المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسألة العاشرةالمتشددون يحرمونالسفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلموقبور الأنبياء والصالحين - السلفيون وحوار هادئ مع الدكتور علي جمعة

[شحاتة صقر]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمةالأستاذ الدكتورمحمد بكر حبيبالأستاذ بجامعة الأزهر

- ‌مقدمةالأستاذ الدكتورمحمد النشارالأستاذ بجامعة الأزهر

- ‌مقدمة

- ‌دُرَرٌمن كلامالإمام الشاطبي المالكي

- ‌من هم السلفيون

- ‌أخطاءمنهجية في كتاب المفتي

- ‌الدكتورعلي جمعةوالأمانة العلمية

- ‌اتهامات، ولا دليل

- ‌السلفيون أم المفتي؟من الذي يتبنى الفكر الصدامي

- ‌سهام المفتي تصيب الأزهر وعلماءه وطلابه:

- ‌تناقضاتوقع فيها المفتي في كتابه

- ‌أسئلة للدكتورعلي جمعة تنتظر الإجابة

- ‌مناقشة هادئةلبعض مسائل كتاب المفتي

- ‌المسألة الأولىقوله إن السلفيين يصفون الله بالمكان

- ‌أقوال الأئمة الأربعة في مسألة العلو:

- ‌المسألة الثانيةالمتشددون ينتقصون الأشاعرة

- ‌المسألة الثالثةالمتشددون ينكروناتباع المذاهب الفقهية وتقليدها

- ‌المسألة الرابعةالمتشددون غير مؤهلينللإفتاء ويُحْدِثُون فوضى فى المجتمع

- ‌المسألة الخامسةالمتشددون يعدّون أغلبتصرفات المسلمين بدَعًا وضلالات

- ‌المسألة السادسةالمتشددون يحرمونالتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتهمون منيفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام

- ‌المسألة السابعةالمتشددون يُحَرّمونالصلاة في المساجد ذاتالأضرحة ويصرحون بوجوب هدمها

- ‌المسألة الثامنةالمتشددون يعدون التبركبآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين شركًا بالله

- ‌المسألة التاسعةالمتشددون يحرمونالاحتفال بمولد النبي- ص

- ‌المسألة العاشرةالمتشددون يحرمونالسفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلموقبور الأنبياء والصالحين

- ‌المسألةالحادية عشرةالمتشددون يتهمون مَنتَرَجَّى بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشرك الأصغر

- ‌المسألةالثانية عشرةالمتشددون يَحْكُمون علىوالِدَي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالنار يوم القيامة

- ‌المسألةالثالثة عشرةالمتشددون يَنْفون أيإدراك للميت وشعوره بمن يزوره

- ‌المسألةالرابعة عشرةالمتشددون ينكرونذِكْرَ الله كثيرا ويمنعون الأوراد

- ‌المسألة الخامسة عشرةأكثر المتشددين يمنعون استعمالالسبحة في الذكر ويرونها بدعة وضلالة

- ‌المسألة السادسة عشرةالمتشددون يتمسكون بالظاهرويتعبدون بالثياب (ثوب الشهرة - النقاب)

- ‌على الهواء مباشرةً المفتي يدافع عن السلفيين:

- ‌أمنية

- ‌المسألةالسابعة عشرةالمتشددون قدّموا السعيَ على العلم

- ‌حوار هادئمع فضيلة المفتي حولمقاله في جريدة «الواشنطون بوست»

- ‌الإمامان ابن تيميةوابن القيم بين إنصافكبار علماء الأزهر وإجحاف المفتي

- ‌الخاتمة

- ‌قائمة المراجع

الفصل: ‌المسألة العاشرةالمتشددون يحرمونالسفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلموقبور الأنبياء والصالحين

‌المسألة العاشرة

المتشددون يحرمون

السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وقبور الأنبياء والصالحين

قال المفتي (ص107 - 111): «من أغرب ما عليه المتشددون تحريمهم السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر الخليل إبراهيم أو قبر أي صالح، وسوف يزداد العجب عندما تعلم أنهم يستحبون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزيارة قبور المسلمين بصفة عامة، فهم يستحبون الغاية ويحرمون وسيلته (1).

