الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الثامنة
المتشددون يعدون التبرك
بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين شركًا بالله
الجواب:
هذا كلام يخالف الحقيقة، وفيه من الخلط ما فيه، فها هو الشيخ ابن باز رحمه الله أحد رموز السلفيين في العالم الإسلامي يوضح الفرق بين التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعض الأولياء كمسح الجدران ، والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره، وبين طلب الحاجات منه صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم ، ودعائهم، حيث قال ردًّا على مَن قال مثل قول المفتي:
«من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة المكرم الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني ، منحني الله وإياه الفقه في الدين ، وأعاذنا جميعًا من طريق المغضوب عليهم والضالين آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أما بعد: فقد وصلني كتابكم وصلكم الله بحبل الهدى والتوفيق
…
وقد وقع في كتابكم أمور تحتاج إلى كشف وإيضاح
…
لاحظتكم تعبرون دائمًا عن بعض ما شاع بين المسلمين من
(1) هكذا ولعل الصواب: وما ترتب على ذلك مِن عدم انتساب هؤلاء للإسلام ومِن شق لجماعة المسلمين وفتن الله أعلم بها.
التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وبعض الأولياء كمسح الجدران ، والأبواب في الحرم النبوي الشريف وغيره شركًا ، وعبادة لغير الله.
وكذلك طلب الحاجات منه ومنهم ، ودعاؤهم وما إلى ذلك، إني أقول: هناك فرق بين ذلك.
فطلب الحاجات من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن الأولياء ، باعتبارهم يقضون الحاجات من دون الله أو مع الله ، فهذا شرك جَلِيٌّ لا شك فيه.
لكن الأعمال الشائعة بين المسلمين ، والتي لا ينهاهم عنها العلماء في شتى أنحاء العالم الإسلامي من غير فرق بين مذهب وآخر ، ليست هي في جوهرها طلبًا للحاجات من النبي صلى الله عليه وآله وسلم والأولياء ، ولا اتخاذهم أربابًا من دون الله ، بل مرَدّ ذلك كله - لو استثنينا عمل بعض الجهال من العوام - إلى أحد أمرين: التبرك والتوسل بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وآثاره ، أو بغيره من المقربين إلى الله عز وجل.
أما التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير طلب الحاجة منه ، ولا دعائه فمنشأه الحب والشوق الأكيد ، رجاء أن يعطيهم الله الخير بالتقرب إلى نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار المحبة له ، وكذلك بآثار غيره من المقربين عند الله.
وإني لا أجد مسلمًا يعتقد أن الباب والجدار يقضيان الحاجات ، ولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الولي يقضيها ، بل لا يرجو بذلك إلا الله ، إكرامًا لنبيه أو لأحد من أوليائه ، أن يفيض الله عليه من بركاته.
والتبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما يعلمه كل من اطلع على سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان معمولًا به في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكانوا يتبركون بماء وضوئه ، وثوبه وطعامه وشرابه وشعره ، وكل شيء منه، ولم يَنْهَهُم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عنه.
فأما التبرك بما مس جسده صلى الله عليه وآله وسلم من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك ، فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة رضي الله عنهم ، وأتباعهم بإحسان لما في ذلك من الخير والبركة، وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
فأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي ، فبدعة لا أصل لها ، والواجب تركها لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:«مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ» (رواه البخاري ومسلم). وفي رواية لمسلم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ» .
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ، كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في خطبته يوم الجمعة:«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرُ الْهُدَى هُدَى مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» ، والأحاديث في ذلك كثيرة.
فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله ، واستلام الركن اليماني.
ولهذا صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لما قبل الحجر الأسود: «إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ» (رواه البخاري ومسلم).
وبذلك يُعلم أن استلام بقية أركان الكعبة ، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع لأن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله ولم يرشد إليه ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه رضي الله عنهم (1).
