الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الأول في الكتاب ومباحث الأقوال
الكتاب الأول في الكتاب ومباحث الأقوال
قوله: "الكتاب الأول في الكتاب".
أقول: لمّا فرغ من المبادئ والمقدمات التي تنبني عليها مسائل الفن، شرع فيها وابتدأ بالأبحاث المتعلقة بالكتاب؛ لأن مرجع الأدلة كلها إليه، بل إلى الكلام النفسي (1) القائم بذاته -تعالى -كما سنحققه عن قريب.
والكتاب -لغة-: مصدر بمعنى المكتوب (2) غلب على كتاب الله - تعالى المنزل على نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم- في عرف الشرع، كما غلب عند أهل العربية على كتاب سيبويه (3).
(1) هذا هو قول الأشاعرة وابن كلاب وقد تقدم الإشارة إلى ما هو الصحيح في المسألة، وسيأتي زيادة توضيح لها في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى.
(2)
راجع: مختار الصحاح: ص/ 562، والمصباح المنير: 2/ 524.
(3)
هو عمرو بن عثمان بن قنبر إمام البصريين أبو بشر، كان علامة حسن التصنيف، جالس الخليل وأخذ عنه، صنف الكتاب في النحو، وهو من أجل ما ألف في هذا الفن، وتوفي سنة (180 هـ).
راجع: طبقات النحويين: ص / 66، وإنباه الرواة: 2/ 346، والبلغة: ص/ 173، وبغية الوعاة: 2/ 229، وشذرات الذهب: 1/ 252.
ويستعمل مرادفًا للقرآن، لكن القرآن أشهر منه، ولهذا فسره به.
وهو كلام الله المنزل على رسوله محمد، المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا نقلًا متواترًا للإعجاز بسورة منه (1).
فبعضهم: جمع الصفات كلها للتوضيح (2).
وبعضهم: اقتصر على الإنزال والكتابة في المصاحف؛ لأن المقصود معرفته بصفاته المشهورة عند من لم يشاهد التحدي من النبوة (3).
وبعضهم: اعتبر الإنزال والإعجاز، إذ الكتابة، والنقل ليسا من الأوصاف اللازمة، وإليه نحا المصنف (4).
فقوله: "اللفظ المنزل". يشمل الكتب السماوية بأسرها، وقوله:"على محمد"، يخرجها.
(1) هذا التعريف اختاره التفتازاني في التلويح: 1/ 26.
(2)
راجع: مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 12/ 7، والتعريفات: ص/ 174، وتيسير التحرير: 3/ 3 - 4، والمذكرة للشيخ الشنقيطي: ص / 70، وإمتاع العقول: ص / 27.
(3)
راجع: أصول السرخسي: 1/ 279، والمستصفى: 1/ 101، وروضة الناظر: ص/ 34، والإحكام للآمدي: 1/ 120، وكشف الأسرار: 1/ 21 - 22، وفواتح الرحموت: 2/ 7، وإرشاد الفحول: ص / 29.
(4)
راجع: مختصر ابن الحاجب: 2/ 18 - 19، والإبهاج: 1/ 190، ونهاية السول: 2/ 3، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 223، وتشنيف المسامع: ق (21 / ب)، ورفع الحاجب:(1 / ق / 120 / أ)، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص / 87.
وقوله: "للإعجاز"، يخرج الأحاديث القدسية؛ لأنها منزلة من عند الله، لكن ليست للإعجاز، إذ نظم ذلك غير معجز ولا مصون عن تصرف الغير.
وقوله: "بسورة منه" تعميم لمعنى الإعجاز في أجزائه، وتخصيص للقدر المتحدى به.
والمراد: أقصر سورة منه؛ لأن السورة -وإن كانت نكرة في الإثبات- لكن أريد بها العموم، كما لا يخفى.
والسورة: طائفة من القرآن مترجم أولها وآخرها (1) توقيفًا، أقلها ثلاث آيات (2). والقيد الأخير لإخراج الآية، وإطلاق السورة أعم من أن تكون سورة أو مقدارها، فهو من عموم المجاز.
(1) جاء في هامش (أ): "واستشكله العلامة التفتازاني ولم يجب بشيء، فزاد المؤلف: أقلها ثلاث آيات، فاندفع النقض بالآية، إذا الآية، وإن كانت مترجمة أولها وآخرها، ولكن الآية لا تشتمل على آية أخرى هـ".
وراجع: التلويح على التوضيح: 1/ 27، وحاشية التفتازاني على العضد: 2/ 18 - 19.
(2)
هذا التعريف للجعبري، والسورة تهمز ولا تهمز، وسميت بذلك قيل: لأنها تحيط بآياتها كإحاطة السوار بالساعد، وقيل: لارتفاعها، وعلو منزلتها لكونها كلام الله تعالى، كقول النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة
…
ترى كل ملك دونها يتذبذب
وقيل: لتركيب بعضها على بعض من التسور بمعنى التصاعد والتركب، ومنه:{إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21].
راجع: البرهان للزركشي: 1/ 63، 2/ 264، والإتقان للسيوطي: 1/ 150، وأسرار ترتيب القرآن: ص / 68، وديوان النابغة: ص / 13.
وقوله: "منه" صفة سورة، أي: من جنس المنزل إذ المراد بالمنزل أعم من الكل والبعض، فإن القرآن يطلق على الكل المجموعي، وكل بعض منه، وهو المناسب للغرض الأصولي؛ إذ الاستدلال على الأحكام إنما هو بالأبعاض لا غير، وإنما وصف السورة؛ لأن السورة أعم من أن تكون في القرآن، أو غيره بدليل سورة الإنجيل.
فإن قلت: إذا كان المراد البعض، فيتناول كل بعض ولو حرفًا، وليس كذلك قطعًا، وإن أريد قدر معين، فما ذلك، وما الدليل على ذلك التعيين (1)؟
قلت: أريد بعض معين، وذلك هو المقدار الذي يصلح أن يكون مآخذ الحكم، قلَّ لفظه أو كثُر، وغرض الأصولي قرينة المقام.
ثم قوله: "المتعبد بتلاوته" مما لم يتعرض له المحققون، وهو غير محتاج إليه إذ منسوخ التلاوة لم يخف على أحد حتى الصبيان يعلمون أنه ليس بقرآن، ولا ثبت أنه كان قرآنًا؛ لأن طريق ثبوت مثله التواتر، ولا تواتر فيه أنه كان فنسخ، بل نقل ذلك الخبر آحادًا.
واعلم أن القرآن والكتاب لفظان مشتركان بين المعنى القائم بذاته تعالى -وهي صفة تنافي السكوت والآفة- وبين اللفظ المتلو على ألسنة العباد الحادث.
(1) جاء في هامش (أ): "هذا السؤال استشكله العلامة التفتازاني في التلويح، فأجاب عنه المؤلف بهذا الجواب".
وراجع: التلويح: 1/ 27.
وعلى الأول: كل منهما عَلَم شخصي لذلك المعنى القائم بذاته تعالى.
وعلى الثاني: عَلَم جنس لاختلاف المحال، وهي ألسنة العباد، إذ اختلاف المحال ينافي التشخص؛ لأن البياض القائم بالورق غير البياض القائم بالثلج بلا ريب واللفظ حقيقة في كلا المعنيين، والمنكر لأحدهما كافر؛ لانعقاد الإجماع على ذلك.
ومن قال (1) بتشخصه بالمعنى الثاني يلزمه أن لا يكون ما يقرأه زيد وعمرو قرآنًا ضرورة انتفاء التشخص، وهو باطل قطعًا.
قوله: "ومنه البسملة أول كل سورة -غير براءة- على الصحيح".
أقول: نقل عن الشافعي رضى الله عنه في كون البسملة من القرآن قولان.
وللأصحاب طريقان: إحداهما: أن له قولين في كل سورة، وأصحها: أن له قولًا واحدًا في الفاتحة، وهو: أنها آية مستقلة فيها، وفي البواقي قولين، وذلك: لأن الأحاديث في الفاتحة كثيرة جدًّا بخلاف سائرها.
ومن الأصحاب من حمل (2) القولين على كونها مستقلة، أم مع ما بعدها آية؟
(1) جاء في هامش (أ): "ذكره صدر الشريعة، وتبعه المحلي".
