الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة
المتشددون يحرمون
التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم ويتهمون من
يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام
قال المفتي (ص69): «من طامَّات (1) هذا التيَّار المتشدد أنه يحرِّم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء إلى الله ويتهمون من يفعل ذلك بالشرك والخروج من الإسلام، على الرغم من أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسألة اتفقت عليها كلمة الفقهاء ومذاهبهم، وقد اتفقت المذاهب الأربعة على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل استحباب ذلك، وعدم التفريق بين حياته صلى الله عليه وآله وسلم وانتقاله الشريف صلى الله عليه وآله وسلم.
ولم يشذ إلا ابن تيمية حيث فرق بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم (2)، ولا عبرة لشذوذه (3). فندعو الأمة إلى التمسك بما اتفق عليه أئمتها الأعلام».
الجواب:
أولًا: ادعاء المفتي أن التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسألة اتفقت عليها كلمة الفقهاء ومذاهبهم، ادعاءٌ غير صحيح، وينقضه كلام المفتي نفسه حيث سُئل:«ما حكم التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء؟» فقال: «هذه مسألة اختلف فيها الفقهاء، ولذلك
(1) هكذا: مِن طامات، و (مِن) للتبعيض، أي أن هناك طامات أخرى!!! حسبنا الله ونعم الوكيل.
(2)
هكذا، ولعله خطأ طباعي، ولعله يقصد: حيث فرّق بين التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في حياته وبعد انتقاله صلى الله عليه وآله وسلم.
(3)
هكذا، والصواب (لا عبرة بشذوذه)، ولعله خطأ طباعي.
ونحن ندعو ينبغي علينا أن ندعو بما نجد قلوبنا عنده، ولم يرد في السنة الصحيحة التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم» (1).
فإذا كان المفتي قد نقض الإجماع الذي ادعاه، واعترف بأن هذه المسألة اختلف فيها الفقهاء، فلماذا ينكر على السلفيين أنهم منعوا من التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقد اعترف هو نفسه أن هذا التوسل لم يرد في السنة الصحيحة.
ثانيًا: ادعى المفتي أن المذاهب الأربعة اتفقت على جواز التوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم بل استحباب ذلك وأنه لم يشذ إلا ابن تيمية، وللرد على المفتي نكتفي هنا بنقل قولين لأحد الأئمة الأربعة يؤيد فيهما كلام السلفيين في المنع من التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغيره.
قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: «لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، والدعاء المأذون فيه المأمور به ما استُفِيد من قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف:180)(2).
وقال أيضًا رحمه الله (3): «يُكْرَه (4) أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان أو بحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام» .
(1) فتاوى عصرية (ص335)، فتاوى البيت المسلم (ص420).
(2)
الدر المختار من حاشية رد المحتار لابن عابدين الحنفي (6/ 396 - 397)، وما أظن المفتي يجرؤ أن يتهم الإمام أبا حنيفة رحمه الله بالتشدد كما اتهم السلفيين.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز الحنفي (ص234) ، إتحاف السادة المتقين في شرح إحياء علوم الدين للزبيدي الحنفي (2/ 285) ، وشرح الفقه الأكبر للملا علي القاري الحنفي (ص198).
(4)
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: «وَأَمَّا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ فَإِنَّهُمْ - وَإِنْ أَطْلَقُوا الْكَرَاهِيَةَ فِي الْأُمُورِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا - لَا يَعْنُونَ بِهَا كَرَاهِيَةَ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا هَذَا اصْطِلَاحٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ حِينَ أَرَادُوا أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْقَبِيلَيْنِ. فَيُطْلِقُونَ لَفْظَ الْكَرَاهِيَةِ عَلَى كَرَاهِيَةِ التَّنْزِيهِ فَقَطْ، وَيَخُصُّونَ كَرَاهِيَةَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ التَّحْرِيمِ وَالْمَنْعِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ السَّلَفِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شَأْنِهِمْ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ صَرِيحًا أَنْ يَقُولُوا: هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ. وَيَتَحَامَوْنَ هَذِهِ الْعِبَارَةَ خَوْفًا مِمَّا فِي الْآيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [(النحل:116)، وَحَكَى مَالِكٌ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ هَذَا الْمَعْنَى. فَإِذَا وُجِدَتْ فِي كَلَامِهِمْ فِي الْبِدْعَةِ أَوْ غَيْرِهَا: أَكْرَهُ هَذَا، وَلَا أُحِبُّ هَذَا، وَهَذَا مَكْرُوهٌ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْطَعَنَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ التَّنْزِيهَ فَقَطْ» (الاعتصام (2/ 537 - 538).
