الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
تطوّر التشيع الأول والشيعة الأولى
ودَور السبأية بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وأيام علي رضي الله عنه
لم يكن قصدنا من كتابة هذا الكتاب أن نسرد وقائع تاريخية حدثت، بل ما قصدنا هو سرد تاريخ السبئية وما قاموا بها من شنائع واقترفوا من الجرائم والمآثم وارتكبوا من الفضائح والوقاحات ولكنه لما كنا نحتاج لسرد تاريخ هذه الفئة الباغية التي أسست في الإسلام عقائد خاصة، وكوّنت فرقًا مخصوصة، اضطررنا لسرد بعض الحوادث التاريخية التي حدثت وللسبئية فيها دخل كبير بل لم تكن لتقع لولا دسائسها ومؤامراتها، وليكون لنا بتوفيق الله وتقديره وتيسيره في هذه الحوادث والوقائع كتاب مستقل ومنزه عن الخرافات والسخافات، وخال من القصص والأساطير، ومجرد عن الأكاذيب والأباطيل التي طالما استعملها أعداء الإسلام وأعداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم للنيل من أسلافها وأكابرها. وما ذلك على الله بعزيز.
ويكون بحثنا مقتصرًا على الحوادث التي تتعلق بموضوعنا فقط، ونتجنب وقائع أخرى لعدم علاقتها بموضوعنا علاقة مباشرة قاصدين الاختصار دون الإطناب والتطويل، فنقول:
لما قتل الإمام المظلوم عثمان بن عفان رضي الله عنه بقيت المدينة خمسة أيام لا أمير لها. أو أميرها واحد من قتلة عثمان هو الغافقي
بن حرب وحوله السبئيون وقتلة عثمان، وأهواؤهم مختلفة فيمن يجعلونه خليفة بعد عثمان أمير المؤمنين، اللهم إلا السبئية منهم فإنهم لم ينادوا إلا باسم عليّ رضي الله عنه ولم يتستروا إلا وراءه وهو منهم بريء، ولقد مرّ مقدّمًا أن عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر الخبيث الذي كان وراء كل هذه المؤامرات كان مع المصريين، فاختلفت آراء البغاة والطغاة والأوباش السفلة " (1) "، فقوم يريدون طلحة، وقوم يريدون الزبير، وقوم يريدون عليًّا، وكل واحد منهم يأبى وينكر لما يعرف منهم الخبث والطغيان والاشتراك في مؤامرة مدبرة لهدم كيان الإسلام والقضاء على الدولة الإسلامية، المترامية الأطراف، التي لم تتسع رقعتها إلا في عصر عثمان الذهبي، والعصر الذي يندر مثيله في تاريخ الإسلام في كثرة الغزوات والفتوحات، ثم ييئسون من هؤلاء
الثلاثة ويذهبون إلى سعد بن أبي وقاص فاتح إيران. ومن ثم إلى ابن الخليفة الفاروق الأعظم عبد الله بن عمر، فلم يكن جوابهما إلا ما أجاب بهم الثلاثة من العشرة المبشّرة. وإليك ما ذكره أقدم المؤرخين الطبري ووافقه عليه كل من ابن كثير وابن الأثير وابن خلدون وغيرهم:
حدثنا محمد بن عبد الله وطلحة بن الأعلم وأبو حارثة وأبو عثمان قالوا: بقيت المدينة بعد قتل عثمان رضي الله عنه خمسة أيام وأميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر، فلا يجدونه. يأتي المصريون عليًّا فيختبئ منهم ويلوذ بحيطان المدينة، فإذا لقوه باعدهم وتبرأ منهم ومن مقالتهم مرة بعد مرة، ويطلب الكوفيون الزبير فلا يجدونه فأرسلوا إليه حيث هو رسلاً فتبرأ من مقالتهم، ويطلب البصريون طلحة فإذا لقيهم باعدهم وتبرأ من مقالتهم مرة بعد مرة وكانوا
(1) - ولقد سماهم بهذه الأسماء كل من ابن العربي وابن تيمية وغيرهم.
مجتمعين على قتل عثمان، مختلفين فيمن يهوون، فلما لم يجدوا ممالئًا ولا مجيبًا جمعهم الشر على أول من أجابهم وقالوا: لا نولي أحدًا من هؤلاء الثلاثة، فبعثوا إلى سعد بن أبي وقاص وقالوا: إنك من أهل الشورى فرأينا فيك مجتمع فأقدم نبايعك، فبعث إليهم أني وابن عمر خرجنا منها فلا حاجة لي فيها على حال، وتمثل:
لا تخلطن خبيثات بطيبة
…
واخلع ثيابك منها وانج عريانا
ثم أنهم أتوا ابن عمر عبد الله فقالوا: أنت ابن عمر فقم بهذا الأمر، فقال: إن لهذا الأمر انتقامًا والله لا أتعرض له فالتمسوا غيري، فبقوا حيارى لا يدرون ما يصنعون والأمر أمرهم " (1) ".
ولم تكن حيرتهم إلا لمعرفتهم أنه لو قام قائم دون مشورتهم وبغير رأي منهم لحكّم فيهم السيف وأخذ منهم القصاص للإمام المظلوم وخليفة رسول الله وزوج ابنتيه وابن بنت عمته، القائم بالحق، ذي الجود والحياء عثمان بن عفان رضي الله عنه ولقد صرح بذلك ابن كثير في روايته التي ساقها أن القوم لما يئسوا من الجميع وحاروا في أمرهم قالوا:
"إن نحن رجعنا إلى أمصارنا بعد قتل عثمان بغير إمرة اختلف الناس في إمرتهم ولم نسلم"(2) ".
ثم جاءوا إلى أهل المدينة وجمعوهم:
"فوجدوا سعدًا والزبير خارجين ووجدوا طلحة في حائطه، ووجدوا بني أمية قد هربوا إلا من لم يطق الهرب، وهرب الوليد وسعيد إلى مكة في أول من خرج وتبعهم
مروان وتتابع على ذلك من تتابع، فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى وأنتم تعقدون
(1) - الطبري: ج5 ص155، ابن الأثير: ج7 ص226، ابن الأثير: ج3 ص99، ابن خلدون: ج2 ص151
(2)
- البداية والنهاية: ج7 ص226
الإمامة وأمركم عابر على الأمة فانظروا رجلاً تنصبونه ونحن لكم تبع
…
فقد أجلناكم يومين فوالله لئن لم تفرغوا لنقتلن غدًا عليًّا وطلحة والزبير وأناسًا كثيرًا، فغشي الناس عليًّا فقالوا: نبايعك فقد ترى ما نزل بالإسلام وما ابتلينا به من ذي القرب" (1) "فردّ عليهم علي رضي الله عنه بقول: - وقد نقل هذا القول في أقدس كتاب شيعي حسب زعم القوم ألا وهو نهج البلاغة -:
"دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميراً "(2)، (3) ".