وهم بهذا السلوك العجيب الغريب قد اصطدموا بقاعدة متفق عليها أن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، فلا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة.

وفيما يلي ننقل إجماع المذاهب الفقهية على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم

كل ما سبق يُبَيَّن أن هؤلاء المتشددين أصروا على فهْم أحد العلماء الذي شذّ بفهمه (2)، وأنكروا فهْم باقي العلماء؛ مما جعلهم يتخبطون وينتجون لنا قولًا غريبًا محصلته استحباب الشيء وتحريم الوسيلة الموصلة إليه، أو أن يقتصر حكم استحباب الزيارة لمن يسكن بجوار القبر الشريف فقط».

(1) هكذا، والصواب (وسيلتها)، ولعله خطأ طباعي.

(2)

يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

ص: 113

الجواب:

أولًا: لم يخالف ابن تيمية ولا السلفيون إجماع المذاهب الفقهية على استحباب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي نقله المفتي، وإنما الخلاف في مشروعية السفر بقصد زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم فقط.

ثانيًا: هذه مسألة اجتهادية اختلف فيها أهل العلم فلماذا يتهم المفتي مَن أخذ بأحد الرأيين بالتخبط والشذوذ؟!! أين أدب الحوار؟!!! ما هكذا يتعامل المفتي مع اليهود والنصارى؟!!! ألا يستحق المسلمون الرفق الذي يعامل المفتي به اليهود والنصارى؟!!!

ثالثًا: أقر السلفيون بأن هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم، وهذا كلام ابن تيمية فيها:

«شَدُّ الرَّحْلِ إلَى مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وآله وسلم مَشْرُوعٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وآله وسلم أَنَّهُ قَالَ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» .

فَإِذَا أَتَى مَسْجِدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ كَمَا كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَ.

وَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ بِالسَّفَرِ زِيَارَةَ قَبْرِ النَّبِيِّ دُونَ الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِيهَا خِلَافٌ.

فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَا مَأْمُورٍ بِهِ؛ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْعُلَمَاءُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا السَّفَرِ إذَا نَذَرَهُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ

بَلْ قَدْ صَرَّحَ طَائِفَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ كَابْنِ عَقِيلٍ وَغَيْرِهِ بِأَنَّ الْمُسَافِرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام وَغَيْرِهَا لَا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فِي هَذَا السَّفَرِ؛ لِأَنَّهُ

ص: 114

مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَيْسَ بِطَاعَةِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللهِ عز وجل بِمَا لَيْسَ بِطَاعَةِ هُوَ مَعْصِيَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ.

وَرَخَّصَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي السَّفَرِ لِزِيَارَةِ الْقُبُورِ كَمَا ذَكَرَ أَبُو حَامِدٍ فِي (الْإِحْيَاءِ) وَأَبُو الْحَسَنِ بْنُ عبدوس وَأَبُو مُحَمَّدٍ المقدسي، وَقَدْ رَوَى حَدِيثًا رَوَاهُ الطَّبَرَانِي مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ جَاءَنِي زَائِرًا لَا تَنْزِعُهُ إلَّا زِيَارَتِي كَانَ حَقًّا عَلَيَّ أَنْ أَكُونَ لَهُ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، لَكِنَّهُ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ وَهُوَ مُضَعَّفٌ.

وَلِهَذَا لَمْ يَحْتَجَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ مِنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ. وَبِمِثْلِهِ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ بِاتِّفَاقِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ» (1).

وقال الشيخ ابن باز: «لا يجوز السفر بقصد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر غيره من الناس في أصح قولي العلماء

والمشروع لمن أراد زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بعيد عن المدينة أن يقصد بالسفر زيارة المسجد النبوي فتدخل زيارة القبر الشريف وقبري أبي بكر وعمر والشهداء وأهل البقيع تبعًا لذلك.