راجع: التوضيح لمتن التنقيح: 1/ 28، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 224.
(2)
آخر الورقة (24 / ب من ب).
قال بعض المحققين (1): هذا هو الأصح لتكون القرآنية مقطوعًا بها، ويكون النظر والاجتهاد في كونها آية مستقلة، أم مع ما بعدها؟ وهو كلام في غاية المتانة، وعلى كلا التقديرين لفظة "من" في كلام المصنف تبعيضيه (2).
لنا -على المختار وهو أنها من القرآن-: اتفاق الصحابة على كِتْبتها في المصاحف العثمانية كلها، ولا إجماع يوجد من الصحابة على حكم شرعي مثل هذا؛ لأن كِتْبة المصاحف كان بعد مشاورات،
(1) جاء في هامش (1): "هو العلامة التفتازاني هـ".
وراجع: حاشتيه على مختصر ابن الحاجب: 2/ 21.
(2)
اتفق العلماء على أن البسملة بعض آية من القرآن في سورة النمل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30].
ثم اختلفوا في غير ذلك:
فذهب عطاء، والشعبي، والزهري، والثوري، وابن المبارك، وأحمد في رواية، وإسحاق، وأبو عبيد، وداود، ومحمد بن الحسن، والأرجح عند أبي حنيفة وأكثر القراء السبعة إلى أن البسملة آية من القرآن.
وذهب مالك وأصحابه، والأوزاعي، وابن جرير الطبري، وبعض الحنفية، ورواية عن أحمد، وهو قول القاضي الباقلاني، ومكي بن أبي طالب إلى أن البسملة ليست بقرآن كلية. وذهب البعض إلى أنها من الفاتحة، وهي رواية عن أحمد، اختارها من أصحابه ابن بطة، وأبو حفص العكبري، وبالنسبة لمذهب الشافعي، فقد كفانا الشارح بيانًا وتحقيقًا له. راجع: صحيح ابن خزيمة: 1/ 248، وتفسير الطبري: 1/ 37، وشرح السنة للبغوي: 3/ 52، وزاد المسير: 1/ 7، والكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/ 15 - 24، والمجموع للنووي: 3/ 333 - 240، وشرح مسلم له: 4/ 113، ومجموع الفتاوى: 13/ 399، وتفسير ابن كثير: 1/ 17، وتفسير الشوكاني: 1/ 17، وأصول السرخسي: 1/ 280، والمستصفى: 1/ 102، وتيسير التحرير: 3/ 7، وإرشاد الفحول: ص/ 31.
ومراجعات بحيث لم يكد يخفى على أحد، وبدون ذلك لم يرضوا حيث لم يكن قرأنًا كالنقط والشكل.
والحق: أن هذا الإجماع يدل على كونه قرآنًا، وأما على كونه آية في موضع، فلا.
والدليل على كونها آية من كل سورة، الأحاديث الواردة: كقول ابن عباس: "سرق الشيطان من الناس آية"(1).
وحديث أبي هريرة (2): "سورة الفاتحة سبع آيات أولهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ"(3).
(1) حسب تتبعي المحدود لم أعثر على مرجع لهذا الأثر بهذا اللفظ، ولكنه قد ورد عن ابن عباس بأنها آية من الفاتحة.
راجع: السنن الكبرى للبيهقي: 2/ 44 - 45، والمصادر التي سبق ذكرها آنفًا.
(2)
هو عبد الرحمن بن صخر الدوسي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة سنة سبع، وأسلم، وشهد خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُنِّيَ بأبي هريرة لأنه وجد هرة، فحملها في كمه، ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم رغبة في العلم، وشهد له في العلم والحرص عليه، ودعا له بالحفظ، فكان أحفظ الصحابة حيث روى من حفظه أربعة وسبعين وثلثمائة وخمسة آلاف حديث، وروى عنه أكثر من ثمانمائة رجل، وتوفي بالمدينة (سنة 57 هـ).
راجع: الإصابة: 4/ 202، والاستيعاب: 4/ 202، وصفة الصفوة: 1/ 685، ومشاهير علماء الأمصار: ص/15، وشذرات الذهب: 1/ 63.
(3)
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول: "الحمد لله رب العالمين سبع آيات إحداهن بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم، وهي أم القرآن، وهي فاتحة الكتاب".
والحديث رواه أحمد، والدارقطني، والبيهقي، واللفظ السابق له. =
وحديث أم سلمة (1): "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة، وعد البسملة آية منها"(2)، وعليه قراء الكوفة، ومكة، وجم غفير من الفقهاء.
= وقد أعل الحديث ابن القطان بالتردد رفعًا ووقفًا، وصحح غير واحد من الأئمة وقفه على رفعه، كما تكلم فيه ابن الجوزي من أجل عبد الحميد بن جعفر، فإن فيه مقالًا، ولكن قواه بمتابعة نوح له، وإن كان نوح رواه موقوفًا، ولكن له حكم المرفوع إذ لا دخل للاجتهاد في عد آي القرآن، قال الحافظ: رجاله ثقات، وصححه الدارقطني.
راجع: مسند أحمد: 2/ 448، وسنن الدارقطني: 1/ 312، والسنن الكبرى للبيهقي: 2/ 45، وتلخيص الحبير: 1/ 233، والدر المنثور: 1/ 3.
(1)
هي أم المؤمنين هند بنت أبي أمية حذيفة بن المغيرة المخزومية، وأمها عاتكة بنت عامر، كنيت بابنها سلمة بن أبي سلمة عبد الله بن عبد الأسد، هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة الهجرتين، وخرج أبو سلمة إلى أحد فأصيب عضده بسهم، ثم برأ الجرح، فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية، فعاوده الجرح، ومات منه، فاعتدت أم سلمة، ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لها مناقب كثيرة، وتوفيت (سنة 59 هـ)، وقال ابن حجر وابن العماد:(سنة 61 هـ) وهي آخر أمهات المؤمنين وفاة، ودفنت بالبقيع.
راجع: الإصابة: 4/ 458، والاستيعاب: 4/ 454، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 361، والخلاصة: ص / 496، وشذرات الذهب: 1/ 69.
(2)
عن أم سلمة رضى الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يقرأ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم
…
إلى آخر السورة، ثم قالت: فقطعها آية، آية، وعدها عد الأعراب، وعد بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية
…
" والحديث رواه الدارقطني، والبيهقي، واللفظ المذكور للأول، ولكن في سنده ضعف، لأن فيه عمر بن هارون البلخي، وهو متروك الحديث عند أحمد، وابن مهدي، والنسائي، ووصفه يحيى بالكذب، وضعفه علي، والدارقطني، وقال أبو داود: غير ثقة، وبنحوه قال البيهقي، وأعل الطحاوي الخبر بالانقطاع، لأن ابن أبي مليكة لم يسمعه من أم سلمة. راجع: سنن الدارقطني: 1/ 307 - 308، والسنن الكبرى للبيهقي: 2/ 44، وتلخيص الحبير: 1/ 232.
قيل: شرط كونها آية من السور أن يتواتر ذلك في جميع محالها على أنها قرآن ولم يتواتر ذلك.
ويحتمل -حينئذ- أن تكون آية فردة أنزلت للفصل كما هو عند الحنفية (1)، فلا يثبت (2) مدعاكم.
قلنا: إجماع قراء مكة والكوفة كاف في ذلك.
فإن قلت: إذا تواترت قرآنًا عند طائفة يجب أن يكفر منكر ذلك، كما هو الشأن في سائر القطعيات.
أجيب: بأن منكر القطعي إنما يكفر حيث يخلو المقام عن الشبهة، وأما عند قوة الشبهة لم يوجب التكفير، وفي البسملة الشبهة قوية من الجانبين، فامتنع التكفير.
هذا، وأنا أقول: لو تأمل الفريقان حق التأمل لم يقع نزاع في البسملة أصلًا.
وتحقيق ذلك: أن الفريقين متفقان على أن التواتر عند طائفة لا يستلزم أن يكون عند طائفة أخرى متواترًا، كما في القراءات المتواترة؛ لأن الإجماع على أن من قرأ بإحدى القراءات السبع، فقد قرأ كلام الله حقًّا.