وذكر ذلك من مؤرخين السنة الطبري في تاريخه " (4).
(1) - الطبري: ج5 ص156، الكامل: ج3 ص99، ابن خلدون: ج2 ص151.
(2)
- وفي هذا أكبر دليل رغم أنوف من يرى خلاف ذلك أن عليًّا رضي الله عنه لم يكن يعدّ نفسه إمامًا منصوبًا من قبل الله عز وجل ولا منصوصًا عليه لأنه لو كان كذلك لما كان له الخيار في ردّ الإمامة والخلافة عندما جاءت إليه تسعى بقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا} [الأحزاب: 36].
فهذا الكلام الصادر عن علي رضي الله عنه المنقول في أقدس كتبهم لكلام فصل وقضاء مبرم واضح صريح بيننا وبين الذين يرون خلاف هذا، وعلى ذلك قال ابن أبي الحديد الشيعي المعتزلي مع تشيعه أن هذا الكلام يدل على:
"أنه عليه السلام لم يكن منصوصًا عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان أولى الناس بها وأحقهم بمنزلتها، لأنه لو كان منصوصًا عليه بالإمامة من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم لما جاز له أن يقول: دعوني والتمسوا غيري، ولا أن يقول: وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا، ولا أن يقول: ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج7 ص33 - 34.
كما أن مجرد امتناعه عن قبول الخلافة لكان من الحجة القاضية عليهم، والنصوص في هذا المعنى كثيرة وبعضها آتية مذكورة قريبًا.
فهل منصف ينصف وعادل يعدل؟. وإن في ذلك لذكرى لأولي الأبصار
(3)
- نهج البلاغة: ص136 ط. بيروت
(4)
- ج5 ص156
"وابن الأثير في الكامل"(1) ". ولكنهم أكرهوه على ذلك وأجبروه:
وأخذ الأشتر بيده فبايعه وبايعه الناس - من بايعه -" (2) ".
كما ذكر علي رضي الله عنه ذلك أيضًا فيما ينقله الشيعة عنه في رسالته التي أرسلها إلى أهل مصر أو خطبة ألقاها:
حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه، ثم جئتموني لتبايعوني، فأبيت عليكم، وأمسكت يدي فنازعتموني ودافعتموني، وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، وازدحمتم عليّ حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعضكم أو أنكم قاتليّ. فقلتم: بايعنا لا نجد
غيرك، ولا نرضى إلا بك، بايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا. فبايعتكم ودعوت الناس إلى بيعتي، فمن بايع طوعًا قبلته، ومن أبى لم أكرهه وتركته" (3) ".
ومثل ذلك نقل الشريف الرضي في (نهج البلاغة) تحت عنوان أمر البيعة " (4) "
فبايعه من بايعه ولم يبايعه من لم ير الجوّ والوقت مناسبًا. وممن امتنع عن بيعته من كبار الصحابة كما ذكر المؤرخين:
" ثم بايعه الناس وجاءوا بسعد فقال لعليّ حتى يبايعك الناس، فقال: أخلوه. وجاءوا بابن عمر فقال كذلك، فقال: ائتني بكفيل قال: لا أجده، فقال الأشتر: دعني أقتله، فقال: دعني أنا كفيله، وبايعت الأنصار وتأخر منهم حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومسلمة بن خالد، وأبو سعيد الخدري، ومحمد بن مسلمة، والنعمان بن بشير، وزيد
(1) - ج3 ص99
(2)
- ابن كثير: ج5 ص226
(3)
- الغارات للثقفي الكوفي الشيعي: ج1 ص310 - 311 ط. طهران، شرح النهج لابن أبي الحديد الشيعي: ج6 ص96 - 97، بحار الأنوار للمجلسي: ص51 - 52
(4)
- نهج البلاغة: ص195 ط. بيروت.
بن ثابت، ورافع بن خديج، وفضالة بن عبيد، وكعب بن عجرة، وسلمة بن سلامة بن وقش. وتأخر من المهاجرين عبد الله بن سلام، وصهيب بن سنان، وأسامة بن زيد، وقدامة بن مظعون، والمغيرة بن شعبة. وأما النعمان بن بشير فأخذ أصابع نائلة امرأة عثمان وقميصه الذي قتل فيه ولحق بالشام صريخًا" (1) "وأما طلحة فقال:
بايعت والسيف فوق رأسي " (2) ".
وقال الزبير:
"جاءني لص من لصوص عبد القيس فبايعت واللجة في عنقي"(3)"وفي رواية: "جاء القوم بطلحة فقالوا: بايع فقال: إني أبايع كرهًا
…
ثم جيء بالزبير فقال مثل ذلك" (4) ".
وقال قوم: إنما بايعا على شرط إقامة الحدود في قتلة عثمان " (5) ".
وقيل: إنه قد بايع طلحة ولم يبايع الزبير ولا سلمة بن سلامة ولا أسامة بن زيد " (6) ".
والمدائني نقل عن الزهري:
هرب قوم من المدينة إلى الشام ولم يبايعوا عليًّا " (7) ".
فهكذا انعقدت البيعة للإمام علي رضي الله عنه واستتر السبئيون والمخدوعون بهم من قتلة عثمان وراء المبايعين لعليّ رضي الله عنه
(1) - ابن خلدون: ج2 ص151، ابن الأثير: ج3 ص98، ابن الكثير: ج7 ص226.
(2)
- الطبري: ج5 ص154
(3)
- الطبري: ج5 ص154، الكامل: ص99.
(4)
- أيضًا: ص157، ابن خلدون: ج2 ص151
(5)
- أيضًا: ص158 -
(6)
- الكامل لابن الأثير: ج3 ص98
(7)
- البداية والنهاية: ص226 -
واختلفوا خلف المشايعين له وأحاطوه من كل جانب كما ذكر الطبري أن عليًّا رضي الله عنه لما خطب بخطبته الأولى بعد بيعته ثم أراد الذهاب إلى بيته قالت السبئية:
خذها إليك واحذرًا أبا الحسن
…
إنما نمرُّ الأمر إمرار الرسن
صَوْلَةَ أقوامٍ كأسداد السُّفُن
…
بِمَشْرَفيّاتٍ كغُدرانِ اللبن
ونَطعُنُ المُلكَ بِلَينٍ كالشَّطَن
…
حتى يُمَرَّنَ على غيرِ عَنن
فقال علي وذكر تركهم العسكر والكينونة على عدة ما مُنُّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى:
إني عجزتُ عجزةً لا أعتذر
…
سوف أكيسُ بعدها وأستمر
أرفَعُ من ذَيليَ ما كنتُ أجُر
…
وأجمَعُ الأمرَ الشّتيتَ المنتشر
إن لم يُشاغبني العَجولُ المُنتَصِر
…
أو يترُكوني والسلاحُ يُبْتَدَر
"واجتمع إلى علي بعدما دخل طلحة والزبير في عدة من الصحابة فقالوا يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود وإن هؤلاء القوم اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم، فقال لهم: يا أخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم، هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأيًا ترونه إن شاء الله، إن هذا الأمر أمر جاهلية وإن لهؤلاء القوم مادة وذلك إن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبدًا إن اليأس من هذا الأمر إن حرك على أمور فرقة ترى ما ترون وفرقة ترى ما لا ترون وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ
الحقوق فاهدؤوا عني وانظروا ماذا يأتيكم ثم عودوا، واشتد على قريش وحال بينهم وبين الخروج على حالها وإنما
هيجه على ذلك هرب بني أمية، وتفرق القوم وبعضهم يقول: والله لئن ازداد الأمر لا قدرنا على انتصار من هؤلاء الأشرار لتركوا هذا إلى ما قال عليّ أمثل، وبعضهم يقول: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، ووالله أن عليًّا لمستغن برأيه وأمره عنا" (1) ".
