المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب المنطوق والمفهوم - الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع - جـ ١

[أحمد بن إسماعيل الكوراني]

فهرس الكتاب

- ‌شكرٌ وتقديرٌ

- ‌سبب الاختيار

- ‌خطة البحث

- ‌(تمهيد)

- ‌الباب الأول في التعريف بالكوراني وكتابه

- ‌الفصل الأول في التعريف بالكوراني

- ‌المبحث الأول في‌‌ اسمه، ونسبه، ونسبته، وشهرته

- ‌ اسمه، ونسبه

- ‌نسبته، وشهرته:

- ‌المبحث الثاني لقبه، و‌‌تاريخ، ومحل ولادته

- ‌تاريخ، ومحل ولادته

- ‌المبحث الثالث نشأته

- ‌الفصل الثاني في حياته العلمية

- ‌المبحث الأول رحلاته في طلب العلم والتعليم

- ‌المبحث الثاني شيوخه الذين أخذ عنهم العلوم المختلفة

- ‌المبحث الثالث تلامذته

- ‌المبحث الرابع أقرانه

- ‌الفصل الثالث في أعماله، وصفاته، ووفاته

- ‌المبحث الأول الأعمال التي تولاها

- ‌المبحث الثاني صفاته، وأخلاقه

- ‌المبحث الثالث وصيته، ووفاته

- ‌الفصل الرابع في مؤلفاته، وآثاره

- ‌المبحث الأول مؤلفاته

- ‌المبحث الثاني دراسة تحليلية لكتاب "الدرر اللوامع

- ‌المطلب الأول: عنوان الكتاب، ونسبته إلى المؤلف:

- ‌نسبة الكتاب إلى المؤلف:

- ‌المطلب الثاني: سبب تأليف الكتاب، والظرف الذي ألفه فيه:

- ‌أولًا: سبب تأليفه:

- ‌ثانيًا: الظرف الذي ألفه فيه:

- ‌المطلب الثالث: منهج المؤلف في الكتاب:

- ‌المطلب الرابع: أهمية الكتاب:

- ‌المطلب الخامس: تقويم عام وموجز لشروح "جمع الجوامع" التي اطلعت عليها:

- ‌المطلب السادس: وصف مخطوطتي الكتاب:

- ‌المطلب السابع: عملي في التحقيق:

- ‌ملاحظة:

- ‌تنبيه:

- ‌الباب الثاني ترجمة موجزة لتاج الدين السبكي صاحب الأصل

- ‌الفصل الأول في التعريف به

- ‌المبحث الأول في اسمه، ونسبه، ونسبته، وكنيته، ولقبه

- ‌المبحث الثاني أسرته، ومولده، ونشأته

- ‌ولادته، ونشأته:

- ‌الفصل الثاني حياته العلمية، وأعماله

- ‌المبحث الأول طلبه للعلم وشيوخه

- ‌المبحث الثاني تلامذته

- ‌المبحث الثالث أعماله، وصفاته

- ‌صفاته، وأخلاقه:

- ‌المبحث الرابع مؤلفاته، ووفاته

- ‌ المؤلفات

- ‌وفاته:

- ‌الكلام في المقدمات

- ‌الكتاب الأول في الكتاب ومباحث الأقوال

- ‌باب المنطوق والمفهوم

الفصل: ‌باب المنطوق والمفهوم

‌باب المنطوق والمفهوم

قوله: "المنطوق والمفهوم، المنطوق: ما دل عليه اللفظ في محل النطق".

أقول: المنطوق -اصطلاحًا-: شيء دل عليه اللفظ في محل النطق (1)، فقد صار المنطوق من قبيل المدلول، وهو يوافق ما ذكره الآمدي، فإنه قال:"المنطوق: ما فهم من اللفظ نطقًا في محل النطق، والمفهوم: ما فهم من اللفظ في غير محل النطق"(2).

وقد فسره بعض المحققين (3) بنفس الدلالة (4)؛ لأنه قال: "المنطوق: أن يدل اللفظ على معنًى في محل النطق، والمفهوم: أن يدل اللفظ على معنًى لا

(1) آخر الورقة (26 / ب من ب).

(2)

نقله بتصرف. راجع: الإحكام له: 2/ 209 - 210.

وانظر: شرح العضد: 2/ 171، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 235، والآيات البينات: 2/ 2، وتيسير التحرير: 1/ 91، وفواتح الرحموت: 1/ 413، ونشر البنود: 1/ 89، وإرشاد الفحول: ص / 178.

(3)

جاء في هامش (أ، ب): "المولى المحقق عضد الملة والدين". راجع شرحه على المختصر: 2/ 171.

(4)

الدلالة -لغة-: الإرشاد بمعنى كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأول هو الدال، والثاني هو المدلول، ولها أقسام: =

ص: 431

في محل النطق" (1)، ويمكن أن يجعل المصدر بمعنى المفعول، فيستوي معنى العبارتين.

ثم المنطوق على ثلاثة أقسام؛ لأنه إن دلَّ على المعنى صريحًا، وهو ما وضع له اللفظ، فيشمل المطابقة والتضمن، وهذا -في الحقيقة- قسمان داخلان تحت الصريح.

والثالث: ما دل عليه اللفظ التزامًا.

ثم الصريح منه ينقسم إلى نص: وهو الذي يفيد معنًى لا يحتمل الغير كالأعلام، فإنها لا تحتمل غيرها بوضع واحد قطعًا.

وظاهر: إن احتمل مرجوحًا: كلفظ الأسد، فإنه إذا أطلق يدل على الحيوان المفترس دلالة ظاهرة، ويحتمل احتمالًا مرجوحًا أن يكون المراد الرجل الشجاع، لكن المتبادر هو الأول. وسيأتي تتمة لهذا في بحث المفهوم إن شاء الله.

= الأول: ما دلالته وضعية، كدلالة السبب على المسبب كالدلوك على وجوب الصلاة.

الثاني: ما دلالته عقلية: كدلالة الأثر على المؤثر.

والثالث: ما دلالته لفظية، وهي تنقسم إلى طبيعية، وعقلية، ووضعية، والوضعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام كما ذكرها الشارح رحمه الله تعالى.

راجع: مختار الصحاح: ص/ 209، والمصباح المنير: 1/ 199، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 23، والتعريفات: ص / 104، وتحرير القواعد المنطقية: ص/ 28، وإيضاح المبهم: ص/ 6، وشرح الكوكب المنير: 1/ 125.

(1)

راجع: شرح العضد على ابن الحاجب: 2/ 171.

ص: 432

قوله: "واللفظ إن دل جزؤه على جزء المعنى، فمركب، وإلا فمفرد".

أقول: كان الأولى تقديم هذا البحث على المنطوق والمفهوم؛ لأن اللفظ ينظر في أفراده وتركيبه -أولًا- ثم يلاحظ منطوقه ومفهومه، ثم (1) ما لا يدل جزؤه على جزء معناه صدقه بأمور أربعة:

الأول: أن لا يكون لذلك اللفظ جزء مثل: ق. عَلَمًا، أو يكون له جزء ولا يدل كزاء زيد، أو يدل على معنى، ولا يكون ذلك المعنى جزء معنى اللفظ حالة الإطلاق: كعبد الله عَلَمًا، أو يكون جزء معنى اللفظ ولا يكون مرادًا: كالحيوان الناطق إذا جعل عَلَمًا لإنسان، فإن دلالة جزء اللفظ على جزء المعنى -وإن كان واقعًا- ولكن حالة العَلَمية ليست بمرادة؛ لأن المراد من اللفظ -في العَلَم- هو المعنى العَلَمي.

لا يقال: إذا كان عبد الله عَلَمًا لا يدل إلا على الذات المعينة؛ لأنّا نجزم بأن من أطلق لفظ عبد الله -على ذلك المعين- لا يخطر بخاطره معنى العبودية، ولا معنى الألوهية، فكيف يدل وقد أجمعوا على ذلك؟

قلنا: دلالة اللفظ لا تتبع الإرادة، بل توجد بدونها، كما في إرادة المعنى المطابق من اللفظ، مع أن دلالة الالتزام لا تنفك عنها، وإن لم تكن مرادة.

وتحقيق ذلك: أن دلالة اللفظ [على المعنى](2) عبارة عن التفات الذهن من اللفظ إلى المعنى.

(1) آخر الورقة (26 / ب من أ).

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 433

هذا، ودلالة اللفظ على ما وضع له مطابقة، وعلى جزئه تضمن، وعلى ما يلازمه في الذهن التزام مثل: دلالة الإنسان على الحيوان الناطق مطابقة، وعلى أحدهما تضمن، وعلى قابلية العِلْم والكتابة التزام (1).

واعتبر اللزوم الذهني؛ لأن اللزوم الخارجي غير معتبر؛ لأن الدلالة الالتزامية موجودة مع التنافي في الخارج: كدلالة العمى على البصر مع المنافاة في الخارج.

ثم حَكَمَ المصنف: بأن دلالة المطابقة لفظية، والتضمن والالتزام عقليتان (2)، وهذا ما عليه بعض أهل العربية (3).

(1) راجع: المستصفى: 1/ 30، والإحكام للآمدي: 2/ 208، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 237، وفواتح الرحموت: 1/ 413، وفتح الرحمن: ص / 52، وإرشاد الفحول: ص / 178.

(2)

لا خلاف في أن للفظ مدخلًا في الدلالات الثلاث، وهو شرط في استفادتها منه، وإنما الخلاف في هل اللفظ موضوع لها كلها، أو لبعضها؟

(3)

واختاره الرازي، والتلمساني، والهندي، وغيرهم، وقول جمهور المنطقيين هو قول الأكثر، واختاره الشارح، وهناك قول ثالث، وهو أن دلالة المطابقة والتضمن وضعيتان، ودلالة الالتزام عقلية، واختاره الآمدي، وابن الحاجب، والعضد، وغيرهم.

ويرى البعض: أنه إذا كان محل النزاع -في التضمن والالتزام- فالخلاف لفظي لأنه يصح أن يقال: إن لكل من الوضع والعقل مدخلًا فيهما، فهما عقليتان باعتبار الانتقال من المسمى إلى الجزء، واللازم إنما حصل بالعقل، ويصح أن يقال: إنهما وضعيتان باعتبار أن الوضع سبب لانتقال العقل إليهما فهما عقليتان باعتبار، ووضعيتان باعتبار آخر. =

ص: 434

وعند جهور المنطقيين الثلاث لفظية؛ لأنها تستفاد من اللفظ، وهذا صريح في كلام المصنف حيث جعل القسم دلالة اللفظ، وإذا كان المقسم دلالة اللفظ، فالأقسام لفظية ضرورة [تأمل](1).

قوله: "ثم المنطوق إن توقف الصدق أو الصحة على إضمار، فدلالة اقتضاء".

أقول: قد عرفت مما سبق: أن المنطوق على قسمين: صريح، وغير صريح، وهو ما دل عليه اللفظ التزامًا، وهذا القسم الثاني هو الذي ينقسم إلى اقتضاء وإشارة وإيماء، ثم وجه الانقسام هو أن ذلك المنطوق الذي هو القسم الثاني إما أن يكون مقصودًا للمتكلم، أو لا، فإن كان مقصودًا فذلك بحكم الاستقراء قسمان:

أحدهما: أن يتوقف الصدق، أو الصحة الشرعية أو العقلية عليه، وهذا يسمى: دلالة اقتضاء، أما الصدق فنحو قوله صلى الله عليه وسلم:"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان"(2)، فإن الصدق موقوف على تقدير المؤاخذة، أو نحوها

= راجع: المحصول: 1/ ق/ 1/ 229 - 300، والإحكام للآمدى: 1/ 12 - 13، ومختصر ابن الحاجب مع شرح العضد: 1/ 121، وتشنيف المسامع: ق (24 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 238، وهمع الهوامع: ص / 70، والطراز: 1/ 38، وتحرير القواعد المنطقية: ص / 32، والأنصاري على إيساغوجي: ص / 30، وحاشية عليش: ص / 30، وفتح الرحمن: ص / 53

(1)

المثبت من هامش (أ).

(2)

هذا الحديث روي من طرق متعددة، وبألفاظ مختلفة، فقد رواه ابن ماجه عن أبي ذر، وفي إسناده أبو بكر الهذلي، وهو متفق على ضعفه كما قاله الحافظ البوصيري، =

ص: 435

ليصدق مضمونه؛ لأن وجود الخطأ والنسيان ووقوعهما في أمته لا يمكن إنكاره.

