الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثالثة
المتشددون ينكرون
اتباع المذاهب الفقهية وتقليدها
قال المفتي (ص33): «مما يميز هؤلاء أنهم يذمُّون التقليد وينكرون على متبعي المذاهب الفقهية الأربعة كمذهب الإمام أبي حنيفة والإمام مالك، والإمام الشافعي والإمام أحمد» .
الجواب:
هذا الكلام عارٍ عن الصحة؛ فالسلفيون يدرسون كتب المذاهب الفقهية، فمثلًا الدعوة السلفية في الإسكندرية من ضمن مناهج معاهدها العلمية كتاب منار السبيل شرح الدليل، للشيخ للشيخ ابن ضويان، وهو كتاب في الفقه الحنبلي.
إن التقليد الذي ينكره السلفيون هو أن يتعصب العالم المجتهد لأقوال شيوخه في المذهب وإن خالفت الدليل الصحيح الصريح، والتمسك بأقوالهم؛ كما لو كانت نزلت من السماء، والله سبحانه وتعالى يقول:{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} (الأعراف: 3).
وهذا التقليد هو التقليد الأعمى الذي عناه الإمام أبو جعفر الطحاوي الحنفي وقاضي مصر أبو عبيد حربَوَيْه حين قالا: «لا يقلد إلا عصبي أو غبي» ، فقد قال علي بن أبي جعفر الطحاوي:«سمعت أبي يقول - وذكر فضل أبي عبيد حربَوَيْه وفقهه - فقال: «كان يذاكرني في المسائل، فأجَبْتُه يومًا في مسألة فقال لي: «ما هذا قول أبي حنيفة» ، فقلت له:«أيها القاضي، أوَكُلُّ ما قاله أبو حنيفة أقول به؟» ، فقال: «ما
ظنَنْتُكَ إلا مقلدًا». فقلت له: «وهل يقلد إلا عصبي» . فقال لي: «أو غبي» . قال: «فطارت هذه بمصر حتى صارت مثلًا وحفظها الناس» (1).
والسلفيون في إنكارهم هذا التقليد الأعمى متبعون لا مبتدعون، فهاهي أقوال الأئمة الأربعة في اتباع السنة وتَرْك أقوالهم المخالفة لها:
* قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله:
1 -
2 -
«إذا قلتُ قولًا يخالف كتاب الله وخبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فاتركوا قولي» .
* قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله:
1 -
2 -
* قال الإمام الشافعي رحمه الله:
1 -
2 -
3 -
«كل حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه منى» .
(1) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الشافعي في ترجمته للطحاوي (1/ 280)، رسم المفتي (1/ 32) من مجموعة رسائل ابن عابدين الحنفي. ونسب الذهبي هذا القول لأَبي عُبَيْدٍ حربَوَيْه القَاضِي (انظر: سير أعلام النبلاء (14/ 538)، تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام (7/ 357).
* قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:
1 -
«لا تقلدني ولا تقلد مالكًا، ولا الشافعي، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا» .
2 -
«من رد حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو على شفا هلكة» (1).
أما زَعْمُ المفتي أن السلفيين يذمُّون التقليد فننقل له كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: «الْعَامِّيَّ هَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا يَأْخُذَ بِعَزَائِمِهِ وَرُخَصِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ أَحْمَد وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ.
وَالْجُمْهُورُ مِنْ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ لَا يُوجِبُونَ ذَلِكَ.
وَاَلَّذِينَ يُوجِبُونَهُ يَقُولُونَ: إذَا الْتَزَمَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ مَا دَامَ مُلْتَزِمًا لَهُ أَوْ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ غَيْرَهُ أَوْلَى بِالِالْتِزَامِ مِنْهُ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْتِزَامَ الْمَذَاهِبِ وَالْخُرُوجَ عَنْهَا إنْ كَانَ لِغَيْرِ أَمْرٍ دِينِيٍّ مِثْلَ: أَنْ يَلْتَزِمَ مَذْهَبًا لِحُصُولِ غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ مِنْ مَالٍ أَوْ جَاهٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ: فَهَذَا مِمَّا لَا يُحْمَدُ عَلَيْهِ بَلْ يُذَمُّ عَلَيْهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ وَلَوْ كَانَ مَا انْتَقَلَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يُسْلِمُ إلَّا لِغَرَضِ دُنْيَوِيٍّ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ لِامْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا أَوْ دُنْيَا يُصِيبُهَا.
وَأَمَّا إنْ كَانَ انْتِقَالُهُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ لِأَمْرِ دِينِيٍّ مِثْلَ أَنْ يَتَبَيَّنَ رُجْحَانَ قَوْلٍ عَلَى قَوْلٍ فَيَرْجِعَ إلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَرَى أَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ: فَهُوَ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ؛ بَلْ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ حُكْمُ اللهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرٍ أَلَّا يَعْدِلَ عَنْهُ وَلَا يَتَّبِعَ أَحَدًا فِي مُخَالَفَةِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم.
فَإِنَّ اللهَ فَرَضَ طَاعَةَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَطَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وآله وسلم وَتَحْلِيلُ مَا حَلَّلَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَتَحْرِيمُ مَا حَرَّمَهُ
(1) انظر تخريج تلك الأقوال في كتاب صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للشيخ الألباني (ص21 - 29).
اللهُ وَرَسُولُهُ وَإِيجَابُ مَا أَوْجَبَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ: وَاجِبٌ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ: الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي كُلِّ حَالٍ: سِرًّا وَعَلَانِيَةً.
