الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحيلة أنجع، فأظهر قوماًَ منهم الإسلام واستمالوا أهل التشيع بإظهار محبة أهل البيت واستبشاع ظلم علي، ثم سلكوا بهم مسالك شتى حتى أخرجوهم عن طريق الهدى" (1) ".
ونرجع الآن إلى تفرقهم واختلافهم بعد ذكرنا إياهم وخذلانهم مناصرة زعمائهم ومن كانوا يدعون حبهم وموالاتهم، فبعد قتل الحسين رضي الله عنه افترقت الشيعة ثلاث فرق كما يذكر النوبختي:
الكيسانية
فلما قتل الحسين حارت فرقة من أصحابه وقالت: قد اختلف علينا فعل الحسن وفعل الحسين لأنه إن كان الذي فعل الحسن حقًّا واجبًا صوابًا من موادعته معاوية وتسليمه له عند عجزه عن القيام بمحاربته مع كثرة أنصار الحسن وقوتهم فما فعله الحسين من محاربته يزيد بن معاوية مع قلة أنصار الحسين وضعفهم. وكثرة أصحاب يزيد لعنة الله عليه حتى قتل وقتل أصحابه جميعًا باطل غير واجب لأن الحسين كان أعذر في القعود عن محاربة يزيد وطلب الصلح والموادعة من الحسن في القعود عن محاربة معاوية. وإن كان ما فعله الحسين حقًّا واجبًا صوابًا من
مجاهدته يزيد بن معاوية حتى قتل وقتل ولده وأصحابه فقعود الحسن وتركه مجاهدة معاوية وقتاله ومعه الكثير باطل فشكوا لذلك في إمامتهما ورجعوا فدخلوا في مقالة العوام وبقي سائر أصحاب الحسين على القول الأول بإمامته حتى مضى.
ثم افترقوا بعده ثلاث فرق: (ففرقة) قالت بإمامة محمد بن الحنفية وزعمت أنه لم يبق بعد الحسن والحسين أحد أقرب إلى أمير المؤمنين عليه السلام من محمد بن الحنفية فهو أوى الناس بالإمامة كما
(1) - الخطط للمقريزي - نقلاً عن فجر الإسلام ص77
كان الحسين أولى بها بعد الحسن من ولد الحسن فمحمد هو الإمام بعد الحسين.
" (وفرقة) قالت إن محمد بن الحنفية رحمه الله تعالى هو الإمام المهدي وهو وصي علي بن أبي طالب عليه السلام ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولا يشهر سيفه إلا بإذنه وإنما خرج الحسن بن علي إلى معاوية محاربًا له بإذن محمد ووادعه وصالحه بإذنه وإن الحسين إنما خرج لقتال يزيد بإذنه ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلا وإن من خالف محمد بن الحنفية كافر مشرك وأن محمدًا استعمل المختار بن أبي عبيد على العراقين بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا وسماه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمون (المختارية) ويدعون: الكيسانية"(1) "
ولقد ذكرنا قبل ذلك أن الكيسانية وجدت بعد قتل علي رضي الله عنه ولكن غلب هذا الاسم على المختارية، ومن الكيسانية تفرعت فروع كثيرة، وتفرقت فرق متعددة مثل الكرابية والحربية والرزارمