السول: 1/ 5، وشرح الكوكب المنير: 1/ 38، وإرشاد الفحول: ص/ 3، وتشنيف المسامع: ق (3/ ب).

(2)

راجع تعريف الدلالة وأقسامها في: شرح تنقيح الفصول: ص/ 23، والتعريفات: ص/ 109، وشرح الكوكب المنير: 1/ 125، وسيأتي بيان لها أكثر في ص / 431 وما بعدها.

ص: 201

على وجوبه القياس فهو واجب، فهذا واجب، وكقولنا: كلّ ما دل القياس على وجوب شيء فهو واجب. لكن هذا الشئ مما دل القياس على وجوبه فهو واجب، أولم يجب، فلا يدل على وجوبه، فتلك الدلائل الكلية -أبدًا- إما أن تجعل كبرى الشكل (1) الأول، أو مقدّمًا في القياس الاستثنائي (2) ثم المختار -في تعريفه- زيادة لفظ العِلْم كما فعله الشيخ ابن الحاجب: لأن العِلم يُستعمل في الكليات، والدلائل المذكورة كلية على ما حققناه آنفًا بخلاف المعرفة، فإنها تستعمل في الجزئيات، ولهذا

(1) لأن القياس الاقتراني تنحصر أشكاله، أي هيآته التي يأتي عليها في أربعة أشكال، وذلك بحسب هيآت الحد الوسط، والمراد هنا هو الشكل الأول، وهو أن يكون الحد الوسط محمولًا في الصغرى موضوعًا في الكبرى، ومثاله: كل إنسان حيوان، وكل حيوان حساس، ينتج من الشكل الأول: كل إنسان حساس، ويسمى الشكل الكامل، وكبرى الشكل الأول هي الأخرى عكس الاستثنائي.

راجع: تحرير القواعد المنطقية: ص/ 153، وشرح الأخضري على السلم: ص/ 32، وإيضاح المبهم: ص/ 12، وأداب البحث والمناظرة: ص/ 65، وتسهيل المنطق: ص/ 52.

(2)

القياس الاستثنائي: هو ما تكون فيه النتيجة أو نقيضها مذكورة بالفعل ويسمى -أيضًا- قياسًا شرطيًّا كقولهم: إن كان هذا جسمًا، فهو متحيز، لكنه ليس بمتحيز ينتج أنه ليس بجسم، ونقيضه قولهم: إنه جسم مذكور في القياس، أو يكون عين النتيجة كقولهم: إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود لكن الشمس طالعة، فالنهار موجود، فهذه النتيجة مذكورة هيئتها الاجتماعية في تالي القياس، والشرطية فيه هي الكبرى، والاستثنائية هي الصغرى عكس الاقتراني كما تقدم ذكره، وسمي قياسًا استثنائيًّا مع أن حرف الاستثناء في هذا الفن هو لفظة (لكن) خاصة إنما هو اصطلاح منطقي.

ص: 202

اختاره المحققون -في تعريف علم المعاني (1) - إذ أحوال اللفظ العربي جزئيات.

قوله: "وقيل: معرفتها".

أقول: قد عرفت أنه الحق، وقال بعض الشراح (2) -هنا كلاما يقتضى منه العجب- وهو أن ما ذكره المصنف أولًا واختاره هو الأولى لقربه من معناه اللغوي؛ إذ الأصول -لغة- الأدلة وفساده من وجوه:

الأول: أنك قد عرفت أن تعلق العلم بالدلائل مما لا بد منه حتى يصير عِلْمًا مدونًا.

الثاني: أن قوله: إذ الأصول -لغة- الأدلة. غلط فاحش؛ لأن الأصول جمع أصل، والأصل ما ينبني عليه غيره (3) كالجدران للسقف،

(1) حيث عرفوه بأنه علم يعرف به أحوال اللفظ العربى الذي يكون به مطابقًا لمقتضى الحال بحيث يكون وفق الغرض الذي سيق لأجله.

راجع: الإيضاح: 1/ 84، وجواهر البلاغة: ص/ 46.

(2)

هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع 1/ 33 - 34.

(3)

هذا أحد تعريف الأصل لغة، وأما في الاصطلاح فله عدة معان بحسب كل اصطلاح فيقال: أصول الفقه طرقه، وهو المراد عند الأصوليين ويطلق الأصل على الراجح من الأمرين كقولهم: الأصل في الكلام الحقيقة دون المجاز، والأصل براءة الذمة، والأصل بقاء ما كان على ما كان، ويطلق الأصل على القاعدة المستمرة كقولهم: أكل الميتة على خلاف الأصل، أي على خلاف القاعدة المستمرة، ويطلق الأصل على المقيس عليه، وهو ما يقابل الفرع في باب القياس، وعلى هذا عرف الإمام الباجي الأصل بقوله:"ما قيس عليه الفرع بعلة مستنبطة منه". =

ص: 203

والحقيقة للمجاز، والدليل للمدلول، إذ الانبناء أعم من الحسيّ والعقلي، فالدليل من جملة ماصدقات الأصل لأنه وضع له لغة؛ إذ الألفاظ إنما توضع للمفهومات كالإنسان، فإنه موضوع للحيوان الناطق، لا لزيد، وعمرو، وبكر، وإن صدق عليها.

الثالث: أنه لو كان الأمر كما زعم فلا معنى للقرب، إذ الأصول إذا كانت -لغة- الأدلة، ولم يُقَدَّر فيه معنى العلم وتعلقه بها، فالقرب بماذا يعتبر؟ إذ الشئ لا يقرب من نفسه، ومفاسد قلة التأمل أكثر من أن يحيط في نطاق البيان (1) ومن قال

= راجع: الحدود للباجي: ص/ 70، وتنقيح المحصول: 1/ 4، والنفائس:(1/ 20 / أ). وشرح تنقيح الفصول: ص/ 15، ونهاية السول: 1/ 7، والبحر المحيط:(1/ 5/ أ)، وفواتح الرحموت: 1/ 8، وشرح الكوكب المنير: 1/ 38، وإرشاد الفحول: ص/ 3.

(1)

هذا تحامل من الشارح على المحلي رحمهما الله جميعًا، مع أن المحلي لم ينفرد بذلك بل تبع المصنف فيه كما تبعه الزركشي، ونقله عن الأصوليين كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، والفخر الرازي، والآمدي، وابن دقيق العيد، وغيرهم.

قال الزركشي: "الدلائل جنس، والإجمالية فصل أُخْرِج به الأدلة التفصيلية وهو الفقه، ومعنى الإجمالية كما قال أبو الحسين في المعتمد: أنها غير معينة. . . .. فلهذا قيدنا الأدلة بالإجمالية، وهذا هو المختار في تعريفه". تشنيف المسامع: ق (3/ أ).

راجع: المعتمد: 1/ 6، والبرهان للجويني 1/ 85، والمحصول: 1/ ق / 1/ 94، والإحكام للآمدي: 1/ 6، وقد اعترض على المصنف في تعريفه لأصول الفقه وما اختاره، وقد أجاب المصنف على الاعتراض وفنده، وبين سبب اختياره لذلك. راجع: منع الموانع عن جمع الجوامع ق (3/ أ).

ص: 204

- من المحققين (1) -: إن الأصول يجوز إبقاؤه على معناه اللغوي، أراد بالأصول جميع ما يستند إليه الفقه من الأدلة السمعية والاجتهاد والترجيح، إذ المجموع هو الذي يبنى عليه الفقه لا الأدلة وحدها على ما توهمه المصنف (2).

قوله: "والأصولي العارف بها وبطرق استفادتها ومستفيدها".

أقول: هذا كلام قليل الجدوى لأن أصول الفقه إذا كان عبارة عن العلم بالقواعد الكلية التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية بالاستقلال، فبالضرورة من كان عالمًا بتلك القواعد يكون أصوليًا، كما أن الفقه لما كان عِلْمًا باحثًا عن أفعال المكلفين من حيث الصحة والفساد كان عالمًا بالأفعال المذكورة من تلك الحيثية، فهو فقيه بلا ريب، وكأنه احترز بذلك عن سبق الوهم إلى أن الأصولي مَنْ جمع القواعد ودوَّنها لا من عرفها بعد التدوين لكنه (3) بعيد جدًّا (4).

(1) يعني بهم القاضي الباقلاني، والجويني، والرازي، والآمدي، وابن دقيق العيد، وغيرهم كما تقدم.

(2)

قلت: وما المانع من أن يكون مراد المصنف بالأدلة جميع ما استند إليه الفقه من الأدلة السمعية والاجتهادية والترجيح، لا الأدلة السمعية وحدها كما فهمه الشارح؟ وعلى هذا فيكون المصنف مع المحققين في حملنا لكلامه على ما حمل عليه كلامهم الشارح.

(3)

يعود الضمير في قوله: "لكنه" إلى قوله: "وكأنه احترز عن سبق الوهم. . . إلخ".

(4)

وجه استبعاد الشارح لهذا الاحتمال هو أنَّ من عرَف القاعدة الأصولية أو القواعد الأصولية بعد تدوينها وفهمها يطلق عليه أصولي كمن جمع القواعد ودونها، فلا يخرج عن مطلق الوصف.

ص: 205

وأما حال الاستفادة والمستفيد، فهما من أجزاء العلم المعرف؛ إذ المراد بكيفية الاستفادة معرفة استنباط الأحكام من الأدلة كتقديم النص على الظاهر، والمتواتر على الآحاد، وذلك الباب السادس الذي وضعه في التعادل والتراجيح.

وحال المستفيد: عبارة عن صفات المجتهد والمقلد؛ إذ كل منهما يستفيد الأحكام، وإن كان طريق الاستفادة مختلفًا؛ إذ دليل المجتهد النصوصُ، ودليل المقلد قولُ المجتهد الذي قلده، فلو ذكرهما -في تعريف العلم- كما فعله غيره (1) كان أولى (2).

قال: "والفقه [العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية] (3) ".

(1) كالبيضاوي، وابن الحاجب، وغيرهما.

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص/ 3، والإبهاج: 1/ 19، ونهاية السول: 1/ 5.

(2)

وقد رجح الزركشي والمحلي هذا الرأى في شرحيهما على جمع الجوامع.

راجع: تشنيف المسامع: ق (4/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 41.

قلت: وقد ذهب البعض إلى أن الصواب هو أن الأصول هي الأدلة الإجمالية والمرجحات فقط، أما مباحث الاجتهاد، فبعض مسائله فقهية كمسألة جواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، وبعضها اعتقادية كقولهم: المجتهد فيما لا قاطع فيه مصيب.

راجع: حاشية البناني على المحلي: 1/ 41.

(3)

ما بين المعكوفتين من (ب) وفي (أ)"والفقه إلى آخره".

ص: 206

أقول: عرف الفقه بالمعنى المصطلح عليه، وترك المعنى اللغوي (1)؛ لقلة جدواه أو لكونه معلومًا على ما فعله في تعريف الأصول، فقال: الفقه العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية (2).

فقوله: "العلم" جنس، وقوله:"بالأحكام" يخرج العلم المتعلق بالذوات والصفات والأفعال وإن أريد بالذوات الموضوعاتُ (3)، وبالصفات المحمولاتُ (4)،

(1) الفقه -في اللغة-: الفهم، والمعرفة قال تعالى:{وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] أي: لا تعرفون، وقال عليه الصلاة والسلام:"رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" أي: أفهم.

راجع: القاموس المحيط: 4/ 289، والنفائس:(1/ 9/ ب)، والمعتمد: 1/ 4، والمستصفى: 1/ 4، وروضة الناظر: ص/ 13، والإحكام للآمدي: 1/ 5، والكاشف عن المحصول: 1/ 26 - 27، والمحلي على الورقات: ص/ 14، وإرشاد الفحول: ص/ 3.

(2)

قد عرف الفقه اصطلاحًا بتعاريف مختلفة:

راجع: المعتمد: 1/ 8، والبرهان: 1/ 86، والحدود للباجى: ص/ 35، والمستصفى: 1/ 4، وشرح العضد على المختصر: 1/ 25، وفواتح الرحموت: 1/ 10.

(3)

الموضوعات: هي الحد الأصغر في القياس الاقتراني، وهو موضوع النتيجة، والغالب فيها أمّا تكون أقل أفرادًا من المحمول.

(4)

المحمولات: هي الحد الأكبر في القياس الاقتراني، وهو النتيجة، والغالب فيها أنها تكون أكثر أفرادًا من الموضوع، وذلك كقول المناطقة: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، فموضوع هذه النتيجة: العالم متغير وهو الحد الأصغر، ومحمولها: وكل متغير حادث، وهو الحد الأكبر، والمقدمة الأولى التي فيها الحد الأصغر مقدمة صغرى، والمقدمة الثانية التي فيها الحد الأكبر مقدمة كبرى، والمكرر، وهو متغير هو الحد الأوسط، وهيئة التأليف من المقدمتين هي صورة القياس، وتسمى شكلًا.

راجع: إيضاح المبهم: ص/13، وشرح الأخضري على السلم: ص/33، ورسالة في علم المنطق: ص/ 31.

ص: 207

فلا حاجة إلى ذكر الأفعال، وبقيد "الشرعية" أخرج الأحكام العقلية كالتماثل والتخالف، وبقوله:"العملية" أخرج الاعتقادات كوحدة الصانع -تعالى- وقِدَمه، وبقوله:"من أدلتها التفصيلية" علم الله -تعالى- وعلم جبريل، وعلم الرسول عليهما أفضل الصلاة وأكمل التسليم، إذ هذه العلوم بالأحكام ليست عن الأدلة (1)، وزاد بعضهم (2) لفظ الاستدلال، ولا حاجة إليه إذ أخذ الحكم من الدليل مشعر بالاستدلال (3).

والحكم -في العرف العام- إسناد أمر إلى آخر إيجابًا وسلبًا.

وعند الأصوليين: خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، والأول: هو المراد هنا، وإلا يكون قيد الشرعية ضائعًا.

وقوله: "المكتسب" مرفوع صفة للعلم مخرج لعلم المقلد؛ لأنه ليس مكتسبًا من الأدلة إذ معنى الاكتساب من الدليل أن ينظر في الدليل على وجه الاستدلال، فيؤدي ذلك النظر إلى العلم.

ولا شك أن المقلد ليس بهذه الصفة، وإن كان علمه مأخوذًا من الدليل لكن لا بالمعنى المذكور، بل دليل المقلد -في التحقيق- قول مقلده.

والدلائل التفصيلية: هي الأدلة الجزئية التي (4) أقيمت على الأحكام الفقهية كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43].

(1) لأن علم الله -تعالى- صفة من صفاته الأزلية تابعة لذاته سبحانه.

(2)

هو الإمام ابن الحاجب في مختصره: 1/ 25، وانظر التلويح: 1/ 13.

(3)

آخر الورقة (5/ ب من ب).

(4)

آخر الورقة (5/ ب من أ).

ص: 208

واعلم أن هنا سؤالًا (1) لبعض المحققين يعسر التغضِّي عنه وهو أن الأحكام إما أن يراد بها البعض أو الكل، لا جائز أن يكون المراد هو الكل لثبوت "لا أدري" عمن هو فقيه بالإجماع (2)، ولا البعض لدخول المقلد (3).

ولمّا أجيب بأن المراد هو الكل، ولا يقدح "لا أدري"؛ إذ المراد ليس الكل بالفعل، بل التهيؤ للكل، ومن ثبت عنه "لا أدري" كان متهيئًا (4) له.

اعترض -ثانيًا- بأن التهيؤ البعيد حاصل لكل أحد، والقريب ليس له ضابط.

(1) قلت: هناك إيرادات على حد الفقه أوردها ابن الحاجب والأسنوى ونقلها الشارح عنهما هنا.

راجع: مختصر ابن الحاجب: 1/ 29، ونهاية السول: 1/ 25.

(2)

كالإمام مالك رحمه الله، فيلزم خروجه من الاجتهاد لو قلنا: إن المراد بالأحكام كلها؛ لأنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب في أربع وقال في ست وثلاثين: لا أدري.

راجع: العضد على المختصر: 1/ 30، ونهاية السول: 1/ 25.

(3)

لأن الحد لا يكون مطردًا لدخول المقلد في التعريف إذا عَرَف بعض الأحكام.

(4)

بأن يكون عنده ما يكفيه في استعلامه بأن يرجع إليه فيحكم، وعدم العلم في الحالة الراهنة لا ينافيه لجواز أن يكون ذلك لتعارض الأدلة، أو لعدم التمكن من الاجتهاد في الحال لاستدعائه زمانًا.

راجع: شرح العضد على المختصر: 1/ 32.

ص: 209

لا يقال: المعنى به أن يعلم كل مسألة يتوجه إليها بالاجتهاد؛ لأن أبا حنيفة (1) مات، ولم يدر معنى الدهر (2)، مع كونه مجتهدًا بالإجماع.

وأيضًا بعض المسائل لا مساغ للاجتهاد فيه، والبعض -أيضًا- لا يجوز لأنه إما أن يراد به البعض المعين كنصف الأحكام مثلًا أو الثلث ولا دلالة

(1) هو الإمام الفقيه الكبير المجتهد النعمان بن ثابت مولى تيم الله بن ثعلبة أحد الأئمة الأربعة، ولد سنة (80 هـ) اشتهر بتعبده وورعه وفقهه وعلمه، كان دمث الأخلاق، حسن المنطق، قوى الحجة، عرض عليه القضاء فرفضه وامتنع أن يقبله، وقد أجمع العلماء على تقدمه في الفقه والورع، وأثنى عليه الكثير كالإمام مالك، والشافعى، ووكيع وغيرهم.

قيل: أدرك أنس بن مالك، وأخذ عن الكثيرين، وتوفي سنة (150 هـ).

راجع: تاريخ البخارى الكبير: 8/ 81، والتاريخ الصغير: 2/ 43، وتأريخ بغداد: 13/ 323، وطبقات الفقهاء للشيرازي: ص/ 86، ومرآة الجنان: 1/ 309، ووفيات الأعيان: 5/ 415، وسير أعلام النبلاء: 6/ 390، وميزان الاعتدال: 4/ 165، وتذكرة الحفاظ: 1/ 168، والجواهر المضيئة: 1/ 26، وأبا حنيفة لأبي زهرة.

(2)

يعني في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا الدهر، فإن الله هو الدهر" وفي رواية: "لا تسبوا الدهر، فإن الله عز وجل قال: أنا الدهر الأيام والليالي أحددها، وأبليها، وآتي بملوك بعد ملوك". ورواية البخارى: "يوذيني ابن آدم بسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل، والنهار".

راجع: صحيح البخاري: 6/ 166، وصحيح مسلم: 7/ 45، ومسند أحمد: 2/ 395، 491، 496، 499، 5/ 299، 311، وسنن أبى داود: 2/ 658، وراجع شرح الحديث وما قيل في معناه: شرح مسلم للنووي: 15/ 2 - 3، وفتح الباري: 10/ 195 وما بعدها، وعون المعبود: 14/ 191، والفتح الرباني: 20/ 10 - 11.

ص: 210

عليه، أو ما ينطلق عليه البعض وإن قلَّ؛ لأنه يلزم أن من عرف ثلاث مسائل من الدليل كان فقيهًا، وليس كذلك.

الجواب: نختار الكل، والمراد بالتهيؤ القريب.

قوله: "ليس له ضابط" قلنا: ممنوع إذ هو ملكة يقتدر بها على إدراك الأحكام الجزئية، وإطلاق العلم على الملكة المذكورة شائع.

قوله: "لم يدر معنى الدهر"، قلنا: لا يمتنع ذلك لجواز أن يكون بسبب تعارض الأدلة (1).

قوله: "لا مساغ فيها للاجتهاد".

قلنا: ممنوع بدليل حديث معاذ (2) حيث لم يستثن شيئًا من الأحكام (3)، أو نختار البعض.

(1) يعني الأحاديث التي وردت في النهي عن سب الدهر، رقد تقدت بألفاظها المختلف فيها.

(2)

هو الصحابي الجليل معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس، أبو عبد الرحمن الأنصاري الخزرجي الإمام المقدم في علم الحلال والحرام، شهد العقبة وبدرًا والمشاهد كلها، رقد رلاه النبي صلى الله عليه وسلم القضاء في اليمن، وقدم منها في خلافة أبىِ بكر، ولحق بالجهاد والجيش الإسلامي في بلاد الشام، قال عمر:"عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، ولولا معاذ لهلك عمر"، وتوفي في الشام في الطاعون سنة (17 هـ وقيل: 18 هـ) وعاش 34 سنة.

راجع: الإصابة: 3/ 436، وصفة الصفوة: 1/ 489، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 98، وشذرات الذهب: 1/ 29.

(3)

حديث معاذ رواه أحمد، وأبو داود، وابن سعد، وابن حزم، والبيهقي، وابن عبد البر، والترمذي، والنسائي، والدارمي، ولفظه: حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي عون عن =

ص: 211

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الحارث بن عمرو عن رجال من أصحاب معاذ عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضى إذا عرض لك قضاء؟ قال: أقضى بكتاب الله. قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: الحمد الله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله".

هذا الحديث يذكره الفقهاء في كتبهم، ويعتمدون عليه، ومعناه صحيح أما ثبوته، فقد اختلف فيه لجهالة الحارث بن عمرو وأصحاب معاذ، فأبو داود سكت عنه، وصحح الدارقطني إرساله، وقال الترمذى: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده عندي بمتصل. وضعفه البخاري، وابن الجوزي، وابن حزم، وكذب تواتره، وعده الجوزقاني في الموضوعات، وحكم بأنه باطل.

وقد مال إلى القول بصحته غالب الفقهاء، وقوى جانبهم أبو بكر الرازي، وأبو بكر ابن العربى، والخطيب البغدادي، والحافظ ابن القيم وقالوا: الحارث بن عمرو ليس مجهول العين، فهر ابن أخي المغيرة بن شعبة، ولا مجهول الوصف لأنه من كبار التابعين، والشيوخ الذين روى عنهم هم من أصحاب معاذ، ولا أحد من أصحاب معاذ مجهول فهم معروفون بالعلم والدين والفضل والصدق بالمحل الذي لا يخفى، وليس فيهم متهم، ولا كذاب، ولا مجروح إضافة إلى أن الخطيب البغدادي ذكر له طريقًا آخر عن عبادة بن نسي عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ، وهو إسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة مع أن أهل العلم قد نقلوه واحتجوا به، فوقفنا بذلك على صحته عندهم كما وقفنا على صحة قوله صلى الله عليه وسلم:"لا وصية لوارث"، وقوله -في البحر-:"هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، وقوله:"الدية على العاقلة" وقوله: "إذا اختلف المتبايعان -في الثمن والسلعة قائمة- تحالفا وترادا البيع". وإن كانت هذه الأحاديث لا تثبت من جهة المسند، ولكن لما تلقتها الكافة عن الكافة غنوا بصحتها -عندهم- عن طلب الإسناد لها، فكذلك حديث معاذ لما احتجوا به جميعًا غنوا عن طلب الإسناد له. =

ص: 212

قوله: "من عرف ثلاث مسائل من الدليل كان فقيهًا".

قلنا: كذلك أي من كان له ملكة الاستنباط من الأدلة فهو فقيه، وإن كانت معلوماته قليلة لكونه ذا ملكة، وهي كافية، وذكر الفرعية في تعريف

= قلت: وبعد النظر -في هذا الحديث وما تكلم فيه- يتبين بأن كلًّا من الفريقين له نظرته، ودليله فيما ذهب إليه، فالذين ضعفوه نظروا إلى سنده بغض النظر عن صحة معناه، أو بأن له نصوصًا أخرى تشهد لصحة معناه. والذين صححوه نظروا إلى صحة معناه -وإن كانوا قد دافعوا عن سنده- إضافة إلى الأدلة الأخرى الصحيحة إلى تشهد له وتدعو إلى الاجتهاد عند عدم النص، والاجتهاد متفق على القول به عند الفريقين بشروطه، لكن الذين صححوا الحديث جعلوه دليلًا على العمل بالاجتهاد إضافة إلى غيره من الأدلة، والذين ضعفوه يقولون بالاجتهاد أيضًا لا لهذا الحديث، بل للأدلة الأخرى الصحيحة كحديث:"إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر" رواه مسلم: 5/ 131، والنسائي: 8/ 223.

راجع في رواية الحديث: مسند أحمد: 5/ 236، 242، وسنن الترمذي: 2/ 394، وسنن أبى داود: 2/ 272، وسنن النسائي: 8/ 203، وسنن الدارمي: 1/ 60، والسنن الكبرى للبيهقي: 10/ 114، وجامع الأصول: 10/ 177، والطبقات لابن سعد: 2/ 347، والإحكام لابن حزم: 5/ 698، وجامع بيان العلم: 2/ 69.

وراجع الكلام على سنده: الفقيه والمتفقه: 1/ 189، والإحكام لابن حزم: 5/ 698، والأباطيل والمناكير والصحاح والمشاهير للجوزقاني: 105/ 1، وإعلام الموقعين: 1/ 202، والعلل المتناهية: 2/ 758، وتلخيص الحبير: 4/ 182، ونصب الراية: 63/ 4، وتحفة الأحوذي: 4/ 556، وعون المعبود: 9/ 509، والفتح الرباني: 15/ 208، والميزان: 1/ 439، والتقريب: 1/ 143، 2/ 187.

ص: 213

الفقه أولى من ذكر العملية إذ المتبادر من العملية ما يكون بالجوارح، ويورد -حينئذ- خروج النية من المسائل الفقهية (1).

ويجاب بأن العملي أعم من عمل الجوارح والقلب، ويرد بأنه غير مانع لدخول العقائد كلها.

ويجاب بأن العملي ما يتعلق بكيفية عمل، والعقائد لا تتعلق بكيفية عمل، والفرعية خالية عن هذه الاعتراضات، فكان أولى (2).

لا يقال: العلم أعم من التصورات والتصديقات (3)، فيلزم أن يكون تصور الأحكام الشرعية العملية فقهًا لأنّا نقول العلم -عند الأصوليين- حقيقة في الاعتقاد الجازم المطابق الثابت لموجب ولذلك توجه الاعتراض بأن الفقه من باب الظنون، فلا يكون علمًا (4).

(1) لأن النية تتعلق بالقلب، وكذلك الردة، ونحو ذلك.

(2)

لذلك ترك الآمدى وابن الحاجب لفظ "العملية" وقالا: الفرعية لأن النية -وإن كانت من أعمال القلب- فهى من مسائل الفروع.

راجع: الإحكام: / 51، ومنتهى الوصول والأمل: ص/3.

(3)

التصديق: هو إدراك النسبة الكلامية واقعة، أو ليست واقعة، مع تصور الموضوع والمحمول والنسبة مع وقوعها، فمثلًا زيد قائم، لعله الموضوع: زيد، والمحمول: قائم، والنسبة بينهما هو تعلق المحمول بالموضوع.

راجع: معيار العلم: ص/67، وشرح الشمسية للقطبي: ص/4، وشرح الأخضري على السلم: ص/ 24، وإيضاح المبهم: ص/ 6.

(4)

ذهب غالب الأصوليين إلى أن الأحكام الشرعية معلومة، كالقاضي الباقلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، وابن برهان، والآمدي، والمازري، والأبياري، وحكى الإجماع في =

ص: 214

قال: "والحكم خطاب الله [المتعلق بفعل المكلف من حيث إنه مكلف] (1) ".

أقول: لمّا أخذ الحكم (2) -في تعريف الفقه- ولم يكن بيِّنًا أراد بيانه، واللام في "الحكم" -هنا- للعهد، أي الحكم

= أن الراجح يجب الحكم به، وكذا صاحب المعتمد، وصاحب الوافي، وجمهور من تحدث في هذا العلم كلهم يقولون الأحكام الشرعية معلومة، واختاره الإمام الرازي في المحصول، ووافقه من المختصرين للمحصول صاحب الحاصل والتحصيل، والمنتخب، وخالفه التبريزى فقال: من الأحكام ما يعلم، ومنها ما يظن.

ورجح القرافي أن الأحكام الشرعية معلومة للقطع بوجوب العمل بما أدى إليه ظن المجتهد، فالحكم معلوم قطعًا، والظن واقع في طريقة تقريره.

وقد ذكر الخلاف شيخ الإسلام عند كلامه على خبر الواحد ورجح بأن الأحكام الشرعية سواء ما دلالته قطعية أو ظنية، كلها تفيد العلم مبينًا ذلك بالتفصيل.

راجع: المعتمد: 1/ 4، والبرهان: 1/ 85، والمستصفى: 1/ 4، والوصول إلى الأصول 1/ 50، والإحكام للآمدى: 1/ 5، والنفائس:(1/ 14/ ب، 18/ ب)، وتنقيح المحصول: 1/ 5، والتحصيل: 1/ 5، والحاصل: ق (3/ أ)، والإبهاج: 1/ 38، وروضة الناظر: ص/13، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 20/ 257 - 258.

(1)

ما بين القوسين من (ب) وفي (أ)"والحكم خطاب الله إلى آخره".

(2)

الحكم -لغة- يطلق على معان كثيرة: منها المنع والقضاء يقال: حكمت عليه بكذا، أي منعته من خلافه، وحكمت بين الناس: قضيت بينهم وفصلت، ومنه الحكمة، لأنها تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل، والفساق، ومنه قول جرير:

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكمو أن أغضبا

وفى العرف يطلق على إسناد أمر إلى أمرٍ آخر، أي نسبته إليه سلبًا أو إيجابًا، أما الحكم في الاصطلاح فبحسب كل اصطلاح، فعند الأصوليين كما ذكره المصنف =

ص: 215

الشرعى هو الخطاب الموصوف، والخطاب: توجيه الكلام نحو الغير للإفهام [ثم] نقل إلى ما يقع به التخاطب، وهو هنا الكلام النفسي الأزلي (1).

= مع الاختلاف في ذلك، أما عند الفقهاء فالحكم مدلول خطاب الشارع وأثره، فالفقهاء نظروا إليه من ناحية متعلقه، وهو فعل المكلف، فقالوا: هو مدلول الخطاب وأثره، والأصوليون نظروا إليه من ناحية مصدره، وهو الله تعالى، فالحكم صفة له. وعند المناطقة الحكم: هو إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، ويسمى تصديقًا، وهذا ليس مرادا هنا، والظاهر أن المراد بالحكم -هنا - هو المحكوم، وهو ما ثبت بالخطاب، كالوجوب، والحرمة، والندب، والكراهة، والإباحة، فهو من إطلاق المصدر على المفعول كإطلاق الخلق على المخلوق.

راجع: المصباح المنير: 1/ 145، ولسان العرب: 1/ 30، وتهذيب الصحاح: 2/ 724، والقاموس المحيط: 4/ 98، وتاج العروس: 8/ 353، والمستصفى: 1/ 55، والمحصول:(1 /ق/ 1/ 107)، والإحكام للآمدي: 1/ 72، والمختصر لابن الحاجب: 1/ 220، وشرح تنقيح الفصول: ص / 67، وشرح الكوكب المنير: 1/ 333، والمذكرة للشيخ الشنقيطى: ص/7.

(1)

هذا القول ينسب إلى ابن كلاب والأشعرى، وهو أن الكلام معنًى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي، والخبر والاستخبار. . . وفي هذه المسألة مذاهب أخرى، وسيأتي الكلام عليها في آخر الكتاب، والحق أنه تعالى متكلم إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وأنه يتكلم بصوت يسمع، ونوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت المعين قديمًا، ولا يشبه كلامه كلام خلقه، كما لا تشبه ذاته ذات الخلق، وهو مكتوب في المصاحف محفوظ في الصدور، مقروء بالألسنة.

راجع: الإنصاف للباقلاني ص/ 71، والمحصل: ص/ 164، ومعالم أصول الدين: ص 61 - 67، ومجموع الفتاوى: 74/ 12 - 297، وكتاب الرد على المنطقيين: ص / 542، وشرح العقيدة الأصفهانية: ص/8، والمواقف للعضد: ص/73، وشرح العقيدة الطحاوية: 1/ 158، ومختصر الصواعق المرسلة: 2/ 286.

ص: 216

ومن يرى أن الكلام في الأزل لا يسمّى خطابًا فسر الخطاب بالكلام الموجه نحو الغير المتهيئ للفهم (1).

واعترض بأن الحد غير مانع لدخول القصص كقوله -تعالى- {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] فزيد -في الحد- بالاقتضاء، أو التخيير (2)،

(1) الخلاف في تسمية الكلام -في الأزل خطابًا- وعدم تسميته مبني على تفسير الخطاب، فمن قال: إن الخطاب: هو الكلام الذي يفهم سمّاه خطابًا، ومن قال: إن الخطاب: هو الكلام الذي أفهم لم يسمِّه خطابًا، ويعني ما فيه صلوح الإفهام، وقد ذكر في فواتح الرحموت: بأن الخلاف لفظي، وذكر ابن الهمام بأن المانع من التسمية هو كون المراد من الخطاب التنجيزى الشفاهي، فهذا ليس موجهًا في الأزل، أما إرادة طلب الفعل ممن سيوجد ويتهيأ لفهمه، فيصح في الأزل.

راجع: تيسير التحرير: 2/ 131، وفواتح الرحموت: 1/ 56 - 57، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 49.

(2)

هذا التعريف بهذه الزيادة ذكره الإمام الرازي، والبيضاوي، والأسنوي، والقرافي، وزاد "القديم" بعد خطاب الله، وذكره الآمدي، قال:"وهو غير جامع؛ لأن العلم بكون أنواع الأدلة حججًا، وكذلك الحكم بالملك، والعصمة، ونحوها أحكام شرعية، وليست على ما قيل".

وقد اختار هذا التعريف ابن الحاجب، وزاد قيدًا آخر، وهو "أو الوضع" ليدخل كون الشئ، دليلًا، وشرطًا، وسببًا، وعرفه الغزالي: بأنه عبارة عن خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وحدَّه الآمدى: بأنه اللفظ المتواضع عليه المقصود به إفهام من هو متهيئ لفهمه، وذكر بأنه الحق.

راجع: المستصفى: 1/ 55، والمحصول:(1 / ق/ 1/ 107)، والإحكام للآمدي: 1/ 72، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 67، والمختصر مع العضد: 1/ 220، ونهاية السول: 1/ 47، والتمهيد: ص/ 48، وفواتح الرحموت: 1/ 54.

ص: 217

ولما كان الحق عدم الاحتياج إلى الزيادة المذكورة -لأن الحيثيات معتبرة في الحدود- أسقط المصنف الزيادة، وأبرز الحيثية المعتبرة إذ تعلق الخطاب في القصص ليس من حيث إنهم مكلفون، وهو ظاهر (1)، وهنا شُبَه لا بد من إيرادها والجواب عنها:

الأولى: أن الحد غير منعكس لخروج الأحكام المتعلقة بفعل الصبي.

والجواب: أن الأحكام التي يتوهم تعلقها بفعل الصبي إنما هي متعلقة بفعل الولي، هو المأمور وهو الآثم بتركها، المثاب على فعلها (2).

الثانية: أن أحكام الوضع خارجة -أيضًا- كدلوك الشمس للسببية (3).

(1) هذا الجواب أخذه عن العضد، فإنه ذكر تعريف الحكم، ثم قال:"واعلم أن الحد الأول للغزالي، ويمكن الذب عنه بأن الألفاظ المستعملة في الحدود تعتبر فيها الحيثية، وإن لم يصرح ها، فيصير المعنى المتعلق بأفعال المكلفين من حيث هم مكلفون، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] لم يتعلق به من حيث هو فعل مكلف، ولذلك عم المكلف وغيره"، شرح العضد على المختصر: 1/ 222.

(2)

لأنه هو المخاطب بأداء ما وجب على الصبي والمجنون في مالهما كالزكاة، وضمان المتلف، كما يخاطب صاحب البهيمة بضمان ما أتلفته حيث فرط في حفظها لتنزل فعلها -في هذه الحالة- منزلة فعله، وصحة عبادة الصبي -كصلاته، وصومه- المثاب عليهما ليس لأنه مأمور بها كالبالغ، بل ليعتادها، فلا يتركها بعد بلوغه إن شاء الله ذلك.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 51 - 52.

(3)

ولهذا زاد الإمام ابن الحاجب قيد "الوضعية" لأنه اعتبر خطاب الوضع من الحكم، كما تقدم.

ص: 218

والجواب: أن أحكام الوضع راجعة إلى التكليف، كما صرح به المصنف في بحث تكليف الغافل.

فالحاصل: أن التكليفي على قسمين: صريح، وضمني، فأحكام الوضع من قبيل الضمني (1)، إذ معنى سببية الدلوك للصلاة، وجوب الصلاة عند الدلوك.

وذهب بعضهم (2) إلى أن الأحكام الوضعية لا تسمى أحكامًا اصطلاحًا، فلا يضر خروجها.

الثالثة: أن المقصود تعريف الحكم المصطلح بين الفقهاء لأنه المأخوذ في تعريف الفقه، وهو ليس نفس الخطاب، بل ما ثبت بالخطاب كالوجوب والحرمة؛ أعني صفة فعل المكلف (3).

(1) وقد ذكر العضد بأن المراد من الاقتضاء، والتخيير أعم من الصريح، والضمني، وخطاب الوضع من قبيل الضمني.

راجع: شرحه على المختصر 1/ 222.

(2)

وبه قال العضد، وهو المراد عند الشارح هنا حيث قال:"وأما الثاني: فقيل: ليس بحكم -يعني الوضعي- ونحن لا نسمى هذه الأمور أحكامًا، وإن سماها غيرنا به، فلا مشاحة في الاصطلاح".

ومعنى هذا أمّا علامات لمعرفة الأحكام، وليست أحكامًا، واختاره المصنف وغيره.

راجع: شرح العضد على المختصر: 1/ 222، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 52.

(3)

تقدم عند تعريف الحكم في بداية المسألة.

ص: 219

وأجيب بوجوه:

الأول: كما أريد بالحكم ما حكم [به](1) أريد بالخطاب ما خوطب به، لظهور أن صفة فعل المكلف ليس نفس الخطاب الذي هو الكلام الأزلي.

الثاني: أن التعريف إنما هو للحكم حقيقة، وإطلاق الحكم على الوجوب والحرمة تسامح.

الثالث: -وهو أدق الأجوبة- وهو للمولى المحقق عضد (2) الملة والدين -أن الحكم نفس خطاب الله تعالى (3)، فالإيجاب- مثلًا- نفس قوله -تعالى-:{أَقِمِ الصَّلَاةَ} [الإسراء: 78]. وليس للفعل صفة من القول إذ القول يتعلق بالمعدوم، وهو فعل الصلاة في المثال المذكور، وإذا كان الفعل معدومًا فصفته المتأخرة عنه أولى بالعدم.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

هو عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الغفار الإيجى الشافعي، كان إمامًا في المعقولات، قائمًا بالأصول والمعاني والعربية، مشاركًا في الفنون، له مؤلفات نافعة: كشرح المختصر، والمواقف، والجواهر، والفوائد الغياثية في المعاني والبيان، وغيرها، توفي سنة (753 هـ) مسجونًا بقلعة قرب إيج بأمر من والي كرمان.

راجع: النجوم الزاهرة: 10/ 288، والدرر الكامنة: 2/ 429، وبغية الوعاة: 2/ 75، وشذرات الذهب: 6/ 174، والبدر الطالع: 1/ 326، ومعجم المؤلفين: 4/ 193.

(3)

راجع: شرحه على المختصر: 1/ 225.

ص: 220

فالحكم -وهو الإيجاب مثلًا- له تعلق بفعل المكلف، وإن كان معدومًا (1)، فبالنظر إلى نفسه التي هي صفة الله -تعالى- إيجابًا، وبالنظر إلى ما تعلق به، وهو فعل المكلف يسمّى: وجوبًا، فهما متحدان بالذات، مختلفان بالاعتبار (2)، ولهذا نرى المحققين تارة يعرفون الإيحاب، وتارة يعرفون الوجوب نظرًا إلى الاعتبارين.

هذا حاصل كلامه، مع توضيح له من جهتنا، والله الموفق.

وهنا اعتراض أقوى أورده القاضي أبو بكر الباقلاني (3) على حد الفقه، وهو أن الفقه: هو الظن بالأحكام الشرعية لا العلم بها؛ لأن الأحكام

(1) لأن الحكم الذي هو الخطاب إرادة طلب الفعل ممن سيوجد ويتهيأ لفهمه، فضبح من هذه الحيثية في الأزل، ويوجه إلى المعدوم.

راجع: شرح تنقيح الفصول: ص/ 70، ونهاية السول: 1/ 48، وتيسير التحرير: 2/ 131، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 48 - 49.

(2)

قلت: الإيجاب نفس خطاب الشارع الطالب للفعل طلبًا جازمًا، وهو الحكم المصطلح عليه عند الأصوليين، وقد تقدم، والوجوب هو الأثر الذى ترتب عليه الإيجاب، واتصف به الفعل، وهو الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء، وقد تقدم. والواجب هو الفعل الذي تعلق به الإيجاب واتصف بالوجوب.

(3)

هو أبو بكر محمد بن الطيب بن جعفر، المتكلم المشهور بالباقلاني، ولد سنة (338 هـ)، كان متكلمًا على مذهب الأشاعرة، وأما في الفروع، فقد تنازع أرباب المذاهب فيه، فقيل: كان مالكيّا، وقيل شافعيًّا، كما كان أصوليًّا، فقيهًا، مشهورًا بالمناظرة والرد على المخالفين، جيد الاستنباط، سكن بغداد، وتوفي في سنة (403 هـ)، له مؤلفات كثيرة منها: الإنصاف في علم الكلام، والتقريب، والإرشاد في أصول =

ص: 221

مأخوذة من الأدلة السمعية، والأدلة السمعية وإن كان بعضها قطعيًّا بحسب المتن لكن الدلالة ربما كانت ظنية لتوقف قطعيتها على انتفاء الاحتمالات العشرة (1)، وذلك الانتفاء لا يعلم على سبيل القطع، بل باعتبار الأصالة، كما يقال: الأصل في الكلام (2) الحقيقة، فلا يكون مجازًا، وكذلك الأصل عدم الإضمار والاشتراك، فتحقق أن الدلالة في الكل ظنية، فالأحكام الفقهية كلها ظنية إذ نتيجة المظنون مظنونة قطعًا (3)، فتعريف الفقه -الذي هو الظن بالأحكام- بالعلم الذي عندهم -هو الاعتقاد الجازم، المطابق الثابت لموجب- لا يستقيم لعدم صدق

= الفقه، ومناقب الأئمة، والملل والنحل، وكشف أسرار الباطنية، وهداية المسترشدين، والاستبصار، وغيرها.

راجع: تأريخ بغداد: 5/ 379، وتبيين كذب المفتري: ص / 217، ووفيات الأعيان: 4/ 269، ومرآة الجنان: 3/ 6، والعبر: 3/ 86، والبداية والنهاية: 11/ 350، والديباج المذهب: 2/ 228، وترتيب المدارك: 4/ 585، وشذرات الذهب: 3/ 168، والفتح المبين: 1/ 221، والأعلام: 7/ 46.

(1)

وهي نقل اللغات، وآراء النحو، وعدم الاشتراك، وعدم المجاز، وعدم النقل الشرعي، أو العادى، وعدم الإضمار، أو التخصيص للعموم، والتقييد للمطلق، وعدم النسخ، وعدم التقديم والتأخير، وعدم المعارض العقلي، وجميع هذه أمور ظنية.

راجع: الموافقات للشاطبي: 2/ 32.

(2)

آخر الورقة (6/ ب من ب).

(3)

تقدم بيان هذه المسألة ص/214.

ص: 222

الحد على المحدود إذ أحد المتباينين (1) لا يصدق (2) على الآخر ضرورة (3).

(1) البين: الفراق، وبابه باع، ويطلق على الوصل، فيكون من الأضداد، والبون: الفضل والمزية، يقال: بينهما بون بعيد، وبين بعيد، والواو أفصح، فأما بمعنى البعد، فيقال: إن بينهما بينًا لا غير، والمباينة: المفارقة، وتباين القوم: تهاجروا.

واصطلاحًا -فالمتباينان- ما كان لفظهما ومعناهما مختلفين كالظن والعلم اللَّذين ذكرهما الشارح كمثال لأنهما لا يجتمعان في محل واحد، فما هو ظن فليس بعلم، وما هو علم فليس بظن، فيلزم من صدق أحدهما على محل عدم صدق الآخر.

راجع: الصحاح: 5/ 3082، والمفردات: ص / 67، ومختار الصحاح: ص / 72، والمصباح المنير: 1/ 70، واللسان: 16/ 308، والتعريفات: ص/ 200، وإيضاح المبهم: ص/ 8، وشرح الأخضري على السلم: ص / 27، وضوابط المعرفة: ص/ 43، والمنطق المنظم: ص / 41، وآداب البحث والمناظرة: ص / 23.

(2)

آخر الورقة (6 / ب من أ).

(3)

لأن العلم يفيد الاعتقاد الجازم، والظن يفيد الاعتقاد الراجح مع احتمال النقيض، ويستعمل في اليقين والشك، أو أحد طرفي الشك بصفة الرجحان.

قلت: والتحقيق أن لفظ العلم يطلق على معان:

الأول: على أنه جنس يشمل التصور والتصديق القطعي؛ لأن العلم صفة توجب تمييزًا لا يحتمل النقيض، ويلزمها التعلق بمعلوم.

والثاني: يطلق على الاعتقاد الجازم المطابق الثابت لموجب كما ذكر الشارح، وهذا هو أحد قسمي العلم العام، وهو العلم التصديقي، فإن حمل في كلام المصنف على المعنى الأعم يخرج التصور بما بعده، وهذا الذى سلكه الإمام الرازي واعترض عليه، وإن حمل على المعنى الأخص، فلا يكون التصور ذا خلافية، وعلى كلا التقديرين لا يندرج الظن فيه. =

ص: 223

وأجيب بأن المجتهد إذا ظن الحكم في حادثة، وجب عليه الفتوى والعمل بذلك الحكم للإجماع القطعي على أن المجتهد يجب عليه اتباع ظنه لعدم جواز تقليد مجتهد آخر (1)، فيقال -حينئذ- هذا مظنون المجتهد، وكلُّ ما هو مظنون المجتهد فهو حكم الله قطعًا، فهذا حكم الله قطعًا، وأنت خبير بأن هذا الكلام إنما يتم على مذهب من يقول: كل مجتهد مصيب؛ لأن حكم الله -عندهم- تابع ظن المجتهد ولا يفارقه، فحيث وجد وجد، وهو مذهب مردود عند أهل الحق (2).

وأما إذا قيل: إن المجتهد قد يخطئ -كما هو الحق- فهذا الجواب لا يستقيم؛ لأن المقطوع به إن كان وجوب العمل بمظنونه فهو مسلَّم، ولكن

= الثالث: يطلق على الصناعة، كما تقول: علم النحو، أي صناعته، فهذا يندرج فيه الظن، واليقين، وكل ما يتعلق بنظر في المعقولات لتحصيل مطلوب يسمّى علمًا، ويسمّى صناعة، وعلى هذا الاصطلاح لا يرد السوال الذى أورده الشارح نقلًا عن الباقلاني، ولعل المصنف أراد هذا المعنى مع أن غالب الأصوليين أوردوه، ويحتمل أنهم لم يريدوا هذا المعنى، أو أرادوه ومعه معنى العلم في الأصل.

وقد ذكر المحلي أنهم عبروا عن الفقه هنا بالعلم -وإن كان لظنية أدلته ظنًّا كما سيأتي في التعبير عنه في باب الاجتهاد- لقوة ظن المجتهد، فصار قريبًا من العلم.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 92، والإبهاج: 1/ 28، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 45، وتشنيف المسامع: ق (4/ أ).

(1)

راجع: الكاشف عن المحصول: (1/ ق/ 1/ 63)، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 18، ونهاية السول: 1/ 41.

(2)

هذه المسألة، سيأتي الكلام عليها في آخر الكتاب في باب الاجتهاد إن شاء الله تعالى.

ص: 224

الحكم مظنون له لم يصر قطعيًّا، غاية الأمر أن الإجماع انعقد على وجوب العمل بذلك المظنون، وإن كان العلم بالأحكام، فهذا الدليل لا يفيده.

قوله: "ومن ثم لا حكم إلا لله (1) [والحسن والقبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته، وصفة الكمال والنقصان عقلى، وبمعنى ترتب الذم عاجلًا، والعقاب أجلًا شرعي خلافًا للمعتزلة"(2)] (3).

(1) اللائق بذكر هذه المسألة في أصول الدين غير أنه لما كان المراد بالحسن والقبح المعنى الذى يتبعه الحكم الشرعي ذكرها الأصوليون في كتب الأصول وفرعوا عليها أنه لا حكم قبل البعثة، وأن شكر المنعم غير واجب عقلًا ليردوا بذلك على المعتزلة، كما سيأتي.

(2)

لما خالف واصل بن عطاء الغزال الحسن البصري في القدر، وفي المنزلة بين المنزلتين، وانضم إليه عمرو بن عبيد في بدعته طردهما الحسن عن مجلسه، فاعتزلاه إلى سارية من سواري المسجد في البصرة، فقيل لهما ولأتباعهما: معتزلة لاعتزالهم قول الأمة، وقد افترقت المعتزلة فيما بينها إلى عشرن فرقة كل فرقة منها تكفر سائرها، ورغم ذلك، فهم متفقون على نفي صفات الله تعالى، والقول بخلق القرآن، وأن الله غير خالق لأفعال العباد، ولا لشيء من أفعال الحيوانات؛ ولأجل هذا سموا قدرية، وأن رؤية الله في الآخرة مستحيلة، وأن الفاسق المسلم بالمنزلة بين المنزلتين، وهي أنه لا مؤمن، ولا كافر، ولأجل هذا سموا معتزلة، والذى وضع أصول المعتزلة هو واصل بن عطاء، ثم صنف لهم أبو الهذيل العلاف كتابين بين فيهما مذهبهم، وجعله مبنيًّا على أصول خمسة هي: التوحيد، والعدل، والوعيد، والمنزلة، بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة إذا جاروا، كما ضمنوا الأربعة السابقة ما تقدم ذكره مما اتفقوا عليه، ثم جاء القاضي عبد الجبار وشرح الأصول الخمسة.

راجع: الفرق بين الفرق: ص/ 114، والملل والنحل: 1/ 43، والتبصير في الدين: ص/ 63، والعقيدة الطحاوية: ص/ 88، والتعريفات: ص/ 222.

(3)

ما بين المعكوفتين زيادة من (ب).

ص: 225

أقول: لمّا قال: الحكم خطاب الله -وقد تقرر في علم البلاغة أن المبتدأ والخبر إذا كانا معرفتين، فالتركيب مفيد للحصر كقولنا: المنطلق زيد، أي: لا غير زيد (1)، فقولنا: الحكم خطاب الله، أي: لا غير- حكم المصنف بأن لا حكم إلا لله بناء على ذلك، وعلله به صريحًا، أي لأجل ما ذكر كان الحكم منحصرًا في الله سبحانه وتعالى (2).

ثم المهم -في هذا المقام- تحرير محل النزاع، ولا يمكن ذلك التحرير إلا بتلخيص معنى الحسن والقبح، فنقول: الحسن والقبح يطلقان على الشيء باعتبار معان ثلاثة:

الأول: المنافرة والملائمة، فالصوت الطيب حسن بهذا المعنى، والصوت الكريه مبيح، وليس هذا محلًا للنزاع، فإن العقل له فيه حكم ضرورة لا يمكن إنكاره.

الثاني: الكمال في الشيء والنقصان فيه، فالعلم في الإنسان حسن والجهل قبيح، ولا شك أن الحاكم في ذلك هو العقل.

(1) راجع: الإيضاح في علوم البلاغة: 1/ 188 - 189، والبلاغة الواضحة: ص / 218.

(2)

بدأ المصنف رحمه الله بالكلام على الحكم، وضمنه الحديث عن الحاكم؛ لأن الحكم والحاكم متلازمان، وكذا فعل غيره، وهناك آخرون عرفوا الحكم بنوعيه التكليفي والوضعي، ثم قسموه وعرفوا كل قسم، وبعد ذلك ذكروا هذه المسألة، والآمدي قدم الكلام على الحاكم.

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 107، والإحكام للآمدي: 1/ 61، والإبهاج: 1/ 43، ونهاية السول: 1/ 47، وشرح الكوكب المنير: 1/ 300.

ص: 226

الثالث: وهو أن يكون الفعل مناطًا للثواب في الآخرة، أو العقاب هل هو [الحاكم](1) العقل، أو لا؟ فيه خلاف بين الأشعرية (2)، والمعتزلة، والحنفية في بعض الأشياء.

قالت الأشعرية: لا يمكن الحكم بأن فعلًا من الأفعال يصلح أن يكون مناطًا للثواب أو العقاب إلا من الله سبحانه وتعالى؛ إذ هو المثيب والمعاقب لا علة لفعله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ومتمسكهم في ذلك أمران:

أحدهما: أن حسن الفعل وقبحه ليسا لذات الفعل، ولا لأمر داخل في ذاته، ولا لخارج لازم لذاته، حتى يحكم العقل بحسن الفعل أو قبحه؛ بناء على تحقق ما به الحسن والقبح.

وثانيهما: أن فعل العبد اضطراري (3) لا اختيار له فيه، وليس للعقل أن يحكم بالثواب أو العقاب لمن يفعل شيئًا بلا اختيار، وليس معنى قولنا: متمسكهم الأمران المذكوران أنه لا بد من اجتماع الأمرين، بل كل

(1) ما بين المعكوفتين من (أ).

(2)

الأشعرية: هم نسبة إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل المنتسب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، ومراده بالأشاعرة هنا أهل السنة جميعًا لأن هذا هو مذهب الجميع بالنسبة لهذه المسألة.

راجع: الملل والنحل: 1/ 94.

(3)

سيأتي الكلام على هذه المسألة.

ص: 227

واحد من الأمرين كاف في إفادة هذا المطلوب، ولا أن دليل الأشعري منحصر في إثبات المطلوب في هذين الأمرين، بل له أدلة أخرى مذكورة في كتب الأحكام (1).

وذهبت المعتزلة: إلى أن الحاكم -في أفعال العباد- هو العقل، بمعنى أن العقل هو الموجب والمحرم والمبيح لذوات الأفعال، وهذا عند طائفة منهم.

وذهبت طائفة: إلى أن الحسن والقبح في الفعل يكونان لصفة توجبهما.

وقال آخرون منهم: إن قبح الفعل يكون لصفة توجبه، وأما حسن الفعل، فيتحقق بفقدان موجب القبح (2).

(1) راجع: المحصول: 1/ ق 1/ 159، والإحكام للآمدي: 1/ 74، ونهاية السول: 1/ 258.

(2)

ورغم اختلافهم المذكور إلا أنهم يرجعون في ذلك كله إلى العقل، وإن كانوا قد اختلفوا في الإطلاق والتخصيص كما ذكر الشارح.

بيان آخر لتحرير محل النزاع، وهو أن لفظ الحاكم له معنيان:

الأول: منشيء الأحكام، ومثبتها، ومصدرها، ومجددها.

الثاني: مدركها، ومظهرها، والمعرف لها، والكاشف عنها.

فالأول -وهو المراد عند الإطلاق- لا خلاف فيه بين المعتزلة وأهل السنة في أنه هو الله وحده، وأن العقل لا يسمى به، وأنه لا دخل له في إثبات الأحكام وإنشائها، وإصدارها، وتجديدها، وبهذا قال سائر الأمة، وأطبق عليه الجميع.

وأما بالنظر إلى المعنى الثاني، فهذا هو محل الخلاف الذي ذكره الشارح وغيره بين أهل السنة والمعتزلة، كما أن العقل عند المعتزلة لا يعنون به أنه ينفرد بإدراك جميع الأحكام، ويستقل تمام الاستقلال بذلك، ولا حاجة أصلًا إلى ورود الشرع وإظهاره، =

ص: 228

وقالت الجبائية (1): يحصلان فيهما لصفة توجبهما لكن الصفة ليست حقيقية، بل وجوه واعتبارات.

= فهذا ما لم يقل به أحد ممن يمت إلى الإسلام بصلة، وإن تساهل بعض أهل السنة في إطلاق عبارات توهم أن المعتزلة يقولون بذلك، وإنما معنى ذلك عند المعتزلة أن العقل لا يتوقف إدراكه للأحكام وإظهاره لها على ورود الشرع، بل يمكنه قبل ورود الشرع معرفة شيء منها، أما بعد وروده فالاعتماد عليه، فإذا ما أدرك العقل شيئًا، ثم جاء الشرع ببيانه كان مؤكدًا لما أدركه العقل واهتدى إليه، فيشترك الشرع والعقل في البيان عندهم، ويستقل الشرع في كونه منشئًا للأحكام ومثبتها ومصدرها.

قال صاحب مسلم الثبوت: "مسألة لا حكم إلا من الله" ثم قال -في فواتح الرحموت: شارحًا هذا النص-: "بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ أن هذا عندنا وعند المعتزلة الحاكم العقل؛ فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعى الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الألهية سواء ورد به الشرع، أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضًا".

راجع: المعتمد: 1/ 334، 2/ 315، والإحكام لابن حزم: 1/ 47، والوصول إلى الأصول: 1/ 56، والإحكام للآمدي: 1/ 61، والمحصول: 1/ ق/ 184، الهامش، والكاشف عن المحصول: 1/ ق / 328، والمغني في أصول الفقه: ص / 60، وشرح تنقيح الفصول: ص/88، والمختصر وعليه العضد: 1/ 199، والمسودة: ص/473، والإبهاج: 1/ 135، والرد على المنطقيين: ص / 420، ونهاية السول: 1/ 83، وتخريج الفروع على الأصول: ص/ 244، وكشف الأسرار: 4/ 229، والتلويح على التوضيح: 1/ 189، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 64، وفواتح الرحموت: 1/ 25، ومناهج العقول: 1/ 114، وتيسير التحرير: 2/ 150، وإرشاد الفحول: ص/ 7.

(1)

الجبائية: هم أتباع أبي علي الجبائي الذي أضل أهل خوزستان، وكانت المعتزلة البصرية في زمانه على مذهبه، ثم انتقلوا بعده إلى مذهب ابنه أبي هاشم.

راجع: التبصير في الدين: ص/85، والفرق بين الفرق: ص / 183، والملل والنحل: 1/ 78.

ص: 229

ثم أحكام العقل -في أفعال العباد- منها ما هو ضروري كحسن الصدق النافع، وقبح الكذب الضار، ومنها ما هو نظري كحسن الكذب النافع، وقبح الصدق المضر، ومنها ما لا يدركه العقل كحسن صوم آخر يوم من رمضان (1)، وقبح صوم أول يوم من شوال (2)، فإن العقل لا سبيل له إلى دركه، لكن لما ورد به الشرع كشف عن حسن وقبح ذاتيين.

والدليل -على بطلان الأول (3) -: أنه لو كان الحسن والقبح ذاتيين لما كان العمل الواحد حسنًا وقبيحًا في وقتين.

والثاني: كاذب لما بيناه من أن الصدق تارة حسن، وتارة قبيح.

(1) لأن صوم آخر يوم من رمضان هو من الشهر الكريم الذي أمر الله بصيامه وجعله ركنا من أركان الإسلام كما هو معلوم من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].

ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان". رواه البخارى ومسلم، وغيرهما.

راجع: صحيح البخارى: 1/ 10، وصحيح مسلم: 1/ 34.

(2)

لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهي عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر".

راجع: صحيحه: 3/ 152.

(3)

هذا رد من الشارح على أقوال المعتزلة السابقة.

ص: 230

والدليل العام على الكل:

أما عقلًا: فلأن الحسن والقبح لو كانا لذات الفعل، أو لصفة فيه لما تساوت الأفعال بالنسبة إلى الأحكام، بل يكون بعضها راجحًا بالنظر إلى الحكم، وبعضها مرجوحًا، فلا يكون الباري -تعالى- مختارًا إذ الحكم بالمرجوح على خلاف العقل، فلا يصدر عنه لكنه ثبت بالدلائل القطعية أنه مختار، وهو مختار الخصم.

وأما نقلًا: فقوله تعالى: (وَمَابهُمًا {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، ولو كان العقل موجبًا ومحرمًا لزم التعذيب قبل البعثة لتحقق الوجوب، والحرمة المستلزمة له لعدم جواز العفو -عندهم- لكن اللازم (1) باطل، فكذلك الملزوم (2)، والحنفية (3)، وإن لم يجعلوا العقل حاكمًا صريحًا، ولكن

(1) اللازم هنا هو التعذيب، وبطلانه من حيث إنه لم يأتهم رسول يبلغهم عن الله تعالى، كما ذكر في الآية المستدل بها، ومعناها أنه لا يعذب حتى يبعث رسولًا يبلغهم، وهذا بناء على أن الرسول المراد بالآية غير العقل كما هو الحق.

(2)

الملزوم: كون الشيء مقتضيًا للآخر، فالشيء الأول هو المسمى بالملزوم، والشيء الثاني هو المسمى باللازم، والملزوم هنا هو قولهم: بأن العقل موجب ومحرم وأنه المراد من الرسول في الآية: وهو باطل لأن الوجوب والتحريم لا يكونان إلا بالشرع.

راجع: التعريفات: ص/ 229.

(3)

هم الماتريدية من الحنفية، حيث وافقوا المعتزلة في أنه لا بد أن يكون الفعل المأمور به قبل أن يؤمر به صالحًا لأن يؤمر به بأن يكون فيه مصلحة تقتضي حسنه، وتجعله صالحًا لأن يكون مناطًا للثواب على الفعل، والعقاب على الترك، ولا بد أن يكون =

ص: 231

قالوا: حسن بعض الأشياء وقبحها لا يتوقف على الشرع، بمعنى أن العقل يحكم في بعض الأشياء بأنها مناط للثواب والعقاب، وإن لم يأت نبي ولا كتابه، وبعض تلك الأحكام بديهي، وبعضها كسبي كما ذكرنا في تقرير مذهب المعتزلة [بلا فرق](1) والله الموفق.

قوله: "وشكر المنعم واجب بالشرع".

= الفعل المنهي عنه قبل أن ينهى عنه صالحًا لأن ينهى عنه بأن يكون فيه مفسدة تقتضي قبحه، وتجعله صالحًا لأن ينهى عنه، وأن يكون مناطًا للعقاب على الفعل، والثواب على الكف عنه، ويخالفون المعتزلة في التزام القبح والحسن حكمًا للأفعال قبل ورود الشرع من وجوب، وحرمة، وسواهما، فلا يلزم -عندهم- من كون الفعل مصلحة وحسنًا، أو مفسدة وقبيحًا، أن يكون لله فيه حكم قبل البعثة، فهم يوافقون الأشاعرة في هذا، ويوافقون المعتزلة فيما تقدم ذكره.

قال الشيخ بخيت: "فكان مذهب هؤلاء المحققين من الحنفية مذهبًا وسطًا بين مذهب الاعتزال ومذهب الأشاعرة، فهو مذهب خرج من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشاربين" كما أنه حمل على الأصوليين من الشافعية إهمالهم هذا المذهب.

والواقع أن مفارقة الأحناف للمعتزلة في لازم من لوازم التسليم، وهو لا حكم للأفعال قبل ورود الشرع من وجوب وحرمة إلخ، لا ينفى موافقتهم للمعتزلة في أصل القاعدة، وهذا أهم ما فيها، بل قد صرح بذلك في فواتح الرحموت: كما تقدم.

راجع: التلويح على التوضيح: 1/ 189، وفواتح الرحموت: 1/ 25، وتيسير التحرير: 2/ 150، وسلم الوصول على نهاية السول: 1/ 83، وهامش المحصول: 1/ ق/ 1/ 184.

(1)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت هامشها.

ص: 232

أقول: لما بطل حكم العقل مطلقًا، فكان شكر المنعم غير واجب عقلًا (1)، لكن أصحابنا ذكروا فرعين -على التنزل، أي: ولو سلمنا أن العقل حاكم كما زعمتم لكن لا يستقيم حكمه في هذين الفرعين-:

الأول: لو وجب لوجب لفائدة (2)؛ إذ الوجوب بلا فائدة عبث لا يجوز عقلًا، وإذا وجب لفائدة، فتلك الفائدة [إما](3) للعبد، أو لله تعالى، وكلاهما منتف.

أما انتفاء الثانية: فلكونه -تعالى- متعاليًا عن الفائدة، وأما انتفاء الأول: فلأن تلك الفائدة إما في الدنيا، ولا يتصور ذلك إذ من تلك الأفعال -التي تتضمن شكر المنعم- واجبات ومحرمات، ولا شك أنها مشاق وتكاليف لا حظ للنفس فيها، وإما في الآخرة، ولا يمكن ذلك -أيضًا- لأن أمر الآخرة غيب لا اطلاع لأحد عليه حتى يحكم العقل فيه.

(1) مسألة شكر المنعم فرع عن مسألة الحسن والقبح، ويبحث الأصوليون من أهل السنة هذه المسألة على التسليم جدلًا بالحسن والقبح العقليين، مع أنه إذا بطل هذا الأصل لم يجب شكر المنعم عقلًا خلافًا للمعتزلة.

راجع: الشامل لإمام الحرمين: ص / 115، 119، والمستصفى: 1/ 61، والإحكام لابن حزم: 2/ 153، والإحكام للآمدى: 1/ 67، وشرح العضد: 1/ 216 - 217، والمسودة: ص/ 473، والفروع لابن مفلح: 6/ 185، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 62، وتيسير التحرير: 2/ 165، ومناهج العقول: 1/ 147، وإرشاد الفحول: ص/ 8.

(2)

آخر الورقة (7 / ب من ب).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 233

لا يقال: لم لا يجوز أن تكون العلة تلك الفائدة في الدنيا، وهي الأمن من احتمال العقاب إذ العاقل يتفكر في نعم الله الجزيلة الواصلة إليه تترى، فيقول: لو لم أشكر مُولِي هذه النعم ربما أصابني شرارة من سطوة غضبه؟

قلنا: ذلك معلوم عدمه في أكثر الناس (1)، ولو سلم، فاحتمال العقاب -على فعل الشكر- أرجح لأمرين:

أحدهما: أن ذلك الشكر تصرف في ملك الغير؛ لأن العبد وما في يده لمولاه، فنفسه وما ينسب إليها ملك له تعالى، والتصرف في ملك الغير بغير إذنه من بواعث الانتقام.

الثاني: أن عبادة الثقلين -بالنسبة إلى كبريائه- كذرة (2) بل دونها، وما ذلك إلا كرجل حضر مائدة ملك أحاط بأكناف البلاد شرقًا، وغربًا، وغمر أهلها عفوًا ونهبًا، وتناول من تلك المائدة لقمة، وشرع يدور في المحافل، ويقول: ليس على وجه الأرض أجود وأكرم من هذا السلطان، فإنه قد تصدق عليَّ بلقمة خبز، فإنه يعد استهزاء قطعًا، بل شكر العبد أقل قدرًا -بالنسبة إلى كبريائه تعالى- من شكر الفقير اللقمة بلا ريب.

(1) لأن القلة هم الذين يشعرون بنعم الله ويشكرونه عليها كما قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] والكثرة من الناس عكس ذلك، كما قال تعالى:{وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61].

(2)

آخر الورقة (7/ ب من أ).

ص: 234

الفرع الثاني: أن لا حكم قبل الشرع (1).

أما عند الأشاعرة، فظاهر (2).

وأما عند المعتزلة -إلزامًا لهم في هذه المسألة- فإنهم قسموا أفعال العقل إلى ما لا يقضي فيه العقل بشيء، أي لا بحسن ولا [بقبح](3)، وإلى ما يقضي فيه.

لهم في القسم الأول ثلاثة مذاهب: الحظر، والإباحة، والوقف عنهما، فنقول للحاظر: لو كانت محظورة وفرضنا ضدين كالحركة والسكون، لزم التكليف بالمحال، وأنتم لا تقولون به، ونقول للمبيح-: إن أردت لا حرج -في هذا القسم من الفعل- فمسلم، ولا يجديك نفعًا؛ لأن انتفاء الحرج إنما يتصور بأمرين:

أحدهما: عدم الحاكم بالحرج، والآخر: سلب الحاكم الحرج عن الفعل، فالأول: مسلم، والثاني: ممنوع، أما عندنا فلعدم الشرع، وأما عندكم فلعدم حكم العقل في هذا القسم.

(1) هذا هو الفرع الثاني الذي يبحثه العلماء فرعًا عن الحسن والقبح على سبيل التنزل مع المعتزلة.

راجع: شرح العضد: 1/ 216، ونهاية السول: 1/ 275.

(2)

لأن العقل -عندهم- لا دخل له في التشريع وإصدار الأحكام، وإنما الحكم للشرع، ولا شرع قبل الرسالة.

(3)

في (ب)"ولا قبح".

ص: 235

ونقول للواقف: إن توقفت في الحكم لعدم السمع، فهو مذهبنا، وإن توقفت لتعارض الأدلة، فلا تعارض، فبطل حكم العقل في هذه المسألة- قطعًا.

إذا عرفت هذا عرفت أن كلام المصنف -في هذا المقام- ليس على ما ينبغي لأنه أشار إلى الفرع الأول بقوله: وشكر المنعم واجب بالشرع، وإلى الفرع الثاني بقوله: ولا حكم قبل الشرع، ثم قال: وحكَّمت المعتزلة العقل؛ لأنه لمّا بين أن الحكم خطاب الله -تعالى- وأن لا حاكم عند أهل الحق سواه كان المناسب أن يذكر -بعد ذلك- مذهب المخالف ويستدل على بطلانه، ثم يذكر الفرعين على سبيل التنزل، وقد أوضحنا لك المقام بما لا مزيد عليه، والله الموفق.

قوله: "والصواب امتناع تكليف الغافل".

أقول: لما فرغ من تعريف الحكم، وبين ما هو الحق في الحاكم، شرع في بيان المحكوم عليه، وهو المكلف.

فنقول: مَن منع تكليف المحال (1)، منع تكليف الغافل (2)، والمراد بالغافل: من لم يتصور التكليف لا من لم يصدق به، فلا يرد تكليف

(1) سيأتي الكلام على هذه المسألة ص/ 372 - 376.

(2)

الغفلة عن الشئ: معنى يعتري الإنسان بدون اختيار منه بأن لا يخطر ذلك الشئ بباله. وقد ذهب إلى تكليف الغافل أصحاب أبي حنيفة غير أنهم قسموا النسيان إلى قسمين، أصلي، وقسم يقع فيه المرء بالتقصير، وهذا الأخير يصلح للعتاب عندهم =

ص: 236

[الكافر](1) بالفروع (2) نقضًا لأن الكافر قد تصور الحكم والحاكم، ولكن لم يصدق بالمحكوم به، ولا يرد وجوب المعرفة -أيضًا- لأن المراد بها التصديق بوجود الباري، مع اتصافه بصفات الكمال، فلا ينافي سبق التصور.

= كما أن النسيان في الذبيحة وفي الصوم عذر لا في غيرهما خولف فيهما القياس استحسانًا للنص الوارد فيهما، واحتجوا على تكليف الغافل باستقرار العبادات في ذمته خلال ذهوله وغفلته، وكذا لزوم الغرامات، وأرش الجنايات.

والمختار: أن تكليف الغافل -كالنائم، والناسي- محال لمضادة هذه الأمور لفهم الخطاب، فينتفي شرط صحة التكليف لأن الإتيان بالفعل المعين على وجه الامثثال يعتمد العلم، ولا يكفي مجرد الفعل لقوله عليه الصلاة والسلام:"إنما الأعمال بالنيات" ولقوله: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يكبر، أو يحتلم، أو يبلغ، وعن المجنون حتى يعقل"، رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وغيرهم.

راجع: مسند أحمد: 6/ 100، وسنن أبي داود: 2/ 451، والترمذي مع التحفة: 4/ 685، وسنن ابن ماجه: 1/ 630، والمستدرك: 4/ 389، وفيض القدير: 4/ 35، وكشف الخفاء: 1/ 523، ولقوله:"رفع عن أمتي الخطأ، والنسيان، وما استكرهوا عليه".

راجع: سنن ابن ماجه: 1/ 630، وسنن الدارقطني: 4/ 171، والمستدرك: 2/ 198، والسنن الكبرى للبيهقي: 7/ 356، وراجع الكلام على هذه المسألة: روضة الناظر: ص/ 49، وتخريج الفروع على الأصول: ص/ 95، والإبهاج: 1/ 156، ونهاية السول: 1/ 315، وكشف الأسرار: 276/ 4 - 277، وتشنيف المسامع: ق (6/ أ).

(1)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

سيأتي الكلام على هذه المسألة ص / 378.

ص: 237

ثم الشيخ الأشعري (1)، وإن جوز التكليف بالمحال لم يجوز تكليف الغافل (2)؛ لأن في التكليف بالمحال فائدة الابتلاء وهي منتفية هنا.

قوله: "والملجأ، وكذا المكره إلى آخره".

أقول: الإكراه: هو أن يحمل غيره على أن يفعل ما لا يرضاه، ولا يختار لو خُلِّي ونفسه، وهو على قسمين: ملجئ يسقط التكليف قطعًا، وغير ملجئ يسقط على الصحيح.

(1) هو علي بن إسماعيل بن إسحاق، أبو الحسن الأشعري البصري المتكلم، النظار الشهير، ولد بالبصرة سنة (260 هـ)، تفقه على أبي إسحاق المروزي وابن سريج، وأخذ الحديث عن أبي إسحاق الساجي، وتتلمذ في العقائد على أبي علي الجبائى، وبرع في علم الكلام والجدل على طريقة أهل الاعتزال حتى صار رأسًا من رؤسائهم، وكان قوي الحجة، واضح البرهان، ثم نظر في أدلة أهل الاعتزال، وأدلة أهل السنة والجماعة ومذاهبهم في أصول الدين، فتبين له صحة وسلامة طريق أهل الحق، فأعلن حينها خروجه على المعتزلة، وأفرغ جهده في الذب عن مذهب السلف والرد على المعتزلة، والجهمية، والمشبهة، والمرجئة، وجميع طوائف المبتدعة، له مؤلفات كثيرة منها: المختزن في التفسير، والإبانة، ومقالات الإسلاميين، واللمع الكبير، واللمع الصغير، وإيضاح البرهان، والموجز، وغيرها، وتوفي ببغداد سنة (324 هـ)، رحمه الله تعالى. راجع: تأريخ بغداد: 11/ 346، وتبيين كذب المفتري: ص / 35، ووفيات الأعيان: 1/ 412، والبداية والنهاية: 11/ 187، وطبقات السبكي: 3/ 347، وطبقات الأسنوي: 1/ 63، والنجوم الزاهرة: 3/ 359، وشذرات الذهب: 3/ 302، وكشف الظنون: 1/ 208، وهداية العارفين: 1/ 676، والفتح المبين: 1/ 174.

(2)

ذكر الزركشي بأن الأشعري له قولان في تكليف الغافل: تارة جوزه، وأخرى منعه، وهو ما حكاه الأسنوي.

راجع: تشنيف المسامع: ق (6 / أ)، ونهاية السول: 1/ 315.

ص: 238

والاختيار: هو القصد إلى أمر متردد بين الوجوب والعدم بترجيح أحد جانبيه على الآخر.

والرضا: هو موافقة الباطن مع الظاهر، وهو الذي أشير إليه بقوله تعالى:{مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106](1).

أي راض به دون الكفر، ففى إجراء كلمة الكفر على اللسان اختيار بالمعنى الذي ذكرنا، دون الرضا لعدم موافقة القلب اللسان.

ثم ذلك الاختيار إما أن يكون معتبرًا يسند إليه الحكم، أو لا بأن يسند الحكم إلى اختيار آخر، وبهذا الاعتبار ينقسم الإكراه إلى الملجئ بأن يضطر الفاعل إلى الفعل، أو لا يكون بأن يتمكن من الترك، وقد علم من هذا التقرير أن إفراد الإلجاء عن الإكراه، ثم عطفه عليه غير سديد.

ثم الأصل -عند الشافعي (2) رضي الله عنه في الإكراه- هو أن المكره عليه إما أن يحرم الإقدام عليه، وهو الإكراه بغير حق، أو لا، وهو الإكراه بحق.

(1) قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].

(2)

هو الإمام القرشى حافظ السنة وناصرها أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ولد سنة (150 هـ)، أحد الأئمة الأربعة، وهو واضع الأصول ومؤسسه على الأرجح، انفرد عن الأئمة الآخرين بتدوين فقهه بنفسه، توفي سنة (204 هـ) رحمه الله، وهو أشهر من أن يُعرَّف =.

ص: 239

والثاني: لا يقطع حكم الشارع عن فعل المكلف كإكراه الحربي على الإسلام، وكذا المرتد بخلاف الذمى لقول -الشارع-:"اتركوهم وما يدينون"(1) ولمفهوم الغاية في قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29].

والأول (2) -أعني الذي يحرم الإقدام عليه-: إن قدم عليه، مع عذر شرعي بأن جعل الشارع للمكلف رخصة في ذلك الفعل: كالتكلم بالكفر

= راجع: تأريخ بغداد: 2/ 56، وحلية الأولياء: 9/ 63، ومناقبه للبيهقي، وآدابه لابن أبي حاتم الرازي، ومناقبه للرازي، والجرح والتعديل: 7/ 201، وتهذيب الكمال: 3/ 1161، والمجموع: 1/ 7 - 13، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 44، والرسالة المستطرفة: ص/ 17.

(1)

لم أعثر على هذا الحديث بهذا اللفظ في حق أهل الذمة إلا أنه ورد في حق الترك والحبشة كقوله صلى الله عليه وسلم: "دعوا الحبشة ما ودعوكم، واتركوا الترك ما تركوكم".

وقوله: "اتركوا الحبشة ما تركوكم، فإنه لا يستخرج كنز الكعبة إلا ذو السويقتين من الحبشة" وفي رواية: "اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمىتي ملكهم، وما خولهم الله بنو قنطوراء" رواه أبو داود، والطبراني وقد تكلم في سند الروايات السابقة تحسينًا، وتضعيفًا.

راجع: سنن أبى داود: 2/ 427، 429، والمعحم الكبير للطبراني: 76/ 3 / 1، والمعجم الصغير للسيوطى: 1/ 8، وكنز الحقائق للمناوي: 1/ 7، مع الجامع الصغير، وأسنى المطالب: ص/ 17، وفيض القدير: 1/ 117 - 118، ومجمع الزوائد: 7/ 312، وسلسلة الأحاديث الضعيفة: 4/ 330.

(2)

يرى الأحناف أن أفعال المكره أقسام: منها ما هو حرام الإقدام عليه كالقتل، والزنى، ومنها ما هو فرض عليه كأكل الميتة عند الضرورة، ومنها ما هو مرخص له فيه كإجراء كلمة الكفر ونحوه، وسيأتي الخلاف في تكليفه.

راجع: كشف الأسرار: 4/ 384.

ص: 240

عند خوف القتل، أو ما يلحق به من قطع عضو ونحوه، فلا يتعلق الحكم بذلك الفعل، بل ينقطع تعلقه مع قيام دليله لوجدان المانع سواء كان الإكراه على قول، أو فعل؛ لأن صحة القول تكون بقصد معناه، وصحة العمل إنما تكون بالرضا بمقتضاه.

ولا شك أن الاختيار، وإن لم يُنافِ الإكراه -على ما تقدم- لكنه يفسد به في بعض الموارد كما إذا هدد بالضرب على شرب الخمر، أو على الأكل في رمضان؛ لأن الاختيار -وإن كان موجودًا ظاهرًا- لكن ليس بمعتبر (1) دفعًا للضرر (2) إذ الضرر مدفوع عمن هو محترم معصوم الحقوق شرعًا.

ثم إذا قطع الحكم عن فعله، فإن أمكن نسبة الحكم إلى فعل الحامل عليه، يعني المكره نُسب إليه كما إذا أُكره على إتلاف مال الغير، وإن لم يمكن بطل الفعل كما إذا أكره على الإقرار والطلاق والنكاح وسائر المعاملات.

(1) مسألة المكره المباشر بنفسه الكلام فيها من جهة عدم جواز تكليف من أزيل رضاه بالإكراه وبقى اختياره وقدرته مع علمه بالتكليف، أما مسألة المكره الملجأ فالكلام فيها من جهة عدم جواز تكليف من أزيل رضاه واختياره، وصار بالإلجاء لا قدرة له أصلًا، وهذا الفرق بينهما معتبر فيهما.

راجع: تقريرات الشربيني على شرح المحلي: 1/ 71.

(2)

آخر الورقة (8/ ب من ب).

ص: 241

وإن لم يكن عذر شرعى؛ أي لم توجد رخصة من الشارع في ذلك الفعل كالإكراه على قتل السلم بغير [حق](1)، وكالإكراه على الزنى تعلق الحكم بفعلهما حتى يجب القصاص، وحد الزنى على القاتل والزاني مكرهين في القاتل على الأصح، وعلى رأي في الزاني.

وقد تبين بهذا التقرير أن قول المصنف: والمكره على إطلاقه ليس بصحيح (2)، وأن شيئًا من الفروع لا يخرج عما ذكرنا.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

رقع خلاف في هل المكره مكلف، أو لا؟ إلى مذاهب:

فذهب الجمهور إلى أن المكره مكلف.

وذهبت المعتزلة إلى أن المكره غير مكلف، وحكي هذا عن الطوفي من الحنابلة والمصنف ذهب إلى أنه غير مكلف، ولكنه يأثم فيما لو أكره على القتل من حيث إنه آثر نفسه على غيره لا من حيث إنه مكره، أو أنه قتل، فهو ذو وجهتين: جهة الإكراه ولا إثم من ناحيتها، وجهة الإيثار ولا إكراه فيها، فإذا آثر نفسه فقد أثم، لكن الزركشي، والمحلي ذكرا بأن المصنف رجع أخيرًا إلى قول الجمهور في تكليف المكره.

أما الأحناف، فإنهم قالوا: الإكراه ثلاثة أنواع: نوع يعدم الرضا ويفسد الاختيار، ونوع يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار، ونوع لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار، ورغم ذلك التقسيم يعدون الإكراه بجميع أقسامه لا يحل شيئًا منه، ولا يوجب سقوط الخطاب عن المكره بحال سواء كان ملجأ، أو لم يكن.

قلت: ولعل الأظهر أن المكره الملجأ يعد محمولًا كالآلة غير مكلف لأنه يكون تكليفًا بما لا يطاق لعدم رضاه واختياره، فصار لا قدرة له أصلًا، أما المكره الذي باشر ما أكره عليه بنفسه كالقتل ونحوه، فهذا مكلف، ولهذا ذكر إمام الحرمين أن العلماء أجمعوا قاطبة على توجه النهى على المكره على القتل، وهذا عين التكليف في حال الإكراه، وهو مما لا منجى منه، وبنحو ما ذكره إمام الحرمين قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازى. =

ص: 242

وقد عجز كثير من الناس عن تطبيق هذه القاعدة المذكورة على الفروع، والله الموفق.

قوله: "ويتعلق الأمر بالمعدوم إلى آخره".

أقول: ذهبت الأشاعرة -من بين سائر الطوائف-: إلى أن الأمر يتعلق بالمعدوم.

واستبعده آخرون (1)، والإشكال إنما نشأ من عدم الفرق بين التعلق المعنوي، والتعلق التنجيزي، إذ القائل: بأن الأمر يتعلق بالمعدوم يريد أن

= راجع: التلخيص للجويني: ورقة (4/ ب) وشرح اللمع: 1/ 272، وتقويم الأدلة: ص / 410، والمستصفى: 1/ 90، ومنع الموانع: ورقة (5/ أ) وكشف الأسرار: 4/ 384، والقواعد والفوائد الأصولية: ص/ 39، وتشنيف المسامع: ق (6/ أ- ب) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 76، وشرح الكوكب المنير: 1/ 508.

(1)

المعدوم حال عدمه لا يكلف إجماعًا؛ وإنما الخلاف في هل يتعلق الأمر به، أو لا؟ بمعنى هل يعمه الخطاب إذا كلف كغيره من صغير ومجنون، ولا يحتاج إلى خطاب آخر؟ فذهب جمهور الأصوليين والمتكلمين إلى أن المعدوم يعمه الخطاب، وذهبت المعتزلة وجمع من الحنفية إلى أن المعدوم لا يعمه الخطاب.

راجع: أصول السرخسي: 2/ 334، والمستصفى: 1/ 85، والإحكام للآمدي: 1/ 116، والمسودة: ص/ 44، ومنهاج السنة: 2/ 81، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 15، ونهاية السول: 1/ 298، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 78، وتشنيف المسامع: ق (6 / ب)، وفواتح الرحموت: 1/ 146، وتيسير التحرير: 2/ 131، وإرشاد الفحول: ص/ 11.

ص: 243

"أقم الصلاة" كلام أزلي متعلق بفعل زيد، فيما لا يزال، بمعنى أن الله علم [أن](1) زيدًا سيوجد، وإذا وجد بشرائط التكليف توجه إليه الخطاب، وتعلق بفعله تعلقًا آخر. واستدلت الأشاعرة: بأن التعلق لو لم يكن أزليًّا، لم يكن التكليف أزليًّا، إذ التكليف في الأزل بدون التعلق محال، ومن عرف معنى التكليف علم أن التعلق داخل في حقيقته (2)، أما أن كلامه أزلي: فلأنه لو كان حادثًا لزم قيام الحوادث بذاته -تعالى- عن ذلك علوًّا كبيرًا، وكلامه أمر، ونهي، وخبر، وغيرها، والأمر والنهي إما نفس التكليف -على ما هو الحق- أو مستلزم له، فقد ثبت أن الأمر يتعلق (3) بالمعدوم.

فإن قيل: إنما يلزم ما ذكرتم أن لو انقسم الكلام في الأزل على الأقسام المذكورة (4) وهو ممنوع، بل القديم هو القدر المشترك.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

التكليف -لغة-: إلزام ما فيه مشقة، وكلفة.

واصطلاحًا: إلزام مقتضى خطاب الشارع، وعلى هذا تكون الإباحة تكليفًا لأنها من مقتضيات الخطاب المذكور، ومن قال: إن الإباحة ليست تكليفًا يقول: التكليف هو الخطاب بأمر، أو نهي.

راجع: المصباح المنير: 2/ 537، والتعريفات: ص / 65، والروضة: ص/ 48، والفروق للقرافي: 1/ 161، ومختصر الطوفي: ص/ 11، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 58.

(3)

آخر الورقة (8 / ب من أ).

(4)

يعني: أمر، ونهي، وخبر، وغيرها، كما سبق ذكره لها.

ص: 244

أجيب: بأن القدر المشترك جنس للأقسام المذكورة، ولا وجود للجنس بدون أنواعه (1).

قالوا: يلزم تعدد كلامه -تعالى- وهو باطل؛ إذ هو صفة من صفاته القديمة عند القائلين بها.

قلنا: التعدد إنما هو بالنظر إلى تعدد المتعلقات لا بالنظر إلى نفس الصفة، وذلك غير قادح، كما في علمه -تعالى- فإن علمه بأنَّ زيدًا سيوجد مغاير لعلمه بوجود زيد بعد العدم تغايرًا اعتباريًّا.

ثم قول المصنف: تعلقًا معنويًّا، يشمعر بأن التعلق التنجيزي غير معنوي، وليس كذلك؛ لأن التعلق أمر معنوي مطلقًا، والأولى أن يقال: تعلقًا ذهنيًّا إذ مقابله تعلق خارجي.

قوله: "فإن اقتضى الخطاب الفعل إلى آخره".

أقول: الحكم ينقسم باعتبارات شتى، فلما فرغ المصنف من تعريفه وما يلزمه مطلقًا وما يجوز فيه شرع في أقسامه.

فقال: الخطاب إن اقتضى الفعل جازمًا؛ أي: غير محتمل نقيضه شرعًا فإيجاب، أو اقتضاه غير جازم؛ أي: مع جواز نقيضه شرعًا فهو

(1) النوع: هو كلي مقول على كثيرين مختلفين بالعدد دون الحقيقة في جواب ما هو أو هو صفة جماعة متفقة بالصورة، ويعمها معنى واحد كإنسان بالنسبة إلى أفراده، فإن هذه الأفراد كثيرة متفقة الصور يعمها معنى واحد يعبر عنه بإنسان، وهذا هو النوع. راجع: شرح الأخضري على السلم: ص/26، وإيضاح المبهم: ص/7، وحاشية العطار على شرح الخبيصي: ص/98، ورسالة في علم المنطق: ص/14.

ص: 245

الندب، وإن اقتضى الترك، فإما جازمًا، أي من غير احتمال النقيض فتحريم أو مع جوازه، فإن كان ثبوته بدليل مخصوص (1) فكراهة، أو غير مخصوص (2) فخلاف الأولى أو التخيير فإباحة، هذا شرح كلام المصنف، وفيه نظر من وجوه:

الأول: أنه جعل المقسم نفس الخطاب دون الحكم، مع أن الخطاب جنس الحكم، فالعدول عن الحكم لا وجه له.

الثاني: أنه جعل الترك في الحرام متعلق الاقتضاء، وهو أمر عدمي غير مقدور إلا أن يحمل على الكف.

الثالث: أنه جعل خلاف الأولى من الأقسام الأولية للحكم، وليس كذلك (3).

(1) كما في النهي الذي في قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين"؛ لأنها سنة بإجماع المسلمين خلافًا لداود وأصحابه حيث قالوا: إنها واجبة. راجع: صحيح البخاري: 1/ 114، وصحيح مسلم: 2/ 155، وشرح النووي عليه 5/ 225.

(2)

كترك صلاة الضحى، والنهي مستفاد من الأمر بها، وسيأتي رد الشارح لهذا.

راجع: شرح النووي على مسلم: 5/ 228 - 235، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 83.

(3)

آخر الورقة (9 / ب من ب).

وفي نسخة (ب) قسم الناسخ المخطوط إلى أجزاء يتكون كل جزء من تسع ورقات تقريبًا وذكر في نهايته أنه قابله على خط المؤلف، فقد جاء في نهاية آخر الورقة (9 / ب من ب) على الهامش ما نصه:"بلغ مقابلة على خط مؤلفه أمتع الله الوجود بوجوده" وهو يعني الجزء الأول بتجزئة الناسخ.

ص: 246

قال الغزالي (1) -في "المستصفى" في تقسيم الحكم على الأقسام الخمسة الأولية المشهورة-:

"وأما (2) المكروه، فهو لفظ مشترك بين معان:

أحدها: المحرم، فكثيرًا ما يقول الشافعي رضي الله عنه: أكره الشئ الفلاني وهو لا يريد إلا الحرمة.

والثاني: ما نُهي عنه تنزيهًا، وهو الذي أشعر بأن تركه خير من فعله، وإن لم يكن عليه عقاب.

الثالث: ترك ما [هو](3) أولى كترك صلاة الضحى" (4).