ولأجل ذلك منعه ابن عمه عبد الله بن عباس عن أخذ البيعة، كما منعه ابنه الحسن من قبل عن بقائه في المدينة والسبئيون يفعلون ما يفعلون ويعملون ما يعملون:
فقال ابن عباس: "أطعني وادخل دارك، والحق بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإن العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لأن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنك الناس دم عثمان غدًا، فأبى عليّ"(2) ".
وأما منع الحسن إياه عن بقائه في المدينة يوم استولت السبئية فذكرها المؤرخون " (3) " أيضًا.
وبدأ السبئيون يتقوون ويجمعون حولهم الموالي والأعراب إلى أن فحل أمرهم، فأراد علي رضي الله عنه أن يضعف قوتهم ويكسر شوكتهم بالحيلولة بين السبئية والعبيد والأعراب والتفريق بينهم، فنادى في الناس:
"برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه، فتذامرت السبائية والأعراب وقالوا: لنا غدًا مثلها"(4) ".
وفي اليوم الثالث من بيعته خرج عليّ على الناس فقال:
(1) - الطبري: ج5 ص158
(2)
- الطبري: ج5 ص160، ابن الأثير: ج3 ص101، ابن خلدون: ج2 ص151.
(3)
- الطبري: ج5 ص
(4)
- الطبري: ج5 ص158. ابن الأثير: ج3 ص100
"يا أيها الناس أخرجوا عنكم الأعراب، وقال: يا معشر الأعراب الحقوا بمياهكم، فأبت السبئية وأتاهم الأعراب"(1) ".
ولما رأى الناس وفي مقدمتهم رؤوس الصحابة وأكابرهم أن السبئية يزدادون يومًا فيومًا في غلوائهم وطغيانهم، وأيديهم متلطخة بدم الإمام المظلوم، وهم زيادة على ذلك يريدون أن يلفّوا حولهم أوباشًا من الناس والفسقة والفجرة، كما أنهم بدءوا يبثون العقائد الأجنبية بينهم، طالبوا عليًّا رضي الله عنه أن يقتص منهم لعثمان بأن يحكّم فيهم بالسيف، ولكن أمير المؤمن عليًّا هاب من نفوذهم، وخاف من سلطتهم، فماطل الصحابة وطلب منهم المهلة لازدياد نفوذ السبئية وقوتهم، فلقد ذكر
المؤرخون ألفاظًا عديدة منه رضي الله عنه تبريرًا لقصوره عن أخذ الثأر وإقامة الحد، فقد ذكر الحافظ ابن كثير في تاريخه:
"ولما استقر أمر بيعة علي دخل عليه طلحة والزبير ورؤوس الصحابة رضي الله عنهم وطلبوا منه إقامة الحد والأخذ بدم عثمان، فاعتذر إليهم بأن هؤلاء لهم مدد وأعوان وأنه لا يمكنه ذلك يومه هذا، فطلب منه الزبير أن يواليه على إمرة الكوفة ليأتي له بالجنود، وطلب منه طلحة أن يواليه إمرة البصرة ليأتي له منه بالجنود ليقضي على شوكة هؤلاء الخوارج وجهلة الأعراب الذين كانوا معهم في قتل عثمان رضي الله عنه فقال لهما: مهلاً عليَّ حتى أنظر في هذا الأمر"(2) ".
وعبارة الطبري:
يا عليّ إنا قد شرطنا إقامة الحدود وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في دم هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم، فقال لهم: يا إخوتاه إني لست أجهل ما
(1) - الطبري: ج5 ص159. ابن الأثير: ص101، ابن خلدون: ج2 ص151.
(2)
- البداية والنهاية لابن كثير: ج7 ص227 - 228.
تعلمون ولكني كيف يملكوننا ولا نملكهم. هاهم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثابت إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعًا لقدرة على شيء مما تريدون" (1) ".
وأما ابن الأثير فنقل عنه أنه قال:
كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم " (2) ".
وأما ابن خلدون فذكر أنه قال في جوابهم:
لا قدرة لي على شيء مما تريدون حتى يهدأ الناس وننظر الأمور فتؤخذ الحقوق" (3) ".
فافترقوا عنه وأكثر بعضهم المقالة في قتلة عثمان " (4) ".