وأما الصحة العقلية: فنحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82] إذ خطاب القرية لا يُجوِّزه العقل جريًا على العادة، وإنما قيد بالعادة لجواز السؤال من نبي بخرق العادة؟ فلا بد من هذا القيد، وإن أطلق المحقق العلامة (1).

= ورواه أبو نعيم، وابن عدي من طريق جعفر بن جسر عن أبيه عن الحسن عن أبي بكرة، غير أن جعفرًا وأباه ضعيفان، ورواه الطبراني عن ثوبان، وأبى الدرداء، وفي إسناده ضعف كما قال الحافظ، ورواه الدارقطني، والحاكم، والبيهقي، وضَعَّف الحديث الحافظ الهيثمي، وقد صحح الحديث ابن حبان، والحاكم، والسيوطي، وحسنه النووي.

أما ما رواه عبد الله بن أحمد عن أبيه من إنكار هذا الحديث في قوله: "من زعم أن الخطأ، والنسيان مرفوع، فقد خالف كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة". فإنه يحمل على رفع أصل الخطأ، والنسيان، وهذا لم يقل به أحد ممن عمل بالحديث، أو صححه، ولكنهم يقولون: المراد منه رفع المؤاخذة بهما، وهو قول كثير من الفقهاء، وعلماء الأصول، وغيرهم.

راجع: سنن ابن ماجه: 1/ 630، والدارقطني: 4/ 171 في سننه، والمستدرك: 2/ 198، والسنن الكبرى: 7/ 356، والمعجم الكبير للطبراني: 2/ 94، وأخبار أصفهان: 1/ 90، والكامل في الضعفاء: 2/ 573، وموارد الظمآن: ص / 360، والجامع الصغير: 2/ 24، وفيض القدير: 4/ 34، والأربعين النووية: ص / 85، وتلخيص الحبير: 1/ 281 - 282، وكشف الخفاء: 1/ 522.

(1)

جاء في هامش (أ، ب): "هو المولى عضد الملة والدين". وراجع: شرحه على مختصر ابن الحاجب: 2/ 172.

ص: 436

والصحة الشرعية: نحو قول القائل: اعتق عبدك عني، فإنه لا بد من حصول الملك قبل الإعتاق لعدم جواز إعتاق ملك الغير ضرورة.

الثاني -من قسمي المقصود-: وهو أن يُقْرَن بحكم لولا حمله على التعليل يكون غير لائق بالمقام فيدل عليه، وإن لم يصرح به، ويسمى: إيماء، وسيأتي ذكره بأقسامه في باب القياس إن شاء الله تعالى.

والقسم الثاني: وهو الذي لا يكون مقصودًا للمتكلم يسمى: دلالة إشارة نحو قوله صلى الله عليه وسلم في النساء: "ناقصات عقل ودين، قيل: ما نقصان دينهن؟ قال: تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلى"(1) فدل على أن أكثر الحيض خمسة عشر يومًا (2)، وعلم -أيضًا- أنه أقل الطهر (3)، ولا شك أن بيانهما لم يكن مقصودًا منه، ولكن لزم حيث بالغ في نقصان دينهن،

(1) روى هذا الحديث أبو سعيد الخدري، وأبو هريرة، وابن عمر، وقد أخرجه البخاري ومسلم، وأبو داود، والترمذي، وأحمد، وغيرهم من حديث طويل.

راجع: صحيح البخاري: 1/ 79 - 80، وصحيح مسلم: 1/ 61، ومسند أحمد: 2/ 66، وسنن أبي داود: 1/ 261، وسنن الترمذي: 5/ 10.

(2)

هذا تحديد لمدة أكثر الحيض من حيث الزمن، وهو المشهور من مذهب الشافعية، والمالكية، والحنابلة على تفصيل عند المالكية، وأما عند الحنفية، فأكثره عشرة أيام بلياليها، وما زاد على ذلك يكون استحاضة.

راجع: المدونة: 1/ 49، وشرح فتح القدير: 1/ 160 - 161، والمجموع: 2/ 380، والمغني: 1/ 308.

(3)

وبهذا قالت الحنفية، والمالكية، والشافعية، وعند الحنابلة ثلاثة عشر يومًا.

راجع: المدونة الكبرى: 1/ 50، والمغني: 1/ 310، والمجموع: 2/ 380، وشرح فتح القدير: 1/ 174.

ص: 437

كما بالغ في نقصان عقلهن حيث جعل شهادة امرأتين بمثابة شهادة رجل واحد، فدل على أن نهاية ما يصل إليه نقصان دينها هو هذا القدْر.

وقد علمت من هذا التحرير، والتحقيق: أن كلام المصنف قاصر عن إفادة المرام؛ لأنه أسقط الإيماء، وقسم المنطوق، والمنقسم إنما هو غير الصريح، والصريح قسم واحد (1).

قوله: "المفهوم: ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق".

أقول: مفهوم اللفظ -وهو ما عدا المنطوق بأقسامه- قسمان: مفهوم موافقة، ومفهوم مخالفة؛ لأن حكمه إن كان موافقًا للمنطوق، فهو مفهوم موافقة، وإلا فمفهوم مخالفة (2).

(1) رُد على الشارح بأن المنقسم إلى الإيماء والإشارة حقيقة إنما هي دلالة المنطوق لا نفس المنطوق، ولما لم يكن الإيماء من تلك الأقسام إذ ليس مدلولًا للفظ المنطوق كما هو ظاهر من معناه، لعل المصنف أراد تأخيره إلى محله اللائق به من باب القياس، وعليه، فلا يرد ما قاله الشارح رحمه الله من الاعتراض.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 239، والآيات البينات: 2/ 13. وانظر: أصول السرخسي: 1/ 236، والمستصفى: 1/ 186 - 188، والإحكام للآمدي: 2/ 208، وكشف الأسرار: 1/ 68، وشرح العضد: 2/ 172، وفتح الغفار: 2/ 44، وفواتح الرحموت: 1/ 413، وتيسير التحرير: 1/ 87، ونشر البنود: 1/ 93 في المسألة الأصلية في الباب.

(2)

راجع: العدة: 1/ 152، والبرهان: 1/ 449، واللمع: ص/ 25، والمستصفى: 2/ 191، والإحكام للآمدي: 2/ 210، وشرح تنقيح الفصول: ص / 54، والمسودة: ص / 350، ومختصر الطوفي: ص / 121، وشرح العضد: 2/ 171، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 240، والآيات البينات: 2/ 15، وفواتح الرحموت: 1/ 413، ونشر البنود: 1/ 94، وإرشاد الفحول: ص / 178.

ص: 438

فالأول: يسمى فحوى الخطاب، وكذلك لحن الخطاب عند الجمهور، والمصنف جعله مخصوصًا بقسم منه، وهو ما إذا كان مساويًا (1).

ثم حقيقة مفهوم الموافقة لا تنفك عن التنبيه بالأدنى على الأعلى كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23]، وقوله:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8]، وقوله:{وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فإن التأفيف، والذَّرَّة، والدينار تدل على أن الحكم في الأعلى بالطريق الأولى.

وفى "المنتهى": هو التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأعلى على الأدنى (2)، وحذف القسم الثاني في "المختصر"(3)، واقتصر على القسم (4) الأول:

(1) ذهب البعض، ومنهم المصنف إلى أن هناك فرقًا بين فحوى الخطاب، ولحن الخطاب، ففي الفحوى يكون الحكم في المفهوم أولى منه في المنطوق: كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب: لأنه أشد. وفي اللحن يكرن الحكم في المفهوم مساويًا للمنطوق: كتحريم إحراق مال اليتيم الذي هو مساو للأكل بواسطة الإتلاف في الصورتين.

راجع: أدب القاضي: 1/ 617، والإبهاج: 1/ 367، ورفع الحاجب:(2/ ق / 63 / أ)، والآيات البينات: 2/ 16، وحاشية البناني على المحلي: 1/ 241، ونشر البنود: 1/ 96.

(2)

راجع: منتهى الوصول والأمل: ص / 148.

(3)

راجع: المختصر مع شرح العضد: 2/ 272.

(4)

آخر الورقة (27 / ب من ب).

ص: 439

لأنه يوخذ معنى الأدنى على وجه يشمل معنى الأعلى: كالمناسبة مثلًا يقال: التأفيف أدنى مناسبة بالتحريم من الضرب، والذَّرَّة أدنى مناسبة بالجزاء من الدينار والدرهم والقنطار، وإن كان أعلى من الدينار لكنه أدنى مناسبة للتأدية من الدينار، فيُكتفى بالأدنى على الأعلى لاندراج الكل تحته، وإذا كان المذكور أدنى مناسبة كان المسكوت عنه أشد مناسبة بالحكم، وهذا مبني على أن لا تعد المساواة من مفهوم الموافقة: كالاستدلال بحرمة أكل مال اليتيم على حرمة إحراق ماله إذ لا مزية في استحقاق الإثم لأحدهما على الآخر، وقد عده الغزالي منه (1).

ثم الاستدلال بمثله مقبول اتفاقًا (2)، إنما الكلام في صدق هذا الاسم عليه.

ثم اختلف في أن الاستدلال بالمفهوم هل هو قياس شرعي، أم لا؟

اختار إمام الأئمة الشافعي رضي الله عنه، وتبعه الإمامان (3) -: أنه قياس شرعي؛ لأنه إلحاق أصل بفرع لعلة مستنبطة، فيكون قياسًا شرعيًّا لصدق حده عليه.

(1) راجع: المستصفى: 2/ 190.

(2)

هذا هو مذهب غالبية أهل العلم خلافًا لداود الظاهري، ومن تبعه حيث لم يقولوا بحجيته.

راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 211، والمسودة: ص/ 346، وإرشاد الفحول: ص/ 179.

(3)

إمام الحرمين، والإمام الرازي، وقال به الكثرة من الشافعية، واختاره المصنف، وبعض الحنابلة، فهو قياس جلي عندهم لتوفر أركان القياس فيه. =

ص: 440

وقيل: لفظي، وهذا هو المختار (1)؛ لأن من عرف اللغة يفهم هذا الحكم، وإن [لم](2) يرد بذلك الشرع (3).

قال الغزالي في "المستصفى": "فإن قلت: هذا قياس إذ الضرب حرام قياسًا على التأفيف.

قلت: إن أردت أنه محتاج إلى استنباط وتأمل، فهو خطأ، وإن أردت أنه إلحاق مسكوت بمنطوق، فهو صحيح" (4).

والذي يجب أن يحمل عليه كلام الشافعي رضي الله عنه: هو أن صورته صورة قياس شرعي، ويؤخذ منه حكم شرعي كما في سائر

= راجع: الرسالة: ص/ 514، واللمع: ص / 25، والبرهان: 1/ 448، والمحصول: 1/ ق/ 3/ 259 - 260، والروضة: ص/263، والمسودة: ص/348، وشرح العضد: 2/ 173، ورفع الحاجب:(2/ ق / 63 / أ- ب)، ومختصر الطوفي: ص / 122، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 242، وهمع الهوامع: ص / 72، والآيات البينات: 2/ 20، ونشر البنود: 1/ 97.

(1)

وبه قال المالكية، والحنفية، وبعض الشافعية، وأكثر الحنابلة، وغيرهم.

راجع: العدة: 1/ 153، والإشارات: ص/ 92، وأصول السرخسي: 1/ 241، وإحكام الفصول للباجي: ص / 508، والمستصفى: 2/ 190، وكشف الأسرار: 1/ 73، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 173، وفتح الغفار: 2/ 45.

(2)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

(3)

آخر الورقة (27/ ب من أ).

(4)

راجع: المستصفى: 1/ 191.

ص: 441

الأقيسة، وإن كان المقيس معلومًا -لغة- بخلافه في بقية الأقيسة؛ إذ رِفعته وجلالة قدره أعلى من أن يلتبس عليه ما يفهمه غيره بلا توقُّف (1).

قوله: "فقال الغزالي والآمدي: فهمت من السياق والقرائن، وهي مجازية من إطلاق الأخص على الأعم".