وإن نواهما جاز؛ لأنه يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا، أما نية القبر بالزيارة فقط فلا تجوز مع شد الرحال.

أما إذا كان قريبًا لا يحتاج إلى شد رحال ولا يسمى ذهابه إلى القبر سفرًا، فلا حرج في ذلك، لأن زيارة قبره صلى الله عليه وآله وسلم وقبر صاحبيه من دون شد رحال سُنَّة وقُرْبَة.

وهكذا زيارة قبور الشهداء وأهل البقيع، وهكذا زيارة قبور المسلمين في كل مكان سُنَّةٌ وقُرْبَة، لكن بدون شد الرحال، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» (2).

(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (27/ 26 - 28).

(2)

مجموع فتاوى ابن باز (8/ 336). والحديث، رواه ابن ماجه بهذا اللفظ، وصححه الألباني، ورواه مسلم بلفظ:«زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ» .

ص: 115

رابعًا: لم ينفرد ابن تيمية بهذا القول كما يظن البعض وكما زعم المفتي، فهذا الرأي اختاره جماعة من العلماء كالقاضي عياض المالكي، والإمام الجويني والقاضي حسين من الشافعية، فقالوا:«يحرم شد الرحل لغير المساجد الثلاثة كقبور الصالحين والمواضع الفاضلة» (1).

وقد قال بقوله ابن عقيل شيخ الحنابلة في وقته، كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عنه، وذكر ذلك عنه أيضًا ابن قدامة أحد علماء الحنابلة حيث قال: «فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل: «لا يباح له الترخص لأنه مَنْهِيٌّ عن السفر إليها؛ قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ (متفق عليه)(2).

ونسب الشيخ محمد أنور شاه الكشميري (3) - أحد كبار فقهاء الحنفية في وقته رحمه الله رأْيَ ابنِ تيمية إلى أربعة من المتقدمين منهم أحد أئمة الشافعية في زمانه، وهو الجويني والد إمام الحرمين.

قال الكشميري: «اختار ابن تيمية أن السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبارك غير جائز، بل يريد السفر إلى المسجد النبوي، ثم إذا بلغ المدينة يُستَحَبُّ له زيارة القبر المبارك، وقال باستحباب زيارة القبور الملحقة للمكان لثبوت

(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (6/ 524).

(2)

انظر: المغني (2/ 100).

(3)

محمد أنور شاه الكشميري: أحد كبار فقهاء الحنفية وأساطين مذهبهم تخرج في جامعة ديوبندي وولي التدريس في المدرسة الأمينية بدلهي، ثم شغل مشيخة الحديث في جامعة ديوبند، وله مؤلفات عديدة. وكان أحد الذين كان لهم دورٌ هامٌّ في القضاء على فتنة القاديانية في شبه القارة الهندية. توفي عام 1352هـ. (انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة (1/ 306).

ص: 116

زيارة النبي صلى الله عليه وآله وسلم البقيع وغيرها

ووافق ابن تيمية في هذه المسألة أربعة من المتقدمين، ومنهم الجويني والد إمام الحرمين» (1).

فليس هو رأي ابن تيمية وحده كما يظن البعض وإن كان له فضل الدعوة إليه، والانتصار له.

خامسًا: من هم ابن عقيل، والقاضي عياض، والقاضي حسين، والجويني والد إمام الحرمين؟

ها هي أقوال الإمام الذهبي عنهم:

1 -

ابن عقيل: «الإِمَامُ، العَلَاّمَةُ، البَحْرُ، شَيْخُ الحنَابلَة، أَبُو الوَفَاء عَلِيُّ بنُ عَقِيْل، الحَنْبَلِيّ، صَاحِبُ التَّصَانِيْفِ» (2).

2 -

القاضي عياض: «الإِمَامُ، العَلَاّمَةُ، الحَافِظُ الأَوْحَدُ، شَيْخُ الإِسْلَامِ، القَاضِي، أَبُو الفَضْلِ عِيَاضُ بنُ مُوْسَى المَالِكِيُّ» (3).