لَكِنْ لَمَّا كَانَ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ رَجَعَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ إلَى مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَأَعْلَمُ بِمُرَادِهِ فَأَئِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ وَسَائِلُ وَطُرُقٌ وَأَدِلَّةٌ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وآله وسلم يُبَلِّغُونَهُمْ مَا قَالَهُ وَيُفَهِّمُونَهُمْ مُرَادَهُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِمْ وَاسْتِطَاعَتِهِمْ وَقَدْ يَخُصُّ اللهَ هَذَا الْعَالِمَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْفَهْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْآخَرِ وَقَدْ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فِي مَسْأَلَةٍ أُخْرَى مِنْ الْعِلْمِ مَا لَيْسَ عِنْدَ هَذَا.
وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَاجْتِهَادُ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَحْكَامِ كَاجْتِهَادِ الْمُسْتَدِلِّينَ عَلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ؛ فَإِذَا صَلَّى أَرْبَعَةُ أَنْفُسٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِطَائِفَةِ إلَى أَرْبَعِ جِهَاتٍ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ هُنَاكَ فَإِنَّ صَلَاةَ الْأَرْبَعَةِ صَحِيحَةٌ وَاَلَّذِي صَلَّى إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصِيبُ الَّذِي لَهُ أَجْرَانِ.
وَأَمَّا مَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَقَدْ اتَّبَعَ فِيهَا مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالدِّينِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ أَنَّ قَوْلَ غَيْرِهِ أَرْجَحُ مِنْ قَوْلِهِ فَهُوَ مَحْمُودٌ يُثَابُ لَا يُذَمُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُعَاقَبُ (1).
وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز: «ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان؟» . فأجابت:
«أولًا: المذاهب الأربعة منسوبة إلى الأئمة الأربعة الإمام أبي حنيفة والإمام مالك والإمام الشافعي والإمام أحمد، فمذهب الحنفية منسوب إلى أبي حنيفة وهكذا بقية المذاهب.
(1) انظر مجموع فتاوى ابن تيمية (20/ 222 - 226).
ثانيًا: هؤلاء الأئمة أخذوا الفقه من الكتاب والسنة وهم مجتهدون في ذلك، والمجتهد إما مصيب فله أجران: أجر اجتهاده وأجر إصابته، وإما مخطئ فيؤجر على اجتهاده ويعذر في خطئه.
ثالثًا: القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ مَن قبله ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه.
رابعًا: مَن لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أن يقلد مَن تطمئن نفسه إلى تقليده وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان.
خامسًا: يتبين مما تقدم أنه لا تُتَّبَعُ أقوالُهُم على كل الأحوال والأزمان؛ لأنهم قد يخطئون بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل» (1).
الانتساب المذهبي واتباع الهوى:
السلفيون ينكرون تَصَيُّد زلات العلماء والأقوال الشاذة المخالفة لكلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم. يقول الشيخ محمد بن إسماعيل المقدَّم وهو أحد مشايخ السلفيىن في مصر إن «واجب المسلم أن يأخذ بالدليل مع وافر الحرمة والتقدير لأئمة الفقه والحديث، في القديم والحديث، ولا لَوْمَ في الانتساب المذهبي المجرد من العصبية، هذا هو المذهب الحق، والقول الصدق، وله مخالفة إمامه إلى إمام آخر، حجته في تلك المسألة أقوى، بل عليه اتباع الدليل فيما تبرهن له، لا كمن تمذهب لإمام، فإذا لاح له ما يوافق هواه عمل به من أي مذهب كان، محتجًّا بأن الخلاف في الفروع يتسامح فيه على الإطلاق، ومتجاهلًا أنه:
ليسَ كلُّ خلافٍ جاءَ معتبَرًا
…
إلا خلافٌ له حظٌّ مِن النظرِ
(1) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 28 - 29)، السؤال الرابع من الفتوى رقم (4172).
ونظرية (جواز التعبد بالخلاف) التي يتبناها في زماننا عوام فسدت فطرتُهم بفعل التربية المعوجة ما هي إلا صدًى لقول سلفهم: «من قلَّد عالمًا لقي الله سالمًا» ، مع فارق وهو أن الأولين كانوا يلزمون مذهبًا واحدًا لا يحيدون عنه. أما هؤلاء فقد تركوا الحبل على الغارب، وأطلقوا لأهوائهم العِنان حتى تظفر بمرادها في زلة عالم، أو رخصة متكلفة، أو قول شاذ ملفق دون أي اعتبار لمخالفة العالم غير المعصوم لقول المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (النجم:4).
لقد وصف لنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دواءَ داءِ الفرقة والاختلاف في قوله: «إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ
…
» الحديث» (1)، فالسُّنَّة تجمع المتفرقين، وتُوحّدُ المختلفين.
ولقد جعل الله عز وجل الإجماع حجة معصومة من الضلال، فلا يصح أن نجعل ما يُضَادُّه وهو الاختلاف حُجةً أيضًا، بل علينا أن نردد مع ابن مسعود رضي الله عنه قوله:«الخلاف شر» (2).وما أحسن قول حافظ المغرب الإمام أبي عمر بن عبد البر - رحمه الله تعالى: «الاختلاف ليس بحجةِ عند أحدٍ علِمْتُه من فقهاء الأمة إلا مَنْ لا بصرَ له، ولا معرفةَ عنده، ولا حجةَ في قوله» (3).
وشتان بين أن يقع اختلاف بين العلماء المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحري الأدلة، الدائرين في حالتي الصواب والخطأ بين مضاعفة الأجر مع الشكر وبين الأجر الواحد مع العذر، وبين من يتتبع الزلات، ويتحكم بالتشهي، ويرجح بالهوى، فيئول حاله إلى البطالة، ورقة الدين، ونقص العبودية» (4).
(1) رواه أبو داود وابن حبان، وصححه الألباني.
(2)
رواه أبو داود، وصححه الألباني.
(3)
جامع بيان العلم وفضله (2/ 109).
(4)
عودة الحجاب (3/ 457 - 458).