(1) - الطبري: ج5 ص158 -
(2)
- ابن الأثير: ج3 ص100
(3)
- ولا أدري أي شيء جعل أمير المؤمنين عليًّا رضي الله عنه أن يستعجل في إقامة الحد على ابن أمير المؤمنين الفاروق، على عبيد الله الذي قتل الهرمزان مع أنه مضى على تلك الحادثة أكثر من عشر سنوات، وأن القضية كانت قضية مختلف فيها من عدة وجوه كما مرّ، مع تأجيله وتأخيره في أخذ القصاص عن عثمان أمير المؤمنين وإمام المسلمين وخليفة رسول الله وصهره وخال السبطين وعديله هو نفسه؟
وأين هرمزان من عثمان وأين عبيد الله بن عمر من عبد الله بن سبأ والسبئية؟
ثانيًا: ولا ندري ما الذي جعل الإمام عليًّا رضي الله عنه وهو في ذلك الضيق من الأمر أن يستعجل عزل عمال عثمان وأن يستبدل بهم عماله وأبناء عمه وأقاربه؟
ثالثًا: كما أننا لا نعلم لأي شيء استعجل عزل معاوية أمير الشام وقد عيّنه على ذلك المنصب خليفة رسول الله الصديق، ثم أقرّه على ذلك شديد في أمر الله الفاروق، ثم الخليفة الراشد الثالث عثمان. وفوق كل ذلك لم يرفع عنه شكوى واحدة مع كثرة الشكاوى على العمال والحكام والولاة، وهذا مع نصيحة ابن عمه وأقرب المقربين إليه عبد الله بن عباس وداهية العرب المغيرة بن شعبة إياه بالإعراض عن عزله وإثباته على عمله كما يرويه ابن عباس رضي الله عنه نفسه:
يا أمير المؤمنين أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك قال جاءني بعد مقتل عثمان بيومين فقال لي أخلني ففعلت فقال إن النصح رخيص وأنت بقية الناس وإني لك ناصح وإني أشير عليك برد عمال عثمان عامك هذا فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم فإذا بايعوا لك واطمأن الأمر لك عزلت من أحببت وأقررت من أحببت، فقلتُ: والله لا أدهن في ديني ولا أعطي الدنيَّ في أمري قال: فإن كنتَ قد أبيت عليَّ فانزع من شئت واترك معاوية، فإن لمعاوية جُرأة وهو في أهل الشام يسمع منه ولك حجة في إثباته، كان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام كلها، فقلتُ لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبدًا فخرج من عندي على ما أشار به ثم عاد فقال لي: إني أشرت عليك بما أشرت به فأبيت = =
= = عليَّ ثم نظرت في الأمر فإذا أنت مصيب لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة ولا يكون في أمرك دُلسة، قال فقال ابن عباس: فقلت لعلي: أما أول ما أشار به عيك فقد نصحك وأما الآخر فغشك وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية فإن بايع لك فعليّ أن أقلعه من منزله. قال علي: لا والله لا أعطيه إلا السيف قال ثم تمثل بهذا البيت:
ما ميتةٌ إن مُتُّها غيرَ عاجِزٍ
…
بعارٍ إذا ما غالت النفس غَولُها
فقلت: يا أمير المؤمنين أنت رجل شجاع لست بأرَبٍ بالحرب" (الطبري).
لا ندري هذا كله، ولا نستطيع أن نقول شيئًا اللهم إلا أنه لم يكن معصومًا، فلكل اجتهاد، وقد يخطئ وقد يصيب-
(4)
- ابن خلدون: ج2 ص151.
وهذا الذي جعل الزبير وطلحة يقنطان من اقتصاص الإمام المظلوم عثمان رضي الله عنه ويخرجان من المدينة، وهناك التقيا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ومن طرف آخر بدأت الرسائل تتبادل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما لأن عليًّا عزل معاوية رضي الله عنهما عن الشام وأمّر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال ابن عباس:
"ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وهو عامل الشام ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان"(1) ".
فاعتذر إليه وأعفاه منها. وبينا هم في ذلك بدأت السبئية يشتغلون ويثيرون الفتن والقلاقل ويسعون فسادًا، ويثيرون الأحقاد والضغائن، وينفخون في الرماد، ويحاولون إسعار الحرب بين المسلمين، ويحرضون شيعة عليّ ضد كل من يطالب بثأر عثمان وقصاصه، وخاصة معاوية رضي الله عنه الذي بدأ يمتنع من الخضوع لخلافة عليّ رضي الله عنه والتسليم بإمارته بدعوى أن بيعة علي لم تنعقد، لأنه لم يحصل الشورى ولم يبايعه أهل الحل والعقل، ولم ينتخبه إلا رجال معدودون من المهاجرين والأنصار ومن أهل المدينة. وفوق ذلك كله قتلة عثمان والسبئية التجئوا في معسكره واكتنفوا بكنفه.
ولقد أشرنا إلى تلك الأمور كلها في الباب الأول بثبت من عبارات التاريخ والمؤرخين. فبينا هم كذلك في الجواب وجواب الجواب إذ جاءه
(1) - الطبري: ج5 ص160
رسول معاوية رضي الله عنه فقال: آمن أنا؟ قال علي رضي الله عنه:
"نعم إن الرسول لا يقتل، فقال: إني تركت قومًا لا يرضون إلا بالقود، ثم بّلغ الرسالة، فاستأذن بالخروج، فقال له علي: اخرج، قال: وإني آمن؟. قال: وأنت آمن"(1) ".
فاشتغل السبئية لزيادة التوتر والحدة وإخراج الحرب من الكلام إلى السيوف، وإليك النص ما ذكره المؤرخون:
"وصاحت السبئية: هذا الكلب رسول الكلاب، اقتلوه، فنادى: يا لمضر، يا لقيس الخيل والنبل، إني أحلف بالله جل اسمه ليردنها عليكم أربعة آلاف خصيّ فانظروا كم الفحولة والركاب وتعاووا عليه ومنعته مضر وجعلوا يقولون له: اسكت، فيقول: لا والله لا يفلح هؤلاء أبدًا فلقد أتاهم ما يوعدون، فيقولون له: اسكت، فيقول: لقد حل بهم ما يحذرون انتهت والله أعمالهم وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا حتى عرف الذل فيهم"(2) ".
وهذه العبارة وهذه الألفاظ الصادرة عن السبئية تدل وتنبئ صريحًا عما كانوا يسعون لأجله، فبدءوا ينشرون الأراجيف ويشيعون الأكاذيب حتى يستل سيوف المسلمين ما بينهم ويقع الاصطدام ويحصل الحرب ويشتغلون بها ويضرب بعضهم رقاب بعض، وينسى هؤلاء ويعرض عنهم وعن فعلتهم، ويكثر الشقاق والاختلاف، ويزداد الابتعاد ويمتد بينهم الجدال والقتال. هذا كل ما كانوا يقصدونه، وهذا كل ما يرجونه.
ولما سمعوا باجتماع طلحة والزبير رضي الله عنهما مع أم
(1) - انظر الكامل لابن الأثير: ج3 ص104
(2)
- ابن الأثير: ج3 ص104، الطبري: ج5 ص163
المؤمنين عائشة رضي الله عنها في مكة بدءوا يحرضون شيعة عليّ رضي الله عنه وعليًّا نفسه على محاربة أهل الشام، قبل أن يعظم الأمر ويستفحل الخطر، فأمر علي رضي الله عنه الناس بالمسير إلى أهل الشام، فتثاقل أهل المدينة، كما أن ابنه الحسن سبط رسول الله صلى الله عليه وسلم منعه عن ذلك قائلاً:
"يا أبتِ دع هذا فإن فيه سفك دماء المسلمين ووقوع الاختلاف بينهم فلم يقبل منه ذلك بل صمم على القتال ورتّب الجيش، فدفع اللواء إلى محمد بن الحنفية"(1) "
كما منعه عن ذلك زياد بن حنظلة التميمي:
وكان منقطعًا إلى علي، فجلس إليه ساعة ثم قال له علي: يا زياد تيسّر، فقال لأي شيء؟. فقال: لغزو الشام، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومن لم يصانع في أمور كثيرة
…
يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
"فخرج زياد والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟. فقال: السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل"(2) ".