(1) هو الإمام وحجة الإسلام محمد بن محمد بن أحمد الطوسي زين الدين أبو حامد الغزالي، فقيه، أصولي حكيم، متكلم، شارك في أنواع من العلوم، ولد بطوس من خراسان وطلب العلم فيها، ثم رحل في طلب العلم إلى غيرها، أخذ عن أبي نصر الإسماعيلى، وإمام الحرمين وغيرهما، له مؤلفات عديدة منها: الوسيط، والوجيز، والخلاصة في الفقه، والمستصفى، والمنخول في الأصول وإحياء علوم الدين، والحصن الحصين، وتهافت الفلاسفة، وغيرها، وتوفي سنة (505 هـ رحمه الله تعالى).

راجع: وفيات الأعيان: 4/ 216، ومرآة الجنان: 3/ 177، وطبقات السبكي: 4/ 191، وطبقات الأسنوي: 1/ 242، والبداية والنهاية: 173/ 12، والنجوم الزاهرة: 5/ 203، وطبقات ابن هداية الله: ص/192، ومفتاح السعادة: 2/ 18، وكشف الظنون: 1/ 23، وشذرات الذهب: 4/ 11، ومقدمة الإحياء.

(2)

في (ب)(أما)) بدون واو.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

المستصفى: 1/ 66 - 67.

ص: 247

ثم ذكر قسمًا آخر مردودًا ليس المقصود إيراد ذلك بكماله، بل ما يفيد المقصود، فقد صرح بأن تلك الأحكام ليست أولية، بل هي أقسام المكروه الذي هو أحد الأحكام الخمسة، مع أن العدول عنه قد أوجب على المصنف أن يصطلح على أن أحدهما بنهى مخصوص، والآخر بنهى غير مخصوص من غير فائدة للعدول، مع أنه يقتضي تكثير الأقسام، واختراع اصطلاح جديد، ولا يرتضي فاضل ارتكاب شيء من هذه المحذورات.

قال المولى المحقق عضد الملة والدين: "المكروه يطلق على معنيين آخَرَين غير ما تقدم:

أحدهما: الحرام، كثيرًا ما يقول الشافعي: أنا أكره هذا.

وثانيهما: ترك الأولى، يقال: ترك صلاة الضحى مكروه لكثرة الفضيلة فيها، فكان بتركها حط رتبة" (1).

مع أنّا لا نسلم أن مثل صلاة الضحى [تركه](2) ثبت بنهي غير مخصوص؛ إذ لم يرد نهي عن تركها لا مخصوص ولا عام، وما ذكره بعض الشراح (3) من أن النهى مستفاد من الأمر بفعلها مردود؛ إذ الأمر بالشئ ليس نهيًا عن ضده على ما ذهب إليه المحققون (4) ولئن

(1) شرح العضد على المختصر: 2/ 5.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

هو الجلال المحلي في شرحه 1/ 83.

(4)

سيأتي الكلام على هذه المسألة في بابها.

ص: 248

سلم ذلك، فلا نسلم ورود أمر من الشارع بالصوم على من لا يتضرر، ولا بصلاة الضحى لا بخصوصها ولا بدخولها تحت عام.

وقول المصنف: أو التخيير، فإباحة -مع أن الإباحة لا يتعلق بها الاقتضاء لأن المباح ليس مأمورًا به بناء على أن الأمر قد يطلق لإرادة الإباحة كقوله تعالى:{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقوله تعالى: {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} [الأحزاب: 53]- فقد تسامح في إطلاق الاقتضاء على التخيير، والأمر في ذلك هين، وما ذكرناه- لكلامه- من المحمل أولى من حمله على السهو [منه](1) كما حكم به الشارح المذكور آنفًا (2).

قوله: "وإن ورد سببًا وشرطًا إلى قوله: والفرض والواجب مترادفان".

أقول: قد تقدم أن الأحكام الوضعية هل تسمى أحكامًا (3)، أم لا؟

منهم من ذهب إلى أن شيئًا من الخطاب الوضعي لا يسمى حكمًا، ويصطلح على أن بعض الخطاب حكم دون بعض (4)؛ ومنهم من جعل الخطاب التكليفي أعم شاملًا للوضعي، فالوضعى -عنده- تكليفى ضمني إذ معنى سببية الدلوك وجوب الصلاة عنده، ومعنى شرطية الطهارة

(1) سقط من (ب) والمثبت من (أ).

(2)

هو الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 83.

(3)

يعني هل يسمى الخطاب الوضعي حكمًا في المعنى المصطلح عليه في الخطاب التكليفي؟

(4)

تقدم بأن القائل هو عضد الدين الإيجي بهذا القول ص/ 219 وما بعدها.

ص: 249

وجوبها في الصلاة، أو حرمة الصلاة بدونها، وكذا نقول:"في جميع الأسباب والشروط والموانع"(1).

ومن جعل الأحكام الوضعية أحكامًا -في الاصطلاحات- وليست داخلة في التكليفى ضم إلى التعريف قيد الوضع، فقال: "بالاقتضاء، أو

(1) وهذا مذهب جهور الأصوليين والمتكلمين كالأشعري وإمام الحرمين والغزالي والرازي وغيرهم، وعند التحقيق يتبين أن الخلاف لفظي، فإنه مبني على تفسير الحكم وتعريفه، فالذين قالوا: إن السبب والشرط والمانع ليست أحكامًا بناء منهم على أن هذه الأشياء جعلها الشارع معرفات وعلامات على الأحكام؛ بمعنى أنه يجوز أن يقول الشارع: من رأيت إنسانًا يزني، فاعلم أني أوجب عليه الحد، والذين قالوا: إنها أحكام لا يعنون أنها مؤثرة بنفسها لأن الحادث لا يؤثر في القديم، ولأنه يفضي إلى القول بأن للفعل جهات توجب الحسن والقبح وهذا باطل، ولكنهم يقولون: إن لله تعالى في الزاني حكمين:

أحدهما: جعل الزنى سببًا لإيجاب الحد، وهذا حكم شرعى لأنه مستفاد من الشرع من حيث إن الزنى لا يوجب الحد لعينه، بل بحعل الشارع له مؤثرًا.

والثاني: إيجاب الحد عليه، وهو الحكم المسبب. وبهذا يظهر أنَّ الخلاف لفظى. قال العضد:"ونحن لا نسمى هذه الأمور -يعني السبب والشرط وغيرهما- أحكامًا، وإن سماها غيرنا به، فلا مشاحة في الاصطلاح".

راجع: المستصفى: 1/ 8، 93، وميزان الأصول: ص/ 69، والمحصول: 1/ ق / 1/ 137 - 138، والإبهاج: 1/ 64، والكاشف عن المحصول: 1/ ق/ 1/ 168، ونهاية السول: 1/ 89، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 7، وبيان المختصر: ص / 404، وتشنيف المسامع: ق (7 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 84، ومناهج العقول: 1/ 53، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (19/ ب- 20 /أ).

ص: 250

التخيير، أو الوضع" (1)، وكلام المصنف ظاهر في عدم الدخول؛ لأنه بعد الفراغ من تعريف الحكم، وتقسيمه أورده في كلام مستقل، لكن قوله -بعد ذلك-: "وقد عرفت حدودها" إنما يشعر برجوع الأحكام الوضعية (2) إلى التكليفية.

قوله: "وقد عرفت حدودها".

أي لما ذكر المشترك الذي هو كالجنس، وهو الخطاب، وقيد في كل قسم بما يميزه عمّا عداه، كان ذلك حدّأ لكل واحد من الأقسام:

لأن الحد -عند الأصوليين- كل مركب ميز الماهية عن أغيارها سواء كان بالذاتيات /ق (10/ أمن ب) أو بالعرضيات، أو بالمركب [منهما](3) كما ستقف عليه في موضعه عن قريب إن شاء الله [تعالى](4).

قوله: "والفرض والواجب مترادفان إلى آخره".

(1) وهذا هو ما اختاره ابن الحاجب في المنتهى ص / 32.

(2)

أحكام الوضع: هي السبب والشرط والمانع، وهذه متفق عليها، والعلة والصحة والفساد والأداء والقضاء والرخصة والعزيمة، وهذه اختلفوا في دخولها تحت الحكم الوضعي وعدم دخولها.

راجع: تشنيف المسامع: ق (7 / أ).

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

سقط من (أ).

ص: 251

أقول: الفرض والواجب لفظان مترادفان (1)؛ أي متحدان مفهومًا:

إذ الاتحاد -مفهومًا- هو معنى الترادف لا المتحدان ذاتًا كالإنسان، والناطق، فإنهما متحدان ذاتًا مع عدم الترادف، فبينهما عموم وخصوص مطلق، فكل متحدين مفهومًا متحدان ذاتًا -ولا عكس- لغويًّا.

وإنما حكمنا بترادفهما؛ لأن كل فعل اقتضاه الخطاب جزمًا، فهو الواجب والفرض، ولا ينافي هذا ما ذكره بعض الفقهاء من الفرق في بعض المسائل، كما قالوا: واجبات الاحرام تجبر بالدم دون فرضه؛ إذ ذلك اصطلاح حادث ارتكبوه للتمييز بين المجبور وغيره.

كما اصطلحوا على أن الخارج عن الحقيقة شرط، والداخل ركن.

وذهبت الحنفية إلى عدم الترادف؛ لأن الثابت بالخطاب [إن ثبت](2) بقطعى ففرض، وإن ثبت بظني فواجب.

وحكم المصنف بأن هذا بحث لفظي راجع إلى التسمية لا إلى المعنى؛ إذ الفعل المذكور يستحق تاركه العقاب، سواء كان ثبوته بقطعى، أو

(1) الترادف -لغة- مأخوذ من الرديف، وهو الذي يحمل بالخلف على ظهر الدابة.

واصطلاحًا: هو توالي الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد.

راجع: المصباح المنير: 1/ 224، والمزهر: 1/ 402، والمحصول: 1/ق 1/ 437، ونهاية السول: 1/ 104، والتعريفات: ص/58.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 252

ظني، وأما أن الفرض- في اللغة: التقدير، والوجوب: السقوط، لا يجدي شيئًا (1) وهذا الذي ذكره من الرد ذكره محققو الشافعية في كتبهم (2) وربما يقال -من جهتهم-: إن من قواعد (3)(9 /ب من أ) المعقول أن

(1) لأنه لا خلاف بينهم أن مفهوم هذين اللفظين مختلفان لغة، فالفرض -لغة- له معان، منها: التقدير والإلزام والعطية والإباحة والتأثير والحث، إلى غير ذلك.

وأما الواجب لغة-: الثابت، أو الساقط، أو المضطرب.

راجع: الصحاح 1/ 231، 3/ 97، والمصباح المنير: 2/ 469، 648، واللسان 9/ 66، والقاموس المحيط 2/ 339، وتاج العروس 1/ 500.

(2)

ذهب الغزالي، والآمدي، وابن قدامة، وآل تيمية، وابن الحاجب، والأرموي، والطوفي، وغيرهم إلى أن الخلاف بين الجمهور، والأحناف في الفرق بين الفرض والواجب لفظي، وذكر ابن قدامة أنه لا حجر في الاصطلاحات بعد فهم المعني، وقال الطوفي:"والنزاع لفظي إذ لا نزاع في انقسام الواجب إلى قطعى وظنى، فليسموا هم القطعى ما شاؤوا".

أما ابن اللحام فيرى التفصيل حيث قال: "فإن أريد أن المأمور ينقسم إلى مقطوع به، ومظنون، فلا نزاع في ذلك، وإن أريد أنه لا تختلف أحكامها، فهذا محل نظر، فإن الحنفية ذكروا مسائل فرقوا فيها بين الفرض والواجب، منها الصلاة فإنها مشتملة على فروض وواجبات، والمراد بالفرض الأركان، وأن الفرض لا يسامح به إن ترك سهوًا، والواجب لا يتسامح في تركه عمدًا ومنها الحج، فإنه مشتمل على فروض وواجبات، وأن الفرض لا يتم النسك إلا به، والواجب مجبر بدم".

راجع: المستصفى: 1/ 66، وروضة الناظر: ص /32، والإحكام للآمدي: 1/ 76، والمسودة: ص/ 50 والعضد على ابن الحاجب: 1/ 332؛ والقواعد والفوائد الأصولية: ص/ 64، ونهاية السول: 1/ 78، وشرح الكوكب المنير: 1/ 353.

(3)

آخر الورقة (9 /ب من أ).

ص: 253

اختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات كالانقسام بمتساويين في الزوج، وعدمه في الفرد، وكالحركة بالإرادة في الحيوان، وعدمها في غيره، والفرض والواجب مختلفان -عندهم- في اللوازم، فإن الواجب يلزمه عدم الفساد بالترك، والفرض يلزمه الفساد به، وأيضًا الثابت بالقطعي يلزمه كفر المنكر، والواجب لا يلزم منكره كفر، ولهذا يطلق على الثابت بالقطعي -عندهم- الواجب عِلْمًا وعملًا، وعلى الثابت بالظني الواجب عملًا، ويمثلون للأول بصلاة الفجر، وللثاني بالوتر (1)، والله أعلم.

قوله: "والمندوب إلى قوله: والسبب".

أقول: المندوب ما ندب إليه، أي [فِعْل](2) دُعي إليه شرعًا من غير ذم على تركه، مشتق من النَّدب والنُّدبة بمعنى الدعاء (3).

والمندوب المذكور يسمَّى مستحبًا وتطوعًا وسُنةً، وترك المصنف لفظ النافلة ويجب ذكرها، إذ لا فارق عندهم بينه وبين المذكورات، أي هذه

(1) راجع: كشف الأسرار: 2/ 303، وأصول السرخسى: 1/ 110، وفواتح الرحموت: 1/ 58، وتيسير التحرير: 2/ 135.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

يقال: ندبته إلى الأمر ندبًا: إذا دعوته إليه، وانتدبته للأمر فانتدب يستعمل لازمًا ومتعديًا.

راجع: الصحاح: 1/ 223، والمصباح المنير: 2/ 597، ولسان العرب: 2/ 250 - 251، والقاموس المحيط: 1/ 131.

ص: 254

الألفاظ كلها مترادفة في عرف الشرع (1) خلافا لشرذمة (2) من الشافعية (3)،

(1) ذكر الإمام الرازي أن هذا الحكم له سبعة أسماء: مندوب، ومرغب فيه، ومستحب، ونفل، وتطوع، وسنة، وإحسان.

فذهب جمهور الأصوليين إلى أنها مترادفة كما ذكر الشارح.

وذهب بعض الشافعية إلى الفرق بين هذه المصطلحات، وفرَّق الحنفية بين السنة والمستحب، والمالكية يفرقون بين السنة والنافلة.

راجع: شرح اللمع: 1/ 160، والمحصول: 1/ق 1/ 129 - 130، والمجموع للنووي: 4/ 2، والإبهاج: 1/ 57، ونهاية السول: 1/ 79.

وقد ذكر الزركشي وغيره أن الخلاف في الفرق بين هذه المصطلحات لفظى؛ لأن كون السنن بعضها آكد من بعض لا يوجب تغايرًا بينهما على ما سبق ذكره في الفرق بين الفرض والواجب.

راجع: تشنيف المسامع: ق (7/ب) والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 90.

(2)

قلت: لو عبر الشارح رحمه الله بقوله: "خلافًا لبعض" بدل "شرذمة" لكان أرقى وأهدى أسلوبًا.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "وهم القاضي حسين، وصاحب التهذيب، والكافي، والغزالي" قلت: القاضي حسين هو الحسين بن محمد بن أحمد أبو علي، أحد أعلام المذهب الشافعي، توفي سنة (462 هـ).

راجع: طبقات السبكى: 4/ 356، وصاحب التهذيب المراد به الحسين بن مسعود بن محمد المعروف بابن الفراء البغوي الشافعي المتوفى سنة (516 هـ) والتهذيب في فروع الفقه الشافعي، راجع: سير أعلام النبلاء 12/ 103، وطبقات الأسنوي: 1/ 206، وكشف الظنون: 1/ 517.

وصاحب الكافي: هو أحمد بن سليمان البصري المعروف بالزبيري الشافعي، ويعرف -أيضًا- بصاحب الكافي، وهو مؤلف في فروع الفقه الشافعي، وقد توفي مؤلفه سنة (317 هـ) أو قبلها. =

ص: 255

وصاحب الكشف من الحنفية (1) واستدلالهم على ذلك بأن السنة فعل واظب عليه [النبي](2) صلى الله عليه وسلم، والمستحب: ما فعله مرتين أو مرة، والتطوع: ما أنشأه الإنسان غير معيد لاتحاد الحقيقة، وعدم اختلاف اللوازم (3).

فإن قيل: على ما قررتم من أن المندوب هو الذي يثاب فاعله ولا يذم تاركه، يشكل بما ورد في حق تارك الجماعة من النصوص الصريحة (4)،

= راجع: طبقات الأسنوي: 1/ 606، وكشف الظنون: 2/ 1378، وانظر رأي الإمام الغزالي في الإحياء: 1/ 192.

(1)

صاحب الكشف المراد به: هو عبد العزيز بن أحمد بن محمد البخاري الحنفي علاء الدين، فقيه، أصولي، من تصانيفه كشف الأسرار: في شرح أصول البزدوي وغيره، وتوفي سنة (730 هـ).

راجع: الجواهر المضيئة: 1/ 317، وتاج التراجم: ص/ 25، والفوائد البهية: ص/ 94، وكشف الظنون: 1/ 112، قال في الكشف:"وحَدُّ السنة هو الطريقة المسلوكة في الدين من غير افتراض ولا وجوب، وأما حد النفل، وهو المسمى بالمندوب والمستحب والتطوع، فقيل: ما فعله خير من تركه في الشرع، وقيل: ما يمدح المكلف على فعله، ولا يذم على تركه، وقيل: هو المطلوب فعله شرعًا من غير ذم على تركه مطلقًا" كشف الأسرار: 2/ 302 - 303.

(2)

سقط من (أ).

(3)

ما ذكر من التعريفات: لهذه المصطلحات منقول عن القاضي حسين من الشافعية.

راجع: الإبهاج: 1/ 57، وتشنيف المسامع: ق (7/ ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 90.

(4)

وردت نصوص كثيرة في فضل صلاة الجماعة والحث على ملازمتها منها: حديث أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلاة الرجل في جماعة تزيد على =

ص: 256

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= صلاته في بيته وصلاته في سوقه بضعًا، وعشرين درجة" وعنه رضى الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال:"هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم، فقال: أجب".

وعنه -أيضًا- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسى بيده لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب، ثم آمر بالصلاة، فيؤذن لها، ثم آمر رجلًا، فيؤم الناس، ثم أخالف إلى رجال، فأحرق عليهم بيوتهم، والذى نفسى بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقًا سمينًا، أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء".

قال عبد الله بن مسعود: "لقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق قد علم نفاقه، أو مريض، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا سنن الهدى، وإن من سنن الهدى الصلاة في المسحد الذي يؤذن فيه، وقال: من سره أن يلقى الله غدًا مسلمًا، فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم" روى هذه النصوص البخاري، ومسلم وعند أبى داود عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من ثلاثة في قرية، ولا بَدْو لا تقام فيهم الصلاة إلا قد استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإنما يأكل الذئب القاصية".

راجع: صحيح البخاري: 1/ 156 - 157، وصحيح مسلم: 2/ 123، 124، 128، وسنن أبى داود: 1/ 129، هذه بعض النصوص التي أشار إليها الشارح.

ولأجلها اتفق العلماء على أن صلاة الجماعة مأمور بها في الصلوات المكتوبة ولكنهم اختلفوا في حكمها كما سيأتي.

ص: 257

حتى ذهب بعض العلماء إلى كون الجماعة فرض عين (1)، وكذلك ترك الأذان (2)، وسائر شعائر الإسلام.

(1) اتفق العلماء على أن صلاة الجماعة فرض عين وشرط لصحة صلاة الجمعة، واختلفوا في حكمها بالنسبة لغير صلاة الجمعة إلى أقوال كثيرة.

فذهب الأحناف إلى أنها سنة مؤكدة تشبه الواجب في القوة حتى استدلوا بملازمتها على وجود الإيمان، وذهب البعض منهم إلى أنها فرض كفاية، ومنهم من قال: إنها فرض عين، ومنهم من قال بوجوبها.

وذهبت المالكية إلى أنها سنة مؤكدة.

وذهبت الشافعية إلى أنها فرض كفاية، ومنهم من قال: إنها سنة، ومنهم من قال: إنها فرض عين، وهو مروي عن ابن المنذر، وابن خزيمة، ونسب إلى الإمام الشافعي رحمه الله.

وذهبت الحنابلة إلى أنها فرض عين ولكنها ليست شرطًا في صحة الصلاة.

وذهبت الظاهرية إلى أنها فرض عين وشرط في صحة الصلاة لمن سمع النداء، ومن لم يسمع النداء فعليه أن يبحث عن جماعة ولو واحدًا يصلى معه، فإن فرط، فلا صلاة له إلا أن يكون معذورًا.

والسبب في اختلافهم هو تعارض مفهوم الآثار التي سبق ذكرها آنفًا.

قلت: لعل القول بأنها واجبة وليست شرطًا في صحة الصلاة هو الأظهر في نظري للجمع بين النصوص، ولكن مع عدم العذر من مطر، وسيل، وظلمة، ونحو ذلك.

راجع: المحلى لابن حزم: 4/ 65، والمبسوط: 1/ 167، وبدائع الصنائع: 1/ 422، وتبيين الحقائق: 1/ 132، وشرح الدر المختار: 1/ 97، وشرح فتح القدير: 1/ 344، وشرح الزرقاني على مختصر خليل: 2/ 2، وبلغة السالك: 1/ 152، وشرح منح الجليل: 1/ 211، وكشف الحقائق: 1/ 53، وبداية المجتهد: 1/ 141 - 142، والمجموع للنووي: 4/ 189، والروضة: 1/ 339، والمغني: 2/ 176 - 177، والمحرر في الفقه: 1/ 91.

(2)

الأذان -لغة-: الإعلان، قال الله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3].

وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنبياء: 109]. =

ص: 258

قلت: ذلك [ليس](1) من حيث إنه ترك نافلة، بل من حيث إشعاره بعدم المبالاة بسنته عليه الصلاة والسلام، وإليه أشار بقوله: "من رغب عن

= واصطلاحًا: عبارة عن إعلام مخصوص في أوقات مخصوصة بألفاظ مخصوصة.

وقد وردت أدلة كثيرة في الأمر به والحث عليه، وبيان فضله حتى إن الإمام الشافعي يفضله على الإمامة.

وقد قال صلى الله عليه وسلم لمالك وصاحبه: "إذا أنتما خرجتما في سفر، فأذِّنا، ثم أقيما وليؤمكما أكبركما" رواه البخاري في صحيحه: 1/ 153، ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر وكان يسمع الأذان، فإن سمع أذانًا أمسك، وإلا أغار" رواه مسلم: 2/ 4، وقد اتفقوا على مشروعيته للصلوات الخمس، ولكنهم اختلفوا في حكمه:

فذهب جمهور الأحناف إلى أنه سنة، وكذا الإقامة، ومنهم من قال بوجوبه.

وذهب مالك إفى أنه فرض على مساجد الجماعة، وقيل: سنة موكدة، ولم يره على المنفرد لا فرضًا، ولا سنة.

وذهب الشافعية -في المشهور- إلى أن الأذان- والإقامة سنة، ولا يجبان بحال. وقال ابن المنذر منهم: هما فرض في حق الجماعة سفرًا وحضرًا.

وذهب الحنابلة إفى أنه سنة مؤكدة، وليس بواجب، وبعضهم جعله من فروض الكفاية.

وذهب الظاهرية إلى أنهما واجبان غير أن داود يرى أنهما فرض في صلاة الجماعة، وليسا شرطًا في صحتها، ويرى ابن حزم أنهما شرط في صحتها.

وقال عطاء ومجاهد والأوزاعى: هو فرض.

راجع: تحفة الفقهاء: 1/ 178، وشرح فتح القدير: 1/ 239 - 240، والمدونة: 2/ 61 - 62، وبداية المجتهد: 1/ 106 - 107، والمجموع للنووى: 3/ 82، والمعني لابن قدامة: 1/ 417، والمحلى لابن حزم: 3/ 166.

(1)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 259

سنَّتي فليس منِّي" (1) ثم لمّا كان المندوب غير لازم بطلب من الشارع سواء تركه ابتداء أو بعد الشروع لا مؤاخذة عليه للإجماع على عدم المؤاخذة على ما ليس مكلفًا به.

والمندوب، وإن كان مأمورًا به، فليس فيه تكليف، خلافًا للأستاذ (2) مستدلًا بأن فعله لتحصيل الثواب شاق.

(1) لحديث أنس بن مالك قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني" رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، وغيرهم.

راجع: صحيح البخاري: 7/ 2، وصحيح مسلم: 4/ 129، وسنن النسائي: 6/ 60.

(2)

هو إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران الإسفرايينى أبو إسحاق، ركن الدين، جمع أشتات العلوم، متكلم، أصولي، شيخ خراسان في زمانه، قيل عنه إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وهو أحد الثلاثة الذين قال فيهم الصاحب بن عباد:"ابن الباقلاني بحر يُغْرِق، وابن فورك صِلُّ مُطْرِق، والإسفرايينى نار تُحرق" لإفحامهم الخصم في مناظرتهم، له مؤلفات منها: الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين في خمس مجلدات، وتعليقة في أصول الفقه، وغيرها، وتوفي بنيسابور سنة (418 هـ) ونقل إلى إسفرايين.

راجع: طبقات الفقهاء للعبادى: ص / 104، وطبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 126، ووفيات الأعيان: 1/ 28، والوافي: 6/ 104، والمختصر لأبى الفداء: 2/ 156، وطبقات الأسنوي: 1/ 59، وطبقات السبكي: 4/ 256.

ص: 260

قلنا: في تركه مجال لعدم إلزام الشارع (1)، واستدل الحنفية على لزوم لنفل بالشروع بقوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].

(1) ذهب جماعة من الفقهاء إلى أن المندوب مكلف به، منهم الإسفراييني المذكور سابقًا، وبه قال الباقلاني كما نقل عنه ذلك إمام الحرمين وحجة الإسلام الغزالي والمجد بن تيمية، نسبه في المسودة إلى الحنابلة، واختاره منهم ابن النجار تبعًا لابن عقيل والموفق وابن قاضي الجبل والطوفي، لأن التكليف طلب ما فيه مشقة.

وذهب أكثر العلماء إلى أن المندوب ليس تكليفًا؛ لأن التكليف إلزام ما فيه مشقة فالتكليف عندهم يشمل الإيجاب والتحريم فقط، وتكون تسمية الأحكام الثلاثة أحكاما تكليفية من باب التغليب، أما عند القاضي والأستاذ وغيرهما فإن التكليف يشمل الإيجاب والتحريم والكراهة والندب ولا يشمل الإباحة، وتسميتها حكمًا تكليفيًّا من باب التغليب، مع أن الأستاذ قد نقل عنه أن المباح حكم تكليفي.

قلت: ويمكن الجمع بين القولين بان المندوب فيه تكليف غير أنه ليس على سبيل الإلزام بل هو مطلوب منه، وهو مخير بعد ذلك بين أن يفعله على ما فيه من كلفة ومشقة، فيحصل له الثواب أو يتركه، فلا يأثم، فيدخل تحت قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].

فأمر بهذه الأشياء وفيها الإحسان وإيتاء ذى القربى، وفيهما ما هو مندوب، وفعله له لطلب الثواب بامتثال الأمر فيه مشقة وتكليف.

راجع: البرهان: 1/ 101، والمنخول: ص /21، والروضة ص / 6، والإحكام للآمدي: 1/ 92، والمسودة: ص / 35، وشرح العضد على ابن الحاحب: 2/ 5، وشرح تنقيح الفصول: ص / 79، ومختصر الطوفي: ص /11، ومختصر ابن اللحام: ص / 63، وسلاسل الذهب: ص / 31، وفواتح الرحموت: 1/ 112، وتيسير التحرير: 2/ 224، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 171، وشرح الكوكب المنير: 1/ 405، وهامش المحصول: 1/ ق 1/ 114.

ص: 261

ووجه الاستدلال: أنّ أعمالكم لفظ عام يشمل الأعمال الشرعية كلها مندوبة ومفروضة، فيجب القول باللزوم لعدم الفارق (1).

(1) ذهب الأحناف إلى أن من شرع في أداء تطوع من صلاة وصيام، وغيرهما يلزمه الإتمام، فإن خرج منهما لعذر لزمه القضاء، ولا إثم عليه، وإن خرج بغير عذر لزمه القضاء، وعليه الإثم، وبه قالت المعتزلة.

واستدلوا بالآية السابقة وبحديث طلحة بن عبيد الله رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للأعرابى الذي سأله عن الإسلام: "خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع " وهذا الاستثناء متصل، فمقتضاه وحوب التطوع بمجرد الشروع فيه. راجع: صحيح مسلم: 30/ 1، واحتجوا بالقياس على حج التطوع وعمرته، فإنهما يلزمان بالشروع بالإجماع.

وقال مالك وأبو ثور: يلزمه الإتمام، فإن خرج بلا عذر لزمه القضاء، وإن خرج بعذر فلا قضاء.

وذهب آخرون إلى أنه يستحب البقاء والإتمام، وإن خرج منها بلا عذر ليس بحرام ولا يجب قضاؤها، وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وجابر بن عبد الله، وسفيان الثورى، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: "هل عندكم شئ؟ فقلنا: لا قال: فإني صائم، ثم أتانا يومًا آخر، فقلنا: يا رسول الله، أهدي لنا حيس، فقال: أرنيه، فلقد أصبحت صائمًا، فأكل" راجع: صحيح مسلم: 3/ 159، وسنن أبي داود: 2/ 571، وسنن النسائي: 4/ 193، وسنن ابن ماجه: 1/ 520.

وأما النهي عن إبطال الأعمال في الآية، فيحمل على التنزيه جمعًا بين الأدلة، أو أن المراد منها لا تبطلوها بالردة أو الرياء، وهو مذهب ابن عباس، ومقاتل، وابن جريج. وقالت المعتزلة: لا تبطلوها بالكبائر؛ بناء على أن كبيرة واحدة -عندهم- تحبط ما تقدم من الحسنات ولو كانت مثل زبد البحر، لأن الفاسق عندهم مخلد في النار =

ص: 262

قلنا: لو سلم عموم هذا الجمع، فالحديث الصحيح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:"الصائم المتطوع أمير نفسه"(1) خصصه لجواز تخصيص المتواتر بالآحاد

= ومسلوب منه سمة الإيمان، وهذا مذهب أبطله أهل الحق لأن قاعدة أهل السنة مؤسسة على أن الكبائر لا تحبط حسنة مكتوبة، نعم يقولون: إن الحسنات يذهبن السيئات كما وعد به الكريم جل وعلا، فضلًا منه ومنًا.

راجع: كشف الأسرار: 2/ 311 - 312، والمدونة: 1/ 205، والمجموع: 6/ 394، والمسودة: ص / 60، وحاشية البناني على المحلى: 1/ 90، وتخريج الفروع على الأصول: ص / 138، وفواتح الرحموت: 1/ 114، ومختصر الطوفي: ص / 25، وراجع تفسير الآية: الكشاف: 3/ 538 مع رد ابن المنير الإسكندراني على اعتزاله، وأحكام القرآن لابن العربى 4/ 1704، وتفسير القرطبى: 16/ 254، وتفسر ابن كثير: 4/ 182.

(1)

هذا من أدلة الجمهور، وهو حديث أم هانئ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها فدعا بشراب، فشرب، ثم ناولها، فشربت، فقالت: يا رسول الله، أما إني كنت صائمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الصائم المتطوع أمير نفسه"، وفي رواية:"أمير نفسه إن شاء صام، وإن شاء أفطر".

رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدارمي، والحاكم، وغيرهم، والحديث في إسناده مقال كما قال الترمذي؛ لأن فيه سماك بن حرب، وقد تكلم فيه. قال أحمد: مضطرب الحديث، وضعفه سفيان، وقال النسائي: ليس يعتمد عليه إذا انفرد، كما أن في إسناده -أيضًا- هارون بن أم هانئ قال ابن القطان: لا يعرف.

وقال الحافظ ابن ححر: مجهول، وقال النووي: سنده جيد برواياته المتعددة. وقال في كشف الخفاء: إنه صحيح.

راجع: مسند أحمد 6/ 341، وسنن أبى داود: 2/ 572، وسنن الترمذي: 3/ 81، وسنن الدارمي: 2/ 16، والمستدرك: 1/ 439، وتحفة الأحوذي: 3/ 430، وفيض القدير: 4/ 31، وكشف الخفاء: 2/ 26، والميزان للذهبى: 2/ 232 - 233، والتقريب: 1/ 332، 2/ 314.

ص: 263

اتفاقًا، هذا وأقول: لا يخلو أن ما شرع فيه من النفل هل هو باق على صفة النفل، أو انقلب بالشروع واجبًا؟ والثاني باطل إجماعًا؛ إذ لا يوجد شيء في الشريعة يكون بعضه نفلًا وبعضه واجبًا.

وأيضًا لو كان بالشروع يصير واجبًا لترتب عليه ثواب الواجبات دون النوافل؛ إذ ثواب الواجبات أضعاف ثواب النوافل، وهذا مما لم يقل به أحد.

قوله: "ووجوب إتمام الحج".

جواب سؤال مقدر تقديره قلتم: إن النفل بالشروع لا يلزم، مع أنكم أوجبتم على من أفسد الحج النفل قضاءه (1) في القابل، وألزمتم المضي في فاسده.

أجاب: بأن الحج من قبيل المستثني؛ لأن نفل الحج كفرضه نية وكفّارة؛ إذ لا تعرض في نيته إلى كونه فرضًا أو نفلًا، وأيضًا عدم خروجه بالإفساد فرضًا أو نفلًا متفق عليه، وهذا لا إلزام فيه لأن الحنفية مجوزون الصوم الفرض بنية مطلق الصوم، بل بنية النفل.

وأما الإلزام باستوائهما في الكفارة وعدم الخروج بالإفساد سالم عن الفادح.

والحق أن الحنفية لما أوجبوا المضيَّ في فاسده، فقد اعترفوا بأن الحج خارج عن القاعدة إذ لم يقولوا بالمضيّ في الفاسد في نفل سواه.

(1) في (أ)"قضاؤه" والصواب المثبت من (ب) لأنه مفعول به.

ص: 264

ثم لبعض الشراح هنا كلام عجيب، وهو أنه قال: لا يتصور لنا حج تطوع لأن المخاطب به هو المستطيع، فإن لم يحج فالحج في حقه فرض عين، وإن كان قد حج ففرض كفاية (1).

وقد ذهل عن معنى الاستطاعة، فإن الاستطاعة المعتبرة من الزاد والراحلة وأمن الطريق وغيرها، إنما هي شروط الوجوب بناء على التيسير والتسهيل، وذلك لا ينافي أن يحمل عادم هذه الأشياء المشقة، ويتبرع بما لم يوجب الشارع عليه كما في الصدقة، على ما أشار إليه أكرم الخلق صلى الله عليه وسلم، بقوله:"أفضلُ الصدقةِ جُهد المُقِلِّ"(2).

(1) صاحب هذا القول هو الإمام الزركشي، ثم علل كلامه بقوله:"لأن إقامة شعائر الحج من فروض الكفاية على المكلفين، وهي وجهة نظر للإمام رحمه الله، وأحسن منه ما تقدم قبله" تشنيف المسامع: ق (8/ أ).

(2)

هذا جزء من حديث طويل رواه عبد الله بن حبشي الخثعمي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان لا شك فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحجة مبرورة، قيل: فأيُّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام، قيل: فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل

" الحديث. رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم، وصححه، ورواه الطبراني من حديث أبى أمامة، وحكم الألباني بضعفه حيث جعله في ضعيف الجامع الصغير. وقد روى مسلم قوله: "أي الصلاة أفضل؟ قال: طول القنوت".

وروى ابن حبان قوله: "أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله، وجهاد في سبيله".

راجع: مسند أحمد: 3/ 411 - 412، وصحيح مسلم: 3/ 175، وسنن أبى داود: 2/ 334 - 335، وسنن النسائي: 5/ 58، وصحيح ابن حبان: 1/ 313، والمستدرك: 1/ 414، والجامع الصغير: 1/ 50، وضعيفه: 1/ 318.

ص: 265

وإن أراد أنه بعدما شرع فيه يجب، فهو أول المسألة، مع أنه لا ينافي النفلية بحسب الأصل.

فإن قلت: عادم الاستطاعة إذا حضر مكة، وكان سالمًا من الموانع يجب عليه الحج؟

قلنا: يفرض فيمن حج مرة، فإن قلت: من حج مرة أو أكثر لم يقع حجة نفلًا، بل فرض كفاية بناء على أن إحياء البيت كل سنة بالحج فرض كفاية.

قلنا: لو سلم دخول مثله في عموم الخطاب بالإحياء ينتقض بالصبي المراهق، فإن حجه نفل بلا خلاف إذ لا يتوجه إليه خطاب.

وبالجملة الاستدلال بأن المخاطب [هو](1) المستطيع، وحج المستطيع منحصر في الفرضين، فلا يتصور (2) حج تطوع غير سديد، والله أعلم.

قوله: "والسبب ما يضاف إليه الحكم إلى قوله: والصحة".

أقول: لما ذكر أن الخطاب الوارد من الشارع بكون الشئ سببًا، وشرطًا ومانعًا خطابُ وضع، أراد أن يُعَرِّف المذكورات لعدم دخولها في التكليفي، وكان الأولى أن يذكر قوله:"وقد عرفت حدودها" قبل قوله: "وإن ورد سببًا" ويؤخره عن المباحث المتقدمة

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

في (ب): "والله أعلم حج تطوع غير سديد".

ص: 266

المتعلقة بالواجب والفرض والمندوب والخلاف الذي ذكره ليكون الكلام مرتبطًا بعضه مع بعض، هذا. ثم نقول: السبب عندهم هو الذي يضاف إليه الحكم (1)، كقوله تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الأسراء: 78]، وقوله:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].

أحدهما: كون الدلوك سببًا، والآخر: وجوب الصلاة عنده، وكذلك في الزاني أحدهما: وجوب الرجم، والآخر: كون الزنى سببًا.

(1) السبب -لغة-: عبارة عما يتوصل به إلى المقصود، ومنه سمي الحبل سببًا، والطريق سببًا لإمكان التوصل بهما إلى المقصود.

وأما في الاصطلاح، فقد وقع في تعريفه خلاف يرجع إلى القول بتأثيره وعدم تأثيره، منها ما ذكره المصنف والشارح.

واختار البعض: أنه ما يلزم من وحرده الوجود، ويلزم من عدمه العدم لذاته.

وقيل: هو الوصف الظاهر المنضبط المعرف للحكم مبين لمفهومه، وعلى هذا فيكون المراد به العلة المذكورة في باب القياس، كما صرح به الجلال المحلي، فهما لفظان مترادفان.

راجع: تهذيب الصحاح: 1/ 61، ومختار الصحاح: ص / 28، والمصباح المنير: 1/ 262، والإحكام لابن حزم: 1/ 41، والمستصفى: 1/ 94، والإبهاج: 1/ 64، ونهاية السول: 1/ 89، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 94، ومناهج العقول: 1/ 55، وشرح المنار وحواشيه: 2/ 899، والقواعد والفوائد الأصولية: ص / 94، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 67، والتعريفات: ص / 117، وإرشاد الفحول: ص/ 6.

ص: 267

ولا شك أن الأسباب معرفات إذ الممكنات مستندة إلى الله تعالى ابتداء عند أهل الحق (1)، وبين المعرف الذي هو السبب والحكم الذي نيط به ارتباطٌ ظاهر، فالإضافة إليه واضحة.

وأما عند من يجعل الوصف مؤثرًا بذاته، وهو الذي أشار إليه المصنف بقوله:"أو غيره"، فلا خفاء عنده إذ الأثر مضاف إلى المؤثر قطعًا.

والشرط -لغة-: العلامة (2)، ومنه: أشراط الساعة.

(1) ذهب الجمهور إلى أن السبب معرف للشئ وعلامة عليه، وذلك أن الشارع جعل وجود السبب علامة على وجود مسببه وهو الحكم، وجعل تخلفه وانتفاءه علامة على تخلف ذلك الحكم، فالشارع ربط الحكم، أي وجوده بوجوب السبب، وعدمه بعدمه، وقالت المعتزلة: إن السبب مؤثر في الأحكام بذاته بواسطة قوة أودعها الله فيه، وقال الغزالي، والجويني: إن الأسباب ترثر في الأحكام لا بذاتها، بل بجعل الله تعالى، وقال الآمدي: السبب باعث على الحكم، وقد ذكر الأسنوي أن الخلاف لفظى في هذه المسألة لاتفاق الكل على أن المؤثر هو الله وحده دون العلل والأسباب، وعلى أن العلل ليست باعثة، بمعنى أن الفاعل يتأثر بها وينفعل، وعلى أن الله تعالى حكم بوجود ذلك الأثر بذلك الأمر، وناظر هذا بذاك.

راجع: المستصفى: 1/ 94، والإحكام للآمدي: 1/ 98، والإبهاج: 1/ 64، نهاية السول: 1/ 89، والقواعد لابن اللحام: ص / 94، ومختصر الطوفي: ص / 32، والروضة ص / 30، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 95، وتقريرات الشربيني: 1/ 94، وإرشاد الفحول: ص / 6.

(2)

كقوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أي: علاماتها اللازمة لكون الساعة آتية لا محالة، وتد ذكر الشوكان أن الذي بمعنى العلامة هو الشَّرَط بالتحريك، وجمعه =

ص: 268

وفى عرف الأصوليين الشرط: ما يتوقف عليه معنى السببية لا وجود السبب كالإحصان لسببية الزنى للرجم، فإن وجود الزنى بدونه كثير، ولكن لسببية لا توجد شرعًا. ولم يتعرض له المصنف لكثرة مباحثه، فأخره إلى بحث التخصيص ليذكر مع سائر (1) المخصصات.

والمانع (2): هو الوصف الوجودي المنضبط الذي يقتضي نقيض الحكم الذي اقتضاه السبب كالأبوة المانعة من ترتب القصاص على القتل العمد العدوان، فإن الأبوة لمّا كانت سببًا لوجود البنوة صلحت أن تكون مانعًا للقصاص؛ إذ لا يلائم أن يكون الشئ [سببًا](3) لإعدام موجده.

= أشراط، ومنه أشراط الساعة، أي علاماتها، وأما الشَّرْط بالسكون فجمعه شروط، وهو ناقله عن الجوهري، وقال في القاموس:"الشرط إلزام الشيء، والتزامه".

أما في الاصطلاح فقد عرف بتعاريف، منها ما ذكره الشارح، وبعضهم عرفه بأنه: ما يلزم من عدمه العدم لذاته، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته، وكان خارجًا عن الماهية، وهو أقسام: عقلي، وعادي، ولغوي، وهو المخصص، وشرعي، وهو المراد هنا.

راجع: الصحاح: 3/ 1136، والمصباح المنير: 1/ 309، ولسان العرب: 9/ 202، والقاموس المحيط: 2/ 68، والإحكام لابن حزم: 1/ 41، والمستصفى: 2/ 180، والإحكام للآمدى: 2/ 140، والمحلى على جمع الجوامع: 2/ 20، وإرشاد الفحول: ص / 152.

(1)

آخر الورقة (10/ ب من ب).

(2)

آخر الورقة (10/ ب من أ).

(3)

المانع -لغة- اسم فاعل منعه. =

ص: 269

ثم المانع إما أن يكون مانعًا من ترتب الحكم على السبب كما ذكرنا، وإما أن يكون مانعًا لانعقاد السببية في الأسباب (1)، ولم يذكره المصنف لأن كلامه في الأحكام وما نيطت به، والشئ ما لم يخل عن مانع كونه سببًا لا يناط به حكم، فكأن البحث عن مانعه أجنبيًّا؛ كذا نقل عن المصنف، وفيه نظر لا يخفى.

ثم تمثيل المصنف للوصف الوجودي بالأبوة مع أن الإضافات ليست موجودات عند المتكلمين؛ بناء على أن الوجودي عندهم يطلق بمعنيين:

أحدهما: ما له وجود متأصل كالإنسان والفرس، وما لا يدخل العدم في مفهومه كالأبوة ونظائرها.

قوله: "والصحة موافقة" إلى قوله: "وقيل: إسقاط القضاء".

= واصطلاحًا: كما ذكر الشارح، أو هو ما لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، ولكنه يلزم من وجوده عدم الحكم كالحيض بالنسبة للصلاة والصوم مثلًا، فإن عدم الحيض لا يلزم منه وجودهما ولا عدمهما؛ لأن المرأة الطاهرة قد تصلي وتصوم وقد لا تفعل ذلك بخلاف الحيض، فإنه مانع من الصلاة والصوم.

راجع: المصباح المنير: 2/ 580، ونزهة الخاطر: 1/ 162، والمذكرة للشنقيطي: ص / 44.

(1)

والمانع هنا يكون وصفًا يخل وجوده بحكمة السبب كدين مع ملك نصاب؛ لأن حكمة وجوب الزكاة في النصاب الذي هو السبب كثرة تحمل المواساة منه شكرًا على نعمة ذلك، لكن لما كان المدين مطالبًا بصرف الذي يملكه في الدين صار كالعدم.

راجع: الإحكام: 1/ 100، والعضد على ابن الحاجب: 2/ 7، وفواتح الرحموت: 1/ 61، ومناهج العقول: 1/ 54، والمحلي وعليه الشربيني: 1/ 97.

ص: 270

أقول: الصحة تكون في العبادات وفي المعاملات، فبعضهم يفرد كلًّا منهما عن الآخر بتعريف مستقل؛ لأن جمع الحقائق المختلفة في حد واحد لا يمكن، صرح به ابن الحاجب في تقسيم الاستثناء إلى المتصل والمنقطع (1)، ولمّا كان مخصوصًا بما إذا أريد تمييز الحقيقة عن الأخرى بالذاتيات لم يتحاش المصنف عن الجمع بين الصحة في العبادات والصحة في المعاملات لصدق هذا التعريف عليهما، وهو كون كل منهما موافقة ذي الوجهين [الشرع] (2) [وقوله: ذي الوجهين] (3) - بما وقع في كلام [بعض](4) الأصوليين، وتبعهم المصنف- واحترزوا بذلك عما لا يقع إلا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى، ورد الوديعة؛ إذ المعرفة إذا لم تقع على الوجه الموافق للشرع تكون جهلًا.

والحق: أنه لا حاجة إلى هذه الزيادة؛ لأن المعرفة أيضًا إن لم تكن على الوجه الموافق للشرع تكون معرفة باطلة لانتفاء موجب صحتها، وهو مطابقة الواقع، ولا يضرنا كونه جهلًا إذ لا تنافي بين كونه جهلًا ومعرفة باطلة، يدل على ما قلنا ما ذكره عضد الملة والدين، والعلامة التفتازاني (5) في كتابيهما:

(1) راجع: منتهى الوصول والأمل: ص/ 121.

(2)

سقط من (ب).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب).

(4)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(5)

هو مسعود بن عمر بن عبد الله سعد الدين التفتازاني العلامة الشافعي الحنفي، كان أصوليًّا، مفسرًا، متكلمًا، محدثًا، نحويًا، أديبًا، ولد بتفتازان من بلاد خراسان، ثم رحل =

ص: 271

"المواقف" و "المقاصد"(1) في بحث النظر في معرفة الله -تعالى- ردًّا على المعتزلة حيث استدلوا بأن النظر (2) في معرفة الله واجب عقلًا؛ إذ الذي حصَّل المعرفة أحسن حالًا من غيره.

قلنا: إذا حصَّل المعرفة على وجهها والعرفان على وجه الصواب، فإن التقييد بالوجه صريح فيما ذكرنا، وكذا رد الوديعة إن كان على الوجه الذي اعتبره الشرع فصحيح، وإلا فباطل [كما إذا رد الوديعة إلى صاحبها بعدما صار مجنونًا](3)، كما أن الصلاة إذا اشتملت على الأركان والشروط تسمى صلاة صحيحة، وإذا فقد شئ من تلك الشروط والأركان فباطلة.

= إلى سرخس، وأقام بها حتى أبعده تيمورلنك إلى سمرقند، فجلس فيها للتدريس، وأقبل عليه الطلاب والعلماء، واشتهرت تصانيفه في الآفاق، وانتفع الناس بها، أخذ عن القطب والعضد، من مصنفاته: شرح الزنجاني، والتلويح في كشف حقائق التنقيح في الأصول، وحاشية على شرح العضد على المختصر في الأصول، وحاشية على الكشاف، وتهذيب المنطق والكلام، وشرح العقائد النسفية، ومقاصد الطالبين في علم أصول الدين مع شرحها، وتلخيص المفتاح في المعاني والبيان، وتوفي بسمرقند سنة (791 هـ).

راجع: روضات الجنات: ص /309، والدرر الكامنة: 5/ 119، وبغية الوعاة: 2/ 285، ومفتاح السعادة: 1/ 205، والبدر الطالع: 2/ 303، وشذرات الذهب: 6/ 319، والأعلام: 8/ 113.

(1)

راجع: المواقف: ص / 31، والمقاصد مع شرحها: 1/ 262 - 263.

(2)

آخر الورقة (11/ ب من ب).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بالهامش.

ص: 272

واعلم (1) أن كون الصحة والبطلان من أحكام الوضع مما منعه بعض المحققين (2). ووجهه: بأن بعد ورود أمر الشرع بالفعل، فكون ذلك الفعل موافقًا للأمر ليكون صحيحًا، أو مخالفًا ليكون باطلًا لا يتوقف على توقيف من الشارع، بل هو أمر عقلي صرف، فكونه مصليًا، أو تاركًا لا يحتاج إلى إعلام من الشارع، وقد سبق كلام في أن طائفة لم يقولوا بأن شيئًا من الأسباب والشروط والموانع حكم شرعي، وهذا البعض (3) قد خصصه بالصحة والبطلان، والله أعلم.

قوله: "وقيل".

أقول: ذهب الفقهاء إلى أن معنى الصحة في العبادات: إسقاط القضاء.

والتعريف الأول للمتكلمين، فصلاة من ظن أنه متطهر وصلى، ثم بانَ خلافه صحيحة عند المتكلمين دون الفقهاء (4).

(1) جاء في هامش (أ) قبل قوله: واعلم: "فائدة".

(2)

جاء في هامش (أ): "هو ابن الحاجب".

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص / 41، والإبهاج: 1/ 68.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "فلا يظن أن هذا البعض هو ذلك البعض هـ".

(4)

لأن الفعل إما أن يكون مسقطًا للقضاء، كما هو عند الفقهاء، أو موافقًا لأمر الشارع كما هو عند المتكلمين، فيكون صحيحًا بحكم العقل، وإما أن لا يسقط القضاء، أو لا يوافق أمر الشارع، فهو باطل وفاسد بحكم العقل.

راجع: المختصر وعليه العضد: 2/ 7، وفواتح الرحموت: 1/ 121، وتيسير التحرير: 2/ 237، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 99.

ص: 273

ثم المراد بإسقاط القضاء رفع وجوبه (1)، فلا يرد أن ثبوت القضاء بأمر جديد، فلا يتصور الإسقاط قبل الثبوت.

وفي المعاملات؛ عبارة عن ترتب الأثر المطلوب منها عليها، أي من شأنها الترتب لولا وجود مانع شرعي كالخيار المانع من ثبوت. الملك للمشترى، وتخمير العصير بعد العقد وقبل القبض.

هذا ولو قيل: الصحة مطلقًا عبارة عن ترتب الأثر المطلوب من الفعل عليه ليشمل العبادات من غير تطويل لكان أولى.

غايته: أن ذلك الأثر عند المتكلمين موافقة الشرع، وعند الفقهاء إسقاط القضاء. وعلى هذا يكون الخلاف راجعًا إلى تعيين الأثر المطلوب لا إلى تفسير الصحة (2)، وعلى ما ذكره المصنف الصحة -في العبادات- على القول الأول- إجزاؤها، والإجزاء -لغة-: الاكتفاء.

وشرعًا عند المتكلمين: هو الأداء الكافي في سقوط المتعبد به، أي: المأمورية أعم من أن يكون واجبًا أو مندوبًا، سقط القضاء أو لم يسقط.

(1) راجع: حاشية البناني، وتقريرات الشربيني على شرح الجلال: 1/ 100.

(2)

راجع معنى الصحة في العبادات والمعاملات: المستصفى: 1/ 94، والروضة: ص / 56، والإحكام للآمدى: 1/ 100، شرح تنقيح الفصول: ص / 76، والموافقات: 1/ 202، وكشف الأسرار: 1/ 258، ومختصر الطوفي: ص / 33، ونهاية السول: 1/ 94، وفواتح الرحموت: 1/ 122، وتيسير التحرير: 2/ 235، وحاشية البناني على المحلى: 1/ 100، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 164.

ص: 274

قال الغزالي: "الصحيح عند المتكلمين: ما أجزأ في الشرع، وجب القضاء أو لم يجب"(1).

وعند أكثر الفقهاء -وهو الذي أشار إليه المصنف بـ "قيل: الإجزاء إسقاط القضاء". والإجزاء أخص -مطلقًا- من الصحة لاختصاصه بالعبادات واجبًا أو مندوبًا، أو واجبًا فقط على ما أشار إليه المصنف بقوله:"وقيل الواجب"(2).

(1) المستصفى: 1/ 94.

(2)

الإجزاء لا تتصف به العقود، وتتصف به العبادات الواجبة باتفاق، وأما المندوبات ففيها خلاف في هل تتصف به، أو لا؟ ولهذا تكون الصحة أعم منه لإطلاقها على العبادات والمعاملات معًا.

ومنشأ الخلاف في المندوبات قوله صلى الله عليه وسلم: "أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء بيِّن عورها، والمريضة بيِّن مرضها، والعرجاء بيِّن ظلعها، والكسير التي لا تنقي" رواه أبو داود في سننه: 2/ 87 - 88، وغيره.

فالأضحية مندوبة عند الشافعية وقد استعمل الإجزاء فيها، وعلى هذا فالمندوب يوصف بالإجزاء لهذا الحديث.

وأما عند الأحناف وغيرهم، فالأضحية واجبة، والواجب يوصف بالإجزاء باتفاق، وأما المباح عند الأحناف فلا يوصف به.

وقد استعمل الإجزاء في الواجب المتفق عليه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تجزئ الصلاة إلا بفاتحة الكتاب".

راجع: الإبهاج 1/ 71، والمغني لابن قدامة: 8/ 617، ومغني المحتاج: 4/ 282، وهامش المحصول: 1/ ق 1/ 146، والمبسوط للسرخسي: 12/ 8 وما بعدها.

ص: 275

قوله: "ويقابلها البطلان إلى آخره".

أقول: البطلان نقيض الصحة في العبادات والمعاملات، فهو في العبادات عبارة: عن عدم ترتب الأثر عليها، أو عدم سقوط القضاء، وفي المعاملات: عن عدم ترتب أثر عليها لا غير، والفساد يرادفه عندنا، وقالت الحنفية: ما لم يشرع بأصله ووصفه باطل، وما شرع بأصله دون وصفه فاسد (1). تحقيق ذلك: أن الشئ [إذا وجد في الخارج مشتملًا على الشرائط والأركان فصحيح، فإن ورد نهي عن ذلك الشئ](2):

(1) يرى الأحناف أن الفاسد والباطل بمعنى واحد في العبادات، ولكنهم يفرقون بينهما في المعاملات، والحاصل أن أبا حنيفة رحمه الله لم يعتد بالباطل، واعتد بالفاسد، وعند النظر في هذه المسألة يتبين أن الخلاف من حيث التسمية لفظي، وبيانه أن ما نهي عنه لأصله كما يسمى باطلًا، فهل يسفى فاسدًا؟ وأن ما في عنه لوصفه كما يسمى فاسدًا، فهل يسمى باطلًا؟ فالجمهور يسمون كلًّا من القسمين باسم الآخر، وعند أبى حنيفة لا يسمى، غير أن مخالفته للجمهور في اعتداده بالفاسد دون الباطل، هو خلاف فقهى لم ينشأ عن التسمية، وإنما نشأ عن الدليل الذي قام عنده.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 8، والمحصول: 1 /ق/ 1/ 145، والروضة: ص/ 36، والإحكام للآمدي: 1/ 101، وشرح تنقيح الفصول: ص/77، والفروق للقرافي: 2/ 82، والمسودة ص/ 80، وشرح العضد على المختصر: 2/ 7، والإبهاج 1/ 68، وكشف الأسرار: 1/ 258، ونهاية السول: 1/ 96، والقواعد لابن اللحام: ص/ 110، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 107، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص/ 337.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 276

فإن توجه إلى شيء من الأركان والشرائط، سواء كان في العبادات كالصلاة بدون القراءة (1)، أو بدون استقبال القبلة (2)، أو في المعاملات كبيع الأجنة في بطون الأمهات المسماة بالملاقيح لعدم الركن، وهو البيع فباطل (3).

وإن توجه إلى شيء من الأوصاف كصوم يوم النحر (4) في العبادات، وكالربا في المعاملات، فإن الزائد لمّا كان فرع المزيد كان بمنزلة

(1) لأن القراءة ركن من أركان الصلاة بالإجماع لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمّنا، فيجهر ويخافت، فجهرنا فيما جهر، وخافتنا فيما خافت، وسمعته يقول:"لا صلاة إلا بقراءة" رواه أحمد.

راجع: المسند: 2/ 308، 443، وعند مسلم وغيره:"لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" صحيح مسلم: 2/ 9، وبالنص عليها قال الجمهور، وقال الأحناف بمطلق القراءة للحديث السابق والآية إلى سبقت.

(2)

استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة بإجماع العلماء لقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144، 149، 150].

(3)

لحديث أبي سعيد الخدري قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: عن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع

الحديث" ولحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن بيع حبل الحبلة، وكان بيعًا يتبايعه أهل الجاهلية، كان الرجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج الناقة، ثم تنتج التي في بطنها".

راجع: صحيح البخاري: 3/ 87، وصحيح مسلم: 5/ 3، وسنن ابن ماجه: 2/ 18 - 19.

(4)

لقول عمر وابنه وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر".

راجع: صحيح مسلم: 3/ 152 - 153.

ص: 277

الوصف: ففاسد (1) وإن كان النهى راجعًا إلى مجاور: فمكروه كالصلاة في الدار المغصوبة (2)؛ ولهذا لو أسقط الزائد في مسألة الربا صح البيع بناء على استجماع الشرائط والأركان، قال بعض المحققين (3): إن صح لهم ذلك، أي: صحة البيع مع طرح الزيادة لا مناقشة معهم في التسمية.

ولنا في هذا الكلام نظر؛ لأن ثوبته عند الخصم لا يعتبر، وعندهم ثابت، بل ثبوته متواتر، وربما لاحظ المصنف رحمه الله ما أشرنا إليه، ولذا لم يذكر أن الخلاف لفظي، ولا حاجة إلى نسبة المصنف إلى الذهول كما فعله بعض الشارحين (4)، فإن الشارح يجب عليه حمل كلام المتن على محمل صحيح ما أمكنه، وإلا يكون خارجًا لا شارحًا، والله أعلم.

(1) قلت: ورغم أن الجمهور لم يفرقوا بين الباطل والفاسد كما سبق ذكره، إلا أنهم قد فرقوا بين الفاسد والباطل في مسائل منها في الحج، والنكاح، والوكالة، والخلع، والإجارة، وغيرها، كقولهم: واجبات الإحرام تجبر بالدم دون فروضه، ولكن هذا اصطلاح حادث ارتكبوه للتمييز بين المجبور وغيره كما تقدم عن الشارح.

راجع: الفروق: 2/ 82، والقواعد لابن اللحام: ص /111، والتمهيد: ص / 59، ونهاية السول: 1/ 97، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص / 286، وشرح الكوكب المنير: 1/ 474.

(2)

سيأتي الكلام على هذه المسألة ص / 362 - 369.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "هو المولى المعظم عضد الملة والدين هـ".

راجع: شرحه على المختصر: 2/ 8.

(4)

المراد به الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 107.

ص: 278

قوله: "والأداء" إلى قوله: "والقضاء"(1).

أقول: هذا تقسيم للحكم باعتبار متعلقة؛ إذ الأداء والقضاء والإعادة صفات فعل.

فعلى ما ذكره المصنف الأداء فعل يقع كله أو بعضه في الوقت المقدر له شرعًا، فخرج ما لا وقت له كالنوافل المطلقة والمتعلقة بالأسباب، وخرج أيضًا ما قدر له وقت لا شرعًا كالزكاة إذا عين الإمام لأخذها شهرًا، فإن تعيين الإمام لذلك الشهر لا يصيِّره وقتًا إلا إذا صادف الوقت الذي قدره الشارع.

والبعض في قول المصنف، وإن كان يتناول أقل قليل لكنه أطلق بناء على ما علم في موضعه أن المراد ركعة فما فوقها، لورود النص مقيدًا

(1) آخر الورقة (11/ ب من أ).

مع ملاحظة: أن ورقة (12/ أ، ب) من (أ) قد حصل للناسخ فيها لبس، فخلط حيث نقل فيها كلامًا على الواجب المضيق والموسع من نفس الكتاب وما قدم نقله إلى هنا أسقطه هناك كما سيأتي، ثم ظهر لي اتصال الكلام واستقامته في ورقة (13 / أ).

فعلى ما سبق يكون الكلام في ورقة (12/ أ، ب) مدخولًا، وبحذفه لا يختل الكلام، بل يكون مستقيمًا وكاملًا كما ترى في المتن والشرح.

أما نسخة (ب) فقد وقع فيها خلط على الناسخ أيضًا، ولكنه كان أقل وأيسر من سابقتها، حيث إن الخلط لا يتجاوز ثلاثة أسطر، نقل فيها الناسخ -سهوًا- تعريف النظر عند الباقلاني والآمدي، ثم فطن لذلك فألغاه.

ص: 279

بها (1)، فالحق ما فوق الركعة بها بفحوى الخطاب، ثم قوله:"بعض" يصدق على ما إذا فعل بعضه قبل الوقت، وبعضه في الوقت، مع عدم الجواز إجماعًا، ولعله اعتمد على ظهوره فلم يتحاش، ثم لفظ البعض، وإن أفاد ما ذكرناه من أن ركعة من الصلاة إذا وقعت في الوقت فالكل أداء، ولكن يتناول بمفهومه بعض الصوم، مع أنه لا يتصور فيه ذلك، فالأولى عدم ذكره كما اختاره الجمهور.

وقوله: "والمؤدَّى: ما فُعِل مستدرك".

لأنه إذا علم الأداء، فالمودَّى معلوم بلا ريب، لكنه قصد نوع تعريض بابن الحاجب حيث قال:"والأداء ما فُعل في وقته المقدر له"(2)،

(1) لحديث أبما هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة"، ولقوله -أيضًا-:"من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر". راجع: صحيح مسلم: 2/ 102، وسنن الدارمى: 1/ 277، وفيض القدير: 6/ 44، وهذا يعني أنه يكتفى في الصلاة بوقوع أول الواجب في الوقت مثل تكبيرة الإحرام عند الحنفية، والراجح عند الحنابلة، والركعة الأولى من الصلاة عند الجمهور فيكون ذلك أداء للحديث السابق.

راجع: فتح الباري: 2/ 38، وروضة الطالبين: 1/ 183، والفروع لابن مفلح: 1/ 305، وحاشية الجرجاني على شرح العضد: 1/ 134، وحاشية البناني على المحلى: 1/ 108، وفواتح الرحموت: 1/ 85، وتيسير التحرير: 2/ 198.

(2)

مختصر المنتهى: 1/ 232.

ص: 280

فرده المصنف بأن ذلك هو المؤدَّى لا الأداء، ولا مؤاخذة على ابن الحاجب، لأن الأداء يطلق على المعني المصدري، وعلى المؤدَّى، فهو قد استعمله في المعني الثاني، والدليل على ذلك قوله:"ما فُعل في وقته المقدر له"، والوقت حقيقة للمؤدى لا للأداء بالمعني المصدري القائم بالفاعل، ولهذا شرح المولى المحقق على طبق كلامه، فقال:"الأداء ما فُعل في وقته المقدر له"، ثم قال:"وما لم يقدر وقت له كالنوافل"(1).

ولا شك أن ما فعل هو المؤدى، وكذلك النوافل التي احترز عنها ليست معنى مصدريًّا.

قال الإمام (2) في "المحصول": "الواجب إذا أُدي في وقته سمي: أداء، وإن أُدي خارج الوقت يسمّى: قضاء"(3)، وهذا صريح فيما أشرنا إليه.

(1) شرح العضد على المختصر: 1/ 233، حيث قال:"الأداء ما فعل في وقته المقدر له شرعًا، أو لا، فخرج ما لم يقدر له وقت كالنوافل، أو قدر لا شرعًا كالزكاة يعين له الإمام شهرًا".

(2)

هو محمد بن عمر بن الحسين بن علي القرشي التيمي البكري، فخر الدين الرازي، أبو عبد الله المعروف بابن الخطيب الفقيه الشافعي، ولد سنة (544 هـ)، ونشأ في بيت علم وتلقى العلم من والده وغيره، ورحل في ذلك للطلب حتى فاق أهل زمانه في المعقولات وعلم الكلام، وصنف التصانيف الكثيرة، منها: تفسير القرآن، والمعالم، والمحصل في علم الكلام، وشرح الوجيز، والبيان، والبرهان، والمحصول، وغيرها، وتوفي سنة (606 هـ).

راجع: الكامل لابن الأثير: 12/ 288، وتاريخ الحكماء: ص / 292، والجامع المختصر: 9/ 306، وتاريخ الإسلام: 2/ 112، وميزان الاعتدال: 3/ 340، وعيون الأنباء: 3/ 34، ومختصر الدول: ص/ 240، والذيل على الروضتين: ص / 68، ولسان الميزان 4/ 466.

(3)

المحصول: 1/ ق 1/ 148.

ص: 281

وهنا بحثان:

أحدهما: أن كلام المصنف صريح في أن الإعادة ليست من قبيل الأداء، بل الأقسام الثلاثة عنده متباينة، وهو خلاف المصطلح وخلاف ما عليه المحققون، إذ الاعادة ما فُعلت في الوقت المقدر له ثانيًا لاختلاله في الأول (1).

ثانيهما: أن قوله: "مطلقًا" في تعريف الوقت: بأنه الزمان المقدر له شرعًا مطلقًا؛ بما لا حاجة إليه إذ مقصوده بتلك الزيادة شمول الموسع والمضيق، وذلك الشمول حاصل بدونه إذ يصدق على الكل (2) أنه الوقت المقدر شرعًا.

فإن قيل: لا بد من قيد "أو لا"؛ ليخرج الوقت المقدر ثانيًا، لأنه بما قدره الشارع، مع أن الفعل الواقع فيه لا يتصف بالأداء كصلاة الناس إذا ذكرها.

قلت: لا يحتاج إلى ذلك إذ الوقت صار حقيقة عرفية في المعنى الأول، فلا يتناول ذلك إلا بقرينة، والله أعلم.

قوله: "والقضاء" إلى قوله: "والإعادة".

(1) راجع تعريف الإعادة: المستصفى: 1/ 95، والروضة: ص /57، ونهاية السول: 1/ 109، وفواتح الرحموت: 1/ 85، ومناهج العقول: 1/ 64، وتيسير التحرير: 2/ 199.

(2)

آخر الورقة (12 ب من ب).

ص: 282

أقول: لما فرغ من الأداء شرع في بحث القضاء، فقال: القضاء فعل كل الوقت خارجه.

وقيل: [إن وقع البعض خارجًا، فذلك الفعل](1) قضاء أيضًا.

وتوضيحه: أن الأداء لمّا كان عبارة عن الفعل الواقع في الوقت المقدر شرعًا كُلًا أو بعضًا مخصوصًا: كالركعة على ما سبق، فالقضاء ضد الأداء، فبالضرورة يكون عبارة عن الفعل الواقع خارج ذلك الوقت المذكور كُلًا أو بعضًا؛ أي: لا يقع كله في ذلك الوقت، [ولا ذلك البعض المذكور.

قوله: "استدراكًا لما سبق له مقتضى".

احتراز عما إذا أدى الصلاة في الوقت] (2)، ثم أعادها خارجه جماعة، أو صلاها قضاء ثم صلاها جماعة؛ إذ لا تسمى قضاء؛ لعدم الاستدراك، كما لا تسمى إعادة.

وعبر بالمقتضى ليشمل المندوب، فإن النوافل الموقتة كما تسمى أداء إذا وقعت في الوقت، تسمى قضاء إذا وقعت خارج الوقت، على ما هو المختار، خلافًا للشيخ ابن الحاجب والشارح المحقق (3).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

قال ابن الحاجب: "والقضاء ما فعل بعد وقت الأداء استدراكًا لما سبق له وجوب مطلقًا" فقال العضد في شرحه: "فخرج ما فعل في وقت الأداء، وإعادة المؤداة خارج وقتها، وما لم يسبق له وجوب كالنوافل" المختصر مع شرح العضد: 1/ 232 - 233.

ص: 283

وقوله: "مطلقًا"، تنبيه على أنه لا يشترط الوجوب على المستدرك، بل يكفى تقدم السبب سواء كان واجبًا على المستدرك، كمن ترك صلاة عمدًا، أو لم يجب، مع إمكان الأداء: كصوم المسافر والمريض، أو لا يمكن: كصلاة النائم والمغمى عليه، فإن الفعل منهما -والحالة هذه- محال عقلًا، أو يمكن عقلًا، ويمتنع شرعًا: كصوم الحائض.

قوله: "والمقضِيُّ المفعولُ"، تعريض بابن الحاجب كما سبق التنبيه عليه.

فإن قلت: على ما ذكرتم من أن الأداء هو الفعل الواقع في الوقت المقدر شرعًا، فلم تسمون الحج الذي يأتي به الفسد في القابل قضاء، مع أن الحج وقته العمر كله؟

قلت: لمّا شرع فيه وتلبس بأفعاله تضيق عليه الوقت، وذلك كما إذا تلبس بأفعال الصلاة، مع أن الصلاة واجب موسع يتضيق عليه الوقت.

ومن هذا التقرير انحل شبهة أخرى، وهي أن الحج والصلاة كل منهما من قبيل الموسع، فلِمَ عصى (1) بالموت في أثناء وقت الحج بدونه، ولم يعص بالموت في أثناء وقت الصلاة بدونها تأمل؟

(1) مذهب الجمهور على أنه لم يمت عاصيًا، وعليه، فلا يكون آثمًا؛ لأنه أخَّرَ ما له تأخيره، وذهب آخرون إلى أنه يموت عاصيًا، واختاره الجويني وأبو الخطاب وغيرهما. راجع: البرهان: 1/ 247 - 248، والمسودة: ص / 41، والفروع لابن مفلح: 1/ 293، والقواعد لابن اللحام: ص /76.

ص: 284

وقد ذكر بعض الشارحين (1) هنا كلامًا يتعجب منه، وهو أنه شرح البعض في قول المصنف في تعريف الأداء بالركعة على ما قررناه، ثم [قال] (2): هنا كلامًا حاصله: أن القضاء هو الفعل الواقع خارج الوقت أو بعضه، ولو كان ذلك البعض أكثر من ركعة، فورد عليه أنك قلت: إن إدراك الركعة إدراك للصلاة، فأجاب: بأن ذلك فيمن زال عذره: كالجنون، وقد بقى من الوقت ركعة.

وكل هذا سهو ظاهر؛ إذ مسألة العذر غير مسألة الأداء، وهي: أن يزول العذر، وقد بقي من الوقت قدر ركعة أو تكبيرة، وخلاء المكلف عن العذر بقدر ما يسع تلك الصلاة تجب تلك مع ما قبلها إن أمكن الجمع، وإلا فهى فقط.

فالكلام هنا في الوجوب، سواء صلاها أو لم يصلها أبدًا، أو صلاها كلها خارج الوقت، والمسألة الأولى مطلقة فيمن أدرك [الوقت](3) قدر ركعة، أي: دخل في الصلاة وتلبس، وأوقع ركعة في الوقت الشرعي، والباقي خارجه، فأين إحدى المسألتين من الأخرى؟ والله أعلم.

قوله: "والإعادة فعله: إلى آخره".

(1) القائل هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 111.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 285

أقول: قد تقدم أن الإعادة عند المحققين من قبيل الأداء، وأن الأداء له فردان:

أحدهما: الواقع في الوقت مستجمعًا للشرائط والأركان.

والآخر: هو الواقع في الوقت مع كونه مسبوقًا بأداء مختل.

قوله: "وقيل: لعذر"، في تعريف الإعادة هو الذي فعل ثانيًا لعذر، وهذا أعم لشموله الخلل وغيره من فضيلة الجماعة، ولمّا كان شأن الخلل معلومًا بما تقدم فرَّع على التعريف الصلاة المكررة، فإنها معادة لعذر الجماعة، وإنما لم يقيد التكرير بالجماعة للعلم به إذ لا قائل بأن الصلاة الخالية عن الخلل بدون درك الجماعة تعاد.

قال بعض الشارحين: "الخلل فوات شرط أو ركن، كالصلاة مع النجاسة، أو بدون الفاتحة سهوًا"(1).

قلت: قوله: "سهوًا"، سهو منه إذ الحكم لا يتفاوت في (2) ترك الفاتحة بالسهو والعمد إجماعًا.

وقد سبق إشارة إلى أن عند المصنف الأقسام متباينة (3)، وأن الإعادة قسيم الأداء لا قسم منه؛ لأنه آخره عن القضاء وإن احتمل أن يجعل

(1) القائل هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 117 - 118.

(2)

آخر الورقة (13/ ب من أ).

(3)

جاء في هامش (أ): "لكن من علم مواقع استعمال الإعادة في كلام الفقهاء ظهر له أن الخلل المراد في تعريف الإعادة خلل يكون مرتكبه معذورًا فيه كما يشير إليه كلام الشارح، وصرح به الآمدي في الأحكام"، وانظر الإحكام للآمدي: 1/ 82.

ص: 286

قسمًا منه بأن يقال: لم يقيد الأداء بأن لا يكون مسبوقًا بخلل لكن خلاف الظاهر، ومن ادعى ظهور العكس (1)، فقد عكس الظاهر.

قوله: "والحكم الشرعي إن تغير".

أقول: هذا تقسيم آخر للحكم بالنظر إلى موافقة الدليل وعدمه.

والرخصة -لغة-: السهولة واليسر (2).

واصطلاحًا: هو الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر (3).

ثم قول المصنف: "إن تغير إلى سهولة أولى من قول غيره"(4): هو ما جاز فعله مع قيام السبب، لشموله الترك كأكل الميتة وقصر الرباعي، وكذلك تبديل السبب بالمحرم لعمومه، فخرج من الرخصة الحكم الثابت ابتداء لعدم التغيير، وخرج ما نسخ حكمه لعدم قيام السبب للحكم

(1) قال الزركشي: "واعتبار المصنف الوقت في الإعادة يقتضي أنها قسم من الأداء لا قسيمه، وهو ما صرح به الآمدي خلافًا لما وقع في عبارة المنهاج والتحصيل" تشنيف المسامع: ق (10/ أ- ب).

(2)

راجع: المصباح المنير: 1/ 223، والقاموس المحيط: 2/ 304.

(3)

راجع تعريف الرخصة اصطلاحًا: أصول السرخسي: 1/ 117، والمستصفى: 1/ 98، والروضة: ص / 32، والإحكام للآمدي: 1/ 101، وشرح تنقيح الفصول: ص / 85، ونهاية السول: 1/ 120، والموافقات: 1/ 205، وكشف الأسرار: 2/ 298، والقواعد لابن اللحام: ص / 115، والتلويح على التوضيح: 2/ 128، والتقرير والتحبير: 2/ 146، وتيسير التحرير: 2/ 228، وحاشية البناني: 1/ 120.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الإمام في المحصول هـ"، وانظر المحصول: 1/ق/1/ 154.

ص: 287

الأصلي، وخرج ما خص من العام -أيضًا- لأن التخصيص هو بيان أن المخرج لم يكن داخلًا تحت الحكم، وخرج -أيضًا- وجوب الإطعام في كفارة الظهار عند فقد الرقبة؛ لأنه عند فقدها واجب ابتداء، كما أن الإعتاق هو الواجب ابتداء على واجدها، وكذا خرج التيمم على فاقد الماء؛ لأنه الواجب في حقه بخلاف التيمم للجرح ونحوه (1).

ثم الحكم الذي وصف وهو المسمى بالرخصة، تارة يكون واجبًا كأكل الميتة، ومندوبًا كالقصر إذا بلغ السفر ثلاث مراحل (2)، ومباحًا

(1) لأنه ينطق عليه تعريف الرخصة الذي ذكره الشارح فيما سبق.

(2)

اختلف العلماء في المسافة التي تقصر فيها الصلاة إلى أقوال متعددة: فذهب الأحناف إلى أنها تقصر إذا بلغ السفر ثلاث مراحل كما ذكر الشارح، وفي ذلك إشارة إلى أنه قام بهذا الشرح بعد أن صار حنفيًّا، وهذا المذهب مروي عن عبد الله بن مسعود، وسويد بن غفلة، والشعبي، والنخعي، والحسن بن صالح، والثوري.

وذهبت المالكية في رواية، والشافعية، والحنابلة، وإسحاق، وأبو ثور والزهري إلى أنه لا يجوز القصر في أقل من مرحلتين، وهو ثمانية وأربعون ميلًا، وهي رواية عن أبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، وفي رواية عن الإمام: عدم التحديد، بل بمجرد خروجه عن القرية له القصر.

وقال الأوزاعي وآخرون: يقصر في مسيرة يوم تام، قال ابن المنذر: وبه أقول، وهي رواية عن الشافعي، ومالك، وأحمد.

وقال داود وأصحابه: يقصر في طويل السفر وقصيره، عملًا بإطلاق النصوص دون التقييد بمسافة معينة.

راجع: شرح فتح القدير: 2/ 27 - 28، والمدونة الكبرى: 1/ 118، وبداية المجتهد: 1/ 167 - 168، والمجموع للنووي: 4/ 325، والمعني لابن قدامة: 2/ 255.

ص: 288

كالسلم (1)، [وخلاف الأولى كفطر مسافر لم يتضرر بالصوم](2)[وتمثيل المصنف -للمباح- بالسلم](3) أولى من تمثيل ابن الحاجب والبيضاوي بفطر المسافر (4)؛ لأنه إن أريد بالمباح ما سبق في تقسيم الحكم، وهو الذي يتساوى طرفا الفعل والترك [فيه](5)، فلا يستقيم فطر المسافر مثالًا (6) له؛ لأنه إن لم يتضرر فالصوم أولى، وإن تضرر فالفطر، وإن أريد به أعم، وهو ما أذن الشارع في تركه في الجملة اندرج تحته المندوب، والجواب (7): بأنه أريد به فطر المسافر مطلقًا مع قطع النظر عن التضرر، وعدمه لا يجدي نفعًا.

(1) السَّلم -لغة-: التقديم والتسليم، وهو لغة أهل العراق، والسلف لغة الحجاز واصطلاحًا: بيع موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلًا، وهو مشروع إلا عند ابن المسيب، واتفقوا على أنه يشترط فيه ما يشترط في البيع.

راجع: سبل السلام: 3/ 49، والتعريفات: ص/ 120، ونيل الأوطار: 5/ 226.

(2)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 7، والابتهاج: ص / 22، ونهاية السول: 1/ 123.

(5)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب).

(6)

في (ب): "مثاله"، والأوضح ما ذكر من (أ).

(7)

جاء في هامش (أ، ب): "الجواب للشيخ عز الدين الحلوائي رحمه الله هـ".

قلت: وهو يوسف بن الحسن بن محمود، السرائي الأصل، ثم التبريزي، ويعرف بالحلوائي عز الدين، فقيه، أصولي، محدث، مفسر، تتلمذ على القاضي عضد الدين وغيره، له مؤلفات منها: شرح المنهاج للبيضاوي، وتوفي سنة (802 هـ).

راجع: الضوء اللامع: 10/ 309، وشذرات الذهب: 7/ 21، ومعجم المؤلفين: 13/ 292.

ص: 289

ثم في تمثيل المصنف -أيضًا- بحث؛ لأن كون السلم رخصة ممنوع.

قال الغزالي في "المستصفى": "قد يقال: إن السلَم رخصة؛ لأن عموم النهى في حديث حكيم بن حزام (1) عن بيع ما ليس عنده (2) يوجب حرمته، وحاجة المفلس اقتضت الرخصة، ثم قال: ويمكن أن يقال: افتراق البيع والسلَم في الشرط لا يلحق أحدهما بالرخصة (3)، فقول الراوي: نهى عن بيع ما ليس عند الانسان، وأرخص في السلَم تَجَوُّز في الكلام"(4).

(1) هو حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد، أبو خالد القرشي، أسلم يوم الفتح وحسن إسلامه، وغزا حنينًا والطائف، وكان من أشراف قريش وعقلائها ونبلائها، وكانت خديجة عمته، والزبير بن العوام عمه رضي الله عنهم جميعًا، حدث عنه ابناه هشام الصحابي وحزام، وعبد الله بن الحارث بن نوفل وسعيد بن المسيب وعروة وموسى بن طلحة وغيرهم، وكان علامة بالأنساب، فقيه النفس كبير الشأن، يبلغ عدد مسنده أربعين حديثًا، له في الصحيحين أربعة أحاديث متفق عليها، عاش مائة وعشرين سنة، وتوفي سنة (54 هـ).

راجع: طبقات خليفة بن خياط: ص / 13، وأسد الغابة: 2/ 45، والاستيعاب: 1/ 320، والإصابة: 1/ 349، وتهذيب ابن عساكر: 4/ 413، والجمع بين الصحيحين: 1/ 105، وتهذيب التهذيب: 2/ 447، والعقد الثمين: 4/ 221.

(2)

لفظ الحديث عن حكيم بن حزام قال: يا رسول الله، يأتيني الرجل، فيريد منى البيع ليس عندي، أفأبتاعه له من السوق؟ فقال:"لا تبع ما ليس عندك".

راجع: مسند أحمد: 3/ 402، وسنن أبى داود: 2/ 254، وتحفة الأحوذي: 4/ 430، وسنن النسائي: 7/ 289، وسنن ابن ماجه: 2/ 16.

(3)

لأن السلَم عقد آخر، فهو بيع دين، وذلك بيع عين، فافترقا.

(4)

راجع: المستصفى: 1/ 99.

ص: 290

قلت: ويؤيده ما قاله ابن عباس (1) رضي الله عنهما في تفسير آية المداينة (2) - وهو أنه -تعالى- لمّا حرم الربا أباح السلَم، ويؤيده -أيضًا- اتفاق الفقهاء على أن السلَم نوع من البيع، والرخصة (3) لا تكون نوعًا من العزيمة (4).

(1) هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم حَبْر الأمة، وترجمان القرآن، وأحد الستة المكثرين من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:"اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل" وتوفي بالطائف سنة (68 هـ).

راجع: الإصابة: 2/ 330، وأنساب الأشراف: 3/ 27، ونسب قريش: ص/ 26، وجمهرة أنساب العرب: ص/ 19، والمعرفة والتاريخ: 1/ 241، والحلة السيراء: 1/ 20، المطالب العالية: 4/ 114، وخلاصة تهذيب الكمال: ص / 220.

(2)

في (أ، ب): "آية المزابنة" والصواب المثبت، وقد روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس قال:"أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمًّى أن الله قد أحله وأذن فيه"، ويتلو هذه الآية:{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [البقرة: 282]، فابن عباس يرى أن آية الدين نزلت في السلَم إذا كان بكيل معلوم إلى أجل معلوم، وهو ترجمان القرآن.

راجع: جامع البيان: 3/ 77، وتفسير ابن كثير: 1/ 335، وفتح القدير للشوكاني: 1/ 304.

(3)

آخر الورقة (13/ ب من ب).

(4)

يرى العبادي أن اعتراض الشارح على مثال المصنف للرخصة بالسلم غير مسلم؛ لأن كلام ابن عباس في الرخصة بالمعني اللغوي لا الاصطلاحى، إذ هو كان قبل وجود الاصطلاح الأصولي، ولأن قول ابن عباس أباح السلَم صادق بإباحته بعد حرمته، أو على خلاف الدليل، أما البيع الذي اتفق العلماء على أن السلَم نوع منه ليس هو العزيمة، بل الأعم، وإنما العزيمة هي البيع الذي يباين السلَم ولا يتناوله، ثم نقل الإجماع على تسمية السلَم رخصة عن القرافي والأسنوى، وهما هما.

راجع: الآيات البينات: 1/ 181.

ص: 291

هذا، وكلام الجمهور ظاهر في أن ما عدا الرخصة من الأحكام عزيمة.

وقال بعض المتأخرين (1): لا يوصف الحكم بالعزيمة، ما لم يقع في مقابلة الرخصة، والله أعلم.

قوله: "والدليل" إلى قوله: "والحد".

أقول: الدليل -لغة-: المرشد، أي: الدليل هو الشئ الدال، وهو الذي ينصب ما فيه دلالة، وكذلك العالم بما فيه دلالة بكسر اللام، والعالم بفتحها، وهو الذي نصب للدلالة.

واصطلاحًا: ما أشار إليه بقوله: "ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري (2) كالعالم للصانع"، وأشار بلفظ الإمكان إلى أن النظر فيه بالفعل لا يشترط؛ لأن حدوث العالم دليل الصانع، نظر فيه أو لم ينظر، وقيد النظر بالصحيح إذ النظر الفاسد لا يوصل إلى مطلوب، وهذا واضح في نظر فاسد المادة والصورة، أو فاسد الصورة وحدها، فإنه لا يفيد قطعًا، وأما إذا كان فاسد المادة دون الصورة، فهو مستلزم؛ لأن الكواذب إذا صحت صورتها تستلزم المطلوب،

(1) جاء في هامش (أ، ب): "وهو العلامة التفتازاني قدس الله روحه هـ".

وراجع رأيه في التلويح على التوضيح: 2/ 127.

(2)

راجع تعريف الدليل: المصباح المنير: 1/ 199، والحدود للباجي: ص / 37، واللمع: ص / 3، وشرح العضد على المختصر: 1/ 39 - 40، والتعريفات: ص / 104، وشرح الورقات للمحلي: ص/25.

ص: 292

وقد بين كيفية تركيب الكواذب (1) للاستفتاح في المنطق، وقيد المطلوب بالخبري إخراجًا للمعرف، فإن المطلوب فيه تصوري.

والنظر: هو الفكر، وقيل: النظر ملاحظة الفكر (2)، والفكر: هو حركة النفس في المعقولات من المطالب إلى المبادئ لطلب علم أو ظن، وإن كانت في المحسوسات تسمى: تخيُّلًا، ثم منها إلى المطالب، كما إذا توجهت النفس إلى إثبات حدوث العالم، فالمطلوب الذي هو حدوث العالم هو مبدأ الحركة الأولى التي تشبه الحركة الهابطة، فإذا ابتدأت منه، وأخذت في طلب المقدمات الموصلة إلى ذلك المطلوب وحصلت المقدمات عندها، فقد تمت الحركة الأولى، فإذا شرعت في ترتيبها، فذلك هو ابتداء الحركة الثانية التي تشبه الحركة الصاعدة، ففى الأولى تحصل مادة الفكر، وفي الثانية تحصل صورة الفكر، فتلزم النتيجة على ما سنشير إليه عن قريب.

مثال ذلك -في المطلوب المذكور-: أن تنظر في العالم وتراه متغيرًا ظاهرًا، وقد ثبت أن كل متغير حادث لعدم تطرق الحدوث إلى القديم، فنقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث، ثم يجب أن تعلم

(1) الكواذب: هي المقدمات الفاسدة لعدم مطابقتها للواقع أو عدم مناسبتها للمطلوب مثل أن يكون المطلوب: العالم حادث، فيوضع مكان الدليل: الإنسان متعجب، وكل متعجب ضاحك، أو الإنسان متغير، وكل متغير حادث.

راجع: شرح المقاصد: 1/ 251 - 254، والآيات البينات: 1/ 188، والمواقف: ص / 22.

(2)

راجع تعريفات النظر: اللمع: ص / 3، والمحصول للرازي: ص/ 6، والإحكام للآمدي: 1/ 9، وشرح تنقيح الفصول: ص / 429، وشرح المقاصد: 1/ 227.

ص: 293

أن قولنا: العالم دليل الصانع عند الأصوليين -إذ يمكن التوصل به، أي بالنظر في أحواله إلى وجود الصانع- نريد به قبل النظر فيه، وأما بعد النظر لا بد من مقدمتين صغرى تشتمل على موضوع المطلوب، وكبرى تشتمل على محموله: كما يظهر بأدنى تأمل في المثال المذكور، وإنما أطلق المصنف، ولم يقيد بالعلم كما فعله بعضهم (1) ليتناول الأمارة؛ إذ أدلة الفقه أمارات، فلا تفيد إلا الظن (2).

واختلف الفرق الثلاث، أعني: الأشاعرة، والمعتزلة، والفلاسفة (3) في حصول المطلوب بعد النظر الصحيح: هل هو واجب عقلًا لا يجوز تخلفه عن ترتيب المقدمتين على الوجه المعتبر، أم لا؟

قالت الأشاعرة: يجب عادة (4) لا عقلًا؛ إذ لا وجوب ولا إيجاب على الله تعالى، والمطالب، الحوادث كلها مستندة إليه ابتداء واختيارًا، إن

(1) هو الإمام الرازي حيث قال: "وأما الدليل، فهو الذي يمكن أن يتوصل بصحيح النظر إلى العلم" المحصول: 1/ ق/1/ 106.

(2)

تقدم الكلام على هذه المسألة ص/214.

(3)

الفيلسوف -باليونانية-: هو محب الحكمة قولية كانت أو فعلية، فالقولية: هي كل ما يقوله العاقل بالحد أو ما يجري مجراه، مثل: الرسم، والفعلية: هي كل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية، والفلاسفة: هم القائلون بقدم العالم وحشر الأرواح دون الأجسام.

راجع: الملل والنحل: 2/ 85.

(4)

ومعناه: أن الله أجرى عادته بخلق العلم عقب النظر المخلوق له أيضًا، كخلق الإحراق عند مماسة النار، مع جواز تخلف حصول العلم عن النظر، كجواز تخلف الإحراق عن المماسة المذكورة.

راجع: حاشية البناني على شرح الجلال: 1/ 130.

ص: 294

شاء فعل، وإن لم يشأ لم يفعل، لكن جرت عادته بأن يفيضى على نفس المستدل -بعد النظر الصحيح مادة وصورة- مطوبه الذي توجه إلى تحصيله.