أقول: ذكر الإمام الغزالي: أن مجرد ذكر الأدنى لا يحصل منه التنبيه على الأعلى ما لم يعلم المقصود من الكلام، وما سيق له، فلولا معرفتنا بأن الآية إنما سيقت لتعظيم الوالدين لما فهمنا حرمة الضرب من قوله:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ؛ إذ قد يأمر السلطان بقتل إنسان، ويقول: لا تقل له أف، ولكن اضرب عنقه (2)، وليس في كلامه ذكر المجاز لا صريحًا ولا كناية (3)، وما زعمه المصنف: من أن الدلالة المذكورة

(1) وذكر الجويني أن الخلاف في المسألة المذكورة لفظي. إلا أن الخلاف له ثمرة، ونتيجة، فعلى قول الشافعي ومن تبعه من أن دلالته قياسية، لا يجوز النسخ به، أما على قول غيره من أن دلالته لفظية، فيجوز النسخ به.

راجع: البرهان: 2/ 786، وتشنيف المسامع: ق (25 / أ)، وشرح الكوكب المنير: 3/ 486.

(2)

راجع: المستصفى: 2/ 190.

(3)

قلت: نقل المصنف -عن الغزالي- ما ذكره الشارح عنه، ووافقه على هذا النقل جل من شرح جمع الجوامع: كالزركشي، والمحلي، والعراقي، والأشموني، والعبادي، والكمال بن أبي شريف حسب اطلاعي على شروحهم، ولم يعترضوا على هذا النقل، لكن الشارح هنا اعترض عليه: بأنه لم يرد في كلام الغزالي ذكر المجاز على الإطلاق، =

ص: 442

مجازية (1) غير مستقيم؛ لأن المجاز استعمال اللفظ في غير ما وضع له لعلاقة بين المعنيين، أو الكلمة المستعملة في غير ما وضع له لعلاقة مع قرينة دالة على عدم جواز إرادة ما وضع له.

ولا شك أن قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} مستعمل في معناه الحقيقي، غايته: أنه عُلِم منه حرمة الضرب بقرائن الأحوال ومساق الكلام، واللفظ لا يصير بذلك مجازًا، وكأنه لم يفرق بين القرينة المفيدة للدلالة، والقرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي، والثانية هي اللازمة للمجاز دون الأولى، والعجب أن شراح كلامه لم ينتبهوا لهذا مع ظهوره.

= ناقلًا كلامه من المستصفى كما ترى، غير أن العبادي رد على الشارح اعتراضه بأن المصنف حجة، ثقة في نقله، خبير بكلام الغزالي، وكتبه، ولعله اطلع على ما نقله في غير هذا الموضع. ويؤيد ما قاله العبادي أن الإمام الزركشي صرح بما نقله المصنف عن الغزالي أنه قاله في المطلق والمقيد لا في هذه المسألة، ثم ذكر عنه رأيًا آخر في القطب الثالث في كيفية الاستدلال.

راجع: المستصفى: 1/ 340، و 2/ 186، والإحكام للآمدي: 2/ 210 - 211، وتشنيف المسامع: ق (25 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 244، وهمع الهوامع: ص / 72، والدرر اللوامع للكمال: ق (75/ ب)، والآيات البينات: 2/ 21.

(1)

الواقع أن المصنف لم يختر ذلك صريحًا، كما أنه لم ينسبه لغيره، وهو وإن كان قد يفهم من سياقه بأنه للغزالي، والآمدي إلا أنه لم يصرح بنسبته إليهما في الأصل، لكني وجدته صرح بذلك في رفع الحاجب، فقال -بعد ذكره الغزالي، والآمدي، وابن الحاجب-:"والدلالة -عندهم- مجازية من باب إطلاق الأخص، وإرادة الأعم".

راجع: رفع الحاجب: (2/ ق/63/ أ)، والآيات البينات: 2/ 21 - 22.

ص: 443

قوله: "وقيل: نقل اللفظ لها عرفًا"، يعني ذهبت طائفة إلى أن اللفظ صار حقيقة عرفية في المعنى الالتزامي (1) الذي هو الضرب في مثل قوله تعالى:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ، وكذلك -في قوله-:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] صار اللفظ حقيقة في المجازاة في الأكثر، وهذا قول [باطل](2)؛ لأن المفردات كلها مستعملة في معانيها اللغوية، بلا ريب، مع إجماع السلف على أن في الأمثلة المذكورة إلحاقًا لفرع بأصل، وإنما الخلاف في أن ذلك بالشرع أو باللغة، كما تقدم.

وعند الحنفية يسمى: دلالة النص، وهم مجمعون على أن هذه الدلالة تفهم لغة ولا حاجة إلى ملاحظة الشرع في ذلك (3).

قوله: "وإن خالف فمخالفة".

(1) هذا مذهب ثالث -في المسألة- فتحريم الضرب للوالدين، وتحريم إحراق مال اليتيم من منطوق الآيتين حقيقة عرفية، والبيضاوي جعله مرة مفهومًا، وأخرى قياسًا، ففي الفصل التاسع الذي عقده لكيفية الاستدلال من فصول اللغات جعل الموافقة مفهومًا، وفي كتاب القياس جعله قياسيًا، وذُكر عن الصفي الهندي أنه لا تنافي بينهما؛ لأن المفهوم مسكوت، والقياس إلحاق مسكوت بمنطوق.

راجع: الابتهاج: ص/ 57، 221، وهمع الهوامع: ص/ 72 - 73.

(2)

في (ب): "بط" والمثبت هو الصواب.

(3)

راجع: أصول السرخسي: 1/ 241، وكشف الأسرار: 1/ 73، والتوضيح: 1/ 131، وفتح الغفار: 2/ 45، وتيسير التحرير: 1/ 90، وفواتح الرحموت: 1/ 408.

ص: 444

أقول: الثاني من قسمي المفهوم: مفهوم المخالفة، وهو أن يكون المسكوت عنه مخالفًا للمنطوق في الحكم (1) مثل قوله صلى الله عليه وسلم:"في سائمة الغنم زكاة"(2) إذ يدل على أن حكم المعلوفة مخالف لها، وهو عدم الوجوب، وله أقسام ستأتي مفصلة إن شاء الله تعالى.

(1) راجع: الإشارات: ص / 93، والحدود: ص/ 50، والعدة: 1/ 154، واللمع: ص / 25، والتبصرة: ص/ 218، والبرهان: 1/ 449، والمستصفى: 2/ 191، وروضة الناظر: ص / 264، والإحكام للآمدي: 2/ 212، وشرح تنقيح الفصول: ص / 53، وشرح العضد: 2/ 173، ومختصر الطوفي: ص / 122، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 245، والآيات البينات: 2/ 23، وتيسير التحرير: 1/ 98، وشرح الكوكب المنير: 3/ 489، ونشر البنود: 1/ 98، وإرشاد الفحول: ص / 179.

(2)

هكذا يذكره الفقهاء والأصوليون، ولعلهم اختصروا الحديث كما قال ابن الصلاح والحديث ورد من طريق محمد بن عبد الله بن المثنى عن أبيه عن ثمامة بن عبد الله بن أنس أن أنسًا حدثه أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هذه فريضة الصدقة إلى فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله

إلى قوله: وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة" غبر أن المحدثين تكلموا في عبد الله بن المثنى توثيقًا، وتضعيفًا، فضعفه ابن معين، والدارقطني، والنسائي، والعقيلي، والآجري، والساجي، والأزدي، ووثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن حبان، والعجلي، والترمذي، وابن معين، والدارقطني في قولهما الآخر.

قلت: والقول الأخير هو الأنسب إذ إن البخاري قد خرج له أحاديث في صحيحه المجمع على صحة ما فيه جملة، وتفصيلًا، سندًا، ومتنًا، كما أنه قد تابع عبد الله بن المثنى في حديثه المذكور حماد بن سلمة عن ثمامة عند أحمد، وغيره، وورد بمعناه حديث عمرو بن حزم، وحديث ابن عمر، وقد تكلم فيهما. =

ص: 445

وله شروط منها: أن لا يكون المسكوت عنه ترك لخوف، كقول من يتهم بالرفض-: أتصدق هذا الدينار على من يحب أبا بكر وعمر (1)، أو نحو الخوف: كالجهل بحكم المسكوت عنه، كما في المثال المذكور إذ لا يعلم حال المعلوفة، أو يكون المذكور خرج مخرج الغالب كقوله:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] للاتفاق على عدم اعتبار السفر في جواز الرهن، خلافًا لإمام الحرمين، حيث زعم أنه، أي: كونه خرج مخرج الغالب ليس بظاهر يترك به أصل من الأصول (2)، وهذا استبعاد منه خال عن الدليل، والمحققون بعده على خلافه (3).

= راجع: صحيح البخاري: 2/ 139، ومسند أحمد: 1/ 11 - 12، 2/ 15، وسنن أبي داود: 2/ 99، وسنن الترمذي: 3/ 17، وسنن النسائي: 2/ 28 - 29، وسنن ابن ماجه: 1/ 353، والسنن الكبرى للبيهقي: 4/ 116، والمستدرك للحاكم: 1/ 395، وموارد الظمآن: ص / 202، وتهذيب التهذيب: 5/ 387.

(1)

مع أنه يريد معهم غيرهم، ولكنه أخفى الغير خوفًا من أن يتهم بالرفض.

(2)

نقل إمام الحرمين هذا الشرط عن الشافعي، ثم نازعه فيه قائلًا:"والذى أراه أن ذلك لا يسقط التعلق بالمفهوم". البرهان: 1/ 474، 477، وانظر: شرح تنقيح الفصول: ص/272، والمختصر مع العضد: 2/ 175، وتشنيف المسامع: ق (25/ أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 246، وهمع الهوامع: ص/73، وفواتح الرحموت: 1/ 414، وتيسير التحرير: 1/ 99، ونشر البنود: 1/ 99، وإرشاد الفحول: ص/ 180.

(3)

وقد نقل الإمام القرافي الإجماع على أن المفهوم متى خرج مخرج الغالب ليس بحجة، كما رد الزركشي، والمحلي، والأشموني على الجويني مخالفته السابقة.

راجع: شرح تنقيح الفصول: ص/ 271، وتشنيف المسامع، والمحلي، وهمع الهوامع التي سبق ذكرها قبل هذا.

ص: 446

أو يكون المذكور جواب سائل: كما إذا سأله شخص: هل في السائمة زكاة؟ فأجاب: بأن في السائمة زكاة، أو للجهل بحكم المذكور دون حكم المسكوت عنه، ولا يخفى أن ذكر السؤال يغني عن هذا. أو غير الذي ذكر من الأشياء التي توجب تخصيصه بالذكر كقوله تعالى:{وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]: إذ مفهوم الشروط لا اعتبار به، بل إنما ذكر الشرط إيذانًا بأنهن إذا أردن التحصن، فالمولى -بذلك- أولى.

وقيل: إنما ألغى مفهوم الشرط هنا؛ لأن الإكراه على الزنى مع عدم إرادة التحصن غير ممكن، وقيل: عارضه الإجماع (1).

(1) لأن الزنى محرم على كل حال وظرف بالإجماع، دون استثناء في ذلك. ومن شروط مفهوم المخالفة -أيضًا- أن لا يكون خرج مخرج التفخيم كحديث:"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" فقيد الإيمان للتفخيم في الأمر، وأن هذا لا يليق بمن كان مؤمنًا. راجع: صحيح البخاري: 7/ 76.

وأن لا يكون المنطوق ذكر لزيادة امتنان على المسكوت عنه نحو قوله جل وعلا: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، فلا يدل على منع القديد من لحوم ما يؤكل مما يخرج من البحر كغيره.

وأن لا يكون المنطوق خرج لبيان حكم حادثة اقتضت بيان الحكم في المذكور كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة لميمونة فقال: "دباغها طهورها" لأن القصد من الحديث الحكم على هذه الحادثة لا النفي عما عداها. =

ص: 447

ومما يجب التنبه له: أن ما أطلقه المصنف من الشروط لا يلزم جريانها في جميع المفاهيم، بل حيث يمكن لعدم جريان شيء مما ذكر في الاستثناء، وإنما المفيدة للحصر، وفي الغاية، وأن لا يكون المسكوت عنه أولى بالحكم المذكور، ولا مساويًا له، وألا يكون مفهوم موافقة عند من يجعل المساواة معتبرة في مفهوم الموافقة، وألا يكون واسطة بين المفهومين؛ هكذا يجب أن يفهم هذا المقام.

قوله: "ولا يمنع قياس المسكوت بالمنطوق".

أقول: يريد أن المذكور، وهو ما يقتضي التخصيص بالذكر لا يمنع قياس المسكوت بالمنطوق إذا وجدت بينهما علة جامعة.