3 -

القَاضِي حُسَيْنُ: «العَلَاّمَةُ، شَيْخُ الشَّافِعِيَّة بِخُرَاسَانَ» (4).

4 -

الجويني: «شَيْخُ الشَّافِعِيَّةِ، الجُوَيْنِيُّ، وَالِدُ إِمَامِ الحَرَمَيْنِ. كَانَ فَقِيْهًا، مُدَقِّقًا، مُحَقِّقًا، نَحْوِيًّا، مُفَسِّرًا. وَهُوَ صَاحِبُ وَجهٍ فِي المَذْهَبِ» (5).

وننقل هنا أيضًا ما قاله عنه تاج الدين السبكي – وهو مَن صَنّف رسالة في الرد على رأي ابن تيمية في هذه المسألة وسماها (شفاء السقام في زيارة خير الأنام).

(1) العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 326).

(2)

انظر: سير أعلام النبلاء (19/ 443).

(3)

نفس المصدر (20/ 212 - 213).

(4)

نفس المصدر (18/ 260 - 261).

(5)

نفس المصدر (17/ 618 - 619)، والمقصود بالمذهب مذهب الإمام الشافعي.

ص: 117

قال السبكي: «الشيخ أبو محمد الجويني، والد إمام الحرمين أوْحَدُ زمانِه علمًا ودينًا وزهدًا وتقشفًا زائدًا وتحريًا في العبادات، كان يلقب بركن الإسلام له المعرفة التامة بالفقه والأصول والنحو والتفسير والأدب» (1).

فما رأي المفتي في ابن عقيل شيخ الحنابلة، والقاضي عياض المالكي والجويني شيخ الشافعية، والقاضي حسين شيخ الشافعية الذي مدحه تاج الدين السبكي أحد كبار مخالفي ابن تيمية؟!!

هل يتهمهم أيضًا بالتخبط والشذوذ كما اتهم السلفيين؟!!!

سادسًا: مسألة السفر لزيارة قبور الأولياء قد سبق نَقْل كلام ابن عقيل شيخ الحنابلة في وقته، وننقل هنا أيضًا قول الكشميري وهو أحد كبار فقهاء الحنفية في وقته حيث قال:«السفر لزيارة قبور الأولياء كما هو معمول أهل العصر لا بد من النقل عليه من صاحب الشريعة أو صاحب المذهب أو المشائخ، ولا يجوز قياس زيارتها على زيارة القبور الملحقة بالبلدة فإنه لا سفر فيها» (2).

سابعًا: مما يؤيد استدلال ابن تيمية بحديث «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» على عدم جواز السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره - فَهْمُ الصحابة رضي الله عنهم لمعنى الحديث، ومن ذلك ما رواه ابن أبي شيبة عَنْ قَزَعَةَ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ: «آتِيَ الطُّورَ؟» قَالَ: «دَعِ الطُّورَ، لَا تَأْتِهِ» ، وَقَالَ:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» (3).

ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد أن أَبَا بَصْرَةَ الْغِفَارِيُّ لَقِيَ أَبَا هُرَيْرَةَ، وَهُوَ جَاءٍ مِنَ الطُّورِ فَقَالَ:«مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟» ، قَالَ: «مِنَ الطُّورِ صَلَّيْتُ

(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/ 45).

(2)

العرف الشذي شرح سنن الترمذي (1/ 327).

(3)

مصنف ابن أبي شيبة (3/ 418)، برقم (15544).

ص: 118

فِيهِ»، قَالَ:«أَمَا لَوْ أَدْرَكْتُكَ قَبْلَ أَنْ تَرْحَلَ إِلَيْهِ مَا رَحَلْتَ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم يَقُولُ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» (1).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية تعليقًا على هذا الحديث: «فقد فهم الصحابي الذي روى الحديث أن الطور وأمثاله من مقامات الأنبياء مندرجة في العموم وأنه لا يجوز السفر إليها كما لا يجوز السفر إلى مسجد غير المساجد الثلاثة.