(1) الصحيح عند الأحناف -كما تقدم- أن البسملة من القرآن، قال السرخسي: "قلنا: قد ذكر أبو بكر الرازي رحمه الله أن الصحيح من المذهب عندنا أن التسمية آية منزلة من القرآن، لا من أول السورة ولا من آخرها، كتبت للفصل بين السور في المصحف بخط على حدة
…
" أصول السرخسي: 1/ 280 - 281.
(2)
آخر الورقة (24 / ب من أ).
وإذا كان أحد القراء السبعة (1) مخالفًا للباقين، وخلافه غير قادح - في كون قراءته قطعية، وما يقرأه هو القرآن الذي نزل به جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بالبسملة إلى اتفق ابن كثير (2)، والكسائي (3)،
(1) القراء السبعة: هم عبد الله بن عامر الشامي اليحصبي قاضي دمشق المتوفى (سنة 118 هـ)، وزبان بن العلاء أبو عمرو البصري المتوفى (سنة 154 هـ)، وحمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الكوفي المتوفى (سنة 156 هـ)، ونافع بن عبد الرحمن الليثي المتوفى (سنة 169 هـ).
وابن كثير وعاصم والكسائي، وستأتي ترجمتهم.
راجع: البدور الزاهرة: ص / 7 - 8، والنشر في القراءات العشر: 1/ 99 وما بعدها.
(2)
هو عبد الله بن كثير بن عمرو بن عبد الله بن زاذان بن فيروزان بن هرمز، الإمام العلم مقرئ مكة، أبو معبد، أحد القراء السبعة، الكناني الداري، المكي مولى عمرو بن علقمة، كان رجلًا مهيبًا، فصيحًا، مفوهًا، واعظًا كبير الشأن، وثقه النسائي ويحيى بن معين وابن سعد وغيرهم، مات (سنة 120 هـ أو 122 هـ).
راجع: طبقات القراء: 1/ 443، والجرح والتعديل: 5/ 144، وتهذيب الكمال: ص / 726، وطبقات خليفة: ص/ 282، والتاريخ الكبير: 5/ 181، والتاريخ الصغير: 1/ 204، وتهذيب التهذيب: 5/ 367، وسير أعلام النبلاء: 5/ 218.
(3)
هو علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء الكوفي، أبو الحسن المعروف بالكسائي، أحد القراء السبعة، كان إمامًا في النحو، واللغة، والقراءات، ولم يكن له في الشعر يد، وكان يؤدب الأمين بن الرشيد ويعلمه، استوطن بغداد، له مؤلفات منها: معاني القرآن، ومختصر في النحو، والقراءات، ومقطوع القرآن وموصوله، والنوادر، وتوفي (سنة 189 هـ).
راجع: طبقات النحويين: ص/ 127، والمعارف: ص / 545، ومعرفة القراء الكبار: 1/ 100، وطبقات القراء: 1/ 535، وطبقات المفسرين: 1/ 399، ووفيات الأعيان: 2/ 457، ومرآة الجنان: 1/ 421، وإنباه الرواة: 2/ 256.
وعاصم (1) على كونها قرآنًا، وهل بعد هذا التأمل أحد يجترئ على أن ينكر كونها قرأنًا وآية من كل سورة؟
وهذا تحقيق تفردنا به لم يعرج عليه أحد قبلنا والله الموفق.
قوله: "لا ما نقل آحادًا".
أقول: ما نقل آحادًا ليس بقرآن قطعًا (2)؛ لانعقاد الإجماع على أن التواتر شرط في إطلاق لفظ القرآن، والإجماع على أحد قولي العصر الأول يُلْحِق القول الآخر بالعدم: كالإجماع على منع بيع أم الولد (3).
(1) هو عاصم بن بهدلة بن أبي النجود، أبو بكر الأسدي مولاهم الكوفي، شيخ القراء بالكوفة، وأحد القراء السبعة، انتهت إليه رئاسة الإقراء بالكوفة، جمع بين الفصاحة والإتقان والتحرير، كان أحسن الناس صوتًا بالقرآن، وقد وثقه أحمد، وأبو زرعة، وجماعة، ووصف بالصلاح والاستقامة، وخرَّج له أصحاب الكنب الستة، وتوفي (سنة 127 هـ).
راجع: معرفة القراء الكبار: 1/ 73، وطبقات القراء: 1/ 346، وميزان الاعتدال: 2/ 358، والخلاصة: ص/ 182، وشذرات الذهب: 1/ 175.
(2)
وذلك: كأيمانهما في قراءة: "والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما" فأيمانهما ليس من القرآن.
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 228.
(3)
اتفق أهل العلم على أن الرجل إذا اشترى جارية شراء صحيحًا، ووطئها، وأولدها ولدًا: أن أحكامها -في أكثر أمورها- أحكام الإماء، وقد اختلف الصدر الأول في ما لسيدها من بيعها، وهبتها:
فالجمهور: منع بيعها كعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعمر بن عبد العزيز، وعطاء بن أبي رباح، ومجاهد، وسالم، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، والزهري، وهو قول أصحاب الرأي، ومالك، وسفيان الثوري، والحسن بن صالح، والأوزاعي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبي عبيد، وأبي ثور رضي الله عنهم جميعًا. =
فقول المصنف: "على الأصح"(1)، كان الواجب عدم ذكره، مع أنه لم يذكر الخلاف أحد يعتد به (2).
= وأجاز بيعها علي، وابن عباس رضي الله عنهما.
وقال ابن مسعود: تعتق في نصيب ولدها، وهو مروي عن ابن الزبير، وابن عباس، لكن الإجماع قد نقل على الأول من الأقوال، فصار ما عداه كالمعدوم، وهو الذي ذكره الشارح.
راجع: الموطأ: ص / 485، والأم: 6/ 88، والمصنف: 7/ 287، والسنن الكبرى: 10/ 342 - 348، والإشراف لابن المنذر: 1/ 375، والمبسوط: 7/ 149، وسنن أبي داود: 2/ 351 - 352، وسنن ابن ماجه: 2/ 204، ومعالم السنن: 5/ 410، والمنتقى: 6/ 23، وبداية المجتهد: 2/ 392، والمهذب: 2/ 19، والمغني لابن قدامة: 9/ 530، والهداية: 2/ 68.
(1)
وذلك لأن القرآن في إعجازه الناس عن الإتيان بمثل أقصر سورة منه، تتوفر الدواعي على نقله تواترًا.
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 228، وهمع الهوامع شرح لمع اللوامع: ص / 65.
(2)
قلت: قد رد العلامة العبادي على اعتراض الشارح على المصنف: بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، والمصنف حفظ وعلم الخلاف، وما ذنبه إذا لم يعلم الكوراني ذلك؟ غير أن الإمام الزركشي قد سبق الكوراني في الاعتراض على المصنف قائلًا: "بأن حكاية الخلاف في هذا على الإطلاق لم أره في شيء من كتب الأصول، مع كثرة التتبع
…
" ثم عقب على ذلك بقوله: ثم رأيت الخلاف مصرحًا به في كتاب الانتصار للقاضي أبي بكر، فقال ما نصه: "وقال قوم من الفقهاء والمتكلمين: يجوز إثبات قرآن، وقراءة -حكمًا لا عِلْمًا- بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره أهل الحق ذلك، وامتنعوا منه". تشنيف المسامع: ق (22/ أ). ويمكن القول: بأن ثبوت ما هو من القرآن بحسب أصله لا خلاف في اشتراط التواتر فيه، وأما بحسب كله ووضعه =
وقد نقل الإمام -المتفق على كمال دينه، وعلمه العالم الرباني- النووي (1) اتفاق الفقهاء على أن من قرأ بالشاذ يستتاب، ولا تجوز القراءة به في وقت من الأوقات (2).
= وترتيبه، فهو محل خلاف هل يشترط فيه التواتر، أو يكفى فيه نقل الآحاد؟ فهذا الذي يُحَرَّر فيه النزاع المذكور، ولعل كلام المصنف ينصب على هذا القسم.
راجع: الآيات البينات: 1/ 309، وتشنيف المسامع: ق (22 / أ- ب).