والمعتزلة: ذهبت إلى حصوله بالتوليد، والتوليد: هو أن يُوْجِد وجودُ شيء وجودَ شئ آخر كالنظر هنا، فإنه وُجد من الناظر بلا واسطة، وبواسطته تولد منه المطلوب، فالنظر فعل الناظر مخلوق له من غير واسطة [والنتيجة الحاصلة بعد فعله بواسطة، فيسمى توليدًا] فعندهم كل فعل صدر عن الحيوان بلا واسطة] (1)، يسمى مباشرة، وكل فعل احتاج في صدوره إلى واسطة توليد (2).

وذهبت الفلاسفة إلى اللزوم العقلي، أي: بعد اشتمال النظر على الشرائط المعتبرة (3) لا يجوز التخلف بوجه؛ لما تقرر عندهم من أن المبدأ تمام الفيض والنفس بواسطة المقدمات المرتبة المشتملة على شرائط مادة وصورة قد استعدت لقبول الفيض، فلا يجوز التخلف إذ لا مانع من الطرفين (4).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (1) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع الرد عليهم وإبطال مذهبهم: المحصول للرازي: ص / 66.

(3)

النظر الصحيح له ثلاثة شروط: الأول: أن يكون الناظر كامل الآلة، الثاني: أن يكون نظره في دليل لا في شبهة، الثالث: أن يستوفي الدليل ويرتبه، فيقدم ما يجب تقديمه، ويؤخر ما يجب تأخيره.

راجع: اللمع: ص /3، والكاشف عن المحصول: 1/ق/ 2/ 126.

(4)

يعني: أن النظر عند الحكماء علة مؤثرة بالذات في حصول العلم عقبه.

ص: 295

والجواب: أن المختار لا يجب عليه شيء، وقد أثبتنا في محله أنه مختار تعالى (1) وتقدس (2).

[ومما يجب التنبه له أن المعتزلة، وإن قالوا بالتوليد لكن وافقوا الفلاسة](3)؛ إذ التوليد لازم للمباشرة، كحركة المفتاح لحركة اليد.

واعلم أن كلام المصنف منظور فيه من وجهين: الأول: أنه لم يذكر العِلْم في تعريف الدليل ليشمل الأمارة على ما ذكرناه، ثم أفرد ذكر العلم، وقال: هل العِلْم عقيبه مكتسب؟ وكان المناسب أن يقول: هل الحاصل؟

الثاني: أنه لا خلاف عندهم في أن العلم الحاصل، أو الظن بعد النظر في الدليل مكتسب؛ لأن كل استدلالي كسبي، ولا عكس.

وما نقل عن بعض المشايخ (4) أن العلم الحاصل بعد النظر ضروري، معناه: أنه لا تأثير لقدرة العبد فيه لأنه لا يحتاج إلى الكسب؛ إذ كل نظري كسبي إجماعًا، ولا عكس.

(1) في (ب): "أنه تعالى مختار وتقدس" والأولى تركيبًا ما ذكر من (أ).

(2)

آخر الورقة (14 / ب من أ).

(3)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

هذا هو المذهب الرابع في المسألة، وسبق ذكر المذاهب الأخرى، وصاحب هذا القول هو الإمام الرازي حيث قال:"مسألة: حصول العلم عقيب النظر الصحيح بالعادة عند الأشعري، وبالتوليد عند المعتزلة، والأصح الوجوب لا على سبيل التولد، أما الوجوب، فلأن كل من علم أن العالم متغير، وكل متغير ممكن، فمع حضور هذين العِلْمين في الذهن يستحيل أن لا يعلم أن العالم ممكن، والعلم بهذا الامتناع ضروري" المحصل ص/66. =

ص: 296

وفى بعض الشروح هنا كلام غريب، وهو أن الظن كالعلم في الاكتساب دون اللزوم والعادة؛ إذ لا ارتباط بين الظن وبين شَئ آخر (1)، ولم يدر أن النتيجة لازمة للمقدمتين سواء كانتا ظنيتين، أو قطعيتين؛ لأن العلم بالمطلوب من القطعيات عند الأشاعرةِ لمَا كان بخلق الله تعالى عادة، فكما أنه جرت عادته بخلق العلم في القطعيات، فكذلك الظن في الظنيات، وقد اشتبه عليه أحد المذهبين بالآخر، فإن حصول المطلوب لما كان على وجه اللزوم والوجوب عند الفلاسفة، ففى الظنيات لا لزوم عندهم لابتنائه على اللزوم العقلي، وأما في العاديات (2) لا فرق.

= ومما سبق يتبين أن الإمام الرازي وافق الأشعري في كونه من فعل الله تعالى ووافق المعتزلي في أنه واجب الوقوع بعد النظر، وخالف الأشعري في قوله ليس بممتنع أن لا يخلقه، وخالف المعتزلي في أنه من فعل الناظر، واستدل على الوجوب بالمثال الذي ذكره، وقد ذكر البناني المذاهب الأربعة ثم قال:"ومذهب الإمام الرازي هو المختار عند الجمهور".

راجع: حاشية البناني على شرح الجلال: 1/ 130، وتشنيف المسامع: ق (11/ ب) وشرح المقاصد: 1/ 236 - 240، والمواقف: ص / 23.

(1)

المراد به هنا الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 131 - 132.

(2)

أورد العلامة العبادى اعتراض شارحنا على الجلال المحلي ثم رد على الشارح بأن العلم لا يتخلف عن النظر المؤدي إليه أصلًا لأن النظر قطعى التادية والقطعى لا يعارضه شئ، فلا يتخلف عن العلم إلا خرقًا للعادة، أما الظن فإنه يتخلف عن النظر المؤدى إليه لأنه ظني التأدية، فيمكن معارضته بقطعى أو ظني، وعليه فكلام الإمام المحلي سليم، ولا غبار عليه.

انظر: الآيات البينات: 1/ 191 - 193، فقد أسهب وأطنب في مناقشة الكوراني والرد عليه.

ص: 297

واعلم أن كلام الآمدي (1) يشعر باللزوم العقلي (2)، وقد صرح به الإمام في "المحصل"(3)، وليس بشئ؛ لأنه قد ثبت أنه تعالى فاعل بالاختيار، ولا لزوم مع الاختيار.

فإن قلت: لم لا يجوز أن يجعل متعلق الاختيار الملزوم، وكلما وُجد الملزوم وُجد اللازم: فيتجه ما قالوا؟

قلت: كما ثبت أنه مختار ثبت أن الأشياء كلها مستندة إليه ابتداء، فيجب استناد وجود اللازم إليه اختيارًا ابتداء، فلا يتم اللزوم العقلي.

(1) هو علي بن علي، أبو الحسن سيف الدين الآمدى الأصولي، المتكلم أحد أذكياء العالم ولد بآمد وقرأ بها، وحفظ كتابًا في مذهب الإمام أحمد، ثم قدم بغداد، فقرأ فيها القراءات، وسمع الحديث على أبى الفتح بن شاتيل، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وتفنن في علم النظر، وأحكم الأصلين والفلسفة وسائر العقليات ثم دخل مصر، وتفرغ للتدريس والإقراء، وتخرج به جماعة، ثم قدم حلب فأقام بها، وقد أخذ عنه العلم أصولًا، وكلامًا، وخلافًا العديد من العلماء، له مؤلفات منها: الإحكام في أصول الفقه، والأبكار في أصول الدين، وغاية المرام في علم الكلام، وغاية الأمل في علم الجدل، ودقائق الحقائق في الفلسفة وغيرها، وتوفي بحلب سنة (631 هـ).

راجع: مرأة الجنان: 4/ 73، ووفيات الأعيان: 3/ 293، والعبر: 5/ 124، وطبقات السبكي: 8/ 306، وطبقات الأسنوى: 1/ 124 - 125، والبداية والنهاية: 13/ 140، ولسان الميزان: 3/ 134، وحسن المحاضرة: 1/ 541، وشذرات الذهب: 5/ 144، ومفتاح السعادة: 2/ 171، وكشف الظنون: 1/ 17.

(2)

راجع: الإحكام له: 1/ 9.

(3)

واختاره إمام الحرمين، والكيا وغيرهما.

راجع: المحصل للرازي: ص/ 66، وتشنيف المسامع: ق (11 / ب).

ص: 298

وإنما أطنبنا الكلام في هذا المقام؛ لأنه من مزالِّ أقدام الأفاضل، والله الموفق.

قوله: "والحد" إلى قوله: "والكلام في الأزل".

أقول: الحد -لغة- المنع.

واصطلاحًا عند الأصوليين: هو الجامع المانع، أي: الشامل لجميع أفراد المحدود، المانع لدخول أفراد غيره فيه، ولا نظر عندهم في كون المعرف ذاتيًّا، أو عرضيًّا أو مركبًا منهما.

ويقال: -للتعريف-: المانع، الجامع، المطرد، والمنعكس، فالطرد: راجع إلى كونه مانعًا؛ لأن معناه: كلما وجد الحد وجد المحدود، فهو مطرد، أي: مانع عن دخول غير أفراد المحدود، والعكس: هو عكس الطرد المذكور عرفًا؛ أي: كلما وجد المحدود، وجد الحد (1).

وبعضهم (2) أخذه من عكس الإثبات الذي هو النفى، أي: كلما انتفى الحد انتفى المحدود، فقد حكم بما ليس بمحدود على كل ما ليس

(1) كقولهم: الإنسان حيوان ناطق، فهذا الحد صحيح؛ لأنه جمع ومنع، فلو جمع ولم يمنع كقولهم: الإنسان حيوان، أو منع ولم يجمع كقولهم: الإنسان رجل لم يكن صحيحًا لعدم الاطراد في المثال الأول، وعدم الانعكاس في المثال الثاني، ومن شرط الحد أن يكون مطردًا، أي: مانعًا ومنعكسًا، أي: جامعًا كما ذكر الشارح رحمه الله.

(2)

هو الإمام ابن الحاجب حيث قال -بعد تعريف الحد، والرسم-:"وشرط الجميع الاطراد، والانعكاس، أي: إذا وجد وجد، وإذا انتفى انتفى".

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص / 6، وانظر: تشنيف المسامع: ق (11 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 136.

ص: 299

بحد، والمآل واحد، وقد استوفينا الكلام في بحث الحد في تعريف الأصول، فراجعه (1)، والله أعلم.

قوله: "الكلام في الأزل".

أقول: اختلف في الكلام في الأزل، أي: المعني القديم القائم بذاته -تعالى- هل يسمى خطابًا، أم لا؟ وهذا بحث لفظي؛ إذ هو مبني على تفسير الخطاب، وقد سبق منا إشارة إليه (2)، وهو أن من فسر الخطاب بتوجيه الكلام نحو الغير للإفهام يسميه خطابًا (3)، ومن فسره بالكلام الموجه نحو المتهيئ للإفهام فلا؛ لأن حاصل المعنى الأول أنه الذي شأنه أن يفهم في الجملة، وحاصل الثاني أنه الذي أفهم إذ اسم (4) الفاعل حقيقة في الحال، فيلزم أن يكون في الأزل مفهمًا بالفعل، وهو محال.

(1) تقدم ص / 193 - 199.

(2)

تقدم ص/214 - 218.

(3)

وهو مذهب المتأخرين من المتكلمين، لكن بشرط حدوث المخاطب، وهو المحكي عن الأشعري لأن الأمر أمر لنفسه، والصفات النفسية لا تتجدد، ومن ثم قال الأشعري: إن المعدوم مأمور بالأمر الأزلى على تقدير الوجود.

والمذهب الثاني في تفسير الخطاب هو للمتقدمين، وإنما يسمى بذلك فيما لا يزال عند وجود المخاطب، ولا تتغير بذلك صفته في نفسه، فعلى هذا كل خطاب كلام، ولا ينعكس؛ لأن كلامه في الأزل ليس بخطاب.

راجع: الإبهاج: 1/ 151، ونهاية السول: 1/ 207، وتشنيف المسامع: ق (12/ أ).

(4)

آخر الورقة (14/ ب من ب).

ص: 300

ويتفرع على كونه خطابًا في الأزل كونه حكمًا فيه، فحيث لا خطاب لا حكم؛ هكذا قيل (1).

وأقول: التعريف الثاني لا يصح على مذهب الأشعري القائل بقدم الحكم وتنوعه إلى أمر ونهي في الأزل؛ إذ يستحيل أن يكون أمرًا في الأزل ويكون خطابًا، وما ذكره بعض الشارحين (2) من أن الأصح أنه خطاب حقيقة بتنزيل المعدوم منزلة الموجود فشئ لا يعقل، ولا يلتفت إليه (3).

(1) جاء في هامش (أ، ب): "قائله المولى المحقق عضد الملة والدين هـ" وانظر شرحه على مختصر ابن الحاجب: 1/ 221.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "المحلى" وراجع شرحه على جمع الجوامع: 1/ 138.

(3)

قلت: لم ينفرد الجلال المحلي بهذا، بل قاله غيره، وهو اختيار المصنف، وقد رد العبادي على الشارح: بأنه لا مانع من تنزيل المعدوم منزلة الموجود وخطابه، فقد وجد الخطاب بالفعل بعد هذا التنزيل، فيكون خطابًا حقيقة، والمجاز إنما هو في التنزيل، وكون الخطاب حقيقة لا يستدعى وجود المخاطب حقيقة، أي: وجوده بالفعل، بل يكفي تقدير وجوده.

وذكر العطار أن كلامه مبني على أن الاستعارة من قبيل المجاز العقلي، وأن اللفظ مستعمل في حقيقته، فبعد جعل المشبه هو المشبه به يكون اللفظ مستعملًا فيما وضع له.

قلت: وهذا خلاف الحق وتَجَوُّز حقيقة؟ إذ كيف تكون التسمية المبنية على تأويل، لأنه حينئذ يكون خطابًا بتأويل أن من يخاطب كمن خوطب، والأولى أنه إن فسر الخطاب بالكلام الذي علم أنه يفهم سمي خطابًا بالفعل، وإن فسر بما أفهم بالفعل فلا، لذا قال الشارح: إنه بحث لفظي مبني على تفسير الخطاب، وهذا هو الذي مال إليه العضد، وقرره شيخ الإسلام الشربيني، والكمال ابن أو شريف واختاره العطار.

راجع: شرح العضد: 1/ 227، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (32/ب) والآيات البينات: 1/ 202، وتقريرات شيخ الإسلام الشربيني: 1/ 180، على المحلي، وحاشية العطار عليه أيضًا: 1/ 180.

ص: 301

فإن قلت: الذي علم من كلامك أن مذهب الأشعري قدم الحكم لكونه قائلًا بقدم الكلام، وقِدم الكلام وإن لم يستلزم قِدم الحكم، والخطاب لجواز كون الكلام قديمًا، وهما حادثان بحدوث التعلق، لكن إجماع الأشاعرة على أن الحكم خطاب الله، وكلاهما قديم، وعند الأشعري أن القدرة على الفعل معه زمانًا، وإذا كان المكلف معدومًا في الأزل، وقد حكم عليه فيه، فيلزم أن تكون جميع التكاليف واقعة بدون القدرة.

قلت: التحقيق -في هذا المقام- أن التعلق بين الحكم وبين فعل المكلف تعلقان: عقلي، وهو أن زيدًا إذا وجد وبلغ إلى حد معلوم، وهو حد البلوغ، فهو مأمور بالصوم مثلًا، فإذا وجد بالفعل وبلغ الحد المذكور توجه إليه الخطاب بإيقاع الفعل، وهذا التكليف التنجيزي هو الذي يستلزم القدرة مع الفعل لا العقلي، وبما قررناه زال إشكال آخر، وهو أن كلامه في الأزل صفة واحدة، فلو كان الحكم قديمًا لزم التعدد ضرورة أن الأحكام متعددة؛ لأن ذلك التعدد إنما هو بالنسبة إلى التعلق، وذلك حادث فيما لا يزال، فاندفع الإشكال، والله أعلم بحقيقة الحال.

والذي ذهب إلى عدم تنوعه في الأزل له دليل إلا أن هذه الأقسام حادثة لتوقف الأمر على وجود المأمور لعدم تعقله بدون المأمور، وقد عرفت تحقيقه بما لا مزيد عليه.

قوله: "والنظر الفكر".

أقول: هذا التعريف للقاضى أبي بكر الباقلاني، وعبارته: النظر الفكر الذي يطلب به علم أو ظن.

ص: 302

قال الآمدي (1): فُسر النظر بالفكر، ثم عرفه تنبيهًا على اتحادهما معنًى عند المنطقيين، واستبعده المحققون إذ لم يعهد مثله في التعريفات.

قيل (2): تفسيره بأنه الذي يطلب به علم أو ظن ينتقض بالقوة العاقلة وسائر آلات الإدراك لصدقه عليها.

قلت: المتبادر من باء السببية: السببية القريبة، فلا انتقاض، ولو حمل في عبارة المصنف الفكر على التفسير كان الانتقاض ظاهرًا لعدم الباء.

قيل (3): الظن الغير المطابق: جهل، فلا يطلب، والمطابق، أي: ما علم مطابقته علم، فذكرُ الظن مستدرك.

أجيب (4): بأن المطابق قد يطلب لا من حيث الجزم، بل من حيث الرجحان فلا محذور.

(1) ذكر الآمدي تعريف القاضي للنظر في كتابه الإحكام: 1/ 9، وأما قوله: فسر النظر بالفكر

إلخ، فلعله ذكره في كتابه أبكار الأفكار بدليل أنه قال -بعد التعريف الذي نقله عن القاضي-:"غير أنه يمكن أن يعبر عنه بعبارة أخرى لا يتجه عليها من الإشكالات ما قد يتجه على عبارة القاضي على ما بيناه في أبكار الأفكار".

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "قائله العلامة التفتازاني هـ"، وانظر حاشية التفتازاني على شرح العضد: 1/ 46، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 189، وعليه العطار.

(3)

صاحب القول هو العلامة التفتازاني، راجع حاشيته على شرح العضد: 1/ 46.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "الجواب الأول للعلامة التفتازاني هـ"، وراجع حاشيته على شرح العضد: 1/ 46.

ص: 303

قلت: الأحسن والأوجه منع الحصر وإبداء شق ثالث، وهو أن المطلوب هو المشعور به بوجه ما، وليس معلومًا لا مطابقته ولا لا مطابقته، فتطلب مطابقته مع الرجحان، لا مع الجزم بحسب المقام، وهو الظن، والمآل واحد، وقد استوفينا الكلام فيما يتعلق بالنظر والفكر في مباحث الدليل بما لا مزيد عليه (1)[فراجعه](2)، والله الموفق.

قوله: "والإدراك" إلى قوله: "والعلم".

أقول: الإدراك -لغة-: الوصول يقال: أدركت الثمرة: إذا بلغت حد الكمال ورتبة (3) الانتفاع بها.

واصطلاحًا: انتعاش [النفس](4) بالصورة الحاصلة فيه بعد ما لم تكن حاصلة، وهو ومطلق التصور مترادفان (5)، فإن قيدنا بعدم الحكم كان تصورًا ساذجًا، وإن قيدنا بالحكم كان تصديقًا، فالتصور: هو إدراك الشئ سواء كان بكنهه أو بوجه.

(1) تقدم ص/292 - 295.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

آخر الورقة (15/ ب من أ).

(4)

سقط من (1) وأثبت بهامشها.

(5)

إذ الإدراك يعني: تمثيل حقيقة الشئ وحده من غير حكم عليه بنفي أو إثبات، وهذا هو معنى التصور، أما إذا حكم بالنفي أو الإثبات فيكون تصديقًا، كما ذكر الشارح.

ص: 304

وما قيل (1): إن وصول النفس إلى المعنى إن لم يكن بتمامه يسمى شعورًا لا يوافق كلام المنطقيين (2)، والمصنف ماش على اصطلاحهم، فقول المصنف: الإدراك بلا حكم تصور فيه حزازة لإيهامه أنه إذا لم يقيد بعدم الحكم لا يطلق عليه التصور (3).

(1) القائل هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 146.

(2)

وقد رد العبادي على الشارح اعتراضه على المحلي بأنه لا يسلم عدم موافقة كلام المحلي لكلام المنطقيين، بل هو ناقل عن غيره، وثقة في نقله، ولا يشترط أن يوافقهم جميعًا، بل يكفى موافقته للبعض، بل لو سلمنا عدم موافقته لهم فلا يضر ذلك.

قلت: ما ذكره الإمام المحلي من التفرقة نقلت عن الإمام الرازى وغيره اعتبارًا منهم أن أول مراتب وصول النفس إلى المعنى شعور، فإذا حصل وقوف النفس على تمام ذلك المعنى، فتصور، لكن هذا لا يوافق اصطلاح المناطقة، كما ذكر العلامة الكوراني في اعتراضه؛ لأن الإدراك عندهم يشمل ما بالكُنْه وما بالوجه، فلو حمل الوصول إلى تمام المعنى على الأول خرج الثاني، فلو أن الجلال المحلي جعل قيد التمام لبيان كمال المناسبة بين المعنى اللغوى والمعنى العرفي، والكمال للإيضاح لا للاحتراز لوافق اصطلاح الجمهور، وعلى ما سبق يظهر أن اعتراض الشارح على الجلال له وجه.

راجع: الفروق اللغوية ص/72، وحاشية التفتازاني على العضد: 1/ 63، والتعريفات: ص/14، والآيات البينات: 1/ 212 - 213، وحاشية العطار مع شرح المحلي: 1/ 191، وتقريرات شيخ الإسلام الشربيني: 1/ 190.

(3)

لأن التصور قد يكون مجردًا عن الحكم بنفي أو إثبات، وقد يكون مشتملًا على الحكم؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره، فكل تصديق تصور، وليس كل تصور تصديقًا.

راجع: حاشية التفتازاني على العضد: 1/ 63، والآيات البينات: 1/ 213.

ص: 305

ثم التصديق إن كان جازمًا ثابتًا لموجب (1) فعلم، ولموجب إما حسن، أو ضرورة، أو عادة (2).

أو دليل قطعي، وإن لم يوجد موجب مع الحكم الجازم، فذلك الحكم اعتقاد إما صحيح: كاعتقاد المقلد بأن الوتر (3) سنة اعتقادًا جازمًا مطابقًا للواقع، أو فاسد: كاعتقاد الفلاسفة قِدم العالم.

(1) يعني سببًا يقتضيه بأن يخلقه الله تعالى عنده للعبد لا بمعنى التأثير أو التولد، كما هو مذهب الفلاسفة والمعتزلة.

(2)

الموجب بالحس: كالحكم الحاصل بالمشاهدات، وهو أقسام منه ما يدرك بالحواس الظاهرة، والثاني: ما يدرك بالحواس الباطنة، ومنها الوهميات، والثالث: ما تدركه نفوسنا، والأخيران يسميان: وجدانيات، وأما الموجب بالضرورة، فإن كان حكمه بواسطة النظر يسمى: الحكم نظريًّا، وإن كان بمجرد تصور الطرفين سميت القضايا المحكوم فيها أوليات: كالواحد نصف الاثنين، وقد يكون الحكم بواسطة لا تغيب عن الذهن، وهي القضايا التي قياساتها معها كقولنا: الأربعة زوج، وأما الموجب بالعادة، فهو ما يوجد دائمًا أو غالبًا عند وجود شيء آخر: كالإسهال من شرب السقمونيا، وهي لا تستقل بالحكم، بل لا بد فيها من انضمام الحس إليها، فإن كان السمع، فهي المتواترات لأن العادة تحيل تواطؤ المخبرين على الكذب، ويندرج تحت العادة المجربات والحدسيات.

راجع: مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 1/ 89 - 90، وحاشية العطار على شرح الجلال: 1/ 197، وشرح المقاصد: 1/ 212 - 213.

(3)

مذهب الجمهور أن الوتر سنة مؤكدة، وليست واجبة، ولا فرضًا، واختاره من الحنفية أبو يوسف ومحمد بن الحسن.

وذهب أبو حنيفة إلى أن الوتر واجب، وروي عنه القول بالفرضية، قال ابن المنذر:"لا أعلم أحدًا وافق أبا حنيفة في هذا". =

ص: 306

والحكم الغير الجازم إما راجح، أو مساو، أو مرجوح، فالأول: الظن، والثاني: الشك، والثالث: الوهم، ولمّا كان المقسم هو التصديق، -والتصديق: إما نفس الحكم، أو الحكم جزؤه (1)، فلا ينفك عنه- توجه الاعتراض: بأن الشك: عبارة عن تساوي الطرفين، والوهم: هو الظن المرجوح الذي هو أبعد من الشك، فكيف يجوز تقسيم التصديق إليها ضرورة وجود المقسم في الأقسام؟ وهذا سؤال مشهور.

= وقد استدل كل فريق بأدلة على ما ذهب إليه ليس محل ذكرها هنا، غير أن ما استدل به الإمام الأكبر من الأدلة قد ضعفت من خلال سندها، وبقيت أدلة الجمهور صريحة وصحيحة.

راجع: سنن أبي داود: 1/ 327 - 328، وسنن الدارقطني: 2/ 30، ونصب الراية: 2/ 108، وبلوغ المرام: ص/76، وتلخيص الحبير: 2/ 16، وطريق الرشد: ص 68 - 69، وشرح النووي على مسلم: 1/ 169، 6/ 17، وفتح البارى: 3/ 130. وانظر الأقوال فيها في كتب الفقه: الأم: 1/ 125، والمدونة الكبرى: 1/ 126، وبداية المجتهد: 1/ 89، والمغني لابن قدامة: 2/ 159، والمجموع للنووى: 4/ 19، وشرح فتح القديرـ: 1/ 423، وكتاب الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 335 - 336.

(1)

ففى قولك -مثلًا-: زيد قائم اشتمل على تصورات أربعة هي: تصور الموضوع، وهو زيد، وتصور المحمول، وهو قائم، وتصور النسبة بينهما، وهو تعلق المحمول بالموضوع، وتصور وقوعها، فالتصور الرابع يسمى: تصديقًا، والثلاثة قبله شروط له، وهذا مذهب الحكماء، ومذهب الإمام الرازى أن التصديق هو التصورات الأربعة، فعلى ما تقدم يكون التصديق بسيطًا على مذهب الحكماء، ومركبًا عند الإمام، والحكم نفس التصديق عند الحكماء، وجزء منه على مذهب الإمام.

راجع: المحصل للرازى: ص /5، وحاشية الشريف على العضد: 1/ 86، وتشنيف المسامع: ق (13/ أ) وشرح السُّلَّم للأخضري: ص/25، وإيضاح المبهم: ص/6، والمنطق المفيد: ص/ 105.

ص: 307

وما نقل عن إمام الحرمين (1) والغزالي -رحمهما الله-[قالا](2): إن الشك اعتقادان (3)، ليس ظاهرًا؛ لأن الشك لا إذعان فيه لأحد الطرفين، وكون الشك مشتملًا على حكم، خلاف المنقول والمعقول، فإن صح هذا النقل عنهما (4)، فتأويله: أن الشك يحتمل كلًّا من الاعتقادين بدلًا عن

(1) عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن حيويه، أبو المعالي الجويني الشافعي، الملقب بضياء الدين، المعروف بإمام الحرمين، ولد سنة (419 هـ)، نشأ في بيت علم وفضل، ثم خرج إلى الحجاز، وجاور بمكة وبالمدينة أربع سنين يدرس ويفتي، فلذلك قيل له: إمام الحرمين، تتلمذ عليه الجم الغفير كالغزالي وغيره، له مؤلفات نافعة منها: نهاية المطلب، والشامل في أصول الدين، والبرهان، والتلخيص في أصول الفقه، وتفسير القرآن، ومدارك العقول، والإرشاد، وغياث الأمم في الإمامة، وغيرها، وتوفي بالمحفة من قرى نيسابور سنة (478 هـ).

راجع: اللباب: 1/ 315، والمنتظم: 9/ 18، ووفيات الأعيان: 2/ 341، والعبر: 3/ 197، وتاريخ دول الإسلام: 2/ 80، ومرآة الجنان: 3/ 123، والبداية والنهاية: 12/ 128، وطبقات السبكي: 3/ 249، وطبقات الأسنوي: 2/ 70، وتبيين كذب المفتري: ص/278، والنجوم الزاهرة: 5/ 121، وطبقات ابن هداية الله: ص / 114.

(2)

ما بين المعكوفتين من (ب).

(3)

الذي نقل كلام الجويني والغزالي، هو الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 153 - 154.

(4)

قلت: وقد صح النقل عنهما، قال إمام الحرمين:"والشك والظن يترددان بين معتقدين، وهو -أي العلم- بخلافهما في ذلك، فلا يبقى إلا النظر في عقد يتعلق بالمعتقد على ما هو به"، وقال الغزالي:"فوجه تميز العلم عن الاعتقاد هو أن الاعتقاد معناه: السبق إلى أحد معتقدي الشاك، مع الوقوف عليه إلا أن الجزم منتف عنه" البرهان: 1/ 20، والمستصفى: 1/ 25 - 26.

ص: 308

الآخر (1)، وهذا التأويل لا يدفع الإشكال عن كلام المصنف؛ لأنه جعل التصديق المشتمل على الحكم مقسمًا، بل الجواب: ما أشار إليه أفضل المتأخرين (2) في بعض كتبه الكلامية- أن ذكرهما ليس من حيث إنهما من أقسام التصديق، بل لأن امتياز أقسامه موقوف عليهما إذ لا تمتاز الأقسام على الوجه الأكمل إلا بملاحظتهما، فأوردهما في معرض التقسيم اعتمادًا على أن عاقلًا لا يقول -عند تساوي الطرفين، أو مرجوحية أحدهما-: إن المتساوي، أو المرجوح حكم.

قوله: "العلم

إلى آخره".

أقول: يريد أن يبين أحد الأقسام المذكورة، وهو الاعتقاد الجازم المطابق لموجب المسمى: بالعلم عندهم.

وحاصل ما ذكره المصنف ومن تقدمه أن في تصور ماهية العلم بكُنْه حقيقته خلافًا، ذهب إمام الحرمين وتبعه كثير من المحققين (3) إلى أنه ممكن،

(1) الاعتقاد يطلق -عند المنطقيين وغيرهم- على مطلق الإدراك، ومن الممكن حمله في عبارة الإمام والغزالي على ذلك؛ لأنه لا يصح جعل الشك قسيمًا للاعتقاد لما فيه من جعل القسم قسيمًا.

راجع: حاشية الجرجاني على العضد: 1/ 59 - 60، والآيات البينات: 1/ 221 - 222، وتقريرات الشربيني: 1/ 154.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الشريف الجرجاني حيث ذكر في هذا الكتاب".

وانظر: حاشيته على المختصر مع العضد: 1/ 61.

(3)

منهم الإمام الغزالي، فقد ذكر التعريفات وناقشها وردها، ثم اختار ما ارتضاه شيخه وأستاذه الجويني.

راجع: البرهان: 1/ 19، والمستصفى: 1/ 24، وشرح العضد على المختصر: 1/ 46.

ص: 309

ولكنه عسر جدًّا، وما نقل عنه -في وجه العسر- أن تحديد الماهيات الحقيقية والأشياء المحسوسة مشكل لالتباس الجنس بالعرض العام، والفصل بالخاصة (1)، فتعريف الإدراك بالطريق الأولى لخفاء الجنس والفصل فيه، ثم قال: فالوجه في ذلك أن تميز العلم عن غيره بالقسمة والمثال.

واعترض الآمدي بأن القسمة والمثال إن أفادا تمييزًا عن الغير، فذاك رسم له، وإلا فلا فائدة فيهما (2)، وهذا الكلام إنما يرد على الإمام أن لو نفى مطلق التعريف، بل إنما نفى تحديدًا يفيد معرفة كُنْهِ العلم والإحاطة بحقيقته، فكيف يرد عليه ما أورده؟ !

وقال الإمام: تارة ضروري فلا يحد، وتنزل تارة، وعرفه بأنه الحكم الجازم المطابق لموجب (3)، أي: لو كان كسبيًّا كذا كان يعرف، والتبس (4) هذا على بعض الناس، فقال:"وحده"، مع

(1) الخاصة: هو الذي يخص ماهية الشئ، ولا يشترك مع غيرها كالضاحك بالنسبة للإنسان.

راجع: معيار العلم: ص/77، وبحر العلوم: ص/77، وإيضاح المبهم: ص/7.

(2)

راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 9.

(3)

وتارة فسره بأنه حالة نفسية يجدها الحي من نفسه أبدًا من غير لبس ولا اشتباه، ونص على تعذر تعريفه بالحد والرسم.

راجع: المحصل: ص/ 144، ومعالم أصول الدين: ص/22، والمباحث الشرقية: 1/ 331، والمحصول: 1/ ق/1/ 102، والكاشف عن المحصول: 1/ ق / 1/ 98.

(4)

قلت: لا يسلم للشارح رحمه الله ما قاله من الالتباس على الجلال المحلي إذ هو المراد عنده ببعض الناس لأن المحلي قال -بعد الكلام الذي ذكره الشارح عنه-: "لأنه حده -يعني الإمام- أولًا بناء على قول غيره من الجمهور: إنه نظرى مع =

ص: 310

قوله: "إنه ضروري لكن بعد حده، فـ "ثم" هنا للترتيب الذكري لا المعنوي"، هذا كلامه، [فتأمله.

واستدل الإمام على بداهته بوجهين:

الأول: أن غير العلم إنما يعلم به، فلو علم العلم بغيره كان دورًا.

الثاني: أن كل أحد يصدق بوجوده، والتصديق المتعلق بوجوده أخص من مطلق التصديق، وإذا كان الخاص بديهيًّا، فالعام -أيضًا- كذلك، فعُلم أن ماهية العلم معلومة.

وأجيب -عن الأول-: بأن غير العلم تتوقف معرفته على حصول العلم، وتصور العلم يتوقف على تصور الغير، فلا دور.

وعن الثاني: بأن كل أحد يصدق بوجوده، ولكن لا يلزمه تصور ذلك التصديق حتى يلزم منه تصور العلم.

= سلامة حده عما ورد على حدودهم الكثيرة، ثم قال: إنه ضرورى اختيارًا، دل على ذلك قوله في المحصل: اختلفوا في حد العلم، وعندى أن تصوره بديهي، أي: ضروري، نعم قد يحد الضروري لإفادة العبارة عنه" يعني لإفادة الحد "العبارة" مصدر مضاف لمفعوله، وفاعله محذوف كما ترى، ومعنى هذا أن الشخص قد يعرف حقيقة الشيء ولا يحسن التعبير عنها، فيؤتى بالحد ليستفيد بذلك التعبير المذكور، فليس الحد المذكور حقيقيًّا لأن الحقيقة معلومة بدونه، فلا يكون منافيًا للبداهة.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 158 - 159، والآيات البينات: 1/ 224، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 159، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 207.

ص: 311

الحاصل: أن حصول الشئ لا يستلزم تصوره: كالجواد، فإن الجود موجود فيه، مع عدم تصوره إياه.

ثم قول المصنف: وقيل: ضرورممط لا يحد، فيه حزازة؛ لأنه يشعر بأن الإمام -مع كونه قائلًا بأنه ضروري- يُجوِّز تحديده وقد عرفت أنه ليس كذلك] (1).

قوله: "ثم قال المحققون: العلم لا يتفاوت"، أراد به إمام الحرمين (2) ومن تابعه؛ لأنهم ذهبوا إلى أن الاعتقاد الجازم المطابق لموجب -سواء كان ذلك الموجب عقلًا، أو عادة، أو حسًّا، أو دليلًا- لا يقبل التفاوت، ولو بأدني شيء، وإلا لم يكن يقينًا، والجلاء والخفاء الذي يوجد بين اليقينيات إنما هو من المتعلقات كقولنا: الواحد نصف الاثنين، فإنه أجلى من كون الكل أعظم من الجزء (3)، وفيما ذهبوا إليه نظر؛ لأن الإيمان تصديق خاص، مع أن مذهبهم أن نفس ذلك التصديق يزيد (4) وينقص من (5) غير انضمام شئ آخر إليه، وأيضًا تقسيم اليقين في الكلام القديم إلى علم اليقين، وإلى عين

(1) من بداية المعكوف الذي تقدم إلى هنا سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: البرهان: 1/ 136.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "ما ذكر من الجلاء والخفاء أولى مما ذكره المصنف؛ لأنه مبني على أن علم الإنسان واحد كعلم الله، وهو مذهب مردود هـ".

(4)

سيأتي الكلام على مسألة الإيمان في آخر الكتاب 4/ 292.

(5)

آخر الورقة (51/ ب من ب).

ص: 312

اليقين (1) فيه دلالة ظاهرة على تفاوت مراتب اليقين (2) كما صرح به بعض الفضلاء في تفسيره (3).

واعلم أن الصحيح والمختار أنه كسبي ويُعَرَّف، ولم يذكره المصنف، فكأنه يميل إلى أنه ضروري، أو عسر (4).

وأولى ما قيل في تحديده: صفة يتجلى (5) به المذكور، أو صفة توجب

(1) إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5 - 7].

(2)

مراتب اليقين ثلاث: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، وقد وردت كلها في القرآن الكريم كما سبق، ولقوله تعالى:{إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95].

فعلم اليقين: ما علمه الإنسان بالسماع والخبر والقياس والنظر.

وعين اليقين: ما شاهده وعاينه بالبصر.

وحق اليقين: ما باشره ووجده وذاقه وعرفه بالاعتبار.

راجع: مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 10/ 645 - 652.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "هو البيضاوى هـ"، وراجع تفسيره: 2/ 618، وتفسير الرازي: 16/ 79 - 80.

(4)

وهو كذلك لأنه اختار مذهب الجويني، والغزالي في ذلك.

راجع: تشنيف المسامع: ق (13/ أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 159.

(5)

جاء في هامش (أ، ب): "يحمل على التجلي التام، وهو الانكشاف الكامل، وهو العلم اليقيني هـ".

ص: 313

تمييزًا لا يحتمل النقيض، فيخرج الظن، والاعتقاد الجازم بدون موجب، والشك، والوهم، وهو ظاهر (1).

قوله: "والجهل".

أقول: عرف الجهل بتعريفين: أحدهما: انتفاء العلم بالمقصود، والثاني: تصور المعلوم على خلاف هيئته، فالأول هو الجهل المعروف بالبسيط، والثاني هو الجهل المركب.

وجه التسمية: أن في الأول شيئًا واحدًا حكم عليه بأنه جهل، وهو انتفاء العلم بما شأنه أن يعلم.

والثاني: مركب، قيل (2): لأنه مشتمل على جهلين؛ لكونه جاهلًا في الواقع، وجاهلًا بأنه جاهل.

(1) هذا هو المذهب الثالث في هذه المسألة، وقد اختلفوا في تعريفه، أعني: الذين قالوا: إنه كسبي، فعرفه القاضي والباجي بأنه معرفة المعلوم على ما هو به، وحده الشريف: بأنه الاعتقاد الجازم المطابق للواقع، وقد اختار الشارح تعريف الآمدي، وكلها أورد عليها اعتراضات.

راجع: الإنصاف للباقلاني: ص / 13، والمعتمد: 1/ 5، والحدود للباجى: ص/ 25، والإحكام للآمدي: 1/ 9 - 10. والمسودة: ص / 575، والمواقف: ص / 9، وشرح المقاصد: 1/ 189 وما بعدها، والتعريفات: ص / 155، والمحلى وعليه العطار: 1/ 51، والتقرير والتحبير: 1/ 40، وتيسير التحرير: 1/ 25، وشرح الكوكب المنير: 1/ 60، وإرشاد الفحول: ص/ 4، والمنطق المفيد: ص / 41.

(2)

القائل هو الجلال المحلى في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 163.

ص: 314

وهذا غير صحيح؛ لأن الجهل المركب هو اعتقاد ما ليس بواقع [واقعًا](1)، وما ذكره هذا القائل لا يستلزمه (2)؛ لأن الجهل يصدق بانتفاء العلم بالشئ (3)، مع عدم الاعتقاد بشئ، فتأمل!

بل الحق أنه مركب؛ لأن انتفاء العلم حاصل، فذاك جهل، واعتقاده أنه ليس بمنتف خلاف للواقع، فهو جهل آخر.

وقوله: "بالمقصود" أي: ما من شَأنه أن يُقصد ويتوجه ليعلم سواء كان العلم به ممكنًا، أو مستحيلًا.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

وقد وافق الكمال بن أبي شريف الشارح في تعريفه للجهل المركب الآنف الذكر.

راجع: الدرر اللوامع في تحرير جمع الجوامع ورقة (37 /أ).

(2)

يرى العبادي أن اعتراض الشارح على المحلي لا يسلم؛ لأن المحلي نقل نص من سبقه، كالتفتازاني والزركشى، وغيرهما.

قلت: يمكن أن يكون الخلاف في هذه المسألة لفظيًّا بحمل اعتراض الشارح على مسمى الجهل المركب بمجموع هذين الجهلين، كما فد يفهم ذلك من عبارة المحلي وغيره ممن سبقه؛ لأنه لا يعقل التركيب في الاعتقاديات، ويحمل كلام المحلي وغيره على ما ذكره الشارح نفسه من أن عدم العلم جهلٌ صحبَه جهل آخر وهو عدم علمه بأنه جاهل، وهذا ما صرح به الإمام الزركشي.

راجع: تشنيف المسامع: ق (13 /ب)، والآيات البينات: 1/ 228، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 213، وتقريرات الشربيني على المحلي مع حاشيه البناني: 1/ 163.

(3)

في (أ، ب): "بانتفاء العلم بانتفاء العلم بالشيء" مكررة لكن في (ب) أضرب عن الثانية وجعل عليها خطًّا إشارة إلى إلغائها.

ص: 315

وما قيل (1): إن قوله: "بالمقصود" يخرج ما لا يُقصد كأسفل الأرض، فإن انتفاء العلم به لا يسمى جهلًا، مما لا يساعده عقل ولا نقل (2).

وقول المصنف: تصور المعلوم يريد به (3) ما مَنْ شأنه أن يُعلم وإلا في الجهل لا علم، والله أعلم.

(1) جاء في هامش (أ، ب): "هو المحلي".

وانظر شرحه على جمع الجوامع: 1/ 165.

(2)

يرى العبادي -في رده اعتراض الكوراني على المحلي- أن العقل، وإن لم يساعد قول المحلي لم يساعد عليه، بل ليس للعقل دخل في الاصطلاحات، ولأن الجهل من أوصاف الذم، فيختص بما مَنْ شأنه أن يقصد لأن غيره لما تعذر أو تعسر الاطلاع عليه كان ذلك مظنة العذر في عدم إدراكه، فلا يذم به وبالتالي لا يسمى جهلًا، ولأن الشارح ثقة في نقله مشهورٌ بالتثبت والاحتياط في النقل لا سيما الاصطلاحيات، وهو ناقل في هذا عن غيره، وليس هناك دليل عقلي أو نقلي يبطل ما قاله، بل مجرد دعوى.

قلت: الذي يظهر لي -والله أعلم- أن اعتراض الشارح على الجلال له وجه؛ لأن ما تحت الأرض يدخل تحت تعريف مطلق الجهل، وما قاله العلامة العبادي من أن الجهل من أوصاف الذم ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل، لذا قال الإمام الزركشى:"وأما البسيط -يعني الجهل-، فهو عدم العلم فيما مَنْ شأنه أن يكون عالمًا سمى بسيطًا لأنه لا تركيب فيه، وإنما هو جزء واحد كعدم علمنا بما تحت الأرض، وما يكون في البحار، وغيره".

راجع: تشنيف المسامع: ق (13/ ب)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 165، والآيات البينات: 1/ 231، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 215.

(3)

آخر الورقة (16 /ب من أ).

ص: 316

وقوله: "على خلاف هيئته" أي: صفته، وأراد بالتصور المذكور التصديق؛ لأن تصور الشئ على خلاف صفته يستلزم الحكم عليه، كما ذكرنا أنه الاعتقاد الغير المطابق، ولا مناقشة في ذلك، إذ مطلق التصور مرادف للعلم بمعنى حصول الصورة [للشئ](1) في الذهن، فكما يصح إطلاق العلم على التصديق يصح إطلاق مرادفه عليه.

والسهو: هو الذهول عن المعلوم مع بقاء صورته المرتسمة في القوة الحافظة.

والنسيان: زوال صورته عن القوة [المدركة](2).

قوله: "مسألة الحسن المأذون".

أقول: الحسن والقبح -عند الأشَاعرة- لما لم يكونا ذاتيين لفعل المكلف، بل شرعيين -بمعنى أن ما ورد الشرع بتحسينه فهو حسن، وما لا فلا- اختلفت كلمتهم في تفسيرهما:

قال بعضهم: الحسن ما أمر الشارع بالثناء على فاعله، والقبيح ما أمر بالذم له، فالمباح وفعل غير المكلف غير حسن بهذا التفسير، وكذلك المكروه.

والقبيح: هو الحرام؛ إذ المراد أن الفعل الذي أمر بالثناء على فاعله يصلح أن يكون متعلق الثواب، والذي ذم فاعله يصلح أن يكون سببًا للعقاب.

(1) في (أ، ب): "الشئ".

(2)

في (أ، ب): "المذكورة" والمثبت هو المصحح في هامش (أ).

ص: 317

ومنهم من قال: ما لا حرج في فعله فهو حسن، وما فيه حرج فقبيح، فالمباح وفعل غير المكلف والمكروه حسن؛ لانتفاء الحرج منها، وفعل الله حسن بالتفسيرين، وكلام المصنف لا يوافق شيئًا من المذهبين؛ إذ المكروه على التفسيرين إما حسن، أو واسطة، وقد أدخله المصنف مع خلاف الأولى في القبيح، وما نقله عن إمام الحرمين دال على أن المختار عنده هو التفسير الأول.

وقد سبق في بحث الأحكام تحقيق معنى الحسن والقبح بما لا مزيد عليه، فراجعه (1).

قوله: "مسألة: جائز الترك ليس بواجب".