ثم استبعد المنع كأنه قال: كيف يمتنع القياس، والحال أن طائفة ذهبت إلى أن ذلك المعروض الذي عرض له القيد المذكور يعم المسكوت عنه بدون قياس؟ كما إذا قال -عند الجهل بحكم المذكور-: في الغنم السائمة زكاة، عند هذه الطائفة لفظ الغنم عام يشمل المعلوفة أيضًا، ثم نقل الإجماع على عدم العموم، وأن اللفظ لا يتناول المسكوت عنه.

= راجع: صحيح مسلم مع شرح النووي: 4/ 53، ومسند أحمد: 4/ 329، وسنن أبي داود: 2/ 387. وهناك شروط كثيرة أهمها ما ذكر.

راجع: اللمع: ص / 26، والمسودة: ص/ 363، وشرح العضد: 2/ 174، وفواتح الرحموت: 1/ 414، وتيسير التحرير: 1/ 99، وإرشاد الفحول: ص/ 180.

ص: 448

غايته: أنه لو (1) وجد قياس يقاس عليه، وإلا فلا (2)، وعبر بالمعروض دون الموصوف، وإن كان في المعنى موصوفًا لئلا يتوهم اختصاص البحث بالصفة، مع كونه عامًّا في جميع الموارد التي من شأنها مخالفة المسكوت للمنطوق.

قوله: "وهو صفة كالغنم السائمة، أو سائمة الغنم".

أقول: لما بين معنى مفهوم المخالفة وما فيه من الخلاف والشروط، شرع في بيان أقسامه والبحث عما يتعلق بكل قسم من المسائل، وابتدأ بمفهوم الصفة؛ لأن مباحثه أكثر، وهو بين الفقهاء أشهر (3)، والمراد بالصفة هنا ما يشعر بالعلية مثل:"المؤمن (4) غِرٌّ كريم"(5)، فبينه وبين

(1) آخر الورقة (28/ ب من ب)

(2)

انظر: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 248، وتشنيف المسامع: ق (25/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 74، والآيات البينات: 2/ 26.

(3)

لأنه رأس المفاهيم لذا قال إمام الحرمين: "لو عبر معبر عن جميع المفاهيم بالصفة لكان ذلك منقدحًا، فإن المعدود، والمحدود موصوفان بعدهما، وحدهما" البرهان: 1/ 454، وانظر: منع الموانع: ق (81/ أ).

(4)

-غر بكسر الغين المعجمة- أي: لا يعرف الشر، ولا بذي مكر، وهو ضد الخب، يقال: فتى غر، وفتاة غر، والمراد: أن المؤمن من طبعه الغرارة، وقلة الفطنة للشر، وترك البحث عنه كرمًا، وحسن خلق منه، وسلامة صدر لا جهلًا، وغباء.

راجع: النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: 3/ 354 - 355.

(5)

الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والحاكم، والبيهقي، ولفظه عند أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمن غر كريم، =

ص: 449

الصفة النحوية عموم من وجه؛ لأن صفة المدح والذم خارجة عن هذا، ومثل:"ليُّ الواجد"(1)، و:"مَطْل الغنيّ"(2) ليس وصفًا نحويًّا.

= وإن الفاجر خب لئيم" والحديث حكم الحافظ القزويني بوضعه، ورد عليه الحافظ حكمه على الحديث بالوضع، وقال: "ومع أن في سنده الحجاج بن فرافصة، وبشر بن أبي رافع، وهما ضعيفان عند الجمهور، وبشر أضعف من الححاج، ولم يحتج الشيخان بواحد منهما، لكن لا يتجه عليه الحكم بالوضع كيف، وقد أسنده المتقدمون من أصحاب الثوري! وقال الترمذي: حسن صحيح، والحديث برواياته المختلفة لا ينزل عن درجة الحسن".

راجع: مسند أحمد: 2/ 394، وسنن أبي داود: 2/ 551، وسنن الترمذي: 5/ 140 - 141، والسنن الكبرى: 10/ 195، والمستدرك: 1/ 43، ومشكاة المصابيح: 2/ 630، 3/ 312، 317، والميزان للذهبي: 1/ 317، 363، وتقريب التهذيب: 1/ 99، 154.

(1)

لي الواجد: أي مطلق الغنى، واللي -بالفتح- المطل، وأصله لوى، فأدغمت الواو في الياء، والواجد الغني من الوجد بالضم بمعنى السعة، والقدرة. والحديت رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وعلقه البخاري، وصححه الحاكم، ووافقه عليه الإمام الذهبي، ولفظه: عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لي الواجد يحل عرضه، وعقوبته" يعني شكايته، وسجنه.

راجع: النهاية لابن الأثير: 4/ 287، وصحيح البخاري: 3/ 117، ومسند أحمد: 4/ 388، 399، وسنن أبي داود: 2/ 283، وسنن النسائي: 7/ 316، وسنن ابن ماجه: 2/ 80، والمستدرك: 4/ 102، وفيض القدير: 5/ 400.

(2)

الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومالك، والبيهقي، ولفظ الحديث عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"مطل الغني ظلم، ومن أُتبع على مليء، فليتبع". =

ص: 450

وقد قال به الإمام الجليل الشافعي والأشعري وكثير من العلماء (1).

ومنعه أبو حنيفة، والقاضي، والغزالي، والمعتزلة.

لنا: ما نقله الإمام في "البرهان": أن أبا عبيدة معمر بن المثنى (2) لما

= راجع: الموطأ: ص/418، وصحيح البخاري: 3/ 117، وصحيح مسلم: 5/ 34، وسنن أبي داود: 2/ 222، ومسند أحمد: 2/ 71، 245، وسنن الترمذي: 3/ 600، وسنن النسائي: 6/ 317، وسنن ابن ماجه: 2/ 73، والسنن الكبرى: 6/ 70، وفيض القدير: 5/ 523.

(1)

كالإمام مالك، وأحمد، وأكثر أصحابهما، وغالب أصحاب الشافعي، ورجح المذهب الثاني أعني ما ذهب إليه أبو حنيفة ابن سريج، والقفال الشاشي، والآمدي من الشافعية، وبعض المالكية، وأبو الحسن التميمي من الحنابلة.

راجع: المعتمد: 1/ 160، والعمدة: 2/ 453 - 455، والبرهان: 1/ 455، والتبصرة: ص/218، والمستصفى: 2/ 192، والإحكام للآمدي: 2/ 214، 224، والمسودة: ص / 360، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 270، وشرح العضد: 2/ 175، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 253، والآيات البينات: 2/ 33 - 36، وتيسير التحرير: 1/ 100، وفواتح الرحموت: 1/ 414، وإرشاد الفحول: ص/ 180.

(2)

هو معمر بن المثنى التيمي البصري اللغوي، النحوي العلامة، كان من أجمع الناس للعلم، وأعلمهم بأيام العرب، وأخبارها، وأكثر الناس رواية لذلك، وله مؤلفات منها: مجاز القرآن، وغريب القرآن، وغريب الحديث، ونقائض جرير والفرزدق، وتوفي سنة (209 هـ) وقيل: غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص/ 175، وإنباه الرواة: 3/ 276، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 260، ومعجم الأدباء: 19/ 154، وطبقات المفسرين للداوي: 2/ 326.

ص: 451

سمع قوله صلى الله عليه وسلم: "ليّ الواجِد يحلّ عقوبته، وعِرْضه"(1) قال: هذا يدل على لَيِّ غير الواجد لا يحل عقوبته وعرضه (2).

وقيل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يمتلئ بطن الرجل قيحًا خير من أن يمتلئ شعرًا"(3) المراد به هجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو كان كذلك لم يكن للامتلاء فائدة إذ ذاك قليله وكثيره سواء، فجعل الامتلاء كالشعر الكثير، وفَرَّق بينه وبين القليل، وذلك صريح في المطلوب.

وذكر الآمدي: أن القائل أبو عبيد بدون التاء (4)، وهو قاسم بن سلام الكوفي (5)، ويمكن التوفيق: بأن يكون كل منهما

(1) آخر الورقة (28 / ب من أ).

(2)

راجع: البرهان له: 1/ 455.

(3)

الحديث رواه البخاري، ومسلم، وأحمد، ولفظ الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"خذوا الشيطان، أو أمسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف رجل قيحًا خير له من أن يمتلئ شعرًا".

راجع: صحيح البخاري: 8/ 45، وصحيح مسلم: 7/ 50، ومسند أحمد: 3/ 8، 41.

(4)

راجع: غريب الحديث لأبي عبيد: 2/ 174 - 175، والإحكام للآمدي: 2/ 214.

(5)

هو القاسم بن سلام البغدادي الإمام البارع في اللغة، والنحو، والتفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، أشهر مؤلفاته: الأموال، وغريب القرآن، وغريب الحديث، ومعاني القرآن، وأدب القاضي، وتوفي سنة (224 هـ) وقيل: غير ذلك.

راجع: وفيات الأعيان: 3/ 225، ومعجم الأدباء: 16/ 254، وإنباه الرواة: 3/ 12، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 411، وطبقات السبكي: 2/ 153، وطبقات المفسرين: 2/ 32، والمنهج الأحمد: 1/ 80، وبغية الوعاة: 2/ 253.

ص: 452

قائلًا (1)؛ لأنهما إمامان في اللغة، والشافعي في اللغة لا يبارى لو لم يفهمه لغة لم يقل به.

واعترض لمخالفة الأخفش (2)، ومنع ذلك؛ لأنه لم يثبت عنه، ولو سلم من نقلنا عنه أقعد في اللغة من الأخفش، ولو سلم فالمذكورون أوقر وأكثر، ولو سلم فالإثبات مقدم.

ولنا -عقلًا-: أن لو لم يفد لم يكن لذكره فائدة إذ غير ما ادعيناه منتف اتفاقًا، وكلام البلغاء مصون عن مثله، فضلًا عن كلام سيد الأنبياء.

قيل -عليه-: أثبتم التخصيص بالفائدة، ومثله لا يثبت إلا بالنقل.

قلنا: لم نثبته بالفائدة، بل القاعدة الكلية المنقولة عنهم: أنه إذا ظن فائدة في الكلام وغيرها يكون معدومًا تكون تلك مرادة ظاهرًا، فيندرج المتنازع فيه في تلك القاعدة.

(1) قد ذكر الأشموني بأن معمرًا، وتلميذه الذي هو القاسم بن سلام قائلان بذلك معًا.

راجع: مع الهوامع: ص/77.

(2)

هو سعيد بن مسعدة المجاشعي النحوي، أبو الحسن الأخفش الأوسط أخذ النحو عن سيبويه، وصحب الخليل، وكان معلمًا لولد الكسائي، وقد سمي بالأخفش أحد عشر نحويًا ذكرهم السيوطي في المزهر، ثم قال:"حيث أطلق في كتب النحو الأخفش، فهو الأوسط". له مؤلفات منها: المقاييس في النحو، وتفسير معاني القرآن، والاشتقاق، وتوفي سنة (210 هـ) وقيل: غير ذلك.

راجع: طبقات النحويين للزبيدي: ص / 72، ومعجم الأدباء: 11/ 224، وفيات الأعيان: 2/ 122، وإنباه الرواة: 2/ 36، وطبقات المفسرين للداودي: 1/ 185، والمزهر للسيوطي: 2/ 405، 453، 456، وبغية الوعاة: 1/ 590، وشذرات الذهب: 2/ 36.

ص: 453

قيل: لا نسلم عدم فائدة سواها، بل توكيد المذكور لئلا يتوهم تخصيص، لو قال: في الغنم زكاة، إذ يحتمل أن يكون المراد المعلوفة.

قلنا: هذا فرع عموم اللفظ، وهو ممنوع، ولو سلم العموم -في بعض الصور- كان خارجًا عن محل النزاع.

قيل: لم لا يجوز أن تكون الفائدة ثواب المجتهد بإلحاق المسكوت عنه بالمنطوق قياسًا؟

قلنا: قد شرطنا عدم الرجحان والمساواة، وألا يكون مفهوم موافقة، هذا تحقيق المقام على ما ينبغي.

ولنرجع إلى شرح كلام المصنف، فنقول: إنما ذكر ثلاثة أمثلة لمكان فائدة؛ لأن الأول عنده نص في المقصود، وهو أن المنفي عنه الحكم -وهو وجوب الزكاة- إنما هي المعلوفة من الغنم، وأما لفظ السائمة مجردًا عن الموصوف هل هو من قبيل المتنازع فيه، أم لا؟ نقل فيه قولين (1).