ولم يخرج إلى الشام حتى جاءه خبر خروج أم المؤمنين وطلحة والزبير إلى البصرة يطالبون بدم عثمان، فبادر إليهم بناس من المدينة ليمنع أولئك من دخولها:
"فتثاقل عنه أكثر أهل المدينة، واستجاب له بعضهم، قال الشعبي: ما نهض معه في هذا الأمر غير ستة نفر من البدريين، ليس لهم سابع. وقال غيره أربعة. وذكر ابن جرير وغيره قال: كان ممن استجاب له من كبار الصحابة أبو الهيثم بن التيهان، وأبو قتادة الأنصاري، وزياد
(1) - البداية والنهاية: ج5 ص163، ابن الأثير: ج3 ص104.
(2)
- الطبري: ج5 ص163، ابن الأثير: ج3 ص104
بن حنظلة، وخزيمة بن ثابت. قالوا: ليس بذي الشهادتين، ذاك مات في زمن عثمان رضي الله عنه وسار علي من المدينة نحو البصرة على تعبئته المتقدم ذكرها، غير أنه استخلف على المدينة تمام بن عباس وعلى مكة قثم بن عباس وذلك في آخر شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين، وخرج علي من المدينة في نحو من تسعمائة مقاتل، وقد لقي عبد الله بن سلام رضي الله عنه عليًّا وهو بالزبدة، فأخذ بعنان فرسه وقال: يا أمير المؤمنين! لا تخرج منها، فوالله لئن خرجت منها لا يعود إليها سلطان المسلمين أبدًا، فسبَّه بعض الناس، فقال علي: دعوه فنعم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وجاء الحسن بن علي إلى أبيه في الطريق فقال: لقد نهيتك فعصيتني تقتل غدًا بمضيعة لا ناصر لك، فقال له علي: إنك لا تزال تحن على حنين الجارية، ما الذي نهيتني عنه فعصيتك؟ فقال: ألم آمرك قبل مقتل عثمان أن تخرج منها لئلا يقتل وأنت بها، فيقول قائل أو يتحدث متحدث؟ ألم آمرك أن لا تبايع الناس بعد قتل عثمان حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟ وأمرتك حين خرجت هذه المرأة وهذان الرجلان أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فعصيتني في ذلك كله؟ فقال له علي: أما قولك أن أخرج قبل مقتل عثمان فلقد أحيط بنا كما أحيط به، وأما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فكرهت أن يضيع هذا الأمر، وأما أن أجلس وقد ذهب هؤلاء إلى ما ذهبوا إليه. فتريد مني أن أكون كالضبع التي يحاط بها، ويقال ليست هاهنا، حتى يشق عرقوبها فتخرج، فإذا لم أنظر فيما يلزمني في هذا الأمر ويعنيني، فمن ينظر فيه؟. فكف عني يا بني، ولما انتهى إليه خبر ما صنع القوم بالبصرة من الأمر الذي قدمنا كتب إلى أهل الكوفة مع محمد بن أبي بكر، ومحمد بن جعفر، إني قد اخترتكم على أهل الأمصار، فرغبت إليكم وفرغت لما
حدث، فكونوا لدين الله أعوانًا وأنصارًا، وانهضوا إلينا فالإصلاح نريد لتعود هذه الأمة إخوانا، فمضيا، وأرسل إلى المدينة فأخذ ما أراد من سلاح ودواب" (1) ".
فاجتمع الناس حول الفريقين من المدينة ومكة والكوفة والبصرة، كما اعتزل أكثر أصحاب النبي الموجودون، الأحياء منهم آنذاك عن الطرفين، فنزلت أم المؤمنين مع من كان معها بالبصرة ونزل علي رضي الله عنهما بذي قار، ثم دعا علي رضي الله عنه القعقاع بن عمرو وبعثه رسولاً إلى طلحة والزبير بالبصرة
يدعوهما إلى الألفة والجماعة ويعظم عليهما الفرقة والاختلاف فذهب القعقاع إلى البصرة فبدأ بعائشة أم المؤمنين. فقال:
"أي أماه! ما أقدمك هذا البلد؟ فقالت: أي بنيَّ! الإصلاح بين الناس، فسألها أن تبعث إلى طلحة والزبير ليحضروا عندها، فحضروا فقالا القعقاع: إني سألت أم المؤمنين ما أقدمها؟ فقالت إنما جئت للإصلاح بين الناس، فقالا: ونحن كذلك قال: فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح؟ وعلى أي شيء يكون؟ فوالله لئن عرفناه لنصطلحن، ولئن أنكرناه لا نصطلحن، قالا: قتلة عثمان، فإن هذا إن ترك كان تركًا للقرآن، فقال: قتلتما قتلته من أهل البصرة، وأنتما قبل قتلهم أقرب منكم إلى الاستقامة منكم اليوم، قتلتم ستمائة رجل، فغضب لهم ستة آلاف فاعتزلوكم، وخرجوا من بين أظهركم، وطلبتم حرقوص بن زهير فمنعه ستة آلاف، فإن تركتموهم وقعتم فيما تقولون، وإن قاتلتموهم فأديلوا عليكم كان الذي حذرتم وفرقتم من هذا الأمر أعظم مما أراكم تدفعون وتجمعون منه - يعني أن الذي تريدونه من قتل قتلة عثمان
(1) - ابن كثير ج7 ص333 - 334، ابن الأثير ج2 ص113 - 114، الطبري ج5 ص169، ابن خلدون ج2 ص157
مصلحة، ولكنه يترتب عليه مفسدة هي أربى منها - وكما أنكم عجزتم عن الأخذ بثأر عثمان من حرقوص بن زهير، لقيام ستة آلاف في منعه ممن يريد قتله، فعلي أعذر في تركه الآن قتل قتلة عثمان، وإنما أخّر قتل قتلة عثمان إلى أن يتمكن منهم، فإن الكلمة في جميع الأمصار مختلفة، ثم أعلمهم أن خلقًا من ربيعة ومضر قد اجتمعوا لحربهم بسبب هذا الأمر الذي وقع. فقالت له عائشة أم المؤمنين: فماذا تقول أنت؟. قال: أقول إن هذا الأمر الذي وقع دواؤه التسكين، فإذا سكن اختلجوا، فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة، وإدراك الثأر، وإن أبيتم إلا مكابرة هذا الأمر واثتنافه كانت علامة شر وذهاب هذا الملك، فآثروا العافية ترزقوها، وكونوا مفاتيح خير كما كنتم أولاً، ولا تعرضونا للبلاء فتتعرضوا له، فيصرعنا الله وإياكم، وأيم الله إني لأقول قولي هذا وأدعوكم إليه، وإني لخائف أن لا يتم حتى يأخذ الله حاجته من هذه الأمة التي قل متاعها، ونزل بها ما نزل، فإن هذا الأمر الذي قد حدث أمر عظيم، وليس كقتل الرجل الرجل، ولا النفر الرجل، ولا القبيلة القبيلة. فقالوا: قد أصبت وأحسنت فارجع، فإن قدم علي وهو على مثل رأيك صلح الأمر، قال: فرجع إلى علي فأخبره فأعجبه ذلك، وأشرف القوم على الصلح، كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه، وأرسلت عائشة إلى علي تعلمه أنها إنما جاءت للصلح، ففرح هؤلاء وهؤلاء، وقام علي في الناس خطيبًا فذكر الجاهلية وشقاءها وأعمالها، وذكر الإسلام وسعادة أهله بالألفة والجماعة، وأن الله جمعهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم على الخليفة أبي بكر الصديق، ثم بعده على عمر بن الخطاب، ثم على عثمان ثم حدث هذا الحدث الذي جرى على الأمة، أقوام طلبوا الدنيا وحسدوا من أنعم الله عليه بها، وعلى الفضيلة التي منّ الله بها، وأرادوا ردّ الإسلام على
أدبارها، والله بالغ أمره" (1) ".