(1)
هو الإمام يحيى بن شرف النووي، شيخ الإسلام أبو زكريا، أستاذ المتأخرين، قال السبكي:"كان يحيى رحمه الله سيدًا حصورًا، وليثًا -على النفس- هصورًا، وزاهدًا لم يبال بخراب الدنيا إذا صيَّر دينه ربعًا معمورًا، له الزهد، والقناعة، ومتابعة السالفين من أهل السنة والجماعة، والمصابرة على أنواع الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة، هذا مع التفنن في أصناف العلوم، فقهًا، ولغة، ومتون حديث، وأسماء رجال". له مصنفات نفيسة منها: رياض الصالحين، وشرح صحيح مسلم، والأذكار، والأربعين في الحديث، والمجموع شرح المهذب، وتهذيب الأسماء واللغات، وطبقات الفقهاء وغيرها، توفي (سنة 676 هـ).
راجع: طبقات السبكي: 8/ 395، وتذكرة الحفاظ: 4/ 1470، وطبقات الأسنوي: 2/ 476، والبداية والنهاية: 13/ 278، وطبقات الحفاظ: ص / 513، والدارس في أخبار المدارس: 1/ 25، وشذرات الذهب: 5/ 354، وطبقات ابن هداية الله: ص / 225.
(2)
ذكر النووى: بأن الإمام الحافظ أبا عمر بن عبد البر نقل إجماع المسلمين على أنه لا تجوز القراءة بالشاذة، وأنه لا يُصلَّى خلف من يقرأ بها، وذكر النووي اتفاق الفقهاء على استتابة من قرأ بالشاذة، وأتى بأمثلة على ذلك.
راجع: التبيان في آداب حملة القرآن: ص / 52 - 53، 99، والمجموع شرح المهذب: 3/ 392، والنشر في القراءات العشر: 1/ 16 - 17.
ومن الشارحين (1) من قال: إنه كان متواترًا في العصر الأول لعدالة ناقليه، ويكفى التواتر فيه.
قلت: ليت شعري مَنْ نقل أنه كان متواترًا؟ ! وأيُّ عدل نقله (2)؟
قوله: "والسبع متواترة".
أقول: القراءات السبع المشهورة (3) بين الأمة متواترة بلا نزاع (4)، وإنما
(1) جاء في هامش (أ، ب): "هو المحلي".
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 228.
(2)
قلت: هذا القول الذي قاله المحلي ليس هو اختياره، حتى يعترض عليه، وإنما ذكره كتعليل للقول الثاني الذي ذكره بصيغة التضعيف، مع أن قوله: لعدالة ناقليه، أي: أن الناقل -للآحاد المذكورة قرآنًا- عدل، وعدالته تقتضي أنه لو لم يكن متواترًا في العصر الأول ما نقله قرآنًا لأن نقله قرآنًا، مع عدم وجود شرطه من التواتر المذكور ينافي عدالته، وليس معناه: أن بعض العدول نقل أنه كان متواترًا في العصر الأول.
راجع: المحلى: 1/ 228، وهمع الهوامع: ص / 65، والآيات البينات: 1/ 310.
(3)
وهي التي عرفت عن القراء السبعة: عبد الله بن عامر، وابن كثير، وعاصم، وأبي عمرو، وحمزة، ونافع، والكسائي مرتبين حسب وفياتهم، وترجم لهم سابقًا.
راجع: الإقناع في القراءات السبع: 1/ 55، والنشر في القراءات العشر: 1/ 99، وما بعدها، والبدور الزاهرة: ص / 7، وتحفة الإخوان: ص / 36.
(4)
لأنها مروية بالتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، إلينا، نقلها عنه جمع يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب عن مثلهم وهلم جرًا، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أعني القول بتواترها، إلا ما حكى عن المعتزلة من أنها آحاد، أو ما نقل عن صاحب البديع من الحنفية -وهو مظفر الدين أحمد بن علي المعروف بابن الساعاتي البغدادي الحنفي المتوفى (سنة 694 هـ) - من أنها مشهورة.
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 228، ومختصر الطوفي: ص/ 46، وهمع الهوامع: ص / 65.
النزاع في بعض الكيفيات: كالمد (1) الفرعي، والإمالة (2)، وتخفيف الهمز، ونحوه (3).
(1) المد -لغة-: الزيادة، وجمعه مدود.
واصطلاحًا: هو إطالة الصوت بحرف من حروف المد، وهي الألف الساكنة المفتوح ما قبلها، والياء الساكنة المكسور ما قبلها، والواو الساكنة المضموم ما قبلها.
وهو نوعان: مد أصلي، وهو الطبيعي الذي لم يأت بعده همز ولا سكون، ويقدر بحركتين، والثاني: المد الفرعي، وهو المد الزائد على المد الأصلي لسبب من همز، أو سكون، وهو ثلاثة عشر نوعًا.
راجع: المصباح المنير: 2/ 566، والتيسير في القراءات السبع: ص / 30 - 31، والإقناع في القراءات السبع: 1/ 460، والنشر في القراءات العشر: 1/ 313، والإتقان في علوم القرآن: 1/ 271، والكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/ 45، وتحفة الإخوان: ص / 12، 24.
(2)
الإمالة: هي أن ينحو بالفتحة نحو الكسرة، وبالألف نحو الياء كثيرًا، وهو المحض ويقال له الإضجاع، والبطح، ونحو الكسر قليلًا، وهو بين اللفظين، ويقال له أيضًا التقليل، والتلطيف، وبين بين.
وهي قسمان: شديدة، ومتوسطة، وكلاهما جائز في القرآن، والإمالة لغة عامة أهل نجد كتميم، وقيس، وأسد، كما أن الفتح لغة أهل الحجاز.
راجع: التيسير في القراءات السبع: ص / 46، والكشف عن وجوه القراءات السبع: 1/ 168، والإتقان في علوم القرآن: 1/ 255.
(3)
لأن تخفيف الهمز خلاف الأصل، وهو إما نقلًا نحو قد أفلح، أو إبدالًا نحو يؤمنون، أو تسهيلًا نحو أينكم، أو إسقاطًا نحو: جاء أجلهم.
راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 229، وهمع الهوامع: ص / 65.
ذهب الشيخ ابن الحاجب: إلى أن ما كان من قبيل الأداء ليس متواترًا (1).
وشبهته -على ما نقل عنه بعض المحققين (2) من أئمة القرآن- مقدار المد، والتحقيق لا يمكن ضبطه: لأن المد المختلف فيه مُثِّل بأنه مقدار ألفين، أو ثلاث، أو خمس، وهذا لا يمكن ضبطه من قراءته صلى الله عليه وسلم، وليس هو مثل: مالك، وملك، وسراط، وصراط.
وما ذكره الشيخ ابن الحاجب واختاره المصنف مردود؛ لأن نقلة مراتب المد والإمالة وغيرها هم نقلة أصل القراءات، وهم عدد التواتر في كل عصر، والخصم معترف بذلك (3).
(1) راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 21، والبرهان في علوم القرآن: 1/ 319، ومناهل العرفان: 1/ 430.
(2)
جاء في هامش (أ، ب): "هو الجعبري رحمه الله".
(3)
قلت: أصل المد والإمالة، وتخفيف الهمزة متواترة، ولكن مراتب المد، وضبط مقدار قرب الألف من الياء، والفتحة من الكسرة، ونحو ذلك أمر لا يضبطه السماع عادة بحيث لا يقبل الزيادة والنقصان، بل هو أمر اجتهادي تقريبي بحسب الطاقة والوسع، وهذا لا يفيد القطع بأن هذا المقدار بعينه هو قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يفد ذلك لم يثبت تواتره.
فالذين ردوا على ابن الحاجب كلامه: كشيخ الإقراء أبي الخير ابن الجزري حيث قال: "لا نعلم أحدًا تقدم ابن الحاجب في ذلك" حملوا كلامه على أصل تلك الأمور والذى يظهر أن ابن الحاجب يعني بكلامه ضبط تلك الأمور، ومراتبها، ومقدارها، =
وإذا كان الأمر على ما ذكر، فتلك الشبهة ساقطة؛ لأن ضبط كل شئ بحسبه، ولا تكليف بما فوق الوسع، والنقلة التي بلغت حد التواتر إذا قالوا: المد الفرعي قدر ثلاث ألفات، ونقل على الوجه المذكور عصرًا بعد عصر، ثبت ذلك عندنا قطعًا وصار -في الجزم بأنه قرآن- كسائر كلماته المتفق عليها.