وأيضًا فإذا كان السفر إلى بيت من بيوت الله غير المساجد الثلاثة لا يجوز مع أنَّ قصْده لأهل مَصْرِه يجب تارة ويستحب أخرى وقد جاء في قَصْد المساجد من الفضل ما لا يُحْصَى فالسفر إلى بيوت الموتى من عباده أوْلَى أن لا يجوز» (2).

ثامنًا: احتج المفتي (ص109 - 110) على جواز السفر لزيارة القبور بأنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يزور مسجد قباء، فعَن نافِعٍ عَن ِابْن ِ عُمَرَ رضي الله عنهما قالَ:«كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قباءَ كلَّ سَبْتٍ، مَاشِيًا وَرَاكِبا» ، قالَ نافِعٌ:«وَكانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَفعَله» . (رواه البخاري ومسلم).

وقال إن النهي عن شد الرحال لمسجد غير الثلاثة ليس على التحريم، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شدَّ الرحال لمسجد رابع وهو مسجد قباء.

(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل (39/ 270)، برقم (23850)، وقال الأرنؤوط:«إسناده صحيح» .

(2)

اقتضاء الصراط المستقيم (ص 328).

ص: 119

والجواب:

1 -

أنَّ زِيَارَة َمَسْجِدِ قباءَ لأَهْل ِ المدِيْنةِ، خَالِيَة ٌ مِنْ شَدِّ الرِّحَال ِ (أي السفر) لِقُرْبه. وَهِيَ مُسْتَحَبَّة ٌ مَسْنُوْنة ٌ لهمْ، اقتِدَاءً بفِعْل ِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، وَقدْ كانَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم يَأْتِيْهِ -لِقُرْبهِ- مَاشِيًا وَرَاكِبًا.

بَلْ قالَ أَنسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه: «كنّا نصَلي العَصْرَ، ثمَّ يَذْهَبُ الذّاهِبُ مِنّا إلىَ قباءَ، فيَأْتِيْهمْ وَالشَّمْسُ مُرْتفِعَة ٌ» (رَوَاهُ البُخارِيُّ).

وَمَحَلُّ النِّزَاعِ في شَدِّ الرَّحْل ِ لِزِيَارَةِ مَسْجِدٍ غيْرِ المسَاجِدِ الثلاثة.

فمسجد قباء يستحب زيارته لمن كان فى المدينة؛ لأن ذلك ليس بشَدّ رحل (ليس بسَفَر) كما فى الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ» » (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ، فَصَلَّى فِيهِ صَلَاةً، كَانَ لَهُ كَأَجْرِ عُمْرَةٍ» (رواه ابن ماجه وصححه الألباني).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى مَسْجِدَ قُبَاءَ» تنبيه على أنه لا يُشْرَع قصْده بشد الرحال، بل إنما يأتيه الرجل مِن بيته الذي يصلح أن يتطهر فيه، ثم يأتيه فيقصده كما يقصد الرجل مسجد بلده دون المساجد التي يسافر إليها.

2 -

مَن حَمَل حَدِيْث «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلّا إلىَ ثلاثةِ مَسَاجِدَ» ، عَلى نفي اسْتِحْبَابِ شَدِّ الرّحَالِ لِغيْرِهَا، ثمَّ أجَازَ شَدَّ الرِّحَال ِ لِلمَسَاجِدِ عَامَّة ً غيرَ المسَاجِدِ الثلاثةِ، بزِيَارَةِ النَّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم لمِسَجْدِ قباء فكلامه فِيْهِ تعَارُضٌ وَتنَاقض:

فإنهُ إمّا أَنْ يَنْفِيَ اسْتِحْبَابَ زِيَارَةِ مَسْجِدِ قباءَ، لِيَسْتَقِيْمَ تَأْوِيْلهُ لِحَدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ»: فيُخالِفَ بذَلِك َ السُّنَّة َ الصَّحِيْحَة َ الصَّرِيْحَة.

بَلْ يُخالِفُ مَا وَرَدَ مِنْ عَظِيْمِ فضْل ِ زِيَارَتِهِ.