وكان مع أم المؤمنين ثلاثون ألف، كما كان مع عليّ رضي الله عنهما عشرون ألف " (2) ".
هذا والسبئية وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ وقتلة عثمان مترقبون كل صغيرة وكبيرة بكل دقة وما يجري بين الفريقين من السعي إلى الصلح والإصلاح والوفاق والاتحاد، وينظرون كيف تفشل خطتهم ومؤامرتهم للفتنة والفساد وإقامة الحروب بين المسلمين إلى أن وصل الأمر حدًّا لم يكن في تصورهم أن يصل إليه، وخاصة عندما قام أمير المؤمنين علي رضي الله عنه خطيبًا في معسكره وقال:
"ألا إني مرتحل غدًا فارتحلوا، ولا يرتحلن أحد معي أعان على قتل عثمان بشيء من أمر الناس"(3) ".
فما أن سمعت السبئية بهذا القول إلا وعرفوا مصيرهم. وهنا نرجع إلى ما سطر في التاريخ، والألفاظ لابن كثير: "فلما قال هذا اجتمع من رؤوسهم - أي قتلة عثمان - جماعة كالأشتر النخعي، وشريح بن أوفى، وعبد الله بن سبأ المعروف بابن السوداء، وسالم بن ثعلبة، وغلاب بن الهيثم، وغيرهم في ألفين وخمسمائة، وليس فيهم صحابي ولله الحمد، فقالوا: ما هذا الرأي وعلي والله أعلم بكتاب الله ممن يطلب قتلة عثمان، وأقرب العمل بذلك، وقد قال ما سمعتم، غدًا يجمع عليكم الناس، وإنما يريد القوم كلهم أنتم، فكيف بكم وعددكم قليل في كثرتهم؟ فقال الأشتر: قد عرفنا رأي طلحة والزبير فينا، وأما رأي علي فلم نعرفه إلى اليوم، فإن كان قد اصطلح معهم فإنما اصطلحوا على
(1) - ابن كثير: ج7 ص237 - 238. الطبري: ج5 ص191 - 192، ابن خلدون: ج2 ص162.
(2)
- الطبري: ج5 ص202 -
(3)
- البداية والنهاية: ج7 ص238، الطبري: ج5 ص194، ابن الأثير: ج3 ص120
دمائنا، فإن كان الأمر هكذا أحلقنا عليًّا بعثمان، فرضي القوم منا بالسكوت، فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت، لو قتلناه قتلنا، فإنا يا معشر قتلة عثمان في ألفين وخمسمائة، وطلحة والزبير وأصحابهما في خمسة آلاف، لا طاقة لكم بهم، وهم إنما يريدونكم، فقال غلاب بن الهيثم: دعوهم وارجعوا بنا حتى نتعلق ببعض البلاد فنمتنع بها، فقال ابن السوداء: بئس ما قلت، إذًا والله يتخطفكم الناس، ثم قال ابن السوداء قبحه الله: يا قوم إن عيركم في خلطة لناس فإذا اتقى الناس فانشبوا الحرب والقتال بين الناس ولا تدعوهم يجتمعون فمن أنتم معه لا يجد بدًّا من أن يمتنع، ويشغل الله طلحة والزبير ومن معهما عما يحبون، ويأتيهم ما يكرهون، فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه، وأصبح علي مرتحلاً ومر بعبد القيس فسار ومن معه حتى نزلوا بالزاوية، وسار منها يريد البصرة، وسار طلحة والزبير ومن معهما للقائه، فاجتمعوا عند قصر عبيد الله بن زياد، ونزل الناس كل في ناحية. وقد سبق علي جيشه وهم يتلاحقون به، فمكثوا ثلاثة أيام والرسل بينهم، فكان ذلك للنصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين، فأشار بعض الناس على طلحة والزبير بانتهاز الفرصة، من قتلة عثمان، فقالا: إن عليًّا أشار بتسكين هذا الأمر، وقد بعثنا إليه بالمصالحة على ذلك، وقام علي في الناس خطيبًا، فقام إليه الأعور بن
نيار المنقري، فسأله عن إقدامه على أهل البصرة، فقال: الإصلاح وإطفاء الثائرة ليجتمع الناس على الخير، ويلتئم شمل هذه الأمة، قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم ما تركونا، قال فإن لم يتركونا؟. قال: دفعناهم عن أنفسنا، قال فهل لهم في هذا الأمر مثل الذي لنا، قال: نعم! وقام إليه أبو سلام الدالاني فقال: هل لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟ قال:
نعم! قال: فهل لك من حجة فيما طلبوا من هذا الدم، إن كانوا أرادوا الله في ذلك؟ قال: نعم! قال: فهل لك من حجة في تأخيرك ذلك؟ قال: نعم! قال فما حالنا وحالهم إن ابتلينا غدًا؟ قال: إني لأرجو أن لا يقتل منا ومنهم أحد نقي قلبه لله أدخله الجنة" (1) "
فهكذا جرت الأمور، وهكذا تقدم كل من الطرفين إلى الإصلاح وتخطى إلى الصلح بخطوات سريعة، وكذلك بدأ عبد الله بن سبأ وأعوانه يخططون خطوط المؤامرة ويحكمون نسيجها وإن المؤمنين المخلصين من شيعة عثمان ومن شيعة علي كانوا في الخفاء عما يجري وراء الأستار، وكان المتآمرون في يقظة تامة عما يجري أمامهم مكشوفًا ظاهرًا، فنزل الفريقان وتراسلوا ما بينهم، فبعث عليّ إلى طلحة والزبير يقول:
"إن كنتم على ما فارقتم عليه القعقاع بن عمرو فكفوا حتى ننزل فننظر في هذا الأمر، فأرسلا إليه في جواب رسالته: إنا على ما فارقنا القعقاع بن عمرو من الصلح بين الناس، فاطمأنت النفوس وسكنت. واجتمع كل فريق بأصحاب من الجيش"(2) "
فلم يجدوا أمرًا هو أمثل من الصلح، ووضع الحرب حين رأوا الأمر أخذ في الانقشاع " (3) ". وبات الناس على الصلح كما قال الطبري:
"فباتوا على الصلح وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها للعافية من الذي أشرفوا عليه والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما ركبوا، وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط قد أشرفوا على الهلكة وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها"(4) ".