وأما أن القارئ هل يمكنه الإتيان بذلك القدر من غير نقصان، وزيادة؟ ذلك أمر لا يتعلق بنا إذ الكلام في كونه معلومًا كونه من القرآن تواترًا لا في أن زيدًا وعمرًا هل يقدران على قراءته كما نزل به جبريل، وهذا مما لا ريب فيه.
= وهيئاتها، يؤكد هذا تفسير الجعبري السابق في الشرح لكلام الإمام ابن الحاجب، فإن ذلك التوجيه يقتضي أن الذي يتعذر ضبطه هو مقدارها، ومراتبها، وهيئاتها لا أصلها، فإنه متواتر عند الجميع، وهو ما أكده الشارح رغم أنه يرى أنها -أيضًا- متواترة، ولم يسلم لابن الحاجب ذلك.
أما المصنف فلم يختر ما قاله ابن الحاجب كما قال الشارح، فإنه ذكر مذهب ابن الحاجب بقيل إشارة إلى ضعفه لكنه بين مذهبه في مكان آخر، وكتاب آخر، وفصل آخر، فوافق ابن الحاجب في عدم تواتر مراتب المد، وتردد في مقدار تواتر الإمالة، وجزم بتواتر ضبط تخفيف الهمزة نقلًا، وإبدالًا، وتسهيلًا، وإسقاطًا.
راجع: منع الموانع: ق (54 / ب 55 / أ) وما بعدها، والبرهان في علوم القرآن: 1/ 320، والنشر في القراءات العشر: 1/ 30، ومناهل العرفان: 1/ 436، وتشنيف المسامع: ق (22 / أ- ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 230، وهمع الهوامع: ص/ 66، والآيات البينات: 1/ 313.
وما نقله عن أبي شامة (1)، وهو أن المختلف فيه غير متواتر، وذلك مثل زيادة تشديد الحرف ونقصانه -مردود؛ لأن [مناط](2) كونه قرآنًا هو التواتر، فإن كان المختلف فيه منقولًا عند طائفة تواترًا ثبت كونه قرآنًا، وإلا فلا، ولا يلزم ثبوته عند غيره كأصل القراءة (3).
قوله: "ولا تجوز القراءة بالشاذ".
أقول: هو الذي نقل آحادًا، وقد تقدم تحقيقه (4).
قوله: "والصحيح أنه ما وراء العشرة".
(1) هو عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان بن أبي بكر المقدسي الدمشقي الشافعي، شهاب الدين أبو محمد، كان حافظًا، محدثًا، مفسرًا، مقرئًا، فقيهًا، أصوليًا، نحويًا، متكلمًا، له مؤلفات كثيرة منها: المقاصد السنية في علم الكلام، وإبراز المعاني في حرز الأماني في القراءات، وكتاب الروضتين، والمحقق من علم الأصول، ونظم المفصل، وتوفي بدمشق مقتولًا (سنة 665 هـ).
راجع: طبقات السبكي: 8/ 165، وطبقات الأسنوي: 2/ 118، وفوات الوفيات: 2/ 269، وذيل مرآة الزمان: 2/ 367، وطبقات القراء: 1/ 366، والذيل على الروضتين: ص / 37 - 45، والسلوك: 2/ 562، والتعريف بالمؤرخين: 1/ 84.
(2)
سقط من (أ) وأثبت بهامشها.
(3)
قلت: يمكن أن يوجه قول الإمام أبي شامة بما سبق أن وجه به قول الإمام ابن الحاجب تمامًا.
وانظر: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 231، وهمع الهوامع: ص / 66، والآيات البينات: 1/ 314.
(4)
تقدم: ص / 407 - 410.
أقول: شرط كون المنقول قرآنًا هو التواتر، وهو العمدة.
وذكر بعض المتأخرين (1) شرطين آخرين:
أحدهما: موافقة الرسم تحقيقًا أو تقديرًا.
والآخر: موافقة العربية، أي يكون له وجه نحوي (2).
والحق: أن هذين الأمرين [لازمان](3) للتواتر لا يحتاج إلى إفرادهما بالذكر يرشد إلى هذا قول الغزالي في "المستصفى": طريق إثبات الكتاب هو التواتر فقط (4).
(1) جاء في هامش (أ، ب): "هو الشيخ الجزري".
قلت: هو محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف، أبو الخير العمري الدمشقي، ثم الشيرازى الشافعي المعروف بابن الجزري، الحافظ شيخ القراء في زمانه، تولى القضاء بشيراز، ثم فتح مدرسة لحفظ القرآن فيها، وفي الشام، حفظ القرآن وصلى به، وجمع القراءات، له مؤلفات منها: النشر في القراءات العشر، والتقريب، والتمهيد في التحويد، ومنجد المقرئين، وطبقات القراء، وتوفي بشيراز (سنة 833 هـ).
راجع: طبقات القراء له: 2/ 247، والضوء اللامع: 9/ 255، وطبقات الحفاظ: ص / 549، وذيل تذكرة الحفاظ: ص / 376، وشذرات الذهب: 3/ 204، والبدر الطالع: 2/ 257.
(2)
راجع: النشر في القراءات العشر: 1/ 9.
(3)
في (أ، ب): "لازمين" وصحح في هامش (أ) وهو الصواب لأنه خبر لأن.
(4)
راجع: المستصفى: 1/ 102، نقله الشارح بالمعنى.
وقد اتفق المحققون سلفًا وخلفًا على أن القراءات الثلاث (1) المنسوبة إلى الأئمة الثلاثة، أعني: أبا جعفر يزيد بن القعقاع (2) إمام القراء بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعقوب الحضرمي (3) البصري، والبزار، أعني خلفًا (4)، وهو أحد راويي (5) حمزة
(1) يعني بالثلاث التي بعد السبع وقد سبق ذكرها، وبها تكون القراءات عشرًا.
(2)
يزيد بن القعقاع، ويقال: جندب بن فيروز، وقيل: فيروز المخزومى المدني، أحد القراء العشرة، تابعى مشهور كبير القدر، ثقة، إمام أهل المدينة في القراءة، روى عن مولاه ابن عياش، وأبى هريرة، وابن عباس، وغيرهم، وروى عنه نافع بن أبي نعيم القارئ، ومالك وآخرون، وتوفي (سنة 127، 129، 130 هـ) على خلاف في ذلك.
راجع: التيسير في القراءات السبع: ص/ 8، وطبقات القراء: 2/ 382 - 384، والتهذيب: 12/ 58 - 59 للحافظ.
(3)
هو يعقوب بن إسحاق بن زيد بن عبد الله، أبو محمد الحضرمي مولاهم البصري، أحد القراء العشرة، إمام أهل البصرة ومقرؤها، أخذ عن الكثير، كما أخذ عنه جم غفير، وتوفي (سنة 205 هـ).
راجع: طبقات القراء: 2/ 386، والكاشف: 3/ 290، ومعجم الأدباء: 2/ 52.
(4)
هو خلف بن هشام بن ثعلب، وقيل: طالب بن غراب، الإمام الحافظ شيخ الإسلام أبو محمد البغدادي البزار المقرئ، سمع مالكًا، وحمادًا، وأبا عوانة، وأخذ التلاوة على سليم بن عيسى الحنفي، وأبي يوسف الأعشى وغيرهما، له اختيار في الحروف صحيح ثابت غير شاذ، وثقه النسائي، وابن معين وغيرهما، وتوفي (سنة 229 هـ).
راجع: طبقات القراء: 1/ 272، والجرح والتعديل: 3/ 372، وتأريخ بغداد: 8/ 322، وتهذيب التهذيب: 1/ 199، والمعجم المشتمل: ص / 115.
(5)
والراوي الآخر هو خلاد بن خالد الصيرفي الكوفي، أبو عيسى المتوفى (سنة 220 هـ).
راجع: التيسير في القراءات السبع: ص/ 7.
من فم (1) الصلح (2) - متواترة قرئ بها في جميع الأمصار والأعصار من غير نكير في وقت من الأوقات، فثبت كونها قرآنًا؛ إذًا لا يتوقف -بعد التواتر- إلا مبتدع جاحد، ولو فرضنا أن ما وراء العشرة اتفق نقله متواترًا لم نقف في كونه قرآنًا قطعًا؛ إذ لا دليل في الشريعة يدل على حصر، ومن فهم من قوله صلى الله عليه وسلم:"إن هذا القرآن أنزل على سبعة (3) أحرف (4) "، أن المراد القراءات السبع المشهورة، فقد غلط في ذلك (5).