أقول: قد سبق في تعريف الحكم، وتقسيمه أن الوجوب عبارة [عن](2) اقتضاء الفعل مع عدم جواز الترك، يعني: ماهيته مركبة من هذين الأمرين، والمركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، فلا يعقل أن يكون جائز الترك واجبًا، وقد خالف في ذلك الكعبي (3) من المعتزلة وبعض الفقهاء.

(1) تقدم ص/225 - 232.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

هو عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي البلخي، أبو القاسم رأس طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية، له آراء خاصة انفرد بها في علم الكلام والأصول، له مؤلفات في علم الكلام، توفي سنة (319 هـ) وقيل:(317 هـ).

راجع: التبصير في الدين: ص/84، واعتقادات فرق المسلمين والمشركين: ص / 43، والبداية والنهاية: 11/ 164، وشذرات الذهب: 2/ 281، والفتح المبين: 1/ 170.

ص: 318

أما شبهة الكعبي، فهى أن ترك الحرام واجب، والمباح مما يحصل به ترك الحرام، فيكون واجبًا (1).

قيل له: إن المباح ليس متعينًا لذلك؛ لأنه يحصل بالواجب والمندوب أيضًا.

قال: فليكن من الواجب المخير كخصال الكفارة.

قيل له: معارض بالإجماع، فلا يلتفت إليه.

قال: دليلي قطعي يجب تأويل الإجماع بالنظر إلى ذات الفعل لا إلى ما يستلزمه من ترك الحرام.

وقال بعض الأفاضل (2): الجواب الذي لا محيد عنه هو أن ما لا يتم الواجب إلا به لا يلزم أن يكون واجبًا شرعيًّا، بل قد يكون أمرًا عقليًّا، والمباح بالنظر إلى ترك الحرام كذلك.

وفيه نظر؛ إذ الكعبي يدعي أن المباح -الذي تعلق به الإباحة التي هي أحد الأحكام الشرعية- هو في ماصدقات الواجب الشرعى، وفرد من أفراده، فكيف يسلم ما ذكره هذا الفاضل؟

وأقول: التحقيق -في هذا المقام- هو أن ترك الحرام له معنيان:

أحدهما: عدم ارتكاب الحرام الذي لا تأثير للنفس فيه، كما يظهر ذلك في النائم، أي المعنى العدمي.

(1) بناء على قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "هو الشيخ عز الدين الحلوائي عليه الرحمة هـ".

ص: 319

والثاني: كف النفس عند القدرة على المحرم، واجتماع الأسباب، وهذا القسم هو المتنازع فيه، كما ظهر من تعريف المحرم بأنه ما يعاقب فاعله ويثاب تاركه ضرورة أن الثواب إنما يترتب على الفعل الاختياري المقرون بالقصد والنية؛ على ما صرح به قوله عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم:"إنما الأعمال بالنيات"(1)، والإلزام أن يكون النائم مثابًا على ترك جميع المحرمات، ولم يقل به أحد.

فإذا تقرر هذا، فنقول: ذلك [الكف](2) واجب لثبوت استلزامه الثواب، وليس بمباح؛ لأن المباح لا ثواب فيه، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.

وأما قول الفقهاء: إن الصوم يجب على الحائض والمسافر والمريض، أو على المسافر دون الحائض والمريض؛ لكون عذرهما غير اختيارى، فلهم على ذلك دليلان ضعيفان: أحدهما: أن شهود الشهر موجب للصوم؛ لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهو ممن شهد الشهر.

الجواب: أن الموجب إنما يوثر عند ارتفاع الموانع، ألا ترى أن الصبي والمجنون ممن شهد الشهر، ولم يقل بالوجوب عليهما.

الثاني: وجوب القضاء على هؤلاء، فلو لم يكن الأداء واجبًا لما وجب القضاء.

(1) تقدم تخريجه ص/169.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 320

قلنا: قد حققنا في بحث الأداء والقضاء أن سبق الوجوب في الجملة كاف في لزوم القضاء، ولا يشترط الوجوب على القاضي، كما يظهر ذلك في من نام جميع الوقت، فإنه يجب عليه القضاء إجماعًا، مع أنه غير مكلف في ذلك الوقت إجماعًا؛ لأنه غافل، والغافل لا يكلف على ما سبق تحقيقه (1).

ثم قول الإمام الرازي: "إن الواجب أحد الشهرين على المسافر "(2).

إن أراد أن الواجب عليه ابتداء أحد الشهرين ليكون من قبيل الواجب المخير كخصال الكفارة على ما ذهب إليه بعض الشارحين (3)،

فليس كذلك (4)؛ لأن الصوم عزيمة، والإفطار رخصة (5).

وإن أراد أن الشرع أباح له الإفطار لعذر السفر، فليس في كلامه زيادة فائدة.

(1) تقدم ص /236 - 238.

(2)

راجع: المحصول: 1/ ق / 1/ 350 - 351.

(3)

هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 170.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "ولو كان من قبيل الواجب المخير لم يكن أحد الشهرين أداء، والآخر قضاء".

(5)

كون الصوم عزيمة، والإفطار رخصة لا ينافي تخييره بين الشهرين، وأن الواجب عليه أحدهما، بل الصوم الذي هو عزيمة هو أحد الشهرين عند الإمام.

راجع: المحصول: 1/ ق /2/ 350، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 170، والآيات البينات: 1/ 240، وحاشية العطار: 1/ 222.

ص: 321

وقد حكم المصنف بأن الخلف لفظي لعدم اختلاف الأحكام باختلاف عباراتهم.

قوله: "والمندوب مأمور به".

أقول: قد اختلف في أن المندوب هل هو مأمور به أم لا؟ بعد اتفاقهم على أنه ليس مكلفًا به.

ويجب أن يعلم أن الاختلاف إنما هو في لفظ الأمر المركب من الهمزة والميم والراء، لا في مسمياته التي هي صيغة أفعل ونظائرها، إذ لا مخالف في أن صيغة أفعل (1) لم ترد للندب، بل للإباحة أيضًا.

ومنشأ الخلاف: تفسير معنى لفظ: أمر الشارع بكذا، هل هو حقيقة في الإيجاب، أم للقدر المشترك؟

فمن ذهب إلى الأول: لا يسعه القول بأن المندوب مأمور به، ومن ذهب إلى الثاني فتناول الأمر للواجب والمندوب عنده لا يتفاوت، لأنه حقيقة فيهما.

قال الغزالي: المندوب مقتضى، لكن مع سقوط الذم عن تاركه، والواجب مقتضى، لكن مع ذم تاركه، ثم قال: وقال قوم: المندوب غير داخل تحت الأمر، وهو فاسد، واستدل على بطلانه (2).

(1) آخر الورقة (16/ ب من ب).

(2)

راجع: المستصفى: 1/ 75.

ص: 322

وهذا الكلام لا يدل على المقصود، وهو كون لفظ الأمر حقيقة في الندب على ما هو المتنازع فيه، لكن صرح في موضع آخر من "المستصفى" بأن لفظ الأمر مشترك بين الإيجاب والندب، فاستقام ما ذكره (1).

ولما كان معنى التكليف إلزام ما فيه كلفة، أي: مشقة لم يكن المندوب مكلفًا به خلافًا للأستاذ أبي إسحاق رحمه الله حيث قال: لما أمر به على وجه الطاعة، فقد كلف به.

قلنا: ممنوع؛ لأنه في سعة من تركه، فلا إلزام.

ونقل المصنف عن القاضي أبي بكر الباقلاني (2) أنه قائل: بأن المندوب والمباح مكلف به (3)، وزاد بعض الشارحين (4): المكروه -أيضًا- وذكر الأستاذ معه.

وأقول: إن صح هذا النقل عنهما (5) يؤول بأن مرادهما أن هذه الثلاثة من الأحكام الشرعية المعتبرة في معرض التقسيم؛ لأن كون الحكم الشرعي [عبارة](6) عن الإيجاب والتحريم مما لا سترة به ولا يخفى على أحد،

(1) راجع: المستصفى: 2/ 2.

(2)

آخر الورقة (17 / ب من أ).

(3)

تقدمت هذه المسألة مع بيان الخلاف فيها ومراجعها ص/ 249، 260.

(4)

هو الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 171.

(5)

قلت: وقد صح النقل عنهما كما تقدم ص / 260.

(6)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 323

بخلاف الأحكام الثلاثة إذ ربما تشتبه على من لا تحقيق عنده، ولا يظن بهؤلاء الأئمة أن يعتقدوا أن المباح والمكروه يلزم به المكلف، أو يطلب منه على وجه الطاعة؛ إذا التكليف لا يخلو عن أحدهما، والله أعلم.

قوله: "والأصح أن المباح ليس بجنس للواجب".

أقول: الإباحة الشرعية تباين سائر الأحكام الشرعية وجوبًا كان أو غيره، بل الأحكام الخمسة أنواع متباينة داخلة تحت مطلق الحكم، ومن ظن أنه جنس إنما نشأ وهمه من قصور النظر إلى جانب الفعل (1)، حيث رأى أن الوجوب يشتمل على الجواز بمعنى الإباحة الأصلية، فظن أن ذلك الجواز هو معنى الإباحة الشرعية، ولم يدر أنه لو كان جنسًا لزم جواز ترك كل واجب؛ لأن الإباحة تستلزم جواز الترك؛ لأن ماهيته مركبة من جواز الفعل والترك.

بيان اللزوم: أن الإباحة على تقدير أن يكون جنسًا لا يوجد واجب بدونه؛ لأن الجنس جزء، والكل بدون الجزء لا يوجد.

وإذا لزمت الإباحة الوجوب لزم المحال المذكور (2).

(1) هذا الأسلوب الشديد يستعمله الشارح غالبًا مع زميله في الطلب والدراسة جلال الدين المحلي رحمهما الله تعالى.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 172.

(2)

قلت: قد سبق المحلي إلى القول بأن المباح جنس للواجب بعض القدماء من الأصوليين، ولهذا أطال العبادي في إبطال اعتراض الشارح على المحلي، وعند النظر في هذه المسألة =

ص: 324

قوله: "وهو [غير] (1) مأمور به".

أقول: ذهب الجمهور إلى أن المباح ليس مأمورًا به، وخالفهم الكعبي.

استدل الجمهور: بأن الأمر طلب، والطلب يستدعي ترجيح المطلوب، والمباح لا ترجيح فيه لتساوي طرفي الفعل والترك فيه (2).

واستدل الكعبي: بأن المباح فعله يستلزم ترك الحرام، وترك الحرام واجب، فالمباح واجب.

= ينتهي الخلاف إلى أن لا خلاف؛ لأن الذين قالوا: إن المباح جنس للواجب يعنون به ما جاز الإقدام عليه، وهو بهذا المعنى يتناول الواجب، والمندوب، والمكروه، والمباح بالتفسير الخاص، ولا يخرج عنه إلا المحظور، والذين قالوا: إن المباح ليس جنسًا للواجب يعنون به المعنى الخاص الذي هو أحد الأحكام الخمسة، وهو المأذون في فعله وتركه شرعًا، وقد ذكر الخلاف الآمدي وابن عبد الشكور، وخرجا منه في نهاية المطاف إلى أن الخلاف لفظي.

راجع: المستصفى: 1/ 73، والكاشف عن المحصول: 8/ 202، 263، والإحكام للآمدي: 1/ 96، والعضد: 2/ 6، والمحلي: 1/ 172، وفواتح الرحموت: 1/ 113، وشرح الكوكب المنير: 1/ 423، وتقريرات الشربيني مع حاشية البناني على المحلي: 1/ 172، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 224.

(1)

سقط من (أ، ب) وأثبت بهامش (أ).

(2)

راجع: المستصفى: 1/ 74، والروضة: ص / 23، والإحكام للآمدي: 1/ 95، ومختصر الطوفي: ص / 29، وشرح العضد: 2/ 6، ونهاية السول: 1/ 140، وفواتح الرحموت: 1/ 113، وتيسير التحرير: 2/ 226، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 172، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 64.

ص: 325

وقال المصنف: الخلف لفظي، ولهذا قيده بقوله:"من حيث هو" احترازًا عن الاستلزام المذكور، وليس بشئ؛ لأنا لا نسلم اتصاف المباح بالوجوب في صورة من الصور، وقد سبق تحقيقه (1).

وما يظن من أن فعل المباح يستلزم ترك الحرام، فيكون واجبًا (2) غلط؛ لأن استلزام فعل المباح لا يلاحظ فيه كونه شرعيًّا، ألا ترى أن لو لم تكن الإباحة أمرًا شرعيًّا كان الاستلزام بحاله بلا تفاوت.

قوله: "وأن الإباحة حكم شرعي".

أقول: لمّا عرَّف الحكم الشرعي بأنه الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير، كان شموله للإباحة واضحًا إلا أنه لما كان مظنة أن يلتبس بالإباحة [الأصلية](3) الثابتة في الأشياء قبل البعثة أشار إلى أن الإباحة -التي هي أحد الأحكام الخمسة المشهورة- حكم شرعي؛ لأنه مستفاد من الشرع، وإن كانت أفعال العباد قبل الشرع لا مؤاخذة عليها لأن ذلك لا يسمى حكمًا شرعيًا عند الأشاعرة (4)، حتى الاعتقادات المطابقة للواقع لا تسمى أحكامًا

(1) تقدم بيان هذه المسألة وتحريرها ص/249.

(2)

ذكر هذا الجلال المحلي في صدد استدلاله للكعبي، وقد رد العبادي على الشارح اعتراضه على المحلي، في كتابه الآيات البينات: 1/ 246.

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

يعني بهم أهل السنة كافة لأن هذا مذهبهم جميعًا.

ص: 326

شرعية إلا إذا أخذت من الشرع، ومن لم تبلغه الدعوة ليس بمكلف بشئ من الأحكام (1).

وتوهم بعض المعتزلة أن الإباحة هي انتفاء الحرج من الفعل والترك، وذلك ثابت قبل الشرع، فلا يكون حكمًا شرعيًّا، وقد علم الفرق مما ذكرناه فتأمله!

قوله: "وإن الوجوب إذا نسخ بقي الجواز".

أقول: اختلفوا في أن الوجوب إذا نسخ هل يبقى الجواز، أم لا؟

فذهب الإمام الغزالي إلى عدم بقائه (2).

ولا بد -أولًا- من تحرير محل النزاع، وهو أن الجواز له معنيان:

أحدهما: عدم الحرج في الفعل الشامل للمندوب، والمباح، والمكروه.

(1) هذا عند أهل الحق خلافًا للمعتزلة، وقد تقدمت هذه المسألة ص 233 - 236.

(2)

بمعنى أنه لا يدل على الندب أو الإباحة، وإنما يرجع إلى ما كان عليه من البراءة الأصلية، أو الإباحة، أو التحريم؛ لأن اللفظ موضوع لإفادة الوجوب دون الجواز، وإنما الجواز تبع للوجوب إذ لا يجوز أن يكون واجبًا لا يجوز فعله، فإذا نسخ الوجوب وسقط سقط التابع له، وهذا نظير قولهم: إذا بطل الخصوص بقي العموم، وبهذا قال جمهور الأحناف وبعض الحنابلة واختاره ابن برهان.

راجع: المستصفى: 1/ 73، والمسودة: ص / 16، والقواعد لابن اللحام: ص / 163، ونهاية السول: 1/ 236، ومناهج العقول: 1/ 109، وفواتح الرحموت: 1/ 103، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 157.

ص: 327

الثاني: عدم الحرج في الفعل والترك، أي: الذي تساوى طرفاه [بإذن](1) الشارع الذي هو أحد الأقسام الخمسة، وهو الذي نفاه الغزالي؛ لأنه قال: الواجب لا يتضمن الجواز (2).

فإن حقيقة الجواز التمييز بين الفعل والترك، والتساوي بينهما بتسوية الشرع، ولا نزاع لأحد في ذلك إذ الجواز بهذا المعنى قسيم للواجب، فكيف يكون جزءًا منه؛ وأما الجواز بالمعني الأول، فهو جنس للواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه إذ كل من الأحكام المذكورة مركب من الجنس (3) المذكور، وفصل يميزه.

وقد علم أن المركب ينتفي بانتفاء أحد أجزائه، ولا يشترط انتفاء الأجزاء كلها.

فإذا نسخ الوجوب -أي: رفع عن المكلف لزوم الفعل الذي هو فصل الوجوب وحصل الإذن في الترك- بقى الجواز الشامل للمندوب والمباح والمكروه.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: المستصفى: 1/ 73 - 74.

(3)

هو الأذن في الفعل؛ لأنه قدر مشترك بين الإيجاب، والندب، والإباحة، وكل واحد منها إنما يوجد بفصله، وفصل الإيجاب المنع الجازم من الترك، فإذا ارتفع خَلَفه فصل آخر يقوم به الجنس، وإلا ارتفع الجنس، والفرض خلافه.

راجع: حاشية البناني على شرح الجلال المحلي: 1/ 174.

ص: 328

فقول المصنف: بقي الجواز، أي: عدم الحرج، يريد به المعنى الشامل للأحكام الثلاثة المذكورة، وهذا هو القول المنصور (1).

وأشار بعده إلى: "وقيل: الإباحة" إلى قول مزيف، وهو أن الجواز الباقي بعد النسخ- هو الإباحة الشرعية، وقد عرفت بطلانه.

وكذلك قوله: "وقيل: الاستحباب"، باطل بالدليل الذي ذكرنا في إبطال كونه إباحة.

ومن قال: بأن الباقي هو الاستحباب كأنه توهم أن الطلب الجازم إذا انتفى قد يكون انتفاؤه بانتفاء الجزم، مع بقاء الطلب الذي هو الندب، ولم يدر أنه إذا انتفى الجزم بالفعل حصل الإذن في الترك وشمل الأحكام الثلاثة.

وعورض هذا الدليل: بأن الجواز الذي هو جنس لو بقى بدون الفصل لزم تقوّم الجنس بدون الفصل، وهو محال.

وأجيب -أولًا- بالمنع، وثانيًا، ولئن سلّمنا عدم جواز تقوُّم الجنس بدون الفصل لكن لم يلزم ذلك من دليلنا.

(1) واختار هذا كثير من المحققين، وذهب آخرون إلى أنه يبقى الندب وقيل: الإباحة كما ذكر الشارح.

راجع: العدة لأبى يعلى: 2/ 374، والتمهيد لأبى الخطاب: 1/ 174، والمحصول: 1/ ق / 2/ 342، والمسودة: ص / 16، والقواعد لابن اللحام: ص / 163، ونهاية السول: 1/ 236، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص/157، وشرح الكوكب المنير: 1/ 431.

ص: 329

غايته: يتقوَّم -بعد النسخ- بفصل آخر، وهو عدم الحرج [في الترك](1) هذا، وقد اعترض بنسخ وجوب استقبال بيت المقدس، فإنه لم يبق بعد النسخ جواز (2).

وقد علم من تقريرنا جوابه حيث قلنا: انتفاء المركب تارة يكون بانتفاء جميع الأجزاء.

والقائلون ببقاء الجواز -بعد النسخ- يدعوا قضية كلية حتى يرد عليهم النقض.

قوله: "الأمر بواحد من أشياء

إلى آخره".

أقول: هذه مسألة الواجب المخير، وهي الأمر بواحد مبهم من أشياء معينة (3) مستقيم عندنا خلافًا للمعتزلة، واضطربت آراؤهم في ذلك.

(1) سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

قال في فواتح الرحموت: "نسخ الوجوب على أنحاء الأول: نسخه بنص دال على الإباحة والجواز كنسخ صوم عاشوراء، الثاني: نسخه بالنهي عنه كنسخ التوجه إلى بيت المقدس، فإنه منهى عنه، الثالث: نسخه من غير إبانة جواز وتحريم، ففى الأول الجواز بالنص الناسخ ثابت البتة، وفي الثاني لا جواز أصلًا بالإجماع، بقى الكلام في الثالث، وفيه خلاف، فعندنا لا يبقى وعند الشافعية يبقى" فواتح الرحموت: 1/ 103، وهو تحرير لمحل النزاع في المسألة كما ذكره الشارح سابقًا.

(3)

المراد بالتعيين هنا بالنوع لا بالشخص، فإن الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة المذكورات في كفارة اليمين قد عينت بنوعها لا بشخصها كما قال تعالى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89].

ص: 330

فقالت طائفة: الواجب واحد [معين عند الله، وهو الذي يأتي به المكلف ويختلف باختلاف المكلفين.

وقال بعضهم: الواجب واحد] (1)، ولا (2)[يختلف](3)، لكن يسقط بفعل الآخر أيضًا.

لنا: القطع بالجواز إذ لو قال الشارع: أوجبت عليك [واحدًا](4) من هذه الأمور -وأيًا فعلته فقد صادفت المراد، وإن تركت الكل توجه الذم عليك؛ لأنك لم تأت بذلك الواحد المبهم- لم يلزم منه محال.

والنص أيضًا قد دل على ذلك (5).

والإجماع على وجوب تزويج أحد الخاطبين الكفؤين من غير تعيين، وكذلك نصب أحد المستعدين للإمامة، والاجماع على أن التأثيم بترك واحد.

وقالت المعتزلة: الواجب الكل، ويسقط بفعل البعض كالواجب على الكفاية.

قلنا: الفرق بالإجماع على تأثيم الجميع هناك، وعلى التأثيم بترك واحد هنا؛ إذ القائل (6) بوجوب الجميع لم يخالف، فالإلزام لازم.

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

آخر الورقة (17/ ب من ب).

(3)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(4)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(5)

كما في كفارة اليمين التي سبق ذكرها قبل قليل في الآية الكريمة.

(6)

آخر الورقة (18/ ب من أ).

ص: 331

قالوا: غير المعين مجهول، فلا يتصور فضلًا عن الحكم عليه بالوجوب.

قلنا: مجهول شخصًا، معلوم جنسًا، وهو كونه واحدًا من الثلاثة، فصح أنه غير معين.

قالوا: لو كان الواجب غير معين، فإن وقع التخيير بينه وبين غيره كان التخيير بين الواجب وغيره، وإلا لزم اجتماع التخيير والوجوب في شيء واحد، وكلاهما باطل.

قلنا: منقوض بوجوب اعتقاد واحد من الجنس، وتزويج أحد الخاطبين.

والجواب الحاسم لهذه الشبهة: أن الواجب، وهو المبهم لم يقع فيه التخيير، والذي وقع فيه -وهو كل واحد من المعينات المردد فيها- ليس بواجب لأنه ينافي وصف التعيين.

قالوا: الآمر يجب أن يُعلم المأمور به.

قلنا: كذلك لكن كما أوجبه إن معيَّنًا فمعيَّنًا، أو مبهمًا فمبهمًا.

قالوا: علم في الأزل أن المفعول ماذا هو، فكان الواجب.

قلنا: من حيث إنه واحد من تلك الأمور، ولهذا ردد فيها، [وللقطع بأن الخلق في وجوبه شرع](1).

(1) هكذا العبارة في (أ) ولم أفهمها.

وفى (ب): "والقطع بأن الخلق في وجوبه شرع".

ص: 332

هذا تحقيق المسألة بما لا مزيد عليه، وشَرح كلام المصنف ظاهر مما قررناه إذ قوله:"يوجب واحدًا لا بعينه" إشَارة إلى المذهب المنصور (1).

وقوله: "قيل: الكل" إشارة إلى قول طائفة من المعتزلة.

وقوله: "وقيل: الواجب معين".

وقوله: "وقيل: ما يختاره المكلف" مذهبان آخران لهم، كما أشرنا إليه في صدر البحث.

وقوله: "وإن فعل [الكل] (2) قيل: الواجب أعلاها".

وجه ذلك: أن اللائق بالغِنى المطلق -تعالى وتقدس- أن يثيب كذلك لأن العبد الفقير قد أتى بالواجب وزيادة.

وإن ترك الكل، فعقاب أدناها بالدليل المذكور آنفًا.

(1) وهو مذهب الجمهور، ولا يتعين عندهم إلا بفعل المكلف، وقد حكي عن القاضي الباقلاني أن هذا المذهب أجمع عليه السلف وأئمة الفقه، خلافًا للمعتزلة كما سبق في الشرح.

راجع: المعتمد: 1/ 77، واللمع: ص / 9، والمستصفي: 1/ 67، والروضة: ص / 32، والإحكام للآمدي 1/ 76، والمسودة: ص / 27، وشرح العضد: 1/ 236، والتمهيد: ص / 79، ونهاية السول: 1/ 132، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 175، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 147.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 333

والحق: أن ما كان في علمه أن لو أتى به كان مسقطًا هو المثاب عليه والمعاقب به، فتأمل!

قوله: "ويجوز تحريم واحد لا بعينه".

أقول: قاس الأصحاب تحريم واحد لا بعينه على وجوبه كذلك، والدليل هو الدليل اعتراضًا وجوابًا، والمخالف هو المخالف، وهم المعتزلة (1) لكنهم لم يوجبوا الإتيان بالجميع في المسألة الأولى، وإن قالت طائفة بوجوب الجميع بسقوطه بفعل واحد منها، وفي هذه المسألة ذهبوا إلى وجوب ترك الجميع لاقتضاء النهى عن القُبح، وإن كان بصيغة التخيير احتياطًا، اللهم إلا أن يدل [دليل](2) على أن المراد منع الجمع، فيجوز فعل أحدهما (3).

قوله: "قيل: لم ترد به اللغة" إشارة إلى منع من جهة المعتزلة تقريره: أنكم ادعيتم أن النهى عن واحد لا بعينه جائز، وهي كمسألة المخير، ولا يستقيم قياسكم على ذلك، إذ في المخير ورد الأمر من الشارع بذلك،

(1) راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 114، والمسودة: ص / 81، وشرح العضد: 2/ 2، والقواعد لابن اللحام: ص/ 69 - 70، والتمهيد: ص / 79، وتيسر التحرير: 2/ 218، وشرح الكوكب المنير: 1/ 387.

(2)

سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(3)

قال القرافي: "المعنى بالنهي على الجميع، أي: كل واحد منهما منهى عنه، ومعنى النهي عن الجمع أن متعلق النهي هو الجمع بينهما، وكل واحد منهما ليس منهيًا عنه كالأختين، فإن كل واحدة منهما في نفسها ليست محرمة، بل المحرم هو الجمع فقط" شرح تنقيح الفصول: ص/172.

ص: 334

وفي النهي لا ورود للنهي من الشارع بذلك، ولا دل عليه اللغة إذ لم نجد في كلام العرب ما هو نص في ذلك.

وقوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الأنسان: 24] لتحريم كل واحد لا لواحد [لا بعينه](1)، وهذا الكلام منهم في غاية السقوط إذ الكلام في الجواز لا في الوقوع.

وما قاله بعضى الشارحين (2): إن الإجماع لمستنده صرفه عن ظاهره، ما له معنًى صحيح.

قوله: "مسألة فرض الكفاية

إلى آخره".

أقول: فرض الكفاية: هو الفعل الذي يجب ويحصل الغرض منه بفعل البعض (3).

(1) سقط من (ب).

(2)

هو الجلال المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 182.

(3)

الواجب الكفائي: هو الذي يتعلق بحميع المكلفين عند الجمهور، فالقادر عليه يقوم به بنفسه، وغير القادر يحث غيره على القيام به؛ لأن الخطاب موجه لكل مكلف، ولأن التأثيم يتعلق بالكل عند الترك لكنه يسقط بفعل البعض لحصول المقصود. قال الإمام الشافعي:"حق على الناس غسل الميت والصلاة عليه ودفنه، لا يسع عامتهم تركه، وإذا قام من فيه كفاية أجزأ عنهم إن شاء الله تعالى".

وقال الإمام أحمد: "الغزو واجب على الناس كلهم، فإذا غزا بعضهم أجزأ عنهم".

راجع: الأم: 1/ 243، والمسودة: ص / 30، والقواعد لابن اللحام: ص / 187.

ص: 335

قال الإمام في "المحصول": "الأمر إذا تناول جماعة إما أن يتناولهم على سبيل الجمع، أم لا، فإن تناولهم على سبيل الجمع إما أن يكون فعل بعضهم شرطًا في فعل البعض: كصلاة الجمعة، أو لا يكون كما في {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} (1) وإن تناول الجماعة لا على سبيل الجمع، فذلك من فروض الكفاية"(2).

ثم قال: "وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم يقوم به سقط الفرض عن كل واحد من تلك الطوائف"(3).

وإنما أوردنا كلام الإمام لتعلم أن ما نسبه إليه المصنف من أن مختاره الوجوب على البعض ليس كذلك، لأن كلام "المحصول" صريح في خلاف ذلك (4).

(1){وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].

(2)

وتمام كلامه: "وذلك إذا كان الغرض من ذلك الشيء حاصلًا بفعل البعض: كالجهاد الذي الغرض منه حراسة المسلمين وإذلال العدو، فمتى حصل ذلك بالبعض لم يلزم الباقين" المحصول: 1/ ق/2/ 310 - 311.

(3)

كلام الإمام قبل هذا: "واعلم أن التكليف فيه موقوف على حصول الظن الغالب فإن غلب على ظن جماعة أن غيرها يقوم بذلك سقط عنها، وإن غلب على ظنهم أن غيرهم لا يقوم به وحب عليهم، وإن غلب على ظن كل طائفة أن غيرهم لا يقوم به وجب على كل طائفة القيام به، وإن غلب

" إلى آخر ما ذكره الشارح، المحصول: 1/ ق / 2/ 311 - 312.

(4)

قلت: اختلفوا في مختار الإمام في هذه المسألة بناء على تفسير مقتضى كلامه الذي سبق ذكره، فقد جزم البيضاوى أن اختيار الإمام الوجوب على البعض وهو الذي =

ص: 336

ثم المذهب المنصور -وهو مختار الجمهور، وتبعهم والد المصنف- أنه واجب على الكل، ويسقط بفعل البعض (1).

والذي يدل على ذلك تأثيم الجميع إذا يأت به أحد منهم، إذ لا يعقل تأثيم من لا وجوب عليه.

واستبعد المخالف سقوط الواجب على عمرو بفعل زيد.

= أكده المصنف واختاره، وهذا ما أيده عن الإمام محقق المحصول، أما الزركشي فمرة ذكر بأن كلام الإمام في المحصول مضطرب، وأخرى ذكر بأن مقتضى كلام الإمام في المحصول: الوجوب على البعض، وذكر الشربيني عبارة الإمام في المحصول، ثم ذكر بأن كلام الإمام صريح في أن المخاطب البعض خلافًا لمن قال: إن عبارة المحصول تفيد الوجوب على الجميع.

والذي يظهر لي -والله أعلم- أن كلام الإمام محتمل لكلا القولين ولكنه إلى قول الجمهور أقرب؛ ولذا نقلت عبارته كاملة ليتبين بها ما اختاره، اللهم إلا أن يكون له رأي آخر في كتبه الأخرى غير المحصول.

راجع: المحصول: 1/ ق / 2/ 311 - 313، والإبهاج: 1/ 100، ونهاية السول: مع سلم الوصول: 1/ 196 - 197، وتقريرات الشربيني على المحلي: 1/ 184، وتشنيف المسامع: ق (16 / أ).

(1)

راجع: المستصفى: 2/ 15، والروضة: ص / 182، وشرح تنقيح الفصول: ص / 155، والمسودة: ص / 30، ومختصر ابن الحاجب مع العضد: 1/ 234، ونهاية السول مع سلم الوصول: 1/ 187، 194، 195، والقواعد لابن اللحام: ص / 187، وتشنيف المسامع: ق (16 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 184، وفواتح الرحموت: 1/ 63، وتيسير التحرير: 2/ 213.

ص: 337

قلنا: لا استبعاد؛ لجواز أداء دينه بغير إذنه.

قيل: كما وجب واحد مبهم من [خصال الكفارة، فليجب على واحد مبهم.

قلنا: الفرق ظاهر؛ لإمكان التأثيم على ترك واحد مبهم، وامتناع تأثيم واحد لا بعينه.

قالوا: قوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] صريح في البعض] (1).

قلنا: ظاهر قابَلَ قطعيّا يجب أن يؤول: بأن فعل الطائفة يُسقِط الوجوب عن الكل.

قيل: لو وجب على الكل توقف سقوطه عن الباقين على خطاب آخر، فيكون نسخًا.

قلنا: رفع تعلق الحكم لا يجب أن يكون بالناسخ؛ لجواز أن يَنْسِب الشارع أمارة على ذلك: كاحترام الميت بصلاة البعض، وحصول الأمن بجهاد طائفة، والاكتفاء في الأمور الشرعية بفقه طائفة من كل فرقة وبلدة.

ثم قد اختلف في أفضلية فرض العين، وفرض الكفاية:

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 338

فالذي ذهب إلى الأول: استدل باعتناء الشارع بفرض العين حيث أوجبه على كل مكلف (1).

ومن نحا إلى الثاني: رجحه بتأثيم الجميع بتركه وعموم نفعه لكافة المسلمين. والذي يقتضيه النظر الصائب: أنه ليس الأمر على إطلاقه، بل يتفاوت بحسب الفروض والمقام؛ إذ لا يخفى أن صلاة الجمعة، وصلاة الصبح أعظم شأنًا من الصلاة على مكاس (2)، أو مُدْمِنِ حمر.

قوله: "المختار: البعض منهم"، قد علمت أنه غير مختار نقلًا ودليلًا.

وقيل: معين، أي ذلك البعض عند الله، ويسقط بفعل غيره، نظيره أحد المذاهب المزيفة في الواجب المخير.

(1) واختار هذا المصنف، وتبعه المحلي وغيره، واختار الثاني؛ أعني تفضيل فرض الكفاية على العين الأستاذ أبو إسحاق وإمام الحرمين ورجحه النووى وغيره.

قلت: والتفصيل الذي اختاره الشارح رحمه الله هو إلى الظهور أقرب.

راجع: المجموع للنووي: 1/ 22، والقواعد لابن اللحام: ص/188 - 189، والتمهيد: ص / 75، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 183 - 184.

(2)

مكاس: صيغة مبالغة من اسم الفاعل، والمكس: الجباية وهو مصدر من باب ضرب، ويجمع على مكوس مثل فلس وفلوس، وقد غلب استعمال المكس فيما يأخذه أعوان السلطان ظلمًا عند البيع والشراء، وهو ما يعرف بالعشار.

قال الشاعر:

"وفى كل أسواق العراق إتاوة

وفي كل ما باع امرؤ مكس درهم"

راجع: مختار الصحاح: ص/ 630، والمصباح المنير: 2/ 577.

ص: 339

وقيل: من قام به هو المكلف به لسقوطه بفعله، وإذا تأملته وجدته راجعًا إلى ما اختاره المصنف، وهو البعض المبهم، لعدم تعين البعض في الموضعين وسقوط الوجوب بفعل كل من قام به (1).

قوله: "وسنة الكفاية كفرضها" أي: ما ذكر من الخلاف في فرض الكفاية من أن المخاطب به كل المكلفين أو البعض، والبعض معين أو مبهم، وهل سنة العين أفضل، أم سنة الكفاية؟ جاز في سنة الكفاية (2).

ثم تعريف المصنف لا بد له من قيد آخر ليصير مانعًا، وهو أن يقال: مهم يقصد حصوله من غير نظر إلى ذات فاعله، مع تأثيم الكل على تقدير الترك، وإلا يدخل فيه سنة الكفاية.

والعجب من بعض الشارحين (3) أنه عرَّف سنة الكفاية بما عرّف المصنف فرض الكفاية (4)، ولم يتنبه لاختلال تعريف المصنف طردًا (5).

(1) الذين قالوا: إن فرض الكفاية يجب على البعض اختلفوا في هذا البعض الذي وجب عليه الفرض هل هو مبهم، أو معين؟ إلى آخر ما ذكره الشارح.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 185، وتشنيف المسامع: ق (16 / أ- ب).

(2)

راجع: المحلى: 1/ 186 - 187 مع حاشية البناني.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "هو المحلي".

(4)

قال المحلي -في تعريفها-: "مهم يقصد حصوله من غير نظر بالذات إلى فاعله كابتداء السلام، وتشميت العاطس، والتسمية للأكل" المحلي على جمع الجوامع: 1/ 186.

(5)

لم يسلّم العبادي للشارح اعتراضه المذكور فقد رد عليه وبين سلامة ما ذكره المحلي.

راجع: الآيات البينات: 1/ 258.

ص: 340

واعلم أنه قد اختلف في لزوم الإتمام بعد الشروع في فرض الكفاية.

الجمهور: على وجوبه.

وقيل: لا يجب (1)، [ولا](2) شك أن المسألة فرع فقهى [حيث](3) ذهب الجمهور وكان هو المذهب، [والله أعلم](4).

قوله: "مسألة: الأكثر أن جميع وقت الظهر".

أقول: هذه المسألة هي مسألة (5) الواجب الموسع، وهذه التسمية بالنظر إلى وقت الواجب (6)

(1) مذهب الجمهور أن فرض الكفاية كفرض العين في وجوب الإتمام على الأصح بجامع الفرضية، والذين لم يروا وجوب الإتمام قالوا: لأن القصد من فرض الكفاية حصوله في الجملة، فلا يتعين حصوله ممن شرع فيه، وهناك مذهب ثالث، وهو أن الإتمام مجب ويتعين في الجهاد إذا شرع فيه لقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ} [الأنفال: 15] فيجب الاستمرار في صف القتال لما في الانصراف عنه من كسر قلوب الجند، وهذا اختيار الإمام الغزالي ومن تبعه كالمحلى.

راجع: القواعد لابن اللحام: ص / 188، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 185 - 186.

(2)

سقط من (ب).

(3)

سقط من (ب).

(4)

سقط من (أ).

(5)

آخر الورقة (18 / ب من ب).

(6)

آخر الورقة (19 / ب من أ).

ص: 341

[(1) إذ الوقت: إما أن يكون معيارًا للواجب: كشهر رمضان، ويسمى الواجب مضيقًا، أو يكون الوقت زائدًا على المقدار الذي يقتضيه وقوع الفعل فيه، ويسمى الواجب المتعلق فيه موسعًا.

والقسم الثالث: وهو أن ينقص الوقت عن مقدار الفعل غير معقول (2).

إذا تقرر هذا، فنقول: ذهب الجمهور إلى أن جميع الوقت وقت لأدائه جوازًا، وإن كان الأول أفضل.

وذهب القاضي ومن تابعه إلى أن الواجب بعد دخول الوقت أحد الأمرين: إما إيقاع الواجب، أو العزم على إيقاعه في ثاني الحال (3).

(1) من هنا إلى ص / 352 سقط من (أ) بما يقارب ورقة كاملة منها، والمثبت من (ب) وعند نهاية سنشير إليه إن شاء الله تعالى.

وهذا السقط هو الذي قدمه خطأ عند الكلام على الأداء والقضاء كما سبق ذكره في ص / 279، وبنقله من هناك إلى هنا يتم الكلام وينتهى السقط المذكور.

(2)

كما لو أوجب الشارع صلاة أربع ركعات في طرفة عين ونحوه، فهذا لا يمكن لأنه يكون من التكليف بالمحال.

(3)

راجع: اللمع: ص / 9، والإحكام للآمدي: 1/ 105، والمسودة: ص / 26، 28، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 241، والقواعد لابن اللحام: ص / 60، وتخريج الفروع: ص / 31، ونهاية السول: 1/ 112، ومختصر الطوفي: ص / 21، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 187، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص / 60.

ص: 342

وبعض الحنفية: إلى أن الوقت آخره حتى لو أوقعه فيما قبل ذلك المقدر المذكور يكون نفلًا: كتعجيل الزكاة (1).

والكرخي (2) -منهم-: إلى أن المكلف إن لم يبق لصفة الوجوب مكان كالزكاة المعجلة، وإن بقى فما فعله كان واجبًا (3).

(1) وهذا هو الذي ذكره الإمام السرخسي عن العراقيين من الحنفية، أما العلامة الأنصاري صاحب فواتح الرحموت، فيرى أن هذه النسبة إلى الحنفية غلط، ولا تصح عنهم.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 31، وكشف الأسرار: 1/ 219، وفواتح الرحموت: 1/ 74.

(2)

هو عبيد الله بن الحسين بن دلال بن دلهم، أبو الحسن الكرخي، ولد سنة (260 هـ) وانتهت إليه رئاسة الحنفية، وقد عُدَّ من المجتهدين، كان إمامًا، قانعًا، متعففًا، عابدًا، كبير القدر، أخذ عنه أئمة من العلماء كأبي بكر الجصاص، وأبى على الشاشى، وأبى حامد الطبرى، والتنوخى، وغيرهم، ومن مؤلفاته: المختصر في الفقه، وشرح الجامع الصغير، وشرح الجامع الكبير، وتوفي سنة (340 هـ).

راجع: مرآة الجنان: 2/ 333، والفوائد البهية: ص / 108، وشذرات الذهب: 2/ 358، والفتح المبين: 1/ 186.

(3)

مذهب الكرخي: أن الفعل إذا قدم على آخر الوقت بأن وقع قبله في الوقت، وقع واجبًا بشرط بقائه مكلفًا إلى أخر الوقت، فإن لم يبق كذلك كان مات، أو جُن وقع ما قدمه نفلًا، وعلى هذا فشرط الوجوب عنده أن يبقى من أدركه الوقت بصفة التكليف إلى آخره المتبين به الوجوب.

راجع: تيسير التحرير: 2/ 191، والمحلي على جمع الحوامع: 1/ 189.

ص: 343

وقوم: إلى عكس ما ذهبت إليه الحنفية، وهو أن وقته هو الأول، والتأخير عنه يجعله قضاء (1)، هذا هو المشهور في كتب الأصول.

والمصنف عبر عمّا نسبناه إلى الحنفية بلفظ: قيل، وصرح بنسبة مذهب آخر إلى الحنفية، وهو أن الجزء الذي يقع فيه فعل الواجب هو وقت الأداء، أيَّ جزء من أول الوقت إلى آخره، فإن لم يوقعه في تلك الأجزاء، فيتعين الجزء الأخير (2)، وهذا الأخير لا يمتاز عن مذهب الجمهور، فتأمله!

لنا -استدلالًا على ما ذهب إليه الجمهور-: أن الشارع بين الوقت مطلقًا، فالقول بتقييده تحكم.

الثاني: أنه لو كان معينًا، فالمصلي في غير ذلك الجزء إما مقدَّم فلا يصح منه، أو مؤخِّر فيقضى، والإجماع على خلافه.

القاضي ومن تابعه قالوا: من أول الوقت إلى الآخر، إما الفعل أو العزم واجب إجماعًا.

(1) وهذا محكي عن بعض العراقيين من الأحناف وبعض الشافعية.

راجع: الإحكام للآمدي: 82/ 1، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 241، والقواعد لابن اللحام: ص/ 71، نهاية السول: 1/ 164، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 188، وفواتح الرحموت: 1/ 74، وتيسير التحرير: 2/ 191.

(2)

وبهذا القول قال المحققون من الأحناف، وهو قول الجمهور السابق.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 30، وكشف الأسرار: 1/ 215، 219، والتوضيح على التنقيح: 2/ 250، وتيسير التحرير: 2/ 189، وشرح تنقيح الفصول: ص / 150، والإحكام للآمدي: 1/ 82، ونهاية السول: 1/ 164.

ص: 344

قلنا: لا تعلق -له- بالمبحث: لوجوب العزم في جيع الواجبات إجمالًا وتفصيلًا، حتى لو عزم على ترك واجب -بعد دهر طويل- لأثم اليومَ.

الحنفية: لو كان الأول وقتًا لعصى بالتأخير.

قلنا: لو لم يكن موسعًا، فلا يتفاوت من حيث إنه وقت، وهو كخصال الكفارة نظرًا إلى أجزاء الوقت.

وقد نقل الغزالي -رحمه الله تعالى- مذهبًا آخر، وهو أن الوقت الجزء الأخير- وإذا وقع قبل ذلك الجزء، فنفل يسقط به الفرض.

واستدل على بطلانه: بأنه لو كان كما قاله لصح بنية النفل، بل لم يصح بنية الفرض، ولم يقل به أحد (1).

قوله: "ومن أخَّر، مع ظن الموت عصى".

أقول: هذه المسألة من فروع الواجب الموسع، وهي أن المكلف في أول وقت الواجب إن غلب على ظنه أنه لن يعيش إلى الجزء الأخير بواسطة مرض شديد، أو كبر سن عصى اتفاقًا.

فإن بان خطأ ظنه بأن لم يمت، وفعله في الأخير، فالجمهور على أنه أداء لوقوعه في الوقت المقدر له شرعًا.

(1) راجع: المستصفى: 1/ 70.

ص: 345

والقاضيان: أبو بكر والحسين (1) على أنه قضاء.

فإن أرادا تسميته قضاء، فلا مشاحة معهما، وإن أرادا نية القضاء، فممنوع ولا تنافي بين العصيان والأداء، كما إذا ظن قبل دخول الوقت أن حين يحضر زيد يفوت الوقت، فأخَّر إلى حين حضوره، فإنه يعصي وصلاته أداء باتفاقهما، ومن أخَّر، مع ظن السلامة، ومات فجأة لم يعص؛ لأنه لم يُخرِج واجبًا عن وقته المقدر له شرعًا (2).

(1) هو الحسين بن محمد بن أحمد المروذي، أبو علي الفقيه الشافعي، المعروف في الفقه الشافعي عند الإطلاق - بالقاضي، كان إمامًا كبيرًا، وعالمًا جليلًا، وهو صاحب وجه في المذهب، ويطلق عليه حبر الأمة، وحبر المذهب، وقد صنف في الأصول والفروع والخلاف، وله: التعليق الكبير، وتوفي بمروروذ سنة (462 هـ).