(1) - ابن كثير: ج7 ص238، الطبري: ج5 ص195، ابن الأثير: ج3 ص130، ابن خلدون: ج3 ص160 - 161.
(2)
- ابن كثير: ج7 ص241.
(3)
- الطبري: ج5 ص203
(4)
الطبري: ج5 ص202، الكامل: ج3 ص123 -
وقال ابن كثير:
وبات الناس بخير ليلة وبات قتلة عثمان بشر ليلة " (1) "
فكانت الليلة هذه حاسمة لم ينم فيها عيون اليهودية البغضاء وعيون أبنائها الحاقدين على الإسلام وعلى الملة الإسلامية، والمخدوعين بهم، لم تنم ولا للحظة، وإليك ألفاظ التاريخ:
"وبات الناس بخير ليلة، وبات قتلة عثمان بشر ليلة، وباتوا يتشاورون وأجمعوا على أن يثيروا الحرب من الغلس، فنهضوا من قبل طلوع الفجر وهم قريب من ألفي رجل فانصرف كل فريق إلى قراباتهم فهجموا عليهم بالسيوف، فثارت كل طائفة إلى قومهم يمنعوهم، وقام الناس من منامهم إلى السلاح، فقالوا طرقتنا أهل الكوفة ليلاً، وبيّتونا وغدروا بنا، وظنوا أن هذا عن ملأ من أصحاب عليّ فبلغ الأمر عليًّا فقال: ما للناس؟ فقالوا، بيتنا أهل البصرة، فثار كل فريق إلى سلاحه ولبسوا للأمة وركبوا الخيول، ولا يشعر أحد منهم بما وقع الأمر عليه في نفس الأمر، وكان أمر الله قدرًا مقدورًا وقامت الحرب على ساق وقدم، وتبارز الفرسان، وجالت الشجعان، فنشبت الحرب، وتواقف الفريقان وقد اجتمع مع علي عشرون ألفًا، والتف على عائشة ومن معها نحو من ثلاثين ألفًا، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والسبئية أصحاب ابن السوداء قبحها الله لا يفترون عن القتل، ومنادي علي ينادي: ألا كفوا ألا كفوا، فلا يسمع أحد، وجاء كعب بن سوار قاضي البصرة فقال: يا أم المؤمنين أدركي الناس لعل الله يصلح بك بين الناس، فجلست في هودجها فوق بعيرها وستروا الهودج بالدروع، وجاءت فوقفت بحيث تنظر إلى الناس عند حركتهم، فتصاولوا وتجاولوا. وقد كان من سنتهم في هذا اليوم أنه لا
(1) - البداية والنهاية: ج7 ص239، ابن خلدون: ج2 ص162.
يـ[جهز] على جريح، ولا يتبع مدبر، وقد قتل مع هذا خلق كثير جدًّا" (1) ".
وقد زاد الطبري وابن الأثير في روايتهما:
"وقد وضع السبئية رجلاً قريبًا من عليّ يخبرهم بما يريد، فقال علي: ما هذا؟. قال ذلك الرجل: ما فجئنا إلا وقوم منهم بيّتونا، فرددناهم فركبونا وثار الناس"(2) "
فهكذا وقعت تلك الكارثة التي ذهب ضحيتها آلاف من الناس حتى جعل علي رضي الله عنه يقول لابنه الحسن:
"يا بنيّ ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عامًا، فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا. قال سعيد بن أبي عجرة عن قتادة عن الحسن عن قيس بن عبادة قال: قال علي يوم الجمل: يا حسن ليت أباك مات منذ عشرين سنة، فقال له: يا أبت قد كنت أنهاك عن هذا، قال: يا بنيّ إني لم أر أن الأمر يبلغ هذا"(3) "
وانتهى الحرب بسقوط الجمل الذي كان عليه هودج أم المؤمنين بعدما قتل ممن أخذ خطامه سبعون رجلاً. ونسرد آخر ما في هذا من (الكامل لابن الأثير):
"لما سقط الجمل أقبل محمد بن أبي بكر إليه ومعه عمار فاحتملا الهودج فنحياه فأدخل محمد يده فيه فقالت: من هذا؟. فقال: أخوك البر. قالت: عقق، قال: يا أخية
هل أصابك شيء؟ قالت: ما أنت وذاك. قال: فمن إذا الضلال. قالت: بل الهداة، وقال لها عمار: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمه؟. قالت: لست لك بأم. قال: بلى وإن كرهت. قالت: فخرتم أن ظفرتم وأتيتم مثل الذي نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا دأبه فأبرزوا هودجها فوضعوها ليس قربها أحد،
(1) - البداية والنهاية: ج7 ص239 - 240، الطبري: ج5 ص202 - 203، الكامل: ج3 ص123 - 124
(2)
- ابن الأثير: ج3 ص124، الطبري: ج5 ص203.
(3)
- البداية والنهاية: ج3 ص240.
وأتاها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟. قالت: بخير. قال: يغفر الله لك. قالت: ولك، وجاء أعين بن ضبيعة بن أعين المجاشعي حتى اطلع في الهودج فقالت: إليك لعنك الله. فقال: والله ما أرى إلا حميراء. فقالت له: هتك الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي عريانًا في خربة من خرابات الأزد، ثم أتى وجوه الناس عائشة وفيهم القعقاع بن عمرو فسلم عليها فقالت: إني رأيت بالأمس رجلين اجتلدا وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك؟ قال: نعم ذاك الذي قال: أعقُ أمٍ نعلم، وكذب، إنك لأبر أم نعلما ولكن لم تطاعي. قالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة
…
فأقام علي بظاهر البصرة ثلاثًا وأذن للناس في دفن موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم وطاف علي في القتلى فلما أتى علي كعب بن سور قال: أزعمتم أنه خرج معهم السفهاء وهذا الخبر قد ترون، وأتى على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم - يعني أنهم كانوا يطيفون به - واجتمعوا على الرصافة لصلاتهم، ومرّ على طلحة بن عبيد الله وهو صريع فقال: لهفي عليك يا أبا محمد! إنا لله وإنا إليه راجعون، والله لقد كنت أكره أن أرى قريشًا صرعى، أنت والله كما قال الشاعر:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
…
إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
وجعل كلما مرّ برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا الغوغاء وهذا العابد المجتهد فيهم، وصلى عليٌّ على القتلى من أهل البصرة والكوفة، وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء، وأمر فدفنت الأطراف في قبر عظيم، وجمع ما كان في العسكر شيء وبعث به إلى مسجد البصرة" (1) ".