وقال الإمام ابن القيم: «قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: «لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ وَلَا مَنْ مَضَى مِنْ سَلَفِنَا، وَلَا أَدْرَكْت أَحَدًا أَقْتَدِي بِهِ يَقُولُ فِي شَيْءٍ: هَذَا حَلَالٌ، وَهَذَا حَرَامٌ، وَمَا كَانُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقُولُونَ: نَكْرَهُ كَذَا، وَنَرَى هَذَا حَسَنًا؛ فَيَنْبَغِي هَذَا، وَلَا نَرَى هَذَا» ، وَرَوَاهُ عَنْهُ عَتِيقُ بْنُ يَعْقُوبَ، وَزَادَ:«وَلَا يَقُولُونَ حَلَالٌ وَلَا حَرَامٌ، أَمَا سَمِعْت قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} (يونس: 59)، الْحَلَالُ: مَا أَحَلَّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» .
ثم ذكر الإمام ابن القيم أمثلة كثيرة منها قول الإمَامِ أحْمَدَ: «لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُ مَا ذُبِحَ لِلزَّهْرَةِ وَلَا الْكَوَاكِبِ وَلَا الْكَنِيسَةِ، وَكُلُّ شَيْءٍ ذُبِحَ لِغَيْرِ اللهِ، قَالَ اللهُ عز وجل:{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} (المائدة:3).
فَتَأَمَّلْ كَيْف قَالَ: «لَا يُعْجِبُنِي» فِيمَا نَصَّ اللهُ - سُبْحَانَهُ - عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَاحْتَجَّ هُوَ أَيْضًا بِتَحْرِيمِ اللَّهِ لَهُ فِي كِتَابِهِ» [انظر: إعلام الموقعين (1/ 40 - 41)].
ومما يوضح كلام الإمامين الشاطبي والنووي أن الإمام الترمذي قال في سننه: «بَابُ مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ إِتْيَانِ الحَائِضِ» ، وذكر فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ أَتَى حَائِضًا، أَوِ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا، أَوْ كَاهِنًا، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . [سنن الترمذي (1/ 199)، والحديث صححه الألباني].
فهل يُعقل أن يستدل الإمام الترمذي بالحديث على الكراهة التنزيهية؟!!
ثالثًا: أما اتهام المفتي للسلفيين بأن مَن يتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الدعاء إلى الله يحكم السلفيون عليه بالشرك والخروج من الإسلام، فهذا اتهام باطل، فقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله عن:
فأجابوا:
«مَن توسل إلى الله في دعائه بجاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو حرمته أو بركته أو بجاه غيره من الصالحين أو حرمته أو بركته، فقال: «اللهم بجاه نبيك أو حرمته أو بركته أعطني مالًا وولدًا أو أدخلني الجنة وقِنِي عذاب النار» مثلا، فليس بمشرك شركًا يخرج عن الإسلام، لكنه ممنوع سدًّا لذريعة الشرك، وإبعادًا للمسلم مِن فِعْلِ شيء يُفْضِي إلى الشرك.
ولا شك أن التوسل بجاه الأنبياء والصالحين وسيلة من وسائل الشرك التي تُفْضِي إليه على مر الأيام، على ما دلت عليه التجارب وشهد له الواقع، وقد جاءت أدلة كثيرة في الكتاب والسُنَّة تدل دلالة قاطعة على أن سدَّ الذرائع إلى الشرك والمحرمات من مقاصد الشريعة.
من ذلك قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام:108).
فنهَى سبحانه المسلمين عن سَبّ آلهة المشركين التي يعبدونها من دون الله مع أنها باطلة؛ لئلا يكون ذلك ذريعة إلى سَبّ المشركين الإله الحق سبحانه انتصارًا لآلهتهم الباطلة جهلًا منهم وعدوانًا.
ومنها: نَهْيُه صلى الله عليه وآله وسلم عن اتخاذ القبور مساجد؛ خشيةَ أن تُعْبَد، ومنها: تحريم خلوة الرجل بالمرأة الأجنبية، وتحريم إبداء المرأة زينتها للرجال الأجانب، وتحريم خروجها من بيتها متعطرة، وأمْر الرجال بغض البصر عن زينة النساء، وأمْرِ النساء أن يغضضن من أبصارهن؛ لأن ذلك كله ذريعة إلى الافتتان بها ووسيلة إلى الوقوع في الفاحشة، قال الله تعالى:{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} الآية (النور:30 - 31).
وثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ» (1)؛ ولأن التوسل بالجاه والحُرْمَة ونحوهما في الدعاء عبادة، والعبادة توقيفية، ولم يَرِدْ في الكتاب ولا في سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ولا عن أصحابه ما يدل على هذا التوسل، فعُلِمَ أنه بدعة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» (2).
وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد، وآله وصحبه وسلم» (3).
(1) رواه البخاري ومسلم.
(2)
رواه مسلم.
(3)
فتاوى اللجنة الدائمة (1/ 501 - 503). وانظر في أنواع التوسل المشروع وغير المشروع كتاب (التوسل أنواعه وأحكامه) للشيخ الألباني (ص 32 - 46)، كتاب عقيدة التوحيد للشيخ صالح الفوزان (ص85 - 88).