(1) فقيل: ليس من الصفة: لاختلال الكلام بلونه كاللقب ورجحه المصنف، وقيل: هو منها لدلالته على السوم الزائد على الذات بخلاف اللقب، فيفيد نفى الزكاة عن المعلوفة مطلقًا، كما يفيد إثباتها في السائمة مطلقًا، وهذا محكي عن جمهور الشافعية، وغيرهم واختاره الشارح هنا، والأشموني، أما الزركشي والمحلي فلم يرجحا واحدًا منهما غير أن الزركشي ذكر أن من قال: إنه من الصفة لا ينبغي أن يفهم منه تساويهما، بل الصفة المقيدة بذكر موصوفها أقوى في الدلالة من الصفة المطلقة لأن القيد كالنص.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 250، وتشنيف المسامع: ق (25/ ب)، وهمع الهوامع: ص/ 75، والآيات البينات: 2/ 27.

ص: 454

وزعم: أن الظاهر عدمه، وليس بظاهر، بل مردود قطعًا؛ لأن تعريف الوصف صادق عليه.

غايته: أن الموصوف فيه مقدر، وذِكْر الموصوف وتقديره لا دخل له فيما نحن بصدده.

ألا ترى: أنهم متفقون على أن قيد الإيمان -في قولنا-: المؤمن غر كريم يخرج الكافر، مع أن وزانه وزان السائمة بلا ريب (1).

ثم قال: "وهل المنفي غير سائمتها، أو غير مطلق السوائم قولان". وأشار بهذا إلى الخلاف في المثالين الأولين (2)؛ لأن المثال الثالث -عند من يقول: باعتبار الوصف فيه- المنفي غير مطلق السوائم لعموم المقدر.

(1) رد العلامة العبادي اعتراض الشارح على المصنف: بأن الوصف لفظ مقيد لآخر، ولفظ السائمة في المثال غير مقيد لآخر -لفظًا-، ولأنه إذا فقد الموصوف صار الوصف مما يختل الكلام بدونه كاللقب، فيكون ذكره لتصحيح الكلام لا لنفي الحكم عما عدا المذكور: لأنه إنما يحمل على ذلك إذا لم يظهر لذكره فائدة أخرى كتصحيح الكلام كما هو هنا.

قلت: العبادي تابع المصنف في اختياره، والشارح جنح إلى رأي الجمهور والذي يظهر لي -والله أعلم- أن ما قاله الإمام الزركشى فيما سبق من أن بينهما تفاوتًا، فعند ذكر الموصوف يكون أقوى منه عند تقديره هو الأظهر، والأوضح.

راجع: الآيات البينات: 2/ 27، وتشنيف المسامع: ق (25 / ب).

(2)

زيادة بيان، وتوضيح لذكر المثالين، فقولهم: في الغنم السائمة زكاة، المقيد هنا هو الغنم، ويفهم منه عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة التي لولا القيد بالسوم لشملها لفظ الغنم، فهذا من باب مفهوم الصفة. =

ص: 455

والحق -في المثالين الأولين-: هو نفى الزكاة عن معلوفة الغنم، ومنهم من نظر إلى مطلق السوم، وألغى ذكر الغنم، وجعل حكم السوم عامًّا في الإبل والبقر، وليس بشيء (1) إذ لا دليل شرعًا ولا عقلًا على ذلك؛ لأن مدار ثبوت مفهوم المخالفة على الفهم -لغة- كما تقرر في صدر البحث، وإذا قيل: في سائمة الغنم زكاة، ربما لا تخطر سائمة غير الغنم بالخاطر، ولو خطر لا يحكم العقل بالاستواء، ولا يفهم أن سائمة غير الغنم كالغنم.

وعبارة المصنف -في قوله: "غير مطلق السوائم"- فاسدة؛ إذ مراده نفي المعلوفة مطلقًا لا معلوفة مقيدة، ويلزم من كلامه أن السوائم المقيدة تكون منفية يظهر ذلك فيما إذا قلت: تصدق هذه الدراهم على غير المبتدعين مطلقًا، أي ما سوى المبتدع كائنًا من كان، بخلاف ما إذا قلت: غير مطلق المبتدعين إذ لا صحة له؛ لأن كل واحد من المبتدعين

= وقولهم: في سائمة الغنم زكاة، المقيد هو السائمة، ويفهم منه عدم وجوب الزكاة في سائمة غير الغنم كالبقر، والإبل إلى لولا تقييد السائمة بإضافتها إلى الغنم لشملها لفظ السائمة، وهذا من باب مفهوم اللقب.

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 251، والآيات البينات: 2/ 27، وهمع الهوامع: ص / 76، وتشنيف المسامع: ق (26 / أ).

(1)

آخر الورقة (29 / ب من ب) وجاء في هامشها: "تم مقابلة على أصل مؤلفه أمتع الله بوجوده" وجاء في هامش: (30 / أ) منها: "الرابع" يعني بداية الجزء الرابع بتجزئة الناسخ.

ص: 456

يصدق عليه أنه غير مطلق المبتدعين، وكذلك السوائم المقيدة، أي كل واحدة يصدق عليها أنها غير مطلق السوائم.

والصواب أن يقول: غير السوائم مطلقًا، فيتناول كل معلوفة من كل جنس، ولم ينتبه أحد من شراح كلامه لما ذكرناه، والله الموفق (1).

قوله: "ومنها العلة".

أقول: من مفهوم الصفة العلة، والفرق بين العلة والصفة: أن معنى العلية في الوصف التزامي، وفي صريح العلة مطابقي، ولقرب المعنيين أدرج المصنف العلة تحت الصفة (2)، والإمام الغزالي -كما أنكر مفهوم الصفة- أنكر مفهوم العلة الصريحة، قال في "المستصفى": "المسلك الثامن قولهم: إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة -وساق كلامه إلى أن قال-: فائدة

(1) رد العبادي على الشارح اعتراضه على المصنف: بأن مطلق الماهية لها معنيان:

الأول: الماهية بلا اعتبار قيد معها، وهو بهذا الاطلاق يتناول الماهية المقيدة، والمراد هنا في كلام المصنف هو هذا، وبالتالي لا يرد الاعتراض على هذا المعنى.

الثاني: الماهية باعتبار انتفاء القيد عنها، وهي بهذا الاطلاق لا تتناول الماهية المقيدة من حيث إنها مقيدة، وهذا غير مراد عند المصنف، وهو الذي يرد عليه اعتراض الشارح المذكور.

راجع: الآيات البينات: 2/ 28، وتشنيف المسامع: ق (26 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 250 - 251، وهمع الهوامع: ص / 75.

(2)

راجع: المحلي على جمع الجوامع: 1/ 251، والآيات البينات: 2/ 29، وهمع الهوامع: ص/76، ونشر البنود: 1/ 100، وإرشاد الفحول: ص/ 181.

ص: 457

ذكر العلة معرفة العلة فقط، وليس من فائدته تعدية العلة من محلها، فإن ذلك عُرِف بورود القياس، ولولاه لكان قوله: حرمت الخمر لشدتها، لا يوجب تحريم النبيذ المشتدّ" (1).

وأجاب عن الاعتراض: بأن الشافعي إمام في اللغة، وقد قال بعلية الوصف: بأن الإمام إنما قاله اجتهادًا لا إخبارًا عن أهل اللغة (2).

وقد عرفت الجواب عن هذا بأنه إنما علم باندراجه تحت القاعدة لا استدلالًا، وتلك القاعدة ثبتت عن الرواة الثقاة الذين هم أئمة اللغة، فلا يكون اجتهادًا.

ومما ألحق بالوصف ظرف الزمان نحو: سافر يوم الجمعة، أي: لا في غيره، واجلس أمام زيد، أي: لا وراءه.

والدليل على استفادة هذا المعنى من الظرف: أنه لو خالف المأمور استحق اللوم عرفًا على مخالفته، وذلك صريح في أن الحكم المخالف للمنطوق مفهوم منه، وإلا لما ترتب اللوم عليه جزمًا.

ومن الملحق بالوصف الحال نحو: لا تصحب زيدًا وهو عاص، وهذا لم يحتج إلى ذكره لدخوله تحت الصفة بالمعنى الذي قدمنا، إذ لا فرق في فهم الحكم المخالف بين قولنا: لا تخاطب الأمير وهو غضبان، وبين قولنا: لا تجالس الأشرار.

(1) راجع المستصفى: 2/ 202 - 203.

(2)

نفس المرجع 2/ 195.

ص: 458

ومن الملحق بالصفة العدد: لأن العدد مميز للمعدود، فهو وصف له قائم به، فيدل على نفي الحكم عن غير ذلك الموصوف نحو:{فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فلم تجز الزيادة على الثمانين، يفهم ذلك من تعريف اللغة.

قوله: "وشرط"، عطف على قوله:"صفة" لا على ما ذكر بعد قوله: "منها" لعدم دخول الشرط في الوصف، هذا ما عليه شارحو كلامه (1).

ولك أن تقول: قد تقرر في علم البلاغة: أن الشرط ظرف للجزاء، والظرف إما زمان، أو مكان، وقد ذكر المصنف: أن الظرف مطلقًا ملحق بالوصف، فلا مانع لإلحاق الشرط على هذا التأويل.

وكذلك نقول في الغاية هي معنى (2) قائم بذي الغاية، فتدخل في الوصف المذكور، فيكون أقرب إلى الضبط، وأقل أقسامًا (3).

(1) راجع: تشنيف المسامع: ق (26 / أ)، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 251، وهمع الهوامع: ص / 76، والدرر اللوامع للكمال: ق (82 / أ)، والآيات البينات: 2/ 30.

(2)

آخر الورقة (29 / ب من أ).

(3)

قلت: المراد بالشرط هنا: ما علق من الحكم على شيء بأداة الشرط مثل: إن، وإذا، ونحوهما، وهو المسمى بالشرط اللغوي لا الشرط الذي هو قسيم السبب، والمانع، وقد تقدم. وأما ما اعترض به الشارح على المصنف ففيه نظر: لأن المصنف مراده بالصفة كما صرح بها بقوله: "فأقول: المراد بالصفة عند الأصوليين -تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر مختص ليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية" منع الموانع: ق (81 / أ). =

ص: 459

مثال الشرط قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فخرجت غير ذات الحمل.

والغاية نحو قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] جعل غاية الحرمة الحاصلة بالطلاق نكاح الزوج الثاني، فعلم الحل بعده (1).

فإن قلت: على ما ذكرت من أن الغاية معنى قائم بذي الغاية، يلزم قيام العَرَض بالعرض، ويجتمع الضدان في المثال المذكور إذ نكاح الزوج الثاني بمعنى الوطء ضد الحرمة، وقد قلت: إنه قائم به.

قلت: لا شك أن ما يصدق عليه الغاية خارج عن ذي الغاية ليس قائمًا به، وإنما القائم به هو اتصافه بمفهوم الغاية بمعنى أنه ذو الغاية،

= وراجع: المستصفى: 2/ 205، والمعتمد: 1/ 150، والإحكام للآمدي: 2/ 226، وشرح تنقيح الفصول: ص / 270، والمسودة: ص / 357، وشرح العضد: 2/ 180، ومختصر الطوفي: ص / 127، وفواتح الرحموت: 1/ 421، ونشر البنود: 1/ 101، وإرشاد الفحول: ص 181، والآيات البينات: 2/ 30.

(1)

الغاية: نهاية الشئ، وآخره، وهي مد الحكم بأداتها، وهي: إلى، وحتى، واللام، وهو أقوى من الشرط من جهة الدلالة: لأنهم أجمعوا على تسميتها حروف الغاية، فلو ثبت الحكم بعدها لم يفد تسميتها غاية، وهو حجة عند الجمهور، وقال به معظم نفاة المفهوم. وذهب أكثر الحنفية، وجماعة من الفقهاء، والمتكلمين إلى المنع.

راجع: اللمع: ص / 26، والمعتمد: 1/ 150، والمستصفى: 2/ 208، المسودة: ص / 358، والإحكام للآمدي: 2/ 229، وشرح العضد: 2/ 181، ومختصر الطوفي: ص / 126، وفواتح الرحموت: 1/ 432، وتيسير التحرير: 1/ 100.

ص: 460

ومتصف بها، وهذا أمر اعتباري ليس موجودًا في الخارج، والعرض من أقسام الموجود، فلا محذور.

قوله: "وإنما" إلى قوله: "مسألة".