(1) - ابن الأثير: ج3 ص130 - 131
"ثم جهز علي عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع وأخرج معها كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد فبلغها، فلما كان اليوم الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها، وحضر الناس فخرجت على الناس وودّعوها وودّعتهم، وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة فلا يعتدين أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك، إنه والله ما كان بيني وبين عليّ في القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها، وإنه عندي على معتبتي من الأخيار. وقال عليّ: يا أيها الناس صدقت والله وبرّت، ما كان بيني وبينها إلا ذلك، وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه
وسلم في الدنيا والآخرة. وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة 36 وشيعها عليّ أميالاً وسرح بنيه معها يومًا" (1) "
هذا آخر ما أردنا ذكره من مؤامرات السبئية ومن مخططاتها ولأجل ذلك دخل اليهودي الملعون في الإسلام وتستر بالكفر وتظاهر بالحب لعليّ وآل بيته، وفعل هو وجماعته السبئيون هذه الشناعات المنكرة التي جرّت إلى أن تتمنى أم المؤمنين حبيبة رسول الله عائشة وأمير المؤمنين ربيب رسول الله عليّ أن كانا أمواتًا قبل وقوع هذه الحوادث.
وقبل أن نأتي إلى خاتمة هذا الكلام في الحرب نريد أن نذكر أن عليًّا رضي الله عنه لم يكن يعد محاربيه كفارًا كما نقلنا الكلام عن جميع المؤرخين آنفًا، ولقد أقرّ بذلك الشيعة أنفسهم حيث أوردوا نفس الرواية التي أوردها أهل السنة في كتبهم:
"عن جعفر عن أبيه أن عليًّا عليه السلام كان يقول لأهل حربه: إنا لم نقاتلهم على التكفير لهم ولم يقاتلونا على التكفير لنا، ولكنا رأينا أنّا على حق ورأوا أنهم على حق"(2) ".
(1) - الطبري: ج5 ص225، تحت تجهيز علي عائشة من البصرة.
(2)
- قرب الإسناد للحميري الشيعي: ص45 ط. إيران
وروى الحيري الشيعي رواية أخرى عن جعفر عن أبيه محمد الباقر:
"إن عليًا عليه السلام لم يكن ينسب أحدًا من أهل حربه إلى الشرك ولا إلى النفاق ولكن يقول: هم إخواننا بغوا علينا"[قرب الإسناد للحميري الشيعي: ص45 ط. إيران].
وهذه نفس الرواية التي رواها شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن عساكر وغيرهم عن جعفر بن محمد عن أبيه الباقر قال:
"سمع عليّ يوم الجمل ويوم صفين رجلاً يغلو في القول فقال: لا تقولوا إلا خيرًا، إنما هم قوم زعموا أنا بغينا عليهم وزعمنا أنهم بغوا علينا فقاتلناهم"(1) ".
وأخيرًا: فلما انتهى عليّ رضي الله عنه من حرب الجمل لم تمتنع السبئية عن إظهار خبثهم وسريرتهم وما يكنّونه في صدورهم، فلقد نقل الإمام ابن كثير بعد ذكر مجموع من قتل يوم الجمل:
"وكان مجموع من قتل يوم الجمل من الفريقين عشرة آلاف، خمسة من هؤلاء وخمسة من هؤلاء، رحمهم الله ورضي عن الصحابة منهم، وقد سأل بعض أصحاب
عليّ عليًّا أن يقسم فيهم أموال أصحاب طلحة والزبير، فأبى عليهم، فطعن فيه السبئية وقالوا: كيف يحل لنا دماؤهم ولا تحل لنا أموالهم؟. فبلغ ذلك عليًّا فقال: أيكم يحب أن تصير أم المؤمنين في سهمه؟ فسكت القوم، ولهذا لما دخل البصرة فض في أصحابه أموال بيت المال، فنال كل رجل منهم خمسمائة، وقال: لكم مثلها من الشام، فتكلم فيه السبئية أيضًا ونالوا منه وراء وراء" (2) "
وأما حرب صفين فلم يكن سعي السبئية فيها أقل من حرب
(1) - انظر منهاج السنة لابن تيمية: ج3 ص61، المنتقى: ص135، تهذيب ابن عساكر: ج1 ص73، ومثله في السنن الكبرى: ج8 ص173 -
(2)
- البداية والنهاية لابن كثير: ج7 ص244، الطبري: ج5 ص223.
الجمل لإثارة الفتن والقلاقل والاضطرابات، ولا زالوا على دأبهم هذا طيلة أيام عليّ رضي الله عنه يؤذونه بآرائهم الشاذة وأفكارهم الغريبة وعقائدهم الأجنبية، وبتجميعهم المجرمين وتحزبهم وتكتلهم وتجمعهم وإيقاع الفرقة بين المسلمين حتى لم يمتنعوا من إيقاعها بين علي وأصحابه، وإبعاد المخلصين عنه، لأنهم لم يكن قصدهم من إظهار الولاء لعليّ والبراءة من أصحاب رسول الله حب عليّ وأولاده، بل جعلوا هذا التظاهر بالحب والولاء سترًا على مقاصدهم الخبيثة ومطامعهم الحقيقية للنيل في الإسلام والمسلمين حتى حالوا بين علي رضي الله عنه وبين أخلص المخلصين له كرئيس عساكره وكبير مستشاريه وابن عمه عبد الله بن عباس لاتهامهم إياه بغصب الأموال وأخذها بغير حق" (1) ".
وكذلك زياد أمير فارس وغيرهم الكثيرين الكثيرين.
فهذه كانت أحوال السبئية في أيام علي رضي الله عنه وهذه مساعيهم غير المحمودة. وقبل ذلك ذكرنا سعيهم بالفتنة والفساد أيام عثمان رضي الله عنه مزحزحة أركان الإسلام والدولة الإسلامية ببعض الإيجاز والاختصار من كتب التاريخ اعتمادًا على أصح الروايات وموقفنا من الشيعة أنفسهم أيضًا.
ونريد أن نلفت الأنظار أن شيعة عليّ رضي الله عنه العامة منهم كانوا على جانب عن هؤلاء كما يلاحظ من خلال الروايات التي سردناها لذكر هذه الوقائع، وعلى ذلك كانوا دائمًا يسعون إلى الصلح واجتناب القتال والجدال، قدر الاستطاعة وحسب المقدور، ولو أن قليلاً منهم تأثروا بأفكار هؤلاء المخبثين، وانخدعوا بأباطيلهم وأكاذيبهم
(1) - انظر لذلك كتب التاريخ ابن خلدون: ج2 ص183 - 184، وغيره