ص: 120

وَإمّا أَنْ يَسْتَحِبَّ زِيَارَة َ مَسْجِدِ قباءَ، كمَا جَاءَتْ بهِ السُّنَّة ُ: فيَسْقط ُ تأْوِيْلهُ لحدِيْثِ «لا تُشَدُّ الرِّحَال» .

وَعَلى كلا الحاليْن ِ، فكلامُه غيْرُ مَقبُوْل.

وقَوْلُهُ بِعَدَمِ الاسْتِحْبَابِ تَسْلِيمٌ مِنْهُ أَنَّ هَذَا السَّفَرَ لَيْسَ بِعَمَلِ صَالِحٍ وَلَا قُرْبَةٍ وَلَا طَاعَةٍ وَلَا هُوَ مِنْ الْحَسَنَاتِ. فَإِذًا مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّ السَّفَرَ لِزِيَارَةِ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قُرْبَةٌ وَعِبَادَةٌ وَطَاعَةٌ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ.

وَإِذَا سَافَرَ لِاعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ طَاعَةٌ كَانَ ذَلِكَ مُحَرَّمًا بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. فَصَارَ التَّحْرِيمُ مِنْ جِهَةِ اتِّخَاذِهِ قُرْبَةً وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يُسَافِرُ إلَيْهَا إلَّا لِذَلِكَ.

وَأَمَّا إذَا نَذَرَ الرَّجُلُ أَنْ يُسَافِرَ إلَيْهَا لِغَرَضِ مُبَاحٍ فَكَذَا جَائِزٌ وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ (1).

تاسعًا: جانَبَ المفتي الصوابَ في قوله إن السلفيين قد اصطدموا بقاعدة متفق عليها أن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، وفي قوله إنه لا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة، ويقصد بذلك أن السلفيين مع أنهم يستحبون زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وزيارة قبور المسلمين بصفة عامة يحرّمون السفر لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو قبر الخليل إبراهيم أو قبر أي صالح.

ولبيان ذلك يقال:

إن قاعدة (الوسائل لها أحكام المقاصد) معناها أن الوسيلة تأخذ صفة الحسن أو القبح بناءً على ما يقصد بها صاحبها، ولكن هذه القاعدة مقيدة بما لا يخالف الشرع.

(1) انظر: مجموع فتاوى ابن تيمية (27/ 188).

ص: 121

وهنا هذا السفر الذي هو وسيلة إلى مستحب - وهو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقبور الأولياء - اصطدم بالشرع حيث خالف حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ» .

وبناءً على قول المفتي إن الوسائل تأخذ أحكام المقاصد، وإنه لا يُعقَل أن يكون المقصد مندوبًا ووسيلته محرمة»، نسأله:«ما رأيكم فيمن يسرق أموال المسلمين لبناء مسجد أو مساعدة مسكين؟» .

هنا المقصد - بناء مسجد أو مساعدة مسكين - مندوب (مستحب)، فهل تأخذ السرقة حكم الاستحباب أيضًا أم تكون محرمة؟!!

إن المسلم إذا أراد أن يصل إلى غاية مشروعة فإن هذه الغاية يوصل إليها بعدة أنواع من الوسائل:

النوع الأول: أن تكون الوسيلة منصوصة من الشارع، فهنا لا إشكال فيها.

النوع الثاني: أن تكون ممنوعة بالنص من الشارع، فهنا لا إشكال في المنع منها.

النوع الثالث: أن تكون موافقة لأصول الشريعة العامة ولا تخالف شيئًا منها، فهنا لا إشكال فيها أيضًا.

النوع الرابع: أن تكون مخالفة لأصول الشريعة وقواعدها العامة، فهنا تمنع أيضًا.

النوع الخامس: أن لا يكون فيها نص أو معنى يدل على منع أو إباحة.

فهذا النوع الخامس هو الذي تطبق عليه قاعدة الفقهاء (الوسائل لها أحكام المقاصد) أي إذا كان المقصد مشروعًا فإن الوسيلة تكون مشروعة بالضوابط المذكورة سابقًا.

ص: 122