أقول: مما يدل على مفهوم المخالفة كلمة: "إنما"، مثل قوله تعالى:{أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الكهف: 110](1)، وقوله:{إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} [هود: 12]، وسيأتي تحقيق كيفية إفادته. ومن الأمور الدالة على مفهوم المخالفة: ما، وإلا، وكذلك لا النافية للجنس، أو بمعنى ليس نحو:{وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} [آل عمران: 144]، ولا عالم إلا زيد، ولا قائم إلا بكر، فيعني أن محمدًا منحصر شأنه في الرسالة لا يتجاوزها إلى النجاة من الموت، فإن الصحابة لما كانوا يتعاظمون موته كأنهم معتقدون جمعه بين الصفتين، فأثبت له الرسالة، ونفى عنه التبرء من الموت.

وكذلك لا عالم إلا زيد معناه: حصر [مفهوم](2) العالم في زيد، وإذا انحصر في زيد لزم منه الانتفاء عمّا عدا زيد، فالمنطوق هو الإثبات للمذكور، والمفهوم هو الانتفاء عن غير المذكور.

(1) سورة الكهف آية (110)، والأنبياء آية (108)، وفصلت آية (6) بالنسبة لأنما المفتوحة أما المكسورة فكقوله تعالى:{إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} [طه: 98].

(2)

في ب: "فهم".

ص: 461

هذا هو المفهوم من التركيب والمأخوذ من كلام أهل العربية إذ قالوا: إنك إذا قلت: لا عالم إلا زيد، فهو كلام مع من أخطأ في الحكم بأن اعتقد أن العالم عمرو لا زيد، أو اعتقد أن العالم زيد وعمرو كلاهما.

فإذا قلت: لا عالم إلا زيد لزم من إثباتك العلم على وجه الحصر انتفاؤه عن الغير، وخطأ ذلك الاعتقاد. وفي بعض كتب الأصول أن النفي هو المنطوق (1) وكأنه نظر إلى [تسلط النفي](2) على صدر الكلام.

فإن قلت: قد اتفقوا على أن معنى الاستثناء هو الإخراج، فيكون منطوقه هو المخرج المنفي.

قلت: التحقيق أن الإخراج مجاز عن عدم الدخول؛ لأن الإخراج إما عن الحكم، فلم يكن المستثى داخلًا في الحكم حتى يخرج؛ إذ لم يقل أحد: إن زيدًا -في جاءني القوم إلا زيدًا- كان داخلًا في الحكم، ثم أخرج.

وإن أريد إخراجه من اللفظ العام، أي: مما تناوله، فذلك باطل؛ إذ بالاستثناء لم يخرج زيد عن القوم مثلًا.

ومن الألفاظ الدالة على مفهوم المخالفة ضمير الفصل بين المحكوم عليه والمحكوم به، مثل قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] وقوله: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 117]، وهذا إنما يتم لو استفيد

(1) راجع: الإحكام للآمدي: 2/ 234.

(2)

في (أ): "سلطة النفي" وكلاهما صحيح.

ص: 462

الحصر من مثل قولنا: زيد هو أفضل من عمرو، وإلا ففى الأمثلة المذكورة الحصر مستفاد من تعريف الخبر؛ لأن تعريف الخبر بلام الجنس يفيد حصره في المبتدأ، كما تقرر في موضعه (1).

ومن الدوال على مفهوم المخالفة تقديم المعمول (2) نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5]، وبزيد مررت (3).

قوله: "وأعلاه"، أي أعلى ما ذكر طريقة النفي والاستثناء حتى ذهب بعضهم إلى أنه من قبيل المنطوق صريحًا لسرعة الفهم منه، ويلى

(1) راجع: الإيضاح في علوم البلاغة: 1/ 222، وجواهر البلاغة: ص / 186.

(2)

تقديم المعمول سواء كان في المفعول، أو المجرور كما مثل الشارح، وقد يكون بتقدم الخبر على المبتدأ كالحديث الذي احتج به الفقهاء -عدا الأحناف- على تعيين لفظى التكبير، والتسليم في قوله صلى الله عليه وسلم:"مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم".

راجع: مسند أحمد: 1/ 123، 129، وسنن الترمذي: 2/ 3، وسنن ابن ماجه: 1/ 101، والمستدرك: 1/ 132، وشرح السنة: 3/ 17، ونصب الراية: 1/ 235، والمهذب: 1/ 70، والمجموع: 3/ 289، والمغني: 1/ 551، وكشاف القناع: 1/ 422، والشرح الكبير: 1/ 592.

(3)

آخر الورقة (30 / ب من ب)، ومذهب الجمهور أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص والحصر. وقال أبو حيان، وابن الحاجب يفيد الاهتمام والعناية فقط. وأنكر عبد الحميد ابن هبة الله الشيعي مفهوم تقديم المعمول، وذكر في كتابه الفلك الدائر أنه لم يقل به أحد. وقد رُد عليه بإجماع البيانيين، وغيرهم على الاحتجاج به.

راجع: الفلك الدائر على المثل السائر: ص / 250، والمثل السائر في أدب الكاتب والشاعر: 2/ 38، والبحر المحيط لأبي حيان: 1/ 16، وشرح الكوكب المنير: 3/ 521.

ص: 463

الاستثناء إنما لتبادر المعنى إلى الأذهان مثل: الاستثناء إلا أنه أحط رتبة لكون النفي والاستثناء فيه غير صريحين، وإليه أشار بقوله:"منطوق" أي بالإشارة، وسيذكر المصنف المفاهيم كلها على الترتيب.

قوله: "مسألة المفاهيم إلا اللقب حجة لغة".

أقول: المفاهيم المذكورة كلها حجة سوى مفهوم اللقب، وهو عبارة: عما يفهم من تعليق الحكم بالاسم الخالي عن معنى الوصفية، عَلَمًا كان أو غيره، ولم يخالف في عدم اعتباره سوى شرذمة، كما أشار إليه المصنف (1).

(1) احتج بمفهوم اللقب مالك، وأحمد، وداود، والصيرفي، والدقاق، وابن فورك، وابن خويز منداد، وابن القصار، وهم أئمة يقتدى بهم، وليس شرذمة كما قال الشارح رحمهم الله جميعًا.

ونفاه جمهور الشافعية، والقاضي أبو يعلى، وابن عقيل، والموفق من الحنابلة، وغيرهم أما الأحناف: فهم لا يقولون بالمفهوم المخالف مطلقًا في كلام الشارع كما سيأتي. وذهب المجد بن تيمية، ومن وافقه إلى أنه حجة بعد سابقة ما يعمه كقول النبي صلى الله عليه وسلم:"وترابها طهور"، بعد قوله:"جعلت لي الأرض مسجدًا" رواه مسلم في صحيحه: 2/ 63، وأحمد في مسنده: 5/ 383.

وراجع: المعتمد: 1/ 148، واللمع: ص/ 26، والبرهان: 1/ 453، والمستصفى: 4/ 202، والروضة: ص/ 136، والإحكام للآمدى: 2/ 231، وشرح تنقيح الفصول: ص/ 271، والمسودة: ص/ 352، وشرح العضد: 2/ 182، ومختصر الطوفي: ص / 127، وتيسير التحرير: 1/ 101، والمحلى على جمع الجوامع: 1/ 252، والآيات البينات: 2/ 32، وهمع الهوامع: ص 781، والدرر اللوامع للكمال: ق (80/ أ)، ونشر البنود: 1/ 103، وإرشاد الفحول: ص / 182.

ص: 464

لنا على عدم جوازه: لزوم المحذور في قولنا: زيد موجود، ومحمد رسول الله؛ إذ يلزم منه انتفاء الوجود عن غير زيد، والرسالة عن غير محمد صلى الله عليه وسلم.

قالوا: لو قال -لدى الخصام-: أمي ليست بزانية يفهم منه نسبة أم الخصم إلى الزنى، حتى قال مالك (1)، وأحمد: بلزوم الحد (2).

قلنا: ذلك انفهم من القرائن لا من اللفظ، والحق: أن بطلان هذا غنى عن الدليل.

ثم قوله "لغة": يريد أنه حجة شرعية فهمت من مجرد اللغة لا بالقياس كما تقدم تحقيقه (3).

وقوله: "وقيل: شرعًا"، يريد أنه فهم من عبارة الشارع إذ ثبت أنه قال صلى الله عليه وسلم حين نُهى عن الاستغفار للمشركين بقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ

(1) هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي أحد الأئمة الأربعة جمع بين الفقه، والحديث، والرأى، كان يعظم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يركب دابة في المدينة، ومناقبه كثيرة، وجمع الحديث في الموطأ، وروى له أصحاب الكمب الستة، وتوفي سنة (178 هـ).

راجع: طبقات الفقهاء للشيرازي: ص / 67، صفة الصفوة: 2/ 177، وفيات الأعيان: 3/ 284، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 75، وطبقات القراء: 2/ 35، وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 293، وتذكرة الحفاظ: 1/ 207، وطبقات الحفاظ: ص / 89، والديباج المذهب: 1/ 62.

(2)

راجع: المدونة: 6/ 224 - 225، وبداية المجتهد: 2/ 44، والمغني للموفق: 8/ 22.

(3)

تقدم ص / 441.

ص: 465

لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]: "سأزيد على السبعين"(1)، حيث اعتبر مفهوم العدد.

والصحيح: هو الأول إذ لا يشك أحد أن فهمه عليه السلام ذلك منه إنما كان لغة لا توقيفًا من الله.

قوله: "وقيل معنى"، نقل عن المصنف: أن المراد هو العرف العام؛ لأنه معقول لأهله، وذلك مثل ما يقولون: لولا انتفاء الحكم عن المسكوت عنه لم يكن لذكر القيد فائدة (2)، وقد قدمنا أن هذا دليل من يدعى أنه فهم لغة (3).

قال المولى المحقق عضد الملة والدين قدس روحه، مستدلًا على أنه فهم لغة:"لو لم يدل التخصيص على أن المراد مخالفة المسكوت عنه للمذكور في الحكم لما كان للتخصيص فائدة للاتفاق على عدم فائدة سواه، واعترض: بأنه إثبات للوضع بالفائدة، والوضع إنما يثبت نقلًا لا غير".

والجواب: لا نسلم أنه إثبات للوضع بالفائدة، بل ثبت بالاستقراء عنهم أن كل ما ظُن أنه لا فائدة للفظ سواه تعين أن يكون فائدة اللفظ، والمراد منه والمتنازع فيه مندرج تحت تلك القاعدة (4).

(1) رواه البخاري في صحيحه: 6/ 86.

(2)

الناقل هو جلال الدين المحلي في شرحه على جمع الجوامع: 1/ 254.

(3)

تقدم ص 4411.

(4)

نقله بتصرف راجع: شرح العضد على المختصر: 2/ 175.

ص: 466

هذا كلامه، وهو صريح في أن هذا القسم راجع إلى اللغة، ولأن مفهوم المخالفة دليل شرعي عند القائل به، فاعتباره، واستفادته من اللفظ لا بد وأن يستند إلى أئمة اللغة، أو يعلم من الشارع، فلا معنى للعرف على ما نقل عن المصنف.

والصواب: إسقاط هذا المذهب عن الاعتبار (1)، والله أعلم.

قوله: "وأنكر أبو حنيفة الكل".

أقول: لم يقل أبو حنيفة رحمه الله بشئ من المفاهيم، ووافقه الغزالي منّا، وقد تقدم تحقيق المسألة دليلًا، وجوابًا، فلا حاجة إلى إعادته (2).

(1) قلت: في كلام الشارح رحمه الله نظر: لأن المحلي لم يرجحه حتى يرد عليه، وإنما حكاه كمذهب ثالث عن المصنف، والحكاية لا يعترض عليها كما أنه قد سبق إلى ذلك الإمام الرازي، والمصنف عبر عنه في مبحث العام -كما سيأتي-: بالعقل، وعبر عنه -في شرح المختصر- بالعرف العام، وقد ذكر العلامة العبادي- في رده على اعتراض الشارح- بأن المفهوم ثبت لغة، ومستنده أئمة اللغة، وكذلك يثبت عرفًا، ومستنده في ذلك نظر العقل، وكون المصنف خالف عضد الملة في هذا، فلا يقدخ ذلك في نقله إذ ثبت عند المصنف ما لم يثبت عند غيره. أو أنه لا منافاة بين ما ذكره المصنف، وما ذكره المولى العضد، لأنه تعرض لنفس الاثبات بهذا الطريق، والمصنف تعرض لبيان كرن الطريق المثبت معنويًا.