راجع: طبقات العبادي: ص / 112، وطبقات ابن السبكي: 4/ 356، ووفيات الأعيان: 1/ 400، وشذرات الذهب: 3/ 310.

(2)

الأمر الذي أريد به التراخى، ثم مات المأمور به بعد تمكنه منه وقبل الفعل، فهل يعصى بذلك؟

الجمهور قالوا: لم يمت عاصيًا؛ لأنه فعل ما له فعلُه، واعتبار سلامة العاقبة ممنوع؛ لأنه غيب.

وذهب آخرون: إلى أنه يموت عاصيًا، وحكي عن الجويني وأبي الخطاب.

راجع: المستصفى: 1/ 70، الروضة: ص / 19، والإحكام للآمدي: 1/ 82، ومختصر ابن الحاجب مع العضد: 1/ 243، والمسودة: ص / 41، وروضة الطالبين: 1/ 183، والفروع لابن مفلح: 1/ 293، والقواعد لابن اللحام: ص/76، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 19.

ص: 346

وقيل: يعصي؛ لأن التأخير مشروط بسلامة العاقبة، وليس بشئ لانتفاء دليله شرعًا، بخلاف ما وقته العمر كله: كالحج، وقضاء الواجبات؛ لأنه بالموت تبين إخراج الواجب عن الوقت، بخلاف المؤقت بغير العمر، وقد سبق منّا تحقيقه فراجعه (1)، وعصيانه من أول سِني الإمكان أو آخِرِه فيه خلاف بين الفقهاء (2).

والذي يقتضيه النظر الصائب أن يكون آخر سِنِي الإمكان (3)، والله سبحانه أعلم.

قوله: "مسألة: المقدور الذي لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب".

أقول: هذه المسألة من أمهات مسائل الأصول الغامضة، وهي أن ما يتوقف عليه الواجب المطلق -وكان مقدورًا- هل يجب، أم لا؟

(1) تقدم ص / 284.

(2)

هذه المسألة فرع من قاعدة: هل الأمر المطلق يقتضي التكرار، فيقتضي الفور اتفاقًا، أو لا يقتضي التكرار، فهل يقتضى الفور أو لا؟

فمثلًا قضاء الصلوات المفروضة قيل: يجب على الفور لإطلاق الأمر به، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد، لكن بشرط عدم الضرر في بدنه، أو معيشة يحتاجها، وقيل: لا يجب على الفور.

راجع: القواعد لابن اللحام: ص / 181، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 248.

(3)

وذلك كالحج مثلًا، فإن الشخص مخاطب به في جميع عمره من البلوغ إلى آخره.

راجع: حاشية العطار على المحلي: 1/ 148.

ص: 347

الجمهور: على إيجابه مطلقًا (1).

وقيل: إذا كان الموقوف عليه سببًا يستلزم، وإن كان شرطًا، فلا.

إمام الحرمين، ومن تابعه: كالشيخ ابن الحاجب: إن كان شرطًا شرعيًّا يستلزم، وإن كان عقليًّا، أو عاديًّا، فلا (2).

ولا بد أولًا من معرفة الواجب المطلق ليمتاز عن المقيد، ثم النظر في ما هو الحق من المذاهب.

قد فُسِّرَ الواجب المطلق. كلا يجب في كل وقت، وعلى كل حال، فانتقض بالصلاة، فإن صلاة الظهر -مثلًا- تجب في كل وقت، فزيد: في كل وقت يقدره الشارع، فنوقض بصلاة الحائض، فزيد: لا لمانع، وهذا لا يشمل غير الموقتات، ولا مثل الحج والزكاة في إيجاب ما يتوقف عليه من الشروط.

(1) سواء كان سببًا شرعيًّا، أو عقليًا، أو عاديًا، أو شرطًا شرعيًا، أو عقليًا، أو عاديًا. ويعبر الفقهاء عن هذه المسألة:"ما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب".

راجع: المستصفى: 1/ 71، والمحصول: 1/ ق / 2/ 322، والروضة: ص / 19، والمسودة: ص / 60، والعضد على المختصر 1/ 244، والتمهيد: ص / 83، والمحلي مع حاشية البناني: 1/ 193، وفواتح الرحموت: 1/ 95، ومنتهى الوصول والأمل: ص / 36 - 37، وحاشية العطار على المحلي: 1/ 251.

(2)

راجع: البرهان: 1/ 257، وميزان الأصول: ص / 139، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 244، ومختصر الطوفي: ص / 24، واختاره أيضًا.

ص: 348

فالواجب المطلق: هو الذي لا يكون بالنظر إلى تلك المقدمة التي يتوقف عليها مُقيَّدًا، وإن كان مقيدًا بقيود أُخر، فإنه لا يخرجه عن الإطلاق: كقوله سبحانه وتعالى: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78] فإن وجوب الصلاة في هذا النص مقيد بالدلوك، وغر مقيد بالوضوء والاستقبال.

وقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فإن السعى واجب مقيد نظرًا إلى النداء، مطلق نظرا إلى ما عداه من شروط الجمعة. إذا تقرر هذا، فنقول: قد اتفقوا على أن الواجب إذا كان مقيدًا -في نص الشارع- بمقدمة (1) لا تجب تلك المقدمة بوجوب ذلك الواجب، بل لو وجب ذلك القيد يكون وجوبه

(1) مقدمة الواجب قسمان: مقدمة الوجوب، وهي التي يتعلق بها التكليف بالواجب، أو يتوقف شغل الذمة عليها كالاستطاعة لوحوب الحج، وحَوَلان الحول لوجوب الزكاة، فهذه المقدمة ليست واجبة على المكلف باتفاق.

القسم الثاني: مقدمة الوجود، وهي التي يتوقف عليها وجود الواجب بشكل شرعي صحيح لتبرأ منه الذمة كالوضوء بالنسبة للصلاة، فلا توجد الصلاة الصحيحة إلا بوجود الوضوء، ولا تبرأ ذمة المكلف بالصلاة إلا به، وهذا هو الذي وفع فيه الخلاف كما ذكر الشارح.

راجع: اللمع: ص / 10، والمستصفي: 1/ 71، والإحكام للآمدي 1/ 83، والمسودة: ص / 60، وشرح تنقيح الفصول: ص / 160، ومختصر ابن الحاجب: 1/ 244، وتقريرات الشربيني على المحلي: 1/ 192.

ص: 349

بنص آخر، كما إذا قال: إن ملكتَ نصابًا فزك (1)، لا يلزمه تحصيل النصاب، وكذا إذا قال: حُجَّ إن استطعت لا يلزمه تحصيل الاستطاعة، وإنما الكلام في الموقوف عليه الذي لم يكن مذكورًا في النص الذي دل على وجوب الواجب: كالوضوء، فإنه لم يذكر في النص الذي دل على وجوب الصلاة هل يكون إيجاب الصلاة إيجابًا له، أم لا؟ فيه خلاف.

مختار المصنف -وفاقًا للأكثر - وجوبه مطلقًا: سببًا، وشرطًا، وشرعًا، وعقلًا، وعادة.

وقيل: سببًا، لا شرطًا.

وقيل (2): شرطًا شرعيًّا لا عاديًّا، ولا عقليًّا إذا انتقش في الخاطر عادة لزم.

فنقول: ذهب المصنف -وفاقًا للجمهور (3) - إلى أن ما يتوقف على الواجب المطلق، وكان مقدورًا واجب، سببًا كان أو شرطًا، أو شرعيًّا، أو عقليًّا، أو عاديًّا: لاستواء المحل في كونه موقوفًا عليه أداء الواجب لا يعقل وجوده بدون ما يوقف عليه.

(1) في (ب): "فزكي"، والمثبت هو الصحيح؛ لأنه جواب الشرط مجزوم به.

(2)

آخر الورقة (19/ ب من ب)، وجاء في هامشها:"بلغ مقابلة على خط مولفه أدام الله تأييده".

(3)

جاء في (ب) بداية الورقة (20 / أ) على هامشها: "الثالث" إشارة إلى ابتداء الجزء الثالث بتجزئة الناسخ على نحو ما سبق قبله.

ص: 350

وقوله: "مقدورًا"، احتراز عمّا لا يكون الموقوف عليه مقدورًا: كالقَدَم للقيام في الصلاة، وكعدد الأربعين في الجمعة (1).

والمراد بالشرط الشرعي: ما جعله الشارع شرطًا، وأمكن وجود الفعل بدونه: كالطهارة للصلاة.

وبالعقلي: ما لا يمكن وجود الفعل بدونه عقلًا: كترك الأضداد.

والعادي: ما لا يمكن عادة: كغسل جزء من الرأس (2).

(1) اتفق العلماء على أنه لا بد من عدد في صلاة الجمعة إلا ما نقل عن البعض -شذوذًا- من أنها تنعقد بواحد منفردًا، وهو القاساني.

ثم اختلفوا في قدر العدد فيها إلى أقوال كثيرة منها ما ذكره الشارح وهو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة وغيرهم. وذهب أبو حنيفة ومن تبعه إلى أنها تنعقد بأربعة أحدهم الإمام، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي، وأبى ثور، واختاره.

وذهب الأوزاعي في رواية أخرى عنه وأبو يوسف إلى انعقادها بثلاثة أحدهم الإمام.

وقال الحسن بن صالح وداود: تنعقد باثنين أحدهما الإمام، وهو قول مكحول.

وقال مالك: لا يشترط عدد معين، بل يشترط جماعة تسكن بهم قرية، ويقع بينهم البيع والشراء، ولا تحصل بثلاثة وأربعة، ونحوهم.

راجع: شرح فتح القدير: 2/ 60، والمدونة الكبرى: 1/ 152، والمجموع للنووي: 4/ 503 - 504، والمغني لابن قدامة: 2/ 328.

(2)

يعني مع غسل الوجه، فلا يجب بوجوب مشروطه: إذ لا وجود لمشروطه -عقلًا، أو عادة- بدونه، فلا يقصده الشارع بالطلب بخلاف الشرعي، فإنه لولا اعتبار الشرع له لوجد مشروطه بدونه.

راجع: المحلي على جمع الجوامع، وحاشية البناني عليه: 1/ 195.

ص: 351

ثم النزاع إنما هو في إيجاب المشروط بعينه هو إيجاب تلك الأمور، أم لا؟ وإلا كون الشرط شرعيًّا لا يتصور إلا بجعل الشارع، وبعد جعله شرطًا واجب قطعًا، وكذلك الشرط العقلي لا يجوز وجود المشروط بدونه؛ لعدم جواز انفكاك اللازم عن الملزوم، وكذا العادي لا ينفك عن المشروط عادة.

والذي ذهب إلى أن الأمر بالسبب دون الشرط] (1)؛ فلأن وجوده يستلزم وجود المسبب؛ لعدم تخلف المعلول عن علته بخلاف الشرط لجواز تخلف المشروط عنه.

وذهب إمام الحرمين، وتبعه الشيخ ابن الحاجب في "مختصره": إلى أن الأمر بالشيء أمر بشرطه الشرعي لا غير.

وخلاصة ما استدلوا به: أما على الأول: فإن (2) الموجب للشيء لو لم يوجب شرطه كان شرطًا شرعيًا.

قلنا: ممنوع، بل بجعل آخر، ويكون شرعيًّا؛ لاستناده إلى جعل الشارع.

وأما على الثاني: فلأن غير [الشرط](3) الشرعي لو وجب لوجب تصوره حين إيجاب الأصلي، ولتعلق به الخطاب، واللازم باطل.

(1) إلى هنا ينتهي السقط من (أ) الذي سبقت الإشارة إليه في ص / 342.

(2)

في (ب): "فلأن".

(3)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 352

قلنا: بطلانه ممنوع؛ لأن الخطاب المتعلق بالملزوم متعلق به أيضًا، وينتقض بالشرط الشرعي -أيضًا- فإن الآمر بالمشروط [ربما](1) لا يتصور الشرط.

والذي يقتضيه النظر الصائب: أن كل ما يتوقف عليه وجود الشيء لا بد من وجوده، وإلا يلزم التكليف بالمحال، ولا يلتفت في هذا إلى كونه بجعل الشارع، أو بالعادة، أو بالعقل (2)؛ إذ قد قررنا في أول المسألة أن النزاع إنما هو في أن الأمر بالشيء أمر بما يتوقف عليه وجوده أم لا؟

فإن أريد أن الأمر بالشيء أمر بالشرط صريحًا دون غيره، فهو ممنوع.

وإن أريد استلزامًا؛ إذ الأمر بالشيء أمر بلازمه لاستحالة وجود الملزوم بدون اللازم، فلا فرق بين الشرط وغيره، وإن سمي بعض هذه

(1) سقط من (ب) وأثبت بالهامش: "شرعًا"، وهو غلط والصواب المذكور من (أ).

(2)

إذا كان ما لا يتم الواجب إلا به جزءًا من الواجب المطلق: كالسجود في الصلاة فهذا لا خلاف فيه لأن الأمر بالماهية المركبة أمر بكل جزء من أجزائها.

وأما إذا كان ما لا يتم الواجب إلا به خارجًا عنه، وهذا ستة أنواع، وقد سبق ذكرها مفرقة، وهي التي وقع فيها الخلاف الذي ذكره الشارح، وملخصها مجموعة:

أ- السبب الشرعي: كصيغة العتق في الواجب من كفارة ونحوها.

ب- السبب العقلي: كالصعود إلى موضع عال، فيما إذا وجب إلقاء الشيء منه.

جـ- السبب العادي: كوجود النار، فيما إذا وجب إحراق شيء ما.

هـ- الشرط الشرعي: كالطهارة للصلاة ونحوها.

و- الشرط العقلي: كترك أضداد المأمور به.

ز- الشرط العادي: كغسل الزائد على حد الوجه في غسل الوجه ليتحقق غسل جميعه.

ص: 353

الأمور شرعيًّا دون بعض اصطلاحًا، فلا مشاحة في ذلك. هذا تحقيق هذا المقام، والله ولي الإنعام.

قوله: "فلو تعذر ترك المحرَّم إلا بترك غيره".

أقول: رتب المصنف الفرعين المذكورين بالفاء على الكلام السابق؛ لدخولهما في تلك القاعدة الكلية؛ لأن الكف عن الأجنبية (1)، والمنْسِيّ طلاقها (2) واجب، ولا يمكن ذلك الواجب إلا بالكف عن المنكوحة ومن غير المطلقة، وما يتوقف عليه الواجب واجب.

وتبع المصنف -في قوله-: "حَرُمتا" الإمام في "المحصول" إذ قد نقل هناك أن قومًا ذهبوا إلى أن المحرمة هي الأجنبية، وإنما وجب الكف عن المنكوحة للاشتباه.

(1) يعني إذا اختلطت منكوحة بأجنبية، وجب الكف عن المنكوحة كما سيأتي ذكر الخلاف في الشرح.

(2)

كأن يوقع الإنسان الطلاق على امرأة من نسائه بعينها، ثم يذهب عليه عينها، وقد اختلفوا في ذلك على النحو التالي: ذهب أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يمنع من وطئهن، فإن وطأ واحدة انصرف الطلاق إلى غيرها.

وذهب الشافعي وجمهور أصحابه إلى أنه يحرم عليه الكل تغليبًا للحرمة على الحل.

وذهب مالك إلى أنهن يطلقن كلهن. وروي عن أحمد أنه يحال بينه وبينهن حتى يقرع بينهن، فأيتهن خرجت عليها القرعة كانت هي المحرمة، لكن الحنابلة لهم فيها أقوال مختلفة.

راجع: الأم: 5/ 245، وشرح الدرديري: 1/ 366، والإفصاح: ص / 300، والمغني: 7/ 253، والمحصول: 1/ ق / 2/ 327، والإبهاج: 1/ 114، وفواتح الرحموت: 1/ 96.

ص: 354

وزيفه: بأن المراد بالحل رفع الحرج، وهو منتف فيهما (1).

والحق: أن ذلك القول صواب؛ إذ الحِل المترتب على النكاح الذي حصل بخطاب الشارع لم يرتفع في الواقع.

غايته: أن المانع منع من الانتفاع بذلك الحل، وذا لا يدل على ارتفاعه كما يظهر ذلك في الإناء الطاهر المشتبه بالنجس (2)، فإن الطهر لم يتغير، ولم ينتقل من وصف الطهارة قطعًا، وإنما وجب على المكلف التوقف إلى زوال الاشتباه، كما يتوقف المجتهد في الدليل إلى انتفاء المانع.

ومثَّل المصنف للمعينة المَنْسِي طلاقها، وترك مسألة المبهمة، كما إذا قال: إحداكما طالق بدون تعيين؛ لأن الحكم فيها معلوم من الأولى بالطريق الأولى (3).

(1) راجع: المحصول: 1 / ق / 2/ 327، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 197.

(2)

ذهب أبو حنيفة إلى أنه إن كان الأكثر هو الطاهر تحرى، وإلا فلا.

وقال الشافعي: يتحرى على الإطلاق إذا كان الاشتباه بين طاهر ومتنجس، أما إذا كان الاشتباه بين طاهر ونجس العين كالبول، فلا يتحرى على الصحيح.

وقال أحمد -في الأصح عنه-: يتيمم، ولا يتحرى.

وأما أصحاب مالك، فقد اختلفوا في ذلك إلى أقوال متباينة.

راجع: مختصر الطحاوي: ص/ 17، والإشراف: 1/ 44، والمحصول: 1 / ق/ 2/ 326، ومغني المحتاج: 1/ 26 - 27، والمغنى لابن قدامة: 1/ 60 - 61، والمقنع: 1/ 21، والإفصاح: ص / 9.

(3)

إن قصد معينة طلقت، وإلا فإحداهما، ويلزمه البيان في الحالة الأولى، والتعيين في الثانية عند الشافعية. =

ص: 355

ولو بدل المصنف لفظة أو بكاف التشبيه لكان أولى؛ لكون المسألة من فروع القاعدة.

قوله: "مسألة: مطلق الأمر لا يتناول المكروه".

أقول: التعبير عن هذه المسألة (1) بما عبر به الشيخ ابن الحاجب هو اللائق:

= وعند الأحناف: إذا لم ينو واحدة منهما بعينها، فقد وقع الطلاق على إحداهما بعينها، ويؤخذ أن يوقعه على إحداهما بعينها، فتكون هي المطلقة، وتبقى الأخرى زوجة له على حالها.

وعند الحنابلة يقرع بينهما، وهو نص أحمد.

وقال مالك: طلقتا معًا.

راجع: مختصر الطحاوي: ص / 199 - 200، وشرح الدرديري: 1/ 366، والإبهاج: 1/ 144، ومغني المحتاج: 3/ 305، والمغني لابن قدامة: 7/ 251.

(1)

تعتبر هذه المسألة متفرعة عن مسألة الأمر والنهي في شيء واحد، وتحريرًا لمحل النزاع فيها أقول: اتفق العلماء على أن الأمر والنهي، أو الإيجاب والتحريم لا يجتمعان في أمر واحد بالذات، وكذا إن كان لهما جهتان متلازمتين، فلا يجتمعان، أما إن كانت الجهتان غير متلازمتين فلا مانع من اجتماع الأمر والنهي، أو الإيجاب والتحريم في الشيء الواحد لكنهم اختلفوا في تلازم الجهتين، وعدم تلازمهما كما سيأتي في الشرح بعد.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 89، والمستصفى: 1/ 80، والمسودة: ص / 81 - 82،

والمحلي مع تقريرات الشربيني وعليه البناني: 1/ 197، 201، وفواتح الرحموت: 1/ 104 - 105.

ص: 356

إذ قال: "المكروه منهي عنه غير مكلف به"(1)، وإنما كان لائقًا؛ إذ المنهي عنه كيف يكون مأمورًا به؟ إذ المكروه يمدح تاركه، فلا يتصور الأمر به شرعًا.

وعبارة المصنف قاصرة عن [إفادة](2) هذا المرام؛ إذ عدم التناول يشعر بصلوح المحل له، لكن لم يقع في الخارج، وليس كذلك، بل عدم التناول لعدم قابلية المحل بعد تعلق الكراهية به.

قوله: "خلافًا للحنفية"، صريح في أن الحنفية قائلون: بأن الأمر يتناول المكروه. وهذا أمر لا يعقل (3)؛ لأن المباح -عندهم- غير مأمور به، مع كون طرفيه على حد الجواز، فكيف يتصور أن يكون المكروه من جزئيات

(1) وهذا هو قول الجمهور من الشافعية وغالب الحنابلة والجرجاني من الحنفية؛ لأن مطلق الأمر بالصلاة -مثلًا- لا يتناول الصلاة المشتملة على السدل، ورفع البصر إلى السماء، والالتفات، ونحو ذلك من المكروهات، ولأن المكروه مطلوب الترك، والمأمور مطلوب الفعل، فيتنافيان.

راجع: المستصفى: 1/ 79، والمسودة: ص / 51، والقواعد لابن اللحام: ص / 107، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 197، وتشنيف المسامع: ق (18 / أ)، والمختصر: 2/ 5.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

قلت: نُقِل عن الأحناف قولان: فمذهب الجرجاني -منهم- أنه لا يتناوله كما تقدم.

وذهب الرازي -منهم- إلى أنه يتناوله، وهذا هو الذي نقله ابن السمعاني، وهو خبير بمذهب الأحناف، وحكي هذا القول عن بعض الحنابلة.

راجع: المسودة: ص / 51، والقواعد لابن اللحام: ص/ 107، وتشنيف المسامع: ق (18 / أ)، وشرح الكوكب المنير: 1/ 415.

ص: 357

المأمور به في شيء من الصور؟ وكتبهم -أصولًا وفروعًا- مصرحة بأن الصلاة في الأوقات المكروهة فاسدة حتى التي لها سبب مطلقًا (1).

والنقل عن محمد بن الحسن (2): أن كل مكروه حرام، وعن

(1) قلت: في هذا نظر؛ لأن الصلاة -في الأوقات المكروهة عند الحنفية صحيحة، ولكنها ناقصة، وليست كما قال العلامة الكوراني رحمه الله من أنها فاسدة عندهم قال البزدوي:"ومنها الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها مشروعة بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشروطها، والوقت صحيح بأصله فاسد بوصفه، وهو أنه منسوب إلى الشيطان كما جاءت به السنة إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت لأنه ظرفها لا معيارها، وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة" وهذا ما أيده علاء الدين البخاري، وقاله السرخسي من قبل، وقد ذكر العلامة الكاساني أن صلاة النفل والتطوع مكروهة في الأوقات المكروهة، وفي هذا إشارة إلى أن الأمر يتناول المكروه عندهم.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 89، وكشف الأسرار: 1/ 277 - 278، والتوضيح على التنقيح: 1/ 206، وبدائع الصنائع: 1/ 295، والمحلي مع البناني وتقريرات الشربيني: 1/ 199.

(2)

هو محمد بن الحسن بن فرقد، أبو عبد الله الشيباني، صاحب أبي حنيفة، ومدون فقهه وناشر مذهبه، أخذ الحديث عن مالك بن مغول غير الإمام، وتفقه على أبي يوسف، والتقى مع الشافعي وناظره، وأثنى عليه الشافعي في الفصاحة والذكاء والعلم، وله مؤلفات منها: الجامع الكبير، والجامع الصغير، والأصل، والسير الصغير، والسير الكبير، والزيادات، والآثار، والنوادر، وغيرها، وتوفي سنة (189 هـ).

راجع: طبقات الفقهاء للشيرازي: ص/ 135، ووفيات الأعيان: 3/ 324، والفهرست: ص / 257، والجواهر المضيئة: 2/ 42، وتاج التراجم: ص / 54، والتاج المكلل: ص / 105، والمعارف: ص / 500، والفوائد البهية: ص/163، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 80، وأخبار أبي حنيفة وأصحابه: ص / 120، وشذرات الذهب: 1/ 321.

ص: 358

صاحبيه (1): أن المكروه كراهة تنزيه إلى [الحل](2) أقرب (3).

(1) يعني بهما الإمام أبا حنيفة وأبا يوسف رحمهما الله تعالى، وأبو يوسف هو الإمام يعقوب بن إبراهيم بن حبيب قاضي القضاة صاحب أبي حنيفة، الفقيه المجتهد، تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: هم المهدي، والهادي، والرشيد، وكان الأخير يكرمه، ويجله، وهو أول من دعى بقاضي القضاة، وأول من غير لباس العلماء، وأول من وضع الكتب على مذهب أبي حنيفة وساعد على نشره في الأقطار، وله مؤلفات منها: الأمالي، والنوادر، وكتاب الخراج، وتوفي سنة (182 هـ).

راجع: طبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 134، والمعارف: ص / 499، ووفيات الأعيان: 5/ 421، والبداية والنهاية: 1/ 180، وتاج التراجم: ص / 81، والفوائد البهية: ص / 225.

(2)

في هامش (أ): "إلى الحرام" والمثبت من صلب (أ، ب) هو الأولى.

(3)

قسم الأحناف المكروه إلى قسمين:

القسم الأول: المكروه التحريمي، وهو الذي طلب الشارع تركه طلبًا جازمًا بدليل ظني مثل: لبس الحرير، والذهب على الرجال، ومثل البيع على البيع، والخطبة على الخطبة، وحكمه أنه إلى الحرام أقرب، بل هو قسم من الحرام عند الإمام، وأبي يوسف، فيأخذ أحكام الحرام تقريبًا من تحريم الفعل، وطلب الترك، واستحقاق العقاب على الفعل، ولكن لا يكفر جاحده.

القسم الثاني: هو الذي ذكره الشارح عن الإمام وأبي يوسف، وهو الذي طلب الشارع تركه طلبًا غير جازم، وهذا إلى الحل أقرب، ولا يعاقب على فعله كمثل: أكل ذي ريح كريهة، أو تقذير الثياب والبدن بطاهر.

راجع: ميزان الأصول: ص / 40، 43، والتعريفات: ص / 228، وتشنيف المسامع: ق (18 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 200، ونظرية الحكم ومصادر التشريع: ص / 64.

ص: 359

وأما تجويز الطواف بغير وضوء -وهو مكروه عندهم (1) - ليس لأن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] تناوله (2)، بل لأن الطهارة ليست شرطًا فيه بخلاف الصلاة (3)، وكراهته؛ لأن العبد ينبغي أن يكون في تلك العبادة الشريفة بصفة الطهارة بين يدي الله سبحانه وتعالى.

قوله: "فلا تصح الصلاة في الأوقات المكروهة".

(1) ذهب مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه إلى أن الطهارة شرط في صحة الطواف، ولا يجزئ طواف بغير طهارة -عندهم- لا عمدًا، ولا سهوًا.

وقال أبو حنيفة: ليس بشيء من ذلك شرطًا، واختلف أصحابه، فقال بعضهم: هو واجب، وقال آخرون: هو سنة لأن الطواف ركن للحج، فلم تشترط له الطهارة كالوقوف بعرفة، ولكن تستحب له الإعادة، والأصح عند ابن الهمام الحنفي الوجوب.

وقال أبو ثور: إذا طاف على غير وضوء أجزأه طوافه إن كان لا يعلم وعليه دم، ولا يجزؤه إن كان يعلم، وهي رواية عن أحمد، وفي رواية عنه أن الطهارة ليست شرطًا، ومتى طاف للزيارة غير متطهر أعاد ما كان بمكة، فإن خرج إلى بلده جبره بدم.

راجع: شرح فتح القدير: 3/ 49 - 50، وبداية المجتهد: 1/ 342 - 343، ومغني المحتاج: 1/ 485، والمغني لابن قدامة: 3/ 377.

(2)

قلت: بل تتناوله عند الأحناف، وهذا يؤكد ما سبق من أن الأمر يتناول المكروه عند فريق من الأحناف. قال العلامة ابن الهمام:"ولنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} من غير قيد الطهارة، فلم تكن فرضًا" شرح فتح القدير: 3/ 50.

(3)

لأنه بالنسبة للصلاة قد ورد الدليل على أن الطهارة شرط فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة إلا بطهور" فهذا نفي للصلاة التي لا تشتمل على الطهارة. راجع: مجمع الزوائد: 1/ 228.

ص: 360

تفريع على القاعدة المذكورة، أي الأمر المطلق لما لم يتناول المكروه، وقد ورد النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة (1)، فالأمر بالنوافل لا يتناول ذلك الفعل المنهي، وهو إيقاع الصلاة إلى لا سبب لها يعتد به في الأوقات المذكورة سواء كان في تحريم أو نهي تنزيه وما ذكره في التحريم واضح.

وأما كراهة التنزيه لا تنافي الصحة؛ لكونها راجعة إلى الخارج.

والصحيح في المذهب عدم الصحة كما نقله (2)، وأما دليلًا فلا يخلو عن نوع إشكال (3).

(1) منها: حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس".

ولحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس".

وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس"، وكذا حديث ابن عمر وغيره في الباب.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 143 - 144، وصحيح مسلم: 2/ 206 - 207.

(2)

ذهب الشافعية والحنابلة، إلى أن الصلاة التي لا سبب لها يعتد بها في الأوقات المكروهة غير صحيحة للأحاديث السابقة، ولأن الوقت ملازم لها. وقالت الحنفية والمالكية: هي صحيحة لأن النهي على الوقت، وليس على ذات الصلاة.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 89، والمستصفى: 1/ 80، والفروق للقرافي: 2/ 83، وكشف الأسرار: 1/ 277، وبدائع الصنائع: 5/ 299، وحاشية ابن عابدين: 5/ 49، والمحلي ومعه البناني وتقريرات الشربيني: 1/ 198 - 201.

(3)

لأن النهي وارد على أمر آخر، وليس على أصل الصلاة إذ النهي ينصب على الوقت، وليس على ذات الصلاة.

ص: 361

قوله: "أما الواحد بالشخص له جهتان".

أقول: لفظ الواحد يطلق على وجوه: تارة على الواحد بالجنس فيقال: الإنسان والفرس واحد، أي بالجنس، وتارة على الواحد بالنوع فيقال: زيد وعمرو واحد، أي نوعًا، وتارة على الواحد بالشخص، فيقال: زيد واحد، أي شخصًا.

إذا تقرر هذا، فنقول: الوجوب والحرمة ضدان؛ لأن الضدين هما الأمران الوجوديان اللذان لا يجتمعان في محل واحد (1) من جهة واحدة (2)، فالوجوب والحرمة لا يتعلقان بشيء واحد من جهة واحدة، والمراد بالواحد الواحد بالشخص، وإلا فالواحد بالنوع، أو الجنس لا مانع فيه؛ لتعدد الأفراد: كالسجود لله وللشمس، فيجوز أن يحرم فرد، ويجب فرد (3)، إنما الكلام في الواحد بالشخص إذا كان له جهتان، هل يجوز أن يكون بكل من الجهتين متعلقًا لأحد الحكمين، أم لا؟ فيه خلاف.

وفرعوا على ذلك مسائل منها: الصلاة في الدار المغصوبة (4) هل تصح، أم لا؟

(1) آخر الورقة (20 / ب من ب).

(2)

راجع: التعريفات: ص / 137.

(3)

يحرم السجود للشمس، ويجب السجود لله تعالى.

(4)

ومثلها الصلاة في الثوب المغصوب، أو الوضوء بماء مغصوب، ونحو ذلك.

ص: 362

فالجمهور: على الصحة مع العصيان بلا ثواب (1).

وقيل: مع الثواب؛ لاختلاف الجهة (2).

الإمام والقاضي: لا تصح، ويسقط الطلب عندها (3).

الإمام أحمد صاحب المذهب (4) لا صحة ولا سقوط، ووافقه على

(1) راجع: مقالات الإسلاميين: ص / 450 - 451، والمستصفى: 1/ 77، والروضة: ص / 25، والإحكام للآمدي: 1/ 87، والفروق: 2/ 183، والمسودة: ص / 82 - 83، وشرح العضد: 2/ 3، وتيسير التحرير: 2/ 219، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 203.

(2)

الخلاف في الثواب وعدمه لأصحاب الشافعي في ذلك قولان: فالعراقيون منهم يقولون: الصلاة صحيحة يسقط بها الفرض، ولا ثواب فيها.

والخراسانيون منهم، وهم الذين قالوا بصحة الصلاة يقولون: ينبغي أن يحصل الثواب، فيكون مثابًا على فعله عاصيًا بمقامه، واختاره الجلال المحلي.

راجع: المجموع للنووي: 3/ 164، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 202، وتشنيف المسامع: ق (18 / ب).

(3)

يعني الصلاة لا تصح، ولكن تسقط عن المكلف وتبرأ بها ذمته، ولا يطالب بها يوم القيامة؛ لأن السلف لم يأمروا بقضائها الظلمة الذين اغتصبوا مع علمهم بذلك، وذكر الصفي الهندي أن القاضي إنما يقول بذلك لو ثبت الإجماع على سقوط القضاء، فأما إذا لم يثبت ذلك فلا يقول بسقوط القضاء بها، ولا عندها.

راجع: المحصول: 1/ ق / 2/ 485، وتشنيف المسامع: ق (18 / ب).

(4)

هو الإمام وشيخ الإسلام، الناصر للدين والمناضل عن السنة، والصابر في المحنة، أحمد بن حنبل بن هلال، إمام المحدثين، وأحد الهداة الأعلام، والأربعة الذين تدور عليهم الفتاوى والأحكام في بيان الحلال والحرام، ولد أبو عبد الله سنة (164 هـ)، وكان آية في الحفظ، والورع، والزهد، والتقوى، قيل: كان يحفظ ألف ألف حديث، وتوفي رحمه الله (سنة 241 هـ). =

ص: 363

ذلك أكثر المتكلمين (1)، والجبائي (2) من المعتزلة.

لنا على المختار عند الجمهور: أن من أمر عبده بخياطة ثوب، ونهاه عن مكان مخصوص، وخالف العبد، وخاطه في ذلك المكان يُعّد طائعًا، عاصيًا قطعًا للجهتين.

= راجع: الفهرست: ص/ 185، وحلية الأولياء: 9/ 161، وتأريخ بغداد: 4/ 412، وطبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 91، وطبقات الفقهاء للعبادي: ص / 14، ووفيات الأعيان: 1/ 47، والجمع بين رجال الصحيحين: ص / 5، وطبقات الحنابلة: 1/ 4 - 21، وتذكرة الحفاظ: 2/ 431، وغاية النهاية: 1/ 112، ومناقب الإمام أحمد لابن الجوزي.

(1)

وهو قول غالب أصحاب الإمام أحمد، والظاهرية، والزيدية، وأبو علي، وأبو هاشم، وأبي شمر الحنفي، وهو محكي عن أصبغ المالكي، وهي رواية عن مالك وهو وجه لأصحاب الشافعي كالجويني، ووافقهم القاضي إلا في سقوط الفرض كما تقدم عنه وعن الإمام الرازي.

راجع: المعتمد: 1/ 181، والمغني لعبد الجبار: 17/ 136، والمسودة: ص / 83، ومختصر الطوفي: ص / 26، وتشنيف المسامع: ق (18/ ب) فقد نقل القول بصحتها وعدم صحتها عن الشافعية. والإحكام للآمدي: 1/ 87.

(2)

هو أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن سلام بن خالد بن حمران بن أبان الجبائي نسبة إلى جبّى بضم الجيم، وتشديد الباء شيخ المعتزلة، وأبو شيخها أبي هاشم، له ضلالات منها: أنه سمّى الله مطيعًا لعبده إذا فعل مراد العبد -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- وزعم أن أسماء الله جارية على القياس، وأجاز اشتقاق اسم له من كل فعل فعله إلى غير ذلك من تراهاته، له تفسير مطول أودع فيه آراءه الباطلة، وتوفي (سنة 303 هـ).

راجع: العبر: 2/ 125، والبداية والنهاية: 11/ 125، والنجوم الزاهرة: 3/ 189، وطبقات المفسرين للسيوطي: ص / 88، وشذرات الذهب: 2/ 41، وروضات الجنات: ص / 161.

ص: 364

ولنا -أيضًا-: أن لو لم تصح لكان عدم الصحة لكون متعلق الوجوب والحرمة واحدًا، إذ المفروض أن لا مانع آخر (1)، وقد تبين أن المتعلق ليس متحدًا لاختلاف الشيء باختلاف الجهات جزمًا.

قالوا: الصلاة حركات وسكنات مخصوصة، وهي في الدار المغصوبة منهيّ عنها.

قلنا: وهي مأمور بها باعتبار الجهتين.

قالوا: لو صح ما قلتم لصح صوم يوم النحر.

قلنا: عدم الصحة؛ لعدم الجهتين، وتحقيق ذلك: أن صوم يوم النحر صوم مقيد، ويستلزم مطلق الصوم، فلا يمكن انفكاك مطلق الصوم يوم النحر؛ ليجعل متعلق الصحة، بخلاف الصلاة، والغصب؛ إذ يعقل كل منهما بدون الآخر، فلا يلزم من صحة الصلاة حيث لا مانع صحة الصوم مع وجود المانع.

وأيضًا: إجماع السلف على عدم الأمر بالقضاء على الظلمة الساكنين في الأماكن [ظلمًا](2)، وحيث كانت الصحة مفسرة بموافقة الأمر عند

(1) آخر الورقة (20 / ب من أ).

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

وقد نقل الإجماع الغزالي، والرازي، والقرافي، والآمدي، وغيرهم. =

ص: 365

المتكلمين، وسقوط القضاء عند الفقهاء. فالصحة لا تستلزم الثواب، بل الأمر محتمل، وإنما المستلزم هو القبول.

ومن قال: يثاب عليها، إن قال: احتمالًا فهو ما ذكرنا، وإن قال: جزمًا فلا دليل له إلا تعدد الجهة، وذلك لا يستلزم الثواب، والقول بالسقوط مشكل جدًّا (1).

والذي قاله الإمام أحمد وجهه: أن ذلك الفعل لمّا كان معصية لا يصلح عبادة فلا تصح، وإذا لم تصح لم تسقط، وقد سبق الجواب عنه

= راجع: المستصفى: 1/ 78، والمحصول: 1/ ق / 2/ 485، والإحكام: 1/ 89، والفروق: 2/ 183.

قلت: قد يقال: دعوى الإجماع إن أرادوا به عدم القضاء -عند القائلين بصحتها- فنعم، وهذا غير ملزم للمخالف.

وإن أرادوا بالإجماع -عند الجميع- فغير مسلّم؛ لأن الذين قالوا: إن الصلاة لا تصح يلزمونه بالإعادة، ولهذا قال إمام الحرمين:"قد كان في السلف متعمقون في التقوى يأمرون بقضائها، بل قال: فإن صح نهي مقصود عن الصلاة في الدار المغصوبة، فلا تصح كما لا تصح صلاة المحدث لما صح فيه عن الصلاة مع الحدث" فأنت ترى مما تقدم أن إمام الحرمين لم يسلم بالإجماع المذكور، وهو ما أكده ابن السمعاني وغيره.

راجع: البرهان: 1/ 288، 292، وتشنيف المسامع: ق (18 / ب).

(1)

إذ كيف يكون الشيء مسقطًا للواجب، وفي نفس الوقت غير صحيح؟ فالمسقط لا بد أن يكون صحيحًا، وإلا لم يعتد به.

ص: 366

وهو الإجماع على عدم الأمر بالقضاء، فإن قيل: كيف يتصور الإجماع مع مخالفة الإمام أحمد؟

قلنا: لا يمكن النزاع في الإجماع، فإنه واقع على عدم القضاء (1)، فإما سابق على قول الإمام، فلا يقبل قوله؛ إذ المجتهد لا يجوز له مخالفة الإجماع، أو متأخر عنه، رافع للخلاف، فتأمل!

قوله: "والخارج من المغصوب تائبًا".

أقول: ما ذكره من الفرع السابق كان فيما يمكن الانفكاك: كالصلاة، والغصب، وفَعَلَه المكلف باختياره، وأما ما ذكره هنا هو ما إذا توسط أرضًا مغصوبة، وقصد الخروج على قصد التوبة نادمًا على فعله من الغصب، فهذا الخروج هل يوصف بالوجوب، أم لا يوصف؟ والبحث عن فعل المكلف من حيث الوجوب والحرمة، وإن كان وظيفة الفقيه، ولكن نظر الأصولي إنما هو في أن مثل هذا الخروج المأمور به هل يصير منهيًّا عنه، أم لا؟

(1) يرى الإمام ابن قدامة أن من زعم أن في هذه المسألة إجماعًا، فقد غلط ويعتبر ذلك جهل بحقيقة الإجماع، فإن حقيقته الاتفاق من علماء أهل العصر. وعدم النقل عنهم ليس باتفاق، ولو نقل عنهم أنهم سكتوا، فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم كلهم القول بنفي وجوب القضاء، فلم ينكروه، فيكون -حينئذ- فيه اختلاف هل هو إجماع، أو لا؟ .

راجع: روضة الناظر: ص / 46.

ص: 367

الجمهور على أنه: لا يتعلق النهى به خلافًا لأبي هاشم (1) من المعتزلة (2).

لنا: الخروج متعين للأمر بذلك، فلا معصية إذا بذل المجهود من السرعة، وسلوك أقرب الطرق، وأقلها ضررًا (3).

وقول الإمام: إنه عاص باستصحاب المعصية، مطيع بتفريغ المكان -كما في الصلاة في الدار المغصوبة- غير مستقيم لاستلزام التكليف

(1) هو عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجبائي، نسبة إلى قرية من قرى البصرة من رؤوس المعتزلة، تتلمذ على والده وتلقى عنه علم الاعتزال حتى فاقه، له آراء خاصة في علم الكلام منها قوله باستحقاق الذم من غير ذنب، وأن التوبة لا تصح من قبيح، مع الإصرار على قبيح آخر يعلمه، أو يعتقده قبيحًا، وإن كان في نفسه حسنًا، كما زعم أن بإمكان الزنج والترك والهنود فضلًا عن العرب الفصحاء الإتيان بمثل القرآن، وقد ألف في الفلسفة، وعلم الكلام، والاعتزال كالجامع الكبير، والجامع الصغير، والأبواب الكبير، والأبواب الصغير وغيرها، وتوفي (سنة 321 هـ).

راجع: فرق وطبقات المعتزلة: ص / 94، والفرق بين الفرق: ص/ 184، والمنتظم: 6/ 61، ووفيات الأعيان: 2/ 355، والعبر: 2/ 187، وطبقات المفسرين: 1/ 301، وشذرات الذهب: 2/ 289، والفتح المبين: 1/ 172.

(2)

يرى أبو هاشم أنه يحرم عليه الخروج؛ لأنه تخطى في حق الغير، وهو منهي عنه.

(3)

ولأن النهي عن المكث في دار الغير، وعن الخروج منها تكليف بالمستحيل، ولا خلاص من هذا إلا بإيجاب الخروج منها.

ص: 368

بالمحال، وهو جواز الخروج، مع عدم جوازه (1)، ومنه يعلم الجواب عن قول أبي هاشم، فتأمل (2)!

قال الإمام: وإنما حكمنا بالمعصية -وإن كان مضطرًا، والإمكان شرط في المنهي-؛ لأن تسببه إلى ما تورط فيه آخِرًا سبب المعصية، وليس منهيًّا عن الكون في هذه الأرض مع بذلك المجهود، وفي التكليف منقطع عنه لكنه مرتبك بالمعصية ما دام في الأرض استصحابًا (3)، وقد علمت جوابه (4).

(1) يرى إمام الحرمين أنه مرتكب للمعصية مع انقطاع تكليف النهي، ويعتبر هذا وسطًا بين مذهب الجمهور ومذهب أبي هاشم.

وقد ضعفه الغزالي، واستبعده ابن الحاجب، وجعله الشارح من باب التكليف بالمحال، بينما نجد المصنف وصفه بالدقة، وقوى جانبه الزركشي والمحلي بالرد على استبعاد ابن الحاجب، ويرى الكمال ابن أبي شريف أنه ليس من التكليف بالمحال كما قال الشارح، وإنما يكون من التكليف بالمحال أن لو تعلق الأمر والنهى معًا بالخروج وتعلق النهي هنا منتف لانقطاع تكليف النهي، كما ذكر العبادي أن المعصية المرادة في كلام الإمام حكمية لا حقيقة، بمعنى أنه استصحب حكم السابقة تغليظًا عليه لإضراره الآن بالمالك إضرارًا ناشئًا عن تعديه السابق.

راجع: البرهان: 1/ 301 - 302، والمنخول: ص/129، والمختصر مع شرح العضد: 2/ 4، وتشنيف المسامع: ق (18/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 204، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (55/ ب)، والآيات البينات: 1/ 277 - 278.

(2)

جاء في هامش (أ، ب): "يريد أن الواحد هنا واحد بالشخص مع اتحاد الجهة، فإذا تعلق به الأمر لا يمكن تعلق النهي به، فبطل قول أبي هاشم هـ".

(3)

نقله بتصرف، راجع البرهان: 1/ 301 - 302.

(4)

يعني ما سبق أن ذكره من أنه من باب التكليف بالمحال. =

ص: 369

قوله: "والساقط على جريح".

أقول: هذه شبهة أبداها أبو هاشم المعتزلي، فاضطرب في الجواب عنها أقوال السلف، وهي أن من توسط (1) بين قوم جرحى وجثم على واحد منهم، فإن استمر قتله، وإن انتقل إلى غيره قتله، فكيف يكون أمره؟ !

قيل: يستمر لعدم فائدة في الانتقال إذ العلة متحدة في المحلين.

وقيل: مخير؛ لأن الأمر بالاستمرار لا يجدي نفعًا.