(1) وأما ما نُقِلَ عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما من الصلاة في الأماكن التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد صلى فيها اتفاقًا لا قصدًا، فليس من قَبيل التبرك بالآثار، بل فعله ابن عمر اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
عن مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، قَالَ: رَأَيْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللهِ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ الطَّرِيقِ فَيُصَلِّي فِيهَا، وَيُحَدِّثُ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يُصَلِّي فِي تِلْكَ الأَمْكِنَةِ» (رواه البخاري).
وقد قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية لما بلغه أن بعض الناس يذهبون إليها ويصلون عندها خوفًا من الفتنة بها وسدًّا للذريعة.
وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر ، وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم ، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله ، وتقربهم إليه زلفى ، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم ، كما بين الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} فرَدّ عليهم سبحانه بقوله: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)} (يونس:18).
فأبَانَ - سبحانه - في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم ، أو يقضون حوائجهم وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى ، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} ، فسماهم كذبة وكفارًا بهذا الأمر.
ويدل على كفرهم أيضا بهذا الاعتقاد ، قوله سبحانه:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}
(المؤمنون:117). فسماهم في هذه الآية كفارًا وحَكَمَ عليهم بذلك لمجرد الدعاء لغير الله من الأنبياء والملائكة والجن وغيرهم.
ويدل على ذلك أيضا قوله سبحانه: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} (فاطر: 13 - 14).
فحَكَمَ سبحانه بهذه الآية على أن دعاء المشركين لغير الله ، من الأنبياء والأولياء ، أو الملائكة أو الجن ، أو الأصنام أو غير ذلك بأنه شرك ، والآيات في هذا المعنى لمن تدبر كتاب الله كثيرة» (1).
يتضح من قول الشيخ ابن باز عدم صحة ادعاء المفتي أن السلفيين يعدّون التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصالحين من الشرك.
وقال الشيخ ابن باز تعليقًا على كلام ابن حجر في جواز التبرك بآثار الصالحين:
«هذا خطأ (2). (2)
والصواب المنع من ذلك لوجهين:
أحدهما: أن الصحابة لم يفعلوا ذلك مع غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو كان خيرًا لَسَبَقُونا إليه، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يُقَاسُ عليه غيره لما بَيْنَه وبَيْن غيره من الفروق الكثيرة.
(1) باختصار من مجموع فتاوى الشيخ ابن باز (9/ 106 - 111).
(2)
لم يَقُل الشيخ ابن باز إن هذا شرك، كما زعم المفتي.
الوجه الثاني: سَدُّ ذريعة الشرك؛ لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم وعبادتهم من دون الله فوجب المنع من ذلك» (1).
ويزداد الأمر حول هذه المسألة وضوحًا بكلام لأحد علماء السلفيين وهو الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب حيث قال:
«ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشُرْب سُؤْرِهِم، والتمسح بهم أو بثيابهم، وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين، والتبرك بعرقهم ونحو ذلك، وقد أكثر في ذلك أبو زكريا النووي في (شرح مسلم) في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئًا من ذلك مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا خطأ صريح (2) (2) لوجوه منها:
1 -
عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في الفضل والبركة.
2 -
ومنها عدم تحقق الصلاح، فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب، وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بِنَصّ، كالصحابة الذين أثنى الله عليهم ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أئمة التابعين، أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك، أما غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم.
3 -
ومنها أنا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء، والأعمال بالخواتيم، فلا يكون أهلًا للتبرك بآثاره.
4 -
ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره صلى الله عليه وآله وسلم لا في حياته ولا بعد موته، ولو كان خيرًا لسبقونا إليه، فهل فعلوه مع أبي بكر وعمر
(1) فتح الباري لابن حجر مع تعليقات ابن باز (3/ 143).
(2)
لم يَقُل الشيخ سليمان إن هذا شرك، كما زعم المفتي.
وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة، وكذلك التابعون، وهل فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم، فدل أن ذلك مخصوص للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
5 -
ومنها أن فِعْل هذا مع غيره شيءٌ لا يُؤْمَن أن يفتنه وتعجبه نفسه، فيورثه العجب والكبر والرياء، فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم» (1).
(1) تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص 153، 154).