راجع: معالم أصول الدين: ص / 145، ورفع الحاجب:(2 / ق / 68 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 254، وهمع الهوامع: ص / 77/ 78، والآيات البينات: 2/ 34 - 35.

(2)

تقدم ص / 451 وما بعدها.

ص: 467

فإن قلت: إذا قال الشارع: "في سائمة الغنم الزكاة"، فالذي لم يقل بالمفهوم يجب عليه القول بوجوب الزكاة في المعلوفة، وإلا فما وجه المنع (1)؟

قلت: نقول: قبل خطاب الشارع لم يكن الحكم -وهو وجوب الزكاة- متعلقًا بالغنم مطلقًا، فلما أوجب في السائمة بقى أمر المعلوفة على العدم الأصلى، والعدم الأصلى ليس حكمًا شرعيًا.

قوله: "وقوم في الخبر"، أي: في الخبر الخالي عن الإلزام كقولك: في سائمة الغنم نتاج، لا مفهوم إذ نعلم قطعًا أنه لايدل الخبر المذكور على عدم النتاج في المعلوفة.

وقد ذكروا -في الفرق- أن الخبر له خارج يطابقه، أو لا يطابقه، فالخبر يشعر بوقوعه، ولا يلزم من انتفاء القول بالمفهوم في الخبر انتفاؤه في الإنشاء: لأن الإنشاء إذا لم يكن له خارج، ولم يحصل الحكم من مفهوم القيد، لم يكن هناك فائدة قط، هذا كلام الشروح (2)، وهو ضعيف جدًّا: لأن إشعار الخبر بوقوع ذلك الخارج لا دخل له في دلالة المفهوم لا معنى، ولا لزومًا.

والمولى المحقق عضد الملة والدين، أشار إلى ضعفه أيضًا، ولم يتعرض للجواب عن هذا المذهب (3).

(1) آخر الورقة (30 / ب من أ).

(2)

راجع: تشنيف المسامع: ق (27 / أ)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 255، وهمع الهوامع: ص 781، والدرر اللوامع للكمال: ق (180 ب- 81 / أ).

(3)

راجع: شرح العضد على المختصر: 2/ 179.

ص: 468

ونحن نقول: القائلون بمفهوم المخالفة متفقون على أنه دليل ظاهر، إنما يعمل به إذا لم يعارضه دليل أقوى من نص، أو إحماع، أو مخالفة دليل قطعي عقلى، أو بديهة.

ولا شك أنك إذا قلت: في الشام الغنم السائمة، لم يدل على أن لا سائمة في العراق، وإنما لم يدل: لأنه ظاهر عارضه قطعي، وهو الإجماع، والتواتر، وبديهة العقل على أن في غير الشام من البلاد سوائم.

ألا ترى أنهم تركوا المفهوم في قوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، مع كونه إنشاء: لأن الإجماع عارضه.

وإذا علمت هذا علمت سقوط ما ذكره والد المصنف من إنكار المفاهيم في كلام غير الشارع، معللًا بأن الشارع منزه عن الذهول، والغفلة بخلاف غيره (1).

وإنما كان ساقطًا: لأن الكلام في دلالته لغة، وقد تحققتَ قبل هذا أن الدلالة التفات النفس من اللفظ إلى المعنى، ولا دخل لإرادة اللافظ فيها، ولا لشعوره، والتخلف في بعض الصور إنما هو بواسطة مانع، أي: معارض أقوى.

وظهر -لك أيضًا- الجواب عن قول إمام الحرمين: وهو أن الوصف إنما يعتبر حيث ناسب الحكم، فأما إذا لم يناسب، كما إذا قيل:

(1) قلت: مذهب والد المصنف عكس مذهب الأحناف، فإنهم ينكرون مفهوم المخالفة في كلام الشارع فقط، وأما في مصطلح الناس، وعرفهم، فهو حجة عندهم، راجع: تشنيف المسامع: ق (27 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 78.

ص: 469

في صغار الغنم زكاة لا يدل على الانتفاء في الكبار (1): لأنا قدمنا في صدر البحث أن المسكوت إذا كان أولى بالحكم، أو مساويًا، لا يكون مفهوم المخالفة مرادًا، بل يكون من قبيل مفهوم الموافقة (2). ولو فرضنا أن الوصف لا يناسب لا المنطوق ولا المخالفة، يكون وصفًا ملغى لا اعتبار به، هكذا يجب أن يفهم المقام، والله أعلم.

قوله: "وأنكر قوم العدد"، مستدلًا بأنه لا يدل على الزائد، والناقص إلا بالقرينة (3)، وقد عرفت الجواب -عنه- مما تقدم.

قوله: "مسألةُ الغايةِ: قيل: مظنون".

(1) راجع: البرهان له: 1/ 466.

(2)

لم يسلم العلامة العبادي للشارح اعتراضه على والد المصنف، وإمام الحرمين حيث ضعَّف اعتراضه عليهما. راجع: الآيات البينات: 2/ 37 - 38.

(3)

ذهب مالك، وأحمد، وداود، وبعض الشافعية، واعتمده ابن الرفعة إلى القول بمفهوم العدد، ونقله أبو حامد، وأبو المعالي، والماوردى عن نص الشافعي. ونفاه الحنفية، والمعتزلة، والأشعرية، واختاره الرازي، والآمدي، والأولى القول بحجيته لئلا يعرى التحديد به عن فائدة، علمًا بأن محل الخلاف في العدد الذي لم يقصد به التكثير، بل عدد مخصوص.

راجع: البرهان: 1/ 466، والمعتمد: 1/ 146، والعدة: 2/ 448، والمحصول: 1/ ق / 2/ 216، والروضة: ص / 245، والإحكام للآمدي: 2/ 230، ومختصر الطوفي: ص / 127، والمنخول: ص / 209، والتمهيد: ص / 252 - 253، وفواتح الرحموت: 1/ 432، وتيسير التحرير: 1/ 100، ونشر البنود: 1/ 101، وتشنيف المسامع: ق (26 / أ- ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 251، وهمع الهوامع: ص 791.

ص: 470

أقول: يريد الإشارة إلى مراتب المفاهيم المحتج بها:

فذكر أن الغاية أعلاها رتبة، أي: أعلى المذكورات بعدها:

لأنه قد تقدم أن أعلى الجميع النفي، والاستثناء لكونه منطوقًا صريحًا عند بعضهم. والغاية، ولفظ إنما، منطوق إشارة، ولم يذكر إنما، مع الغاية لكثرة مباحثه، فجعله مسألة مستقلة.

قال: والحق: أن الغاية مفهوم لا منطوق، وهو كذلك: لأنا إذا قلنا: لا تدخل المسجد حتى تتوضا، فالمُغَيّا هو عدم الدخول غير متوضئ قد انتهى بالتوضؤ، فيفهم منه رفع المنع من الدخول.

والذي ذهب إلى أنه (1) منطوق نظر إلى لفظ "حتى"، فإنه موضوع للانتهاء، وعلى هذا لا معنى لقولهم: إنه منطوق من قبيل الإشارة، فيما سبق.

ويتلو الشرط الغاية: فإنه لم يقل أحد بأنه منطوق، فكان أحط رتبة.

فالصفة المناسبة: إذ بعض من قال: بمفهوم الشرط لم يقل بمفهوم الصفة.

فمطلق الصفة: إذ إمام الحرمين أسقط غير المناسبة.

فالعدد بعد المذكورات: لأن من قال: بتلك المفاهيم خالف طائفة منهم في العدد.

(1) آخر الورقة (31/ ب من ب).

ص: 471

وآخر المفاهيم تقديم المعمول، وإنما كان آخر المفاهيم؛ لأن التقديم كثيرًا ما يكون للاهتمام أو التبرك أو الالتذاذ بذكر المقدم، ومنه نشأت شبهة الشيخ ابن الحاجب (1) ومن تبعه، ليس بشئ؛ لأن قوله تعالى:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [النحل: 51] صريح في ذلك.

وما نقل عن الشيخ ابن الحاجب أنه قال: ذكر سيبويه أن تقديم المعمول إنما يكون للاهتمام، فإنهم يقدمون ما هو أهم عندهم (2)، وإذا كان كذلك، فالتخصيص وهم مردود بما ذكره الشيخ عبد القاهر (3) من

(1) تقدم ذكر مذهبه في هذا، وشبهته التي قالها هي:"إن توهم الناس لذلك وهم، وتمسكهم بنحو: {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ} [الزمر: 66] ضعيف؛ لورود: {فَاعْبُدْ} [الزمر: 2]، فيلزم أن المؤخر يفيد عدم الحصر لكونه يقتضيه". ورد عليه بأنه لا يستلزم حصرًا، ولا عدمه، ولا يلزم من عدم إفادة الحصر إفادة نفيه، لا سيما وقد جاء في الآية:{فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا} فذكر الاخلاص مغن عن إفادة الحصر.

راجع: معترك الأقران: 1/ 190، وتشنيف المسامع: ق (28 / أ)، وهمع الهوامع: ص / 79، وشرح الكوكب المنير: 3/ 522.

(2)

راجع: المنتهى: ص / 153، والكتاب: 1/ 55 فقد نص فيه على الاهتمام، والعناية في التقديم.

(3)

هو عبد القاهر بن عبد الرحمن أبو بكر الجرحاني النحوي الإمام المشهور كان من كبار أئمة العربية والبيان، أشهر مؤلفاته: إعجاز القرآن، والجمل، وأسرار البلاغة، والمقتصد في شرح الإيضاح، وغيرها وتوفي سنة (471 هـ أو 474 هـ) على خلاف في ذلك.

راجع: إنباه الرواة: 2/ 188، وطبقات السبكى: 5/ 149، والوافي بالوفيات: 1/ 612، وطبقات المفسرين للداودى: 1/ 330، وبغية الوعاة: 2/ 106، وشذرات الذهب: 3/ 340.

ص: 472

أنه لا بد وأن تفسر تلك العناية من أين حصلت؟ وإذا فسرت تلك العناية، فتارة تكون للاختصاص، وتارة تكون للتبرك، وغر ذلك مما يلائم المقام، وناهيك بالشيخ عبد القاهر، وعلى ذلك أطبق المحققون بعده.

والتخصيص الذي قال به الجمهور، وأنكره الشيخ ابن الحاجب هو الحصر المصطلح عليه، وهو إئبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه، خلافا لوالد المصنف حيث قال بالاختصاص ونفى عنه الحصر (1).

ونقل عنه أنه قال: الفضلاء لم يقولوا في تقديم المعمول بلفظ الحصر، بل إنما أتوا بلفظ الاختصاص (2).

وحاصل ما قاله راجع إلى ما ذكره الشيخ ابن الحاجب من أن مجرد التقديم للاهتمام، ثم قال: والحصر كما في: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] يفهم من القرائن لا من التقديم، غاية ما في ذلك: أن الشيخ ابن الحاجب لا يطلق الاختصاص على ما قدم، وهذا يطلقه.

واستدل على ما نقل عنه بعض الشارحين (3): بأنه لو كان التقديم يفيد الحصر لأفاده في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83]،

(1) حُكي عنه أنه قاله في كتابه "الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص" وتبع المصنف والده في رفع الحاجب.

راجع: رفع الحاجب: (2 / ق / 85 / ب)، وتشنيف المسامع: ق (28 / ب)، والمحلي على جمع الجوامع: 1/ 258، وهمع الهوامع: ص / 80.

(2)

راجع: رفع الحاجب: 2 / ق (86 / ب- 87 / أ) فقد نقل عنه ما ذكره الشارح.

(3)

هو الزركشي في تشنيف المسامع: ق (28 / ب).

ص: 473

ولا يجوز إرادة الحصر لفساد المعنى؛ لأنه قبل دخول الهمزة -على تقديم الحصر- يكون معناه: غير دين الله يبغون، وبعد دخول همزة الإنكار الذي هو معنى النفي يكون المنكر حصر الطلب في غير دين الله، ولا يلزم منه اشتراك الطلب لدين الله، ولغير دين الله.

ونحن نقول: قد ذكر الشيخ عبد القاهر، ونقل عنه المحققون أن النفي إذا دخل كلامًا فيه قيد، تارة يتوجه إلى القيد مع بقاء أصل الفعل كقولك -وقد ضربت عبدك-: ما ضربته عبثًا. وتارة يتوجه إلى المقيد، فيُنفَى مع قيده كقوله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النساء: 157] إذ القتل منفي من أصله، والاعتماد في ذلك على القرائن.