(1) آخر الورقة (25/ ب من ب).
(2)
يعني أن خلفًا المترجم له سابقًا من أهل فم الصلح، وهو نهر كبير فوق واسط كان عليه عدة قرى، وعند فمه كانت دار الحسن بن سهل.
راجع: مراصد الاطلاع: 3/ 1044، والتيسير في القراءات السبع: ص/ 7.
(3)
هذا جزء من حديث عمر رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وفيه قصة، وهو أن عمر سمع هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرأها عمر، فتنازع عمر معه على ذلك، وأخذه، وجاء به شاكيًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره بذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اقرأ يا هشام، فقرأ عليه ما سمعه عمر منه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر، فقرأ عمر بما أقرأه الرسول صلى الله عليه وسلم مخالفًا لقراءة هشام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كذلك أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه".
راجع: صحيح البخاري: 6/ 227 - 228، وصحيح مسلم: 2/ 302 - 303، ومسند أحمد: 5/ 385، وسنن أبي داود: 1/ 339، وتحفة الأحوذي: 8/ 264، وسنن النسائي: 2/ 150.
(4)
الحرف -لغة-: طرف الشيء، ووجهه، وحافته، وحده، وناحيته، والقطعة منه، واصطلاحًا: ما دل على معنًى في غيره.
راجع: المصباح المنير: 1/ 130 - 131، والتعريفات للجرجاني: ص/ 85.
(5)
قلت: إن كان مراد المصنف في رده حصر الحروف في القراءات السبع فله وجهة سليمة في ذلك، وإن يريد برده، وتغليطه أن القراءات السبع لم تكن من الحروف السبعة، =
وقول المصنف: "وفاقًا للبغوي (1) ووالده"، يريد أنه ثبت عندهما تواتر الثلاثة؛ إذ لا يمكن ترجيح هنا بوجه آخر قطعًا (2).
= ولا تدخل فيها ففيه نظر، لأن قوله صلى الله عليه وسلم:"على سبعة أحرف" فسرت بتفسيرين: أحدهما: سبعة أوجه من اللغة، والثاني: أن المراد بها القراءات السبع على طريق السعة كعادة العرب في تسمية الشيء باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره، لذلك قال ابن الجزري:"وكلا الوجهين يحتمل إلا أن الأول احتماله قوي، والثاني: محتمل احتمالًا قويًّا في قول عمر رضى الله عنه" في الحديث: "سمعت هشامًا يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي: على قراءات كثيرة".
راجع: صحيح مسلم: 2/ 302، وشرح النووى عليه: 6/ 96، والنشر في القراءات العشر: 1/ 23 - 24، وانظر آراء العلماء في المراد من الأحرف السبعة: الرسالة: ص / 273، وتفسير الطبري: 1/ 11، وتأويل مشكل القرآن: ص / 33، وتفسير القرطبي: 1/ 41، والإشارة إلى الإيجاز: ص/ 270، والمرشد الوجيز: ص / 171 - 172، ومجموع الفتاوى: 13/ 389 - 394، والبرهان في علوم القرآن: 1/ 213، ومناهل العرفان: 1/ 148، وإرشاد الفحول: ص / 31.
(1)
هو محيي السنة الإمام العلامة القدوة الحافظ شيخ الإسلام أبو محمد الحسين بن مسعود بن الفراء البغوي الشافعي، المفسر صاحب التصانيف المفيدة، أخذ عن الكثير من علماء عصره، وحدث عنه جم غفير، كان فقيهًا، محدثًا، مفسرًا، له مؤلفات منها: شرح السنة، ومعالم التنزيل، والمصابيح، والتهذيب، والجمع بين الصحيحين، وغيرها، وتوفي (سنة 516 هـ بمرو الروذ).
راجع: طبقات السبكي: 7/ 75، وسير أعلام النبلاء: 19/ 439، وطبقات الأسنوي: 1/ 205، والتحبير: 1/ 213، وعيون التواريخ: 13/ 327، وطبقات المفسرين للسيوطى: ص / 38، وطبقات الحفاظ له: ص / 456، ودائرة المعارف الإسلامية: 4/ 27.
(2)
لأنها توافق السبع في صحة السند، واستقامة الوجه في العربية، وموافقة خط المصحف الإمام.
راجع: منع الموانع: ق (57 / أ)، وتشنيف المسامع: ق (22/ ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 223، وهمع الهوامع: ص / 66.
قوله: "وقيل: ما وراء السبعة" أي: شاذ (1)، وقد علمت أنه مردود (2).
قوله: "أمّا إجراؤه مجرى الآحاد هو الصحيح".
يريد أن القراءة الشاذة، وإن لم يثبت كونها قرآنًا، ولكن لا يلزم من انتفاء القرآنية انتفاء الخبرية، فهو دائر بين كونه قرآنًا وكونه خبرًا وكلاهما مما يحتج به (3)،
(1) هناك مذهب ثالث يرى: أن كل قراءة وافقت العربية، ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية، ولو احتمالًا، وصح سندها، فهى القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها، ولا يحل إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن سواء كانت عن الأئمة السبعة، أم عن العشرة، أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة، أو شاذة، أو باطلة، سواء كانت عن السبعة، أم عمن هو أكبر منهم وهذا هو مذهب أبي عمرو الداني، ومكي بن أبي طالب، والإمام أبي شامة، وابن الجزري وقال:"هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف".
راجع: النشر في القراءات العشر: 1/ 9، وإتحاف فضلاء البشر في القراءات الأربع عشر: ص/ 6.
(2)
الشارح يميل إلى ما ذهب إليه ابن الجزري وغيره.
(3)
اختلف العلماء في القراءات المروية بالآحاد هل يحتج بها، أو لا؟
فذهب أبو حنيفة، وأحمد، والشافعي في روايه عنهما على الاحتجاج بها. وذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخرى عنهما إلى أنها ليست بححة، وذكر الجويني أنه ظاهر المذهب، واختاره الآمدي ونقله عن الشافعي، ورجحه ابن الحاجب، وجزم به النووي، لأن الراوي لم ينقله خبرًا، والقرآن ثبت بالتواتر لا بالآحاد، ثم قال النووي: وما قالوه جميعه خلاف مذهب الشافعي وخلاف جمهور أصحابه، والمصنف رجح الرواية الأولى للشافعي تبعًا للبوطي، والشيخ أبي حامد، والقاضي حسين، وأبى الطيب، والروياني، والمحاملي، والرافعي، وأيد المصنف من شراح كلامه الزركشي، والمحلي، والكمال بن أبي شريف، والأشموني، والعبادي. =
وإلى هذا ذهب الحنفية أيضًا في إيجاب التتابع في كفارة اليمين لقراءة عبد الله ابن مسعود (1).
واختيار المصنف هو هذا، وفيه نظر؛ لأن الحصر في القرآنية والخبرية ممنوع، لجواز كونه مذهب الراوي، وهو عند المصنف ليس بحجة (2).
استدلالهم: بأن الشافعي أوجب قطع يمين السارق بالقراءة الشاذة ضعيف، لاحتمال ثبوت رفعه عنده (3)، ولهذا يوجب التتابع في كفارة اليمين على الصحيح من مذهبه.
= راجع: أصول السرخسي: 1/ 281، والبرهان للجويني: 1/ 666 - 669، والمستصفى: 1/ 102، والروضة لابن قدامة: ص/ 34، والإحكام للآمدي: 1/ 121، ومختصر الطوفي: ص / 46، والقواعد لابن اللحام: ص / 155، والبرهان في علوم القرآن: 1/ 336، وتشنيف المسامع: ق (22 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 232، وهمع الهوامع: ص / 67، والدرر اللوامع لابن أبي شريف ق (71 / ب- 72 / أ)، والآيات البينات: 1/ 316، وفواتح الرحموت: 2/ 16، وأصول مذهب أحمد: ص / 186، وإرشاد الفحول: ص/ 31.
(1)
هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، أحد السابقين إلى الإسلام والمهاجرين إلى الحبشة والمدينة، شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم بدرًا، وأُحدًا، والخندق وبيعة الرضوان، وسائر المشاهد، وشهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وتوفي (سنة 32 هـ).
راجع: الإصابة: 2/ 368، والاستيعاب: 2/ 316، وتهذيب الأسماء واللغات: 1/ 288.
(2)
قلت: قد يقال: بأن نقل القراءة له حكم الرفع صرح به الصحابي، أو لم يصرح به لأن ذلك مما لا مدخل للرأي فيه، فالاحتجاج بها مبني على أنها في حكم المرفوع.
(3)
قد ثبت -كما تقدم- القول عند الشافعي في رواية البوطي الاحتجاج بالقراءة الشاذة، واختارها علماء من أجلة أصحابه كما تقدم ذكرهم، فلا داعي لدعوى الرفع الذي افترضه الشارح رحمه الله تعالى. =
قوله: "ولا يجوز ورود ما لا معنى له في الكتاب (1) والسنة".
أقول: ترجمة هذه المسألة -كما ترجم بها المصنف، وكما ترجم البيضاوى بقوله:"لا يخاطبنا الله بمهمل"(2) - ليس بملائم لمحل النزاع؛ لأن أحدًا لم يقل: إن في القرآن شيئًا لا معنى له، أو مهمل لا وضع له كما ستقف عليه من استدلالهم.
بل الحق أن يقال: لا يرد في القرآن ما لا يَقْدِر أحد على التوصل إلى معناه.
لنا: أن القرآن كله هدىً وشفاء، ولا فائدة -أيضًا- في إنزال ما لا يصل أحد إلى فهمه، إذ الإعجاز واستنباط الأحكام بدونه حاصل (3).
= وبناء على ما سبق فقد أوجبوا قطع يمين السارق عملًا بقراءة "أيمانهما"، وأما عدم إيجابهم التتابع في صوم كفارة اليمين لأنها نُسخت تلاوة وحكمًا، أعني قراءة ابن مسعود "متتابعات" لحديث عائشة رضي الله عنها:"نزلت فثلاثة أيام متتابعات" فسقطت "متتابعات" أي: نسخت حكمًا وتلاوة، وصححه الدارقطني.
راجع: المحلي مع حاشية البناني: 1/ 232، والدرر اللوامع لابن أبي شريف: ق (71 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 67 - 68، والآيات البينات: 1/ 316 - 317.
(1)
آخر الورقة (25 / ب من أ).
(2)
راجع: الإبهاج: 1/ 360، والابتهاج: ص / 57.
(3)
وهذا تحقيق لمحل النزاع من هذا الإمام رحمه الله إذ الذي يظهر أن خلافهم فيما له معنى، ولكن لا يقدر على التوصل إليه، كما سيأتي في الشرح بعد هذا على نحو ما ذكر الشارح، أما ما لا معنى له أصلًا، فمنعه محل وفاق بين أهل الحق.
قال ابن عبد الشكور: "مسألة لا يشتمل القرآن على المهمل، ولا على الحشو
…
" مسلم الثبوت، وعليه فواتح الرحموت: 2/ 17 هامش المستصفى.
قال الغزالي: "وما لا توقيف فيه يؤول بما يعرفه أهل اللغة ويناسب اللفظ من حيث الوضع؛ إذ الظاهر أن الله لا يخاطب العرب بما لا يعرفه أحد من الخلق"(1).
استدل الخصم (2) -وهم الحنفية، والطائفة المذكورة في المتن (3) -.
بأوائل السور؛ إذ لا يظهر منها معنًى بعد التأمل الوافر فيها.
وبقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7]، فإنه ذم على اتباع المتشابه، وما ذلك إلا لعدم القدرة على الوصول إلى معناه.
(1) نقله بتصرف راجع: المستصفى: 1/ 106.
(2)
لو عبر -رحمه الله تعالى- بالمخالف كان أولى وأهدى أسلوبًا.
(3)
وهم الحشوية: والحشو -في اللغة بالفتح وسكون الشين المعجمة-: ما يملأ به الوسادة، ويطلق على الكلمات الزائدة التي تقع في وسط الكلام، كما يطلق على السفلة من الناس.
والحشوية: قوم تمسكوا بالظواهر، فذهبوا إلى التجسيم والتشبيه، وهو سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية: بأن القرامطة والفلاسفة والمعتزلة سموا الصفاتية حشوية، وكذا من يثبت الصفات العقلية يسمِّي مثبتة الصفات الخبرية حشوية، ثم ذكر أن المتكلمين أحق بالحشو وبكل وصف مذموم يذكرون به أهل السنة والجماعة.
راجع: اللسان: 18/ 194، وتاج العروس: 10/ 90، والتعريفات: ص/87، وكشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 164، 166، ومنهاج السنة: 1/ 137، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام: 4/ 88.
ولوجوب الوقف على: {إِلَّا اللَّهُ} في: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ؛ لكون {يَقُولُونَ} (1) حالًا من المعطوف دون المعطوف عليه (2)؛ لعدم استقامة المعنى.
أُجيب -عن الأول-: بأن المقطعات في أوائل السور أسماء للسور، أو للقرآن، أو أسماء مسمياتها الحروف التي يركب منها القرآن صرح بذلك المحققون (3).
وعن الثاني: بأن ذم الذين يتبعون المتشابه ليس لأنه لا يمكن الوصول إلى معناه، بل لأنهم يؤولونه تأويلًا مخالفًا لقوانين الشرع، ولذلك حكم عليهم بكون قلوبهم زائغة عن الحق، ولو كانوا طالبين للحق، وكان مطلوبهم غير ممكن لأرشدهم إلى الحق، كما في قصة موسى إذ {قَالَ
(2)
جاء في هامش (أ): "يعني لا يجوز أن يكون حالًا من المعطوف والمعطوف عليه لامتناع أن يقول الله تعالى: آمنا به، فيكون حالًا من المعطوف فقط، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه، وإذا انتفى هذا تعين أن يكون الراسخون مبتدأ، ويقولون خبرًا عنه هـ".
(3)
راجع: تفسير الطبري: 1/ 72، وزاد المسير: 1/ 20، وتفسير القرطبي 1/ 154، وتفسير الرازي: 1/ 3، وتفسير البيضاوي: 1/ 14، والإحكام للآمدي: 1/ 126، وتشنيف المسامع: ق (22 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 232.
رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]، وأرشده بأن هذه الأجسام الفانية لا تقدر على ذلك، وجعل دك الجبل تسلية له (1).
وعن الثالث: بأن الوقف على: {إِلَّا اللَّهُ} مختلف فيه: منهم من وقف على {وَالرَّاسِخُونَ} ، وهم القائلون: بأن المتشابه يمكن الوصول إلى معناه (2).
(1) وفي المسألة مذهب ثالث، وهو التفصيل بين الخطاب الذي يتعلق به التكليف، فلا يجوز فيه ورود ما لا يقدر أحد على التوصل إلى معناه، وما لا يتعلق به تكليف فيجوز، وهو مذهب ابن برهان، واعتبره الحق.
راجع: الوصول إلى الأصول 1/ 115، وهمع الهوامع: ص/ 68.
(2)
اختلف العلماء في الوقف في الآية المذكورة:
منهم من وقف على لفظ الجلالة لفظًا ومعنًى، وهو مذهب الأكثر كابن عباس، وابن مسعود، وعائشة، وأبي بن كعب، وعروة، وابن الشعثاء، وأبي نهيك، وعمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس، وطاوس، والحسن البصرى، واختاره ابن جرير الطبرى، والكسائي، والفراء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم المتشابه إلا الله تعالى.
ومنهم من يقف على قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} ، وهذا قول كثير من المفسرين وأهل الأصول وعامة المتكلمين، وهو قول مجاهد، والضحاك، وابن عباس في الرواية الأخرى، واختارها النووي، وذكر ابن الحاجب بأنه الظاهر.
ومنهم من فصل، فقال: إن أريد بالتأويل معنى حقيقة الشئ وما يؤول إليه، فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها على الجَلِيَّة إلا الله، ويكون {الرَّاسِخُونَ} مبتدءًا، و {يَقُولُونَ} خبره. =
قولهم: المعطوف يختص بالحال.
قلنا: يجوز حيث لا لبس، كما في قوله:{وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72](1).
= وإن أريد بالتأويل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء، فالوقف على:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار، وإن لم يحيطوا علمًا بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} حالًا منهم.
قلت: وبالنظر إلى المذهب الأخير المفصل يمكن القول: بأن الخلاف لفظي في هذه المسألة، باعتبار أن من وقف على لفظ الجلالة حمل التأويل على حقيقة الشيء، ومن وقف على {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} حمل التأويل على التفسير والبيان والتعبير عن الشيء لذا نجد الراغب الأصفهاني -بعد ذكره وجه المحكم والمتشابه- قال:"وأن لكل واحد منهما وجهًا -يعني من الوقف على لفظ الجلالة، و {الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} - حسبما دل عليه التفصيل المتقدم".
راجع: مفردات الراغب: ص / 255، والإحكام لابن جزم: 1/ 492، والكشاف للزمخشري: 1/ 413، والمستصفى: 1/ 106، وتفسير البغوي: 1/ 321، والروضة: ص / 36، والإحكام للآمدي: 1/ 126، وشرح مسلم للنووي: 16/ 218، وتفسر البيضاوي: 1/ 149، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 21، وتفسير ابن كثير: 1/ 347، ومختصر الطوفي: ص / 48، والبرهان: في علوم القرآن: 2/ 72، وتفسير الخازن: 1/ 321، وتفسير القاسمي: 4/ 795، والإتقان: 3/ 5، والدر المنثور: 2/ 8، ومناهل العرفان: 2/ 178، وفواتح الرحموت: 2/ 17، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 233، وإملاء ما من به الرحمن: 1/ 124، والمدخل إلى مذهب أحمد: ص/ 89.
(1)
جاء في هامش (أ): "فإن نافلة حال من يعقوب خاصة؛ لأن النافلة ولد الولد، وما نحن فيه كذلك؛ لأن العقل قاض بأن الله تعالى لا يقول: آمنا به هـ".
واعلم أن الأدلة -من الطرفين- لا تفيد القطع، بل كلها ظواهر إذ لهم أن يقولوا: فائدة إنزال المتشابه كبح عنان الراسخ في العلم عن الخوض فيه ومنعه منه، وهذا عنده أشد تعبًا من بذل المجهود في استعلام الحكم من المحكم؛ لأن النفوس مجبولة على الحرص والشغف بما منعت منه، والله أعلم بحقيقة الحال.
ولا يراد من اللفظ غير ظاهره إلا بدليل يدل على ذلك (1) خلافًا للمرجئة (2)، وهم طائفة يقولون: إن المعاصى لا تضر مع الإيمان، كما أن الطاعات لا تنفع بدونه، وبنوا على هذا الأصل الفاسد أن الآيات والأحاديث الواردة في وعيد الفساق والعصاة يراد بها خلاف الظاهر، وهو التنفير والترهيب، وبطلان هذا لا يحتاج إلى دليل.
(1) كما في العام المخصوص بمتأخر، وسيأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله تعالى.
(2)
الإرجاء -لغة-: التأخير، سموا بذلك لتأخيرهم العمل عن الإيمان وقولهم بالإرجاء خلاف قول المسلمين، وهم فرق متعددة: ففرقة منهم وافقت القدرية في القول بالقدر مثل غيلان الدمشقي، وأبي شمر المرجئ، ومحمد بن شبيب البصري، فجمعوا بين الجبر والقول بالقدر.
وفرقة أخرى وافقت الجهمية في القول بالجبر، فجمعوا بين دعوى الجبر والإرجاء.
وفرقة ثالثة منهم انفردت بالإرجاء المحض لا يقولون بالجبر ولا بالقدر.
راجع: مقالات الإسلاميين: ص / 132، والتبصير في الدين: ص / 97، والفرق بين الفرق: ص/202، والبدء والتاريخ: 5/ 144، والملل والنحل: 1/ 139، ومنهاج السنة: 1/ 63، والخطط: 2/ 349، وكشاف اصطلاحات الفنون: 2/ 252.
قوله: "وفي بقاء المجمل".
أقول: المجمل عند الفقهاء: ما أفاد شيئًا معينًا لا يعينه اللفظ: كالقرء (1) مثلًا.
وقد اختلف في أنه هل يمكن بقاء لفظ مجمل في القرآن، أو في الحديث غير مبين؟
قال ببقائه طائفة، ومنعه آخرون (2).
(1) القرء: يطلق على الطهر، وعلى الحيض، فهو من الأضداد، قال أبو عبيد:"القرء يصلح للحيض، وللطهر، وأظنه من أقرأت النجوم: إذا غابت".
فمن الفقهاء من حمله على الأطهار، ومنهم من حمله على الحيض، كما سيأتي مفصلًا في باب المجمل إن شاء الله تعالى 2/ 438.
راجع: المصباح المنير: 2/ 501، والقاموس المحيط: 1/ 24، وتاج العروس: 1/ 101.
(2)
وجهة الذين قالوا ببقائه: هو أن الله تعالى قال في متشابه الكتاب: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إذ الوقف على الجلالة كما عليه الجمهور، وإذا ثبت في الكتاب ثبت في السنة لعدم القائل في الفرق بينهما.
ووجهة المانعين: هو أنَّ الله تعالى قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3]، فقد أخبر تعالى بأنه أكمل الدين قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.
والمذهب المفصل اختاره إمام الحرمين خوفًا من تكليف ما لا يطاق، وذكر الزركشي بأن هذا تنقيح للقول الثاني لا مذهب ثالث.
راجع: البرهان للجويني: 1/ 425، وتشنيف المسامع: ق (23 / أ) والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 233 - 234، وهمع الهوامع: ص / 68.
والحق: التفصيل، وهو أن ذلك المجمل إن كان متعلقًا باعتقاد، وبكيفية عمل لم يبق إلى وفاته، ولا يمكن ذلك لما سيأتي أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز (1)، وإلا فلا مانع من بقائه.
قوله: "والحق أن الأدلة النقلية قد تفيد اليقين".
أقول: الأدلة النقلية -بدون قرينة- لا تفيد القطع بالحكم لاحتمال مجاز أو اشتراك، أو غير ذلك مما يخل بالتفاهم.
وأما مع انضمام قرينة قطعية: كالتواتر على أن المراد باللفظ الفلاني في المورد الفلاني كذا، أو انعقد الإجماع على ذلك، فإنه يفيد كون المراد ذلك قطعًا.
ولذلك لا يجوز للمجتهد: أن يخالف ما انعقد الإجماع عليه؛ لأن المجمع عليه لا يمكن أن يكون خلاف حكم الله، لأن أمته صلى الله عليه وسلم لا تجتمع على الضلالة (2).
فإفادة اليقين بمثل هذه القرينة مسلم، ولكن المتن القطعي إذ خلا عن هذه القرينة لا يفيد قطعًا، ويظهر ذلك في:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]
(1) سيأتي 2/ 453 وما بعدها.
(2)
إشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا يجمع أمتي، أو قال: أمة محمد على ضلالة، ويد الله على الجماعة، ومن شذ شذ إلى النار" رواه الترمذي، والحاكم.
راجع: سنن الترمذي: 4/ 446، والمستدرك: 1/ 115.
في قوله تعالى: [وفي لفظ](1): {ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228](2)، فإن المتن في الكل سواء، مع أن المراد من الأول قطعي دون الثاني، وذلك واضح (3).
والحق: أن النفي والإيجاب لم يرد على شيء واحد، فإن الذي يقول: لا دلالة قطعية في النقليات يريد كذلك نظرًا إلى الدليل مع قطع النظر عن القرائن، والذي يقول به يضم إليه القرينة، ومن قال: إن اللفظ -بعد القرينة- لا يفيد، فهو مكابر (4).
* * *
(1) سقط من (ب) وأثبت في هامشها.
(2)
الآية: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228].
(3)
لأن المراد من الآية الأولى هو إقامة الصلاة قولًا واحدًا، وأما المراد من القروء اختلف فيه كما سبق هل هو الطهر، أو الحيض.
(4)
تقدم بيان هذه المسألة مع الإحالة إلى مصادرها: ص / 214 وما بعدها.