= قلت: وقد وجدت نصًّا للإمام الشافعي في هذه المسألة في كتاب الحج في باب لبس المحرم وطيبه جاهلًا، قوله:"وهكذا ما وجب عليه الخروج منه خرج منه كما يستطيع، ولو دخل دار رحل بغير إذن لم يكن جائزًا له، وكان عليه الخروج منها، ولم أزعم أنه يحرج بالخروج منها، وإن كان يمشي فيما لم يؤذن له فيه لأن مشيه للخروج من الذنب لا للزيادة فيه" الأم: 2/ 131 - 132، وهذا هو عين مذهب الجمهور في المسألة التي سبق ذكرها.

(1)

الساقط سواء كان باختياره أو بغير اختياره كما ذكره المحلي، أما غيره من الشراح للكتاب فقد قيدوه بالاختيار، وهو ما صورها به الجويني لأنه قد تقدم الكلام على الإكراه والمكره، ولكن كلام الجلال له وجهة سليمة لأن الخلاف هنا ليس في الإكراه وعدمه، وإنما في استقراره في مكانه الذي وقع فيه، أو يتحول عنه كما ذكر الشارح.

راجع: البرهان: 1/ 302، والمنخول: ص / 129 - 130، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 204، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (56 / أ).

ص: 370

ونقل عن إمام الحرمين: أنه لا حكم في المسألة، ونقل عنه أيضًا: أنه قال: حكم الله فيها أن لا حكم فيها (1).

وتوقف الإمام الغزالي (2).

(1) قال إمام الحرمين: "وهذه مسألة لم أتحصل من قول الفقهاء فيها على ثبت، والوجه المقطوع بها سقوط التكليف عن صاحب الواقعة، مع استمرار حكم سخط الله -تعالى- وغضبه عليه، أما سقوط التكليف، فلأنه يستحيل تكليفه ما لا يطيقه، ووجه استمرار حكم العصيان عليه تسببه إلى ما لا مخلص له منه" البرهان: 1/ 302 - 303.

(2)

الإمام الغزالي في ظاهر كلامه في المنخول والمستصفى عبارات مختلفة، فمثلا في المنخول قال -بعد ذكر المسألة-: "المختار أن لا حكم لله تعالى فيه، فلا يؤمر بمكث، ولا انتقال

" ثم أبطل هذا الاختيار في آخر الكتاب نفسه، وقرر أنه لا يجوز في الشرع خلوّ واقعة عن حكم الله تعالى، واستشكل قول شيخه إمام الحرمين: "حكم الله أن لا حكم فيه، فهذا -أيضًا- حكم، وهو نفي الحكم" ثم قال:"هذا ما قاله الإمام رحمه الله فيه، ولم أفهمه بعد، وقد كررته عليه مرارًا". ثم ذكر بأن جَعْل نفي الحكم حكمًا تناقض.

ومما سبق يظهر التردد في كلامه، فتارة يتوقف كما هو في المستصفى، وتارة يختار، وتارة يبطل هذا الاختيار، وقد رجح المصنف والشارح أنه متوقف، وأما العبادي فيرى أن نقل الغزالي لاختيار الإمام دليل على أنه المختار عنده، قلت: وما اختاره المصنف والشارح هو الأرجح والمعتمد لأن المستصفى ألفه بعد المنخول، ثم إنَّ ما ورد في كتابه المنخول من الاختيار فهو محمول على أنه نقله على لسان شيخه، فإن المنخول: في الحقيقة تلخيص للبرهان، أو أنه كان اختاره تبعًا لشيخه بداية، ثم رجع عنه أخيرًا، وهذا ما صرح به في الكتاب نفسه كما تقدم.

راجع: المستصفى: 1/ 3، 89، والمنخول: ص / 129 - 130، 487 - 488، 504، والمحلي على جمع الجوامع والبناني عليه: 1/ 205 - 206، والآيات البينات: 1/ 279.

ص: 371

والوجه: أن يحمل كلام الإمامين على عدم الوقف على نص في ذلك، وعدم إمكان تخريج قول على حادثة تلائمها، وإلا كيف يخلو فعل من أفعال المكلفين -بعد ورود الشرع- عن أحد الأحكام الخمسة.

قوله: "مسألة: يجوز التكليف بالمحال مطلقًا".

أقول: شرط الجمهور -في المطلوب- الإمكان، ونسب خلافه إلى الأشعري.

ولا بد -أولًا- من تحرير محل النزاع، فنقول: هو على ثلاثة أقسام:

ما علم الله أن لا يقع، أو أخبر أنه لا يقع، وهذا القسم مما لا نزاع فيه جوازًا، ووقوعًا؛ لأن تكليف من علم الله أنه يموت كافرًا من هذا القبيل (1)، مع الاتفاق على تكليفه (2).

والثاني: ما أمكن في نفسه لكن لم يقع متعلق القدرة الحادثة أصلًا: كخلق الأجسام، أو عادة: كالطيران إلى السماء، وهذا الذي ذهب الأشعري إلى جوازه.

(1) راجع: الروضة: ص / 28، والإحكام للآمدي: 1/ 102، وشرح تنقيح الفصول: ص / 143، والمسودة: ص/ 79، وشرح العضد: 9/ 2، ومختصر الطوفي: ص/ 15، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 206، وفواتح الرحموت: 1/ 127، وتيسير التحرير: 2/ 139، وإرشاد الفحول: ص/ 9.

(2)

إذ قد كلف الله الثقلين أجمعين بالإيمان، مع قوله:{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103].

وراجع: الإبهاج: 1/ 171.

ص: 372

والثالث: وهو أقصى المراتب في الاستحالة، وهو المحال لذاته: كقلب الحقائق، وجمع الضدين.

وفي جواز التكليف به تردد بناء على جواز تصوره واقعًا، أي المكلف به يستدعي جواز تصوره واقعًا، والممتنع هل يتصور واقعًا؟ فيه تردد، وسنحققه بعد شرح كلام المصنف.

إذا تحرر هذا، فنقول: ذهب المصنف إلى ما ذهب إليه البعض من جواز التكليف بالمحال حتى الممتنع بالذات: كجعل القديم حادثًا، وعكسه (1).

ونقل عن أكثر المعتزلة والغزالي، ومن تبعه من المتأخرين عدم الجواز في الممتنع الذي ليس امتناعه لعلم الله عدم الوقوع (2).

(1) واختاره الرازي وغيره، وذكر المصنف أنه الحق، وعليه جماهير أئمة الشافعية، كما اختاره الطوفي من الحنابلة، وهو لازم أصل الأشعري كما ذكر الآمدي، وسيأتي بيان ذلك في كلام الشارح بعد هذا.

راجع: المحصول: 1/ ق / 2/ 363، والإحكام للآمدي: 1/ 102، والإبهاج: 1/ 171، ورفع الحاجب:(1/ ق / 79/ أ)، ونهاية السول: 1/ 345، ومختصر الطوفي: ص/ 15، وإرشاد الفحول: ص / 9.

(2)

واختاره أبو حامد الإسفراييني، وابن حمدان، وابن دقيق العيد، وابن الحاجب.

راجع: المستصفى: 1/ 86 - 87، والمنخول: ص / 24، والمختصر مع شرح العضد 2/ 9، ورفع الحاجب:(1/ ق / 79 / أ- ب)، ونهاية السول: 1/ 348، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 208، وشرح الكوكب المنير: 1/ 485 - 486.

ص: 373

وذهبت معتزلة بغداد، والآمدي إلى عدم الجواز في الممتنع ذاتًا (1).

ونقل عن إمام الحرمين: أن ما تعلق العلم بعدم وقوعه لا يطلب وقوعه؛ لاستحالة الطلب (2)، ولكن يجوز ورود صيغة الأمر لا للطلب، بل لمعنًى آخر: كالإهانة في قوله تعالى: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166](3).

ثم قال المصنف: "والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات"(4).

أقول: لما تقرر أن فعله لا يعلل بالغرض، فله أن يكلف بما لا يطاق، وإن كان ذاتًا، لكن لم يقع النزاع إلا في القسم الثاني، والنزاع إنما هو في الجواز لا في الوقوع.

فإن قيل: قد وقع التكليف بالممتنع ذاتًا، وهو أنه تعالى أخبر عن طائفة بأنه ختم على قلوبهم (5) فهم لا يؤمنون، وقد أمرهم بالإيمان في كم

(1) وهو مذهب الأحناف، وذكر الآمدي أن الغزالي مال إليه، لكن المصنف أشار إلى ضعف هذه النسبة إلى الغزالي.

راجع: روضة الناظر: ص/ 28، والإحكام للآمدي: 1/ 103، والإبهاج: 1/ 172، وفواتح الرحموت: 1/ 123.

(2)

راجع: البرهان: 1/ 104.

(3)

الآية: {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [الأعراف: 166].

(4)

راجع: الإبهاج: 1/ 173، ورفع الحاجب:(1/ ق / 80/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 208.

(5)

كقوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7].

ص: 374

آيةٍ، فقد أمرهم أن يجمعوا التصديق بالله ورسوله مع عدمه، وهو جمع بين النقيضين عقلًا.

قلنا: ليس ما ذكرتم محلًا للنزاع، بل هو من القسم الأول المتفق على وقوعه، وذلك: أن الإيمان هو تصديق النبي بما علم مجيئه به ضرورة إجمالًا، فهم لم يخاطبوا بأنهم لا يؤمنون، بل أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم (1) أنهم لا يؤمنون ولو سمعوا، ولم يصدقوا به، فلا إشكال، أما لو سمعوا وصدقوا به كان من المستحيل ذاتًا، وأنّى يثبت ذلك وفي آذانهم وقر، ومن بينهم وبينه حجاب (2)!

قيل: التكليف بالمحال واقع قطعًا؛ لأن الاستطاعة مع الفعل لا قبله، وأفعال العباد مخلوقة لله تعالى، ومن هذين الأصلين نسب التكليف بالمحال إلى الأشعري، وإلا فالأشعري لم يصرح بذلك (3).

قلنا: لو صح ما ذكرتم لكان كل تكليف من قبيل المحال، وهو خلاف الإجماع، فيكون مردودًا، وهذا جواب جدلي.

(1) آخر الورقة (21 / ب من أ).

(2)

قال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].

(3)

راجع: البرهان: 1/ 103، والإحكام للآمدي: 1/ 103، والإبهاج: 1/ 173، ونهاية السول: 1/ 345.

ص: 375

وتحقيق الجواب: أن الاستطاعة المجوزة للتكليف عبارة عن سلامة الأسباب والآلات، لا الاستطاعة إلى تكون [مع](1) الفعل، وأن أفعال العباد وإن كانت مخلوقة لله تعالى واقعة بقدرته، ولكن قدرة العبد متعلقة بها كسبًا بخلاف المتنازع فيه فإنه ليس متعلق القدرة الحادثة (2)، كما تقرر في صدر البحث.

ومما يجب التنبه له: أن المراد بالتكليف هو المعنى الذي سبق في بحث الأحكام الذي من لوازمه استحقاق الثواب والعقاب، لا الطلب الذي يراد منه التعجيز، كما في التحدى بالقرآن، أو التسخير، كما في قوله تعالى:{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [لأعراف: 166]، فإنه لم يخالف أحد في جوازه.

فقد ظهر أن تفصيل إمام الحرمين لم يتضمن زيادة فائدة:

[لأنه قائل بعدم الجواز في القسمين الأخيرين، كما هو مختار الغزالي ومن تبعه (3).

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

قد افترض إمام الحرمين هذا الاعتراض الذي أورده الشارح، ثم قال -عقب ذلك-:"والعبد مطالب بما هو من فعل ربه، ولا ينجي من ذلك تمويه المموه بذكر الكسب، فإنا سنذكر سرَّ ما نعتقده في خلق الأعمال إذ لا يجمله هذا الموضع" البرهان: 1/ 103.

(3)

وبهذا قال المصنف، وغيره في أن مذهب الإمام لا يختلف عما اختاره الغزالي ومن تبعه.

راجع: الإبهاج: 1/ 171، ورفع الحاجب:(1/ ق/ 79 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 208.

ص: 376

فإن قلت: إمام الحرمين لو كان موافقًا للغزالي لم يفرده المصنف بالذكر، بل مذهب الإمام عدم الجواز في الثلاثة؛ لأنه قال: طلب الفعل محال ممن هو عالم باستحالة وقوع الفعل المطلوب.

قلت: يجب حمل كلامه على القسمين الأخيرين بقرينة الإجماع، وإنما أطلق لظهوره] (1).

وأن قول المصنف: والحق وقوع الممتنع بالغير لا بالذات ليس بحق لما علمت أن قسمًا من الممتنع بالغير، وهو الذي ليس متعلق القدرة الحادثة لم يقل أحد بوقوعه مع كونه ممكنًا في ذاته، وهو الذي أشرنا إليه في صدر البحث أنه الذي وقع النزاع فيه. وتحقيق هذه المسألة على هذا الوجه من نفائس الأبحاث، والله الموفق.

قوله: "مسألة: الأكثر أن حصول الشرط الشرعي ليس شرطًا في صحة التكليف".

أقول: قد اختلف في أن حصول الشرط الشرعي هل هو شرط في صحة التكليف أم لا؟

ولا بد -أولًا- من معرفة معنى الشرط، فالشرط -عندهم- ما يتوقف عليه وجود الشيء ولا يكون موثرًا فيه ولا مستلزمًا له، بل يوجد بدون المشروط: كالطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة، فإنها شروط شرعية للصلاة، ووجودها بدون الصلاة معلوم ضرورة، وإنما قيد الشرط بالشرعي؛

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 377

لأن العقلي -كالحياة، والقدرة- لا خلاف في اشتراط وجوده، ومناط الخلاف هو شرط الصحة شرعًا لا شرط الوجوب، ولا شرط وجوب الأداء [للاتفاق على أن شرط الوجوب ما لم يتحقق لا يكلف به، وكذا شرط وجوب الأداء](1) ما لم يتحقق لم يجب الآداء (2).

إذا تقرر هذا فنقول: ذهب الجمهور إلى أن التكليف بالمشروط لا يتوقف على وجود الشرط الشرعي.

وخالف في ذلك الشيخ أبو حامد (3)، وبعض الحنفية. وصوروا الخلاف في مسألة جزئية وهي: تكليف الكافر بالفروع (4).

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

(2)

راجع: الإبهاج: 1/ 178، وحاشية التفتازاني على العضد: 2/ 12.

(3)

هو أحمد بن محمد بن أحمد المعروف بابن أبي طاهر، الشيخ أبو حامد الإسفراييني، فقيه شافعي، قدم بغداد، وانتهت إليه رئاسة الدنيا والدين بها، وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلاث مئة فقيه، من مؤلفاته: شرح المزني في تعليقة نحو من خمسين مجلدًا ذكر فيها أدلة العلماء، وبسط أدلتها، والجواب عنها، وله تعليقة أخرى في أصول الفقه، وكتاب البستان، وتوفي ببغداد (سنة 406 هـ).

راجع: طبقات الفقهاء للعبادي: ص/ 107، وطبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 103، وتأريخ بغداد: 4/ 368، والمنتظم: 7/ 277، والمختصر في أخبار البشر: 2/ 52، والعبر: 3/ 92، ودول الإسلام: 1/ 243، والوافي بالوفيات: 7/ 357، ومرآة الجنان: 3/ 15، وطبقات السبكى: 4/ 61، وطبقات الأسنوي: 1/ 57، والبداية والنهاية: 12/ 2، والنجوم الزاهرة: 4/ 239.

(4)

أطبق المسلمون على أن الكفار مخاطبون بأصول الشرائع، وباعتبارها مطالبون، وعلى أنهم مكلفون بتصديق الرسل، وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم، وإنما الخلاف في =

ص: 378

لنا -على المختار وهو وقوعه-: أن النصوص من الأوامر والنواهي مطلقة في جميع الموارد من غير تفرقة بين مكلف، ومكلف فيجب القول بالعموم لوجود المقتضى وعدم المانع.

= تكليفهم بالفروع، أعني هل التكليف بالمشروط يتوقف على وجود الشرط الشرعي، أو لا؟ وذلك: كاشتراط الإسلام لصحة العبادات، والطهارة لصحة الصلاة، فهل من شرط الفعل المأمور أن يكون شرطه حاصلًا حالة الأمر، أو لا؟

فذهب الأئمة الشافعي، وأحمد، وظاهر مذهب مالك، والأشعرية، وأكثر المعتزلة، وأبو بكر الرازي والكرخي ومن تبعهما من الحنفيه إلى أنه ليس من شرطه ذلك، بل يتوجه الأمر بالشرط والمشروط، ويكون مأمورًا بتقديم الشرط، فيجوز أن يخاطب الكفار بفروع الإسلام، كما يخاطب المحدث بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، والملحد بتصديق الرسول بشرط تقديم الإيمان بالمرسِل.

وأما بالنسبه للإمام أبي حنيفة وصاحبيه، فلم يحفظ عنهم في هذه المسألة قول، وإنما الخلاف فيها دائر بين مشايخ سمرقند، ومشايخ العراق، ومشايخ بخارى من الأحناف.

فعلماء سمرقند يقولون: هم غير مخاطبين أداء واعتقادًا، وهذا قول للشافعي، وبه قال أبو حامد الإسفراييني من الشافعية.

وعلماء بخارى يقولون: إن الكفار مخاطبون أداء فقط.

وعلماء العراق يوافقون الجمهور في تكليف الكفار في الفروع أداء واعتقادًا.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 73 - 74، وكشف الأسرار: 4/ 243، وتيسير التحرير: 2/ 148، وفواتح الرحموت: 1/ 28، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص / 325، وسلم الوصول: 1/ 370، وشرح تنقيح الفصول: ص / 162 - 163، والمختصر مع شرح العضد: 2/ 12، والمستصفى: 1/ 91، والمنخول: ص / 31، والمحصول: 1/ ق / 2/ 399، والإحكام للآمدى 1/ 110، والإبهاج: 1/ 177، ونهاية السول: 1/ 369، والتمهيد: ص / 126، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 210، والأشباه والنظائر للسيوطي: ص/253، وروضة الناظر: ص/ 28، وتخريج الفروع للزنجاني: ص/ 98، والقواعد لابن اللحام: ص / 49، والمختصر له: ص/ 68، ومختصر الطوفي: ص / 24، وشرح الكوكب المنير: 1/ 501، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 58.

ص: 379

قيل: الكفر مانع.

قلنا: ممكن الإزالة كالحدث.

قالوا: مع الكفر لا يصح وبعده لا قضاء، فلا فائدة (1).

قلنا: تضعيف العذاب على الكافر، قالوا: لو كان واجبًا لوجب القضاء.

قلنا: ممنوع إذ القضاء بأمر جديد، وإنما لم يؤمروا بالقضاء ترغيبًا لهم.

وفرق قوم بين الأوامر والنواهي، واستدلوا: بأن النواهي من باب الترك، وهي لا تحتاج إلى النية، بخلاف الأوامر فإنها متعلقة بالأفعال، وهي لا تصح بدون النية.

(1) الخلاف الذي سبق لا أثر له في أحكام الدنيا؛ لأنه ما دام الكافر كافرًا يمتنع منه الإقدام على الصلاة، ولا يجبر على فعلها، ولا يعاقب في الدنيا على تركها فلا يقاتلون بتركها جحودًا كما يقاتل المسلمون، وإذا أسلم الكافر لم يجب عليه القضاء، وإنما أثر ذلك الاختلاف في أحكام الآخرة، فإن الكافر إذا مات على كفره، فلا شك أنه يعاقب على ذلك، لكن هل يعاقب مع ذلك على تركه للصلاة، والزكاة وغيرهما، أو لا؟ وهو الخلاف الذي سبق ذكره، فمن قال: إنهم مأمورون بهذه العبادات قال: يعاقبون زيادة على تركهم الإيمان، ومن قال: إنهم غير مأمورين بها قال: إنهم لا يعاقبون إلا على ترك الإيمان فقط.

قلت: ويمكن حمل قول الذين قالوا بعدم تكليفهم بها على أحكام الدنيا أداء وقضاء.

وحمل قول الذين قالوا بتكليفهم بها على أن اعتقادها من جملة مسمى الإيمان، فيعاقبون في الآخرة من هذه الناحية، وبهذا يكون الخلاف لفظيًّا.

راجع: المحصول: 1/ ق/ 2/ 400، وشرح العضد: 1/ 12، وسلم الوصول: 1/ 373.

ص: 380

واستصوبه بعض الفضلاء (1) محتجًّا: بأنه لا معنى لكون الإيمان شرطًا شرعيًّا لترك الزنى، أو لصحته (2)، وليس بشيء؛ لأن الإتيان بالمأمور به، والاجتناب عن المنهي عنه للامتثال يتوقف على النية ليصير شرعيًّا، فلا تفاوت بين كف النفس وسائر الأفعال، فكما أن الإيمان شرط في الصلاة ليعتد بها شرعًا (3)، فكذلك شرط لترتب الثواب على كف النفس الموعود بقوله:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40].

وقال طائفة: المرتد مكلف لاستصحاب أحكام الإسلام لا غيره (4)،

وقد عرفت عدم الفرق في النصوص.

(1) جاء في هامش (أ): "هو العلامة التفتازاني"، وراجع: حاشيته على شرح العضد على المختصر: 2/ 12.

(2)

يعني لصحة الترك كي يكون صحيحًا شرعًا، بل لصحة الإيمان.

(3)

يرى الإمام الشاطبي: أن الإيمان ليس شرطًا للعبادة والتكليف، بل هو العمدة في التكليف؛ لأن معنى العبادة هو التوجه إلى المعبود بالخضوع والتعظيم بالقلب والجوارح، وهذا فرع الإيمان، فكيف يكون أصل الشيء وقاعدته شرطًا فيه؟ ! ثم يقول:"وإذا توسعنا في معنى الشرط، فيكون شرطًا عقليًّا، وليس شرطًا شرعيًا، أو شرطًا في المكلف، وليس في التكليف". الموافقات: 1/ 181، وانظر: حاشية التفتازاني على العضد: 2/ 12 - 13، وتيسير التحرير: 2/ 148 - 149.

(4)

نقل هذا القول القرافي عن القاضي عبد الوهاب المالكي وأنه قاله في الملخص ثم قال القرافي: "ومرَّ بي في بعض الكتب -لست أذكره الآن- أن الكفار وإن كانوا مخاطبين بفروع الشريعة، فالجهاد خاص بالمؤمنين لامتناع قتالهم -أي الكفار- أنفسهم". شرح تنقيح الفصول: ص / 166. ويمكن أن يكون هذا مذهبًا رابعًا في المسألة، وانظر التمهيد: ص/ 127.

ص: 381

ونقل المصنف عن والده: أن مناط الخلاف إنما هو خطاب التكليف وما يرجع إليه من الوضع، لا إتلاف الأموال ولا الجنايات، ولا ترتب آثار العقود (1)، فإن الكافر، والمسلم في ذلك سيّان.

وأقول: هذا كلام لا طائل تحته؛ لأن محل النزاع أن ما له شرط شرعي هل يجوز التكليف به قبل وجود الشرط، أم لا؟ كما تقدم، وما لا خطاب تكليف فيه لا صريحًا، ولا ضمنًا، فهو خارج عن البحث.

ثم مسألة تكليف الكافر بالفروع من جزئيات تلك القاعدة المذكورة فيما كان له شرط شرعي: كالإيمان، والطهارة، وستر العورة للصلاة، وأما ما لا شرط له شرعي (2) يتوقف عليه: كالإتلاف والجنايات، وترتب آثار العقود - فلا وجه للاختلاف فيه (3).

(1) لأن هذه الأحكام من خطاب الوضع الصرف، والكفار كالمسلمين فيها ما لم يكن الكافر حربيًا، ولا بد من وجود الشروط، وانتفاء الموانع في معاملاتهم، والحكم بصحتها أو فسادها، وترتب آثار كل عليه من بيع، ونكاح، وطلاق، وغيرها، ويشهد لذلك أن الإمام أبا حنيفة قال بصحة أنكحتهم، مع قول أصحابه بعدم تكليفهم بالفروع في الأحكام التكليفية لا الوضعية.

راجع: أصول السرخسي: 1/ 73، والإبهاج: 1/ 179، والقواعد لابن اللحام: ص / 55، والتمهيد: ص / 132، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 212 - 213، والأشباه والنظائر لابن نجيم: ص / 325، 375.

(2)

آخر الورقة (22 / ب من ب).

(3)

يرى العبادي أن تفصيل والد المصنف في محله، وأن اعتراض الشارح لا محل له، أما الإمام الزركشي فيرى أن كلام أصحاب الشافعي على إطلاقه، ولا وجه لتفصيل =

ص: 382

والحاصل: أن ما ذكره خارج عن محل النزاع، والله أعلم.

قوله: "مسألة لا تكليف إلا بفعل".

أقول: قد اختلف في متعلق النهي: ذهب الجمهور إلى فعل، وهو كف النفس عن الفعل المنهي عنه، خلافًا لأبي هاشم، ومن تبعه [فإنهم] (1) قالوا: هو العدم، وهو نفي الفعل (2).

= والد المصنف، ولا تصح -عنده- دعوى الإجماع في الإتلاف والجنايات، بل الخلاف جار في الجميع، ثم ذكر أمثلة لذلك.

قلت: لعل والد المصنف أشار بكلامه إلى عدم اختصاص الخلاف بخطاب التكليف، بل قد يلحق به بعض أقسام الوضع دون بعض.

راجع: تشنيف المسامع: ق (19/ ب- 20 / أ)، والآيات البينات: 1/ 290، وحاشية البناني على المحلى: 1/ 212.

(1)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

لا خلاف أن المكلف به في الأمر الفعل، وأما المكلف به في النهي، فقد ذكر المصنف فيه أربعة مذاهب، والشارح ذكر ثلاثة، ثم أرجعها إلى مذهبين.

راجع: المستصفى: 1/ 90، والمحصول: 1/ ق/ 2/ 505، وروضة الناظر: ص / 29، والإحكام للآمدي: 1/ 112، وشرح تنقيح الفصول: ص / 171، والمسودة: ص / 80، وشرح العضد: 2/ 13، والإبهاج: 1/ 70 - 71، والتمهيد: ص / 98 - 99، ومختصر الطوفي: ص / 17، وتشنيف المسامع: ق (20/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 213، وتيسير التحرير: 2/ 135، وفواتح الرحموت: 1/ 132، والمدخل إلى مذهب الإمام أحمد: ص / 59.

ص: 383

وقال قوم: هو فعل الضد، وهذا هو عين المذهب المختار؛ إذ كف النفس من جزئيات فعل الضد (1).

قوله: "وقيل: يشترط قصد الترك"(2)، خارج عن محمل النزاع؛ لأن الكلام في متعلق النهي، وماذا يصح له عقلًا.

وأما مقارنة القصد، فإنما يعتد به لتحصيل الثواب (3)، فلا وجه له في معرض تقسيم المذاهب، ولذلك ترى المحققين لم يذكروا سوى قسمين، وهما الأول والثالث.

قال الإمام في "المحصول": "المطلوب بالنهي -عندنا- فعل الضد، خلافًا لأبي هاشم"(4).

(1) هذا القول فيه تفصيل بين الترك المجرد المقصود لنفسه من غير أن يقصد معه ضده، فيكون التكليف فيه بالفعل: كالصوم، فالكف فيه مقصود ولهذا وجبت فيه النية، وبين الترك المقصود من جهة إيقاع ضده: كالزنى والشرب، فالمكلف فيه بالضد، وهذا التفصيل هو ظاهر كلام الإمام الغزالي.

راجع: المستصفى: 1/ 90.

(2)

يعني يشترط في الإتيان بالمكلف به في النهي مع الانتهاء عن المنهي عنه قصد الترك له امتثالًا، فيترتب العقاب إن لم يقصد.

(3)

وهي مسألة أخرى، وبقول الشارح واعتراضه على المصنف قال الزركشي والمحلي من قبله، غير أن العبادي رد على الشارح اعتراضه، ولم يرد على غيره ممن سبق ذكره.

راجع: تشنيف المسامع: ق (20/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 216، والمسودة: ص/ 80، والآيات البينات: 1/ 293 - 294.

(4)

المحصول: 1/ ق/ 2/ 505، وانظر: شرح تنقيح الفصول: ص/ 171.

ص: 384

البيضاوي: "مقتضى النهي -عندنا- فعل الضد، ثم قال -في جواب أبي هاشم حيث استدل على أن ترك الزنى مدح-: قلنا: المدح على الكف"(1)، اختار أنه فعل الضد، ثم حكم عليه وعينه بالكف، فقد صرح بأن الكف من الأضداد.

لنا: أن العدم غير مكلف به؛ لأنه غير مقدور لأن العدم الأصلي مستمر، فلا يكون للقدرة فيه أثر مستند إليها.

قالوا: (2) يكفي في الأثر أن لا يفعل فيستمر، أو يفعل فلا يستمر (3).

قلنا: ممنوع؛ لأن الأثر هو الفعل الحاصل بعدما لم يكن، واستمرار الشيء بالمعنى المذكور لا يسمى أثرًا، وإن اصطلح عليه، فلا يجدي؛ إذ الكلام في متعلق النواهي الواردة في كلام الشارع وتعيين ما كلف به.

وقد سبق أن متعلق الخطاب فعل المكلف، ولا ريب في أن استمرار العدم الأصلي لا يُعَدُّ من فعل المكلف قطعًا.

وتحقيق هذه المسألة -على هذا الوجه- مما لم يَحُمْ أحد حوله، والله الموفق.

(1) الإبهاج: 2/ 70، والابتهاج: ص / 75.

(2)

آخر الورقة (22 / ب من أ).

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "قائله المولى المحقق عضد الملة والدين عامله الله بما يليق به من جلائل النعم".

راجع: شرحه على المختصر: 2/ 14.

ص: 385

قوله: "والأمر -عند الجمهور- يتعلق بالفعل قبل المباشرة".

أقول: هذه المسألة من غوامض مسائل الأصول (1).

ونحن نذكر ما قصده المصنف من نقل المذاهب، ونحقق الحق بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

ذكر أن الجمهور: على أن الأمر يتعلق بالفعل بعد دخول وقته قبل المباشرة على وجه الإلزام (2).

(1) قال الإمام القرافي: "هذه المسألة لعلها أغمض مسألة في أصول الفقه، والعبارة فيها عسرة الفهم". شرح تنقيح الفصول: ص/ 146.

وقال المصنف: "المسألة من مشكلات المواضع، وفيها اضطراب في المنقول، وغور في المعقول" الإبهاج: 1/ 165.

وقد ذكر الزركشي بأن النقول فيها مضطربة.

راجع: تشنيف المسامع: ق (20 / أ).

(2)

للحكم تعلقان: تعلق موجود قبل دخول الوقت، وقبل تحقق شرائط التكليف التي منها وجود المكلف، فهذا التعلق معنوي، قديم، وهو عبارة عن الإعلام والإخبار بأن يدًا من الناس سيصير مأمورًا بكذا، أو منهيًّا عن كذا عند وجوده واستيفائه لشرائط التكليف، والأمر والنهى في هذا التعلق حكمان، ولكن لا يطلق عليهما تكليف لعدم الإلزام فيهما لأن التكليف إلزام ما فيه

كلفة، وهو ليس محل الخلاف في هذه المسألة.

التعلق الثاني: لا يتوجه إلى العبد إلا بعد استيفائه لشرائط التكليف من وجود، وبلوغ، وعقل، وفهم للخطاب -على رأي من يمنع تكليف الغافل- وقدرة على الفعل- على رأي من يمنع التكليف بالمحال، أو بما لا يطاق، وهذا تعلق =

ص: 386

ولو بدل لفظ الأمر بالتكليف كالشيخ ابن الحاجب (1) كان هو الصواب؛ إذ لا يتفاوت الأمر والنهي في ذلك.

ثم قال: والأكثر من الجمهور على الاستمرار حال المباشرة خلافًا للإمامين (2)، فإنه عندهما ينقطع، وإلا يلزم تحصيل الحاصل (3).

= تنجيزي حادث، وهو عبارة عن الإلزام بتحصيل الفعل المأمور به في الأمر، والإلزام بالكف عنه في النهي، وهذا هو محل الخلاف في هل يتوجه التكليف بالفعل قبل حدوثه، أو عند المباشرة، أو قبلها؟ وإذا توجه قبلها، فهل يستمر إلى وقتها، أو لا؟ على نحو ما ذكر الشارح، غير أنهم اتفقوا على أن التكليف لا يمكن بعد حدوث الفعل.

راجع: المعتمد: 1/ 165 - 167، والبرهان: 1/ 276، والمستصفى: 1/ 85، والمحصول: 1/ ق / 2/ 456، والإحكام للآمدي: 1/ 113، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 146، والمسودة ص / 55، وشرح العضد: 2/ 14، والإبهاج: 1/ 165، ونهاية السول: 1/ 329، وتشنيف المسامع: ق (20/ أ- ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 77، 216، وتيسير التحرير: 8/ 141، وفواتح الرحموت: 1/ 134، وإرشاد الفحول: ص / 9 - 10.

(1)

راجع: مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 2/ 14.

(2)

يعني إمام الحرمين، والغزالي.

راجع: البرهان: 1/ 276، والمستصفى: 1/ 85.

(3)

وقد رد الآمدي على الإمامين بأنه يلزم منه الأمر بإيجاد ما كان موجودًا، وهو ممنوع، أو بما لم يكن موجودًا، ودعوى إحالته نفس محل النزاع.

راجع: الإحكام له: 1/ 113.

ص: 387

وقال قوم: لا يتوجه التكليف إلا عند المباشرة (1)، وحكم المصنف بأنه التحقيق (2).

واستشكل: بأنه إذا كان التكليف عند المباشرة، فلمَ وقع اللوم قبلها؟

أجاب: بأنه لِيمَ على كف النفس عن الفعل، وذلك الكف منهيّ عنه.

هذا، وإن شئت تحقيق المقام بما لا مزيد عليه، فاسمع لما يتلى عليك.

أقول: قد نقل عن الشيخ الأشعرى: أن القدرة الكاسبة للفعل مقارنة له ولا يجوز تقدمها؛ لأنها عرض، وعنده أن العرض لا يبقى زمانين (3)، فلو تقدمت لزم وقوع الفعل بلا قدرة، وهو محال فثبت أنها معه (4)، فالتكليف بالفعل لا يكون إلا عند المباشرة لا قبله، وعلى هذا مشى جمهور الأصوليين.

(1) وما قبل ذلك إنما هو إعلام للعبد بأنه في الزمان الثاني -وهو وقت المباشرة- يكون مكلفًا بالفعل.

(2)

واختاره الإمام الرازي وحكاه عن الأشاعرة، ورجحه القاضي البيضاوي، وذكر إمام الحرمين أن هذا المذهب لا يرتضيه لنفسه عاقل، واعتبر الآمدي القائل به شاذًا، كما ضعفه الأسنوي والبناني، وسكت عنه المحلي واكتفى بنسبته إلى المصنف.

راجع: البرهان: 1/ 279، والمحصول: 1 / ق / 2/ 456، والإحكام 1/ 113، والإبهاج: 1/ 165، ونهاية السول: 1/ 331، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 217.

(3)

سيأتي الكلام على هذه المسألة في آخر الكتاب 4/ 382.

(4)

راجع: البرهان: 1/ 277، وتشنيف المسامع: ق (20/ ب).

ص: 388

وهذا باطل، بل لا يرتضي أحد من الناس بهذا المذهب فضلًا عن إمام أهل السنة.

وذلك؛ لأن هذا القول خارق للإجماع؛ إذ القاعد عند دخول الوقت مكلف بالقيام إلى الصلاة إجماعًا.

ومخالف لنص الكتاب مثل: {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78].

ولأن مفهوم التكليف الذي هو الاقتضاء الجازم يستدعي الحصول في الزمان المستقبل، كما سبق تحقيقه في بحث الأحكام (1).

وعليه قاعدة اللغة، كما عرف في بحث الأمر والنهي، وسيحقق هناك (2).

والذي ثبت عن الأشعري: أن القدرة مع الفعل حق، ولكن لا يلزم أن يكون التكليف معه، بل التكليف الذي هو الطلب سابق على المطلوب المقدور، فالطلب سابق، والمطلوب المقدور لاحق.

فإن قلت: إذا كان القدرة على الفعل معه، فالتكليف قبل القدرة تكليف بالمحال، والأشعري، وإن قال بجوازه لم يقل بوقوعه.

قلت: الاستطاعة عند الأشعري تطلق على القدرة المذكورة، وعلى سلامة الأسباب والآلات، وصحة التكليف مبنية على الثانية لا على الأولى، فاندفع الإشكال.

(1) تقدم 1/ 243 - 246 وما بعدها.

(2)

سيأتي في بابه.

ص: 389

ويؤيد ما قلنا ما ذكره بعض المحققين (1): من أن التكليف بالفعل ثابت قبل حصوله ومنقطع بعده اتفاقًا، وهل هو باق حال الحدوث؟

قال به الشيخ، ومنعه إمام الحرمين والمعتزلة.

فإن قلت: فما الحق في المسألة - ما ذهب إليه الشيخ، أم الذي اختاره الإمام من الانقطاع؟

قلت: الحق ما ذهب إليه الشيخ، وبيان ذلك يتوقف على معرفة مقدمة، وهي أن التأثير هل هو معنى مغاير للأثر في الخارج، أم هو عينه؟

مختار الشيخ: أن الأثر عين التأثير في الخارج.

ولا شك أن التكليف موجود مع التأثير، وإلا لم يكن التأثير مكلفًا به، وإذا كان موجودًا معه -وهو عين الأثر عند الشيخ- فقد صح أن التكليف حال حدوث الأثر باق.

فإن قلت: كيف يتصور عدم بقاء التكليف بعد وقوع الفعل، والتكليف أزلي، وما ثبت قِدَمه امتنع عدمه؟

قلت: الزائل هو التكليف التنجيزي لا التعلق العقلي الأزلي كما تقدم مثله في المباحث السابقة.

فقد تبين بهذا التقرير أن الشيخ قائل بثبوت التكليف قبل الفعل، وهو مستمر حال الحدوث، ولم يتوجه إشكال على ما هو المختار عنده،

(1) جاء في هامش (أ، ب): هو المولى المحقق عضد الملة والدين.

راجع: شرحه على المختصر: 2/ 14.

ص: 390

والإشكال إنما كان ينشأ من عدم تحقيق معنى الاستطاعة، والحكم بالمغايرة بين التأثير والأثر في الخارج.

وإذا ظهر لك هذا علمت أن قول المصنف: لا يتوجه التكليف إلا عند المباشرة هو التحقيق، بمعزل عن التحقيق، وما تكلف بعده من تقدير السؤال والجواب مما لا معنى له، وكل ذلك إنما نشأ من عدم تحقيق معنى الاستطاعة، واغترَّ بظاهر قولهم: الاستطاعة مع الفعل.

قوله: "مسألة: يصح التكليف، ويوجد معلومًا للمأمور إثره".

أقول: قد اختلف في أنه هل يصح التكليف بالفعل مع علم الآمر بانتفاء شرطه في وقته، أم لا؟

الجمهور على صحته، خلافًا لإمام الحرمين (1) والمعتزلة (2).

(1) آخر الورقة (23 / ب من ب).

(2)

منشأ الخلاف في هذه المسألة هو: هل فائدة التكليف هي الامتثال فقط، أو الامتثال والابتلاء معًا؟ فذهب الجمهور إلى أن فائدة التكليف الامتثال والابتلاء، وبناء على هذا يصح التكليف بالفعل، مع علم الآمر بانتفاء شرطه.

وذهب المعتزلة إلى أن فائدته الامتثال فقط، وبناء على ذلك لا يصح التكليف بالفعل مع علم الآمر بانتفاء شرطه، وهو قول الجويني، وتظهر فائدة الخلاف في المُجامع في نهار رمضان إذا مات، أو جُن في أثناء النهار، هل تجب في تركته الكفارة؟ فعلى مذهب الجمهور نعم تجب في تركته، وعلى القول الآخر لا تجب؛ لأنه لم يكن مأمورًا للعلم بانتفاء شرط وقوعه عند وقته. =

ص: 391

لنا: لو لم يصح لم يعلم إبراهيم وجوب الذبح لانتفاء شرطه في وقته، وهو عدم النسخ [نريد أن الآمر، وهو الله تعالى كان عالمًا بانتفاء الشرط، مع أنه أوجب الذبح على إبراهيم وكلفه به](1).

لنا -أيضًا-: لو لم يصح ذلك لم يعص أحد؛ لأن كل فعل لم يصدر عن المكلف لا بد من انتفاء شرط من شروطه كمتعلق إرادة الله به مثلًا، فلو كان كل شرط علم الآمر عدم وجوده في وقت المشروط المأمور به مانعًا من التكليف لم تكن الصلاة المتروكة -عمدًا- تاركها عاص؛ لأنه ليس مكلفًا بها؛ لأن الآمر عالم بانتفاء شرط في الوقت، وهو باطل إجماعًا.

المخالف: لو صح ما ذكرتم لزم التكليف بالمحال؛ لأن الفعل عند انتفاء شرطه ممتنع الوقوع، واللازم باطل.

قلنا: الإمكان الذاتي موجود؛ لأن الإتيان بالفعل في وقته أمر متعارف عادة، وذلك كاف في صحة التكليف.

وأما الإمكان: بمعنى استجماع الشرائط، فهو الذي وقع النزاع فيه.

= راجع: الإحكام للآمدي: 1/ 118، والمسودة: ص / 52، 54، ونهاية السول: 1/ 343، والقواعد لابن اللحام: ص / 189، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 218، وفواتح الرحموت: 1/ 151، وتيسير التحرير: 2/ 240، وتشنيف المسامع: ق (21/ أ)، وشرح الكوكب المنير: 1/ 496، وإرشاد الفحول: ص / 10.

(1)

ما بين المعكوفتين سقط من (ب) وأثبت بهامشها.

ص: 392

قالوا: لو صح لصح، مع علم المأمور -أيضًا- وهو باطل اتفاقًا.

قلنا: الفرق ظاهر؛ لانتفاء فائدة [التكليف](1) هنا بخلافه هناك؛ إذ لا معنى للتكليف مع علم المأمور بأنه لا يقع؛ لانتفاء شرطه لأن الغرض من التكليف هو الابتلاء، ومع علم المأمور بانتفاء شرط الفعل لم يعقل ابتلاء، هذا تقرير الكلام على ما عليه المحققون.

وقد خالف المصنف في الشق الثاني، وجوز (2) علم المأمور -أيضًا- بانتفاء الشرط (3)، وقد عرفت الفرق بينهما.

(1) سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(2)

آخر الورقة (23 / ب من أ).

(3)

واختاره من قبل المصنف المجد بن تيمية حيث قال -بعد ذكره الخلاف في المسألة الأولى: - "وينبغي على مساق هذا أن نجوزه، وإن علم المأمور أنه يموت قبل الوقت، كما يجوز توبة المجبوب من الزنى، والأقطع من السرقة، وتكون فائدته العزم على الطاعة بتقدير القدرة

" المسودة ص/ 53.

واستند المصنف -في اختياره المذكور- إلى مسألة فقهية، وهي: أن من علمت بالعادة، أو بقول المعصوم صلى الله عليه وسلم أنها تحيض في أثناء يوم معين من رمضان هل يجب عليها افتتاحه بالصوم، أو لا؟

فالأظهر الوجوب لأن الميسور لا يسقط بالمعسور، واختاره الغزالي وغيره، وقالت المعتزلة لا يجب لأن صوم بعض اليوم غير مأمور به.

قلت: جمهور الأصوليين أطبقوا على المنع، ونقل الآمدي والصفي الهندي الاتفاق على عدم صحة التكليف بذلك ورجحه المحلي وغيره.

راجع: الإحكام: 1/ 119، والعضد على المختصر: 2/ 17، وتشنيف المسامع: ق (21/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 220.

ص: 393

وأما عند جهل الآمر حيث يتصور الجهل (1)، فالاتفاق على جوازه.

قوله: "خاتمة: الحكم قد يتعلق على الترتيب".

أقول: قد ختم مقدمة الكتاب بمسألة فرعية خارجة عن الفن؛ لاشتمالها على نوع غرابة، جريانها في أكثر الأحكام.

وهي أن الحكم قد يتعلق بفعل المكلف، مع اشتراط الترتيب، فيحرم الجمع: كأكل المذكَّى مع أكل الميتة، إذ جواز أكل الميتة مشروط بعدم الظفر بالمذكَّى.

أو يباح: كالوضوء مع التيمم، فإن الجمع بينهما مباح.

ومعناه: أنه لو أتى به على وجه التعليم لشخص، أو على وجه التعلم يباح له ذلك، ولا يأثم [لا أن](2) التيمم مع الوضوء غير صحيح شرعًا.

أو يسن الجمع: كالجمع بين خصال الكفارة، فإن الواحد واجب، والإتيان بالجميع مستحب.

وقد يتعلق الحكم على سبيل البدل، ويحرم الجمع: كتزويج المرأة من كل من الخاطبين، فإن الجمع حرام، ومن كل بدل الآخر جائز، والله أعلم.

(1) بأن ينتفي شرط وقوعه عند وقته، وهذا يكون إذا كان الآمر غير الشارع كأمر السيد عبده بخياطة ثوب غدًا، فهذا متفق على صحته ووجوده.

راجع: المحصول: 1 / ق/ 2/ 462، والمحلي وحاشية البناني عليه: 1/ 220.

(2)

جاء في (ب): "لأن

" والمعنى غير صحيح والمثبت من (أ) هو الصواب سياقًا ومعنًى، مع أنه جاء في هامش (أ): "ألف أن" ولفظ غير وجدتهما ملحقتين بين الأسطر في نسخة المصنف، والظاهر أن إحداهما كافية عن الأخرى فليتأمل، بل لا بد منهما معًا".

قلت: والعبارة الأخيرة، وهي "بل لا بد منهما معًا" هي الصواب كما سبق.

ص: 394