فإذا تقرر هذا، فنقول: في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ} [آل عمران: 83] إنما توجه النفي المستفاد من الهمزة على أصل الفعل، وهو طلب غير دين الله مطلقًا، لا على اليد الذي هو معنى الحصر المستفاد من التقديم قبل دخول الهمزة كما ظهر لك في قوله تعالى:{وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} وهذا مما لا ريب فيه.

وأما قوله: "إن الفضلاء لم يذكروا إلا لفظ التخصيص"، مما لا ينبغى أن يصدر عن مثله؛ لأن الاعتبار بالمعنى لا باللفظ، وحيث أرادوا بالاختصاص معنى الحصر، فلا فرق بين التعبير عنه بلفظ الحصر أو الاختصاص.

ص: 474

قال (1) الزمخشري (2) في أول سورة التغابن: "قُدم الظرفان ليدل بتقديمهما على اختصاص الملك، والحمد بالله تعالى -ثم قال ما حاصله-: إن الحمد إذا اختص بالله ولم يتجاوزه، فكيف يحمد الإنسان على فعله الحسن؟

وأجاب: بأن ذلك الحمد مجاز" (3)، مع أن الشيخ عبد القاهر الذي هو قدوتهم كلامه مشحون بلفظ الحصر.

وفي بعض الشروح (4): أنه قد يحتج لتغايرهما بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 105]، إذ لا يجوز أن يقال بحصر رحمته؛ لأنه لا يمكن حصرها، وقد التبس عليه معنى الحصر المراد هنا -وهو إثبات الحكم للمذكور، ونفيه عما عداه- بالحصر الذي هو الإحصاء والإحاطة (5).

(1) آخر الورقة (31 / ب من أ).

(2)

هو محمود بن عمر بن محمد الخوارزمي جار الله أبو القاسم الزمخشري المعتزلي علامة التفسير، والنحو، واللغة، والبيان، صاحب المصنفات في الفنون المختلفة، أشهر كتبه: الكشاف، في التفسير، والفائق في غريب الحديث، وأساس البلاغة، والمفصل في النحو، والمستقصى في الأمثال، والمنهاج في الأصول، ومعجم الحدود، وغيرهما وتوفي سنة (538 هـ).

راجع: معجم الأدباء: 19/ 126، ووفيات الأعيان: 4/ 254، والمنتظم: 10/ 112، وإنباه الرواة: 3/ 265، وطبقات المفسرين للداودي: 2/ 341، وبغية الوعاة: 2/ 279.

(3)

راجع: الكشاف: 4/ 112.

(4)

جاء في هامش (أ، ب): "الزركشي". راجع تشنيف المسامع: ق (28 / ب).

(5)

رد العبادي على اعتراض الشارح بأن مراد الزركشي من كلامه الحصر المشهور الذي هو الإثبات والنفي، ثم وجه كلامه على ذلك، وليس مراده الحصر الذي هو الإحصاء والإحاطة كما فهمه الشارح هنا. راجع: الآيات البينات: 4312.

ص: 475

ولا يشك عاقل في صحة قولنا: رحمة الله منحصرة في المؤمنين، أي في الآخرة لا تتجاوزهم إلى الكفار، وإن كانت رحمته لا يحاط بها كمًّا، ولا كيفًا، وإنما نتعرض لهذه المباحث نصحًا للمستفيدين الطالبين للحق، وإلا فسقوطها في غاية الجلاء، والله الموفق.

قوله: "مسألة إنما".

أقول: قد سبق أن [من](1) المفاهيم مفهوم إنما، ولما كان فيه أبحاث وتدقيق جعله مسألة مفردة.

واعلم أنهم قد اختلفوا في إفادة كلمة "إنما"، معنى الحصر، وهو إثبات الحكم المذكور، ونفيه عما عداه.

فقالت طائفة: لا تفيد؛ لأن "إن" لتاكيد مضمون الجملة، و "ما" الكافة لا نفي فيها فلا حصر (2).

ثم القائلون: بأنها تفيد فرقتان: فرقة تقول بأنها تفيده نطقًا (3)، والأخرى تفيده فهمًا (4).

(1) سقط من (أ) وأثبت بالهامش.

(2)

وهذا مذهب أكثر الحنفية، واختاره الآمدي، وأبو حيان، والطوفي، وغيرهم، بل هي -عندهم- لتأكيد الإثبات فقط.

(3)

وبه قال بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالإمام الغزالي، والقاضي، والرازي، والبيضاوي، وقد أشار المصنف في الإبهاج إلى تأييده، وصرح به في رفع الحاجب، وذكر أنه مذهب الجمهور، وأن شذوذًا من الناس قال: إنه من قبيل المفهوم.

(4)

واختاره بعض الشافعية، ونسب إلى أبي إسحاق الشيرازي، وجماعة، ورجحه القاضي أبو يعلى، وابن عقيل، والحلواني من الحنابلة، وهذا هو اختيار الشارح. =

ص: 476

والحق: أنه يفيد الحصر، ويفيده فهمًا: أما الأول: فلأنه قد استعمله الفصحاء في مواضع الحصر، وأثبته أئمة النحو في كتبهم، وأئمة التفسير مجمعون على ذلك، وبه فسروا كلام الله تعالى، ومثله ثبت بدون ذلك، فكيف وقد تطابق عليه هؤلاء الجماهير من كل طائفة؟

وأما أن ذلك مفهوم لا منطوق، فلأنه إنما يدل على الإثبات في الجزء الأخير، والنفي عما يقابله، والنفي فيه ليس بصريح لا منطوق، ويدل على ذلك -أيضًا- جواز: إنما زيد قائم لا قاعد، مع عدم جواز: ما زيد إلا قائم لا قاعد.

ومما يجب التنبه له: أن النفي والاستثناء إنما يستعملان إذا كان المخاطب مصرًّا على الانكار بخلاف إنما، فإنه يستعمل فيما إذا يكن مصرًّا.

= وأما إمام الحرمين، وابن الحاجب، فقد توقفا فيها، ولم يرجحا لا المنطوق، ولا المفهوم.

راجع: اللمع: ص / 26، والتبصرة: ص / 249، والعدة: 2/ 479، والإشارات للباجي: ص / 92، والبرهان: 1/ 551، والإيضاح شرح المفصل: 2/ 228، والمستصفى: 2/ 206، والمحصول: 1/ ق / 1/ 535، والروضة: ص / 242، والإحكام للآمدي: 2/ 232، والمسودة: ص / 354، وشرح تنقيح الفصول: ص / 57، ومختصر ابن الحاجب: 2/ 182، ورفع الحاجب:(2 / ق / 81 / ب- 82 / أ)، والإبهاج: 1/ 359، ومختصر الطوفي: ص / 125، وفواتح الرحموت: 1/ 434، وتيسير التحرير: 1/ 132، المحلي على جمع الجوامع: 1/ 258، وتشنيف المسامع: ق (28 / ب)، وهمع الهوامع: ص / 80 - 81.

ص: 477

فإن قلت: على ما ذكرت من إفادة "إنما" الحصر يشكل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الربا في النسيئة"(1)، و:"إنما الولاء لمن أعتق"(2)، ونظائرهما، إذ ربا الفضل ربًا إجماعًا، والولاء لغير المعتق ثابت عند عدم المعتق.

قلت: قد قدمنا أن المفاهيم أمور ظاهرة تعتبر عند عدم معارض أقوى، وإذا عارض مفهوم "إنما" الإجماع -كما في المثالين المذكورين- سقط الاستدلال به، وليكن هذا على ذكر منك ينفعك في كثير من المواضع.

ولفظ الْكِيا (3) في المتن بكسر [الكاف](4) وفتح همزة الوصل، إذ اللام فيه للتعريف، ولفظ كيا مجردًا عن اللام اسم جنس لطائفة

(1) رواه البخاري، ومسلم عن أسامة، وفي لفظ:"لا ربا إلا في النسيئة".

راجع: صحيح البخاري: 3/ 93، وصحيح مسلم: 3/ 49.

(2)

الحديث رواه البخاري من حديث عائشة في قصة بريرة. راجع: صحيحه: 3/ 91.

(3)

الكيا -بفتح همزة الوصل، وكسرها، وسكون اللام، وكسر الكاف، وفتح الياء المثناة من تحتها، وبعدها ألف-: وهو باللغة الفارسية بمعنى الكبير القدر، المقدم بين الناس، والمراد به هنا هو علي بن محمد بن علي أبو الحسن عماد الدين الطبري المعروف بالكيا الهراس أحد فحول العلماء، فقهًا، وأصولًا، وجدلًا، وحفظًا للحديث تتلمذ على إمام الحرمين، أثنى عليه الكثير حتى إن بعضهم قدمه على الإمام الغزالي، له كتاب في أصول الفقه، وكتاب في الجدل سماه: شفاء المسترشدين وتوفي سنة (504 هـ).

راجع: المنتظم: 9/ 167، وتبيين كذب المفتري: ص / 288، ووفيات الأعيان: 2/ 448، ومرآة الزمان: 8/ 37، والبداية والنهاية: 12/ 172، وطبقات السبكي: 7/ 231، والكامل لابن الأثير: 1/ 4840، والنحوم الزاهرة: 5/ 201، وشذرات الذهب: 4/ 8.

(4)

سقط من (أ) وأثبت بهامشها.

ص: 478

من (1) ملوك العجم كتُبَّع لملوك حمير، وقيصر لملوك الروم، وكسر الهمزة على ما في بعض الشروح (2) سهو ظاهر (3).

وأما كلمة "أنما" بفتح الهمزة ذكر المصنف أنها فرع المكسورة، والفرع تابع للأصل، وأيده بالنقل عن الزمخشري أنها تفيد الحصر.

وفي بعض الشروح (4) هنا كلام غريب، وهو أنه نقل عن الزمخشري أنه قال بالحصر في قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [الأنبياء: 108] ثم نقل أنه اعترض -عليه: بأن الحصر فيه باطل؛ لاقتضائه أنه لم يوح إليه شيء سوى التوحيد، ثم قال: وهذا الاعتراض عجيب؛ لأن الزمخشري يلتزم ذلك بناء على مذهبه الفاسد في نفى الصفات، بل لعل هذا هو مأخذه في دعواه الفاسدة (5).

(1) آخر الورقة (32/ ب من ب).

(2)

يعني به شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع: 1/ 258.

(3)

قلت: لا داعي للرد على المحلي في هذا، فقد روى الكسر كما روى الفتح وإن كان الفتح أشهر، بل بعضهم اقتصر على الكسر كالأسنوي، وغيره.

راجع: طبقات السبكي: 23117، وطبقات الأسنوي: 52212، والآيات البينات: 2/ 43 - 44.

(4)

يعني به تشنيف المسامع للزركشي: ق (28 / ب -29 / أ).

(5)

راجع: الكشاف: 2/ 586، والمحلي على جمع الجوامع: 260/ 1، وهمع الهوامع: ص 1/ 81.

ص: 479

وأنا أقول: إذا اعترض بأن هذا الحصر يفيد حصر الوحي في التوحيد وهو باطل؛ لأن الوحي مشتمل على أحكام الدنيا والآخرة والقصص والإخبار عن المغيبات.

فيجاب: بأن الزمخشري ملتزم ذلك بناء على نفيه الصفات القديمة، [فهل هذا الجواب أبعد من السوال، أم الضب من النون؟ ](1).

وإذا تأملت ذلك، فالجواب عن الاعتراض: هو أن القصر في مثله إضافي إذ المشركون كانوا يعتقدون الشركة في الألوهية، فرد الشركة بالحصر المذكور في الواحد القديم، تعالى وتقدس، فالحصر إنما هو بالنظر إلى ما يقابل التوحيد لا إلى سائر الأحكام وغيرها مما أُوحي إليه، كما إذا تنازع طائفة في أن زيدًا فاضل، أم عمرو، واعتقدوا الشركة، قلت: لا فاضل إلا زيد لم تنف الفضل عن كل من في الدنيا، بل إنما نفيت عمن وقع النزاع فيه، وهذا مما لا يُشك فيه، وعليه إطباق البلغاء، والله أعلم.

* * *

(1) ما بين المعكوفتين سقط من (ب)، وأثبت بهامشها، ومراده: كما أن السوال بعيد عن الموضوع، فالجواب مثله في ذلك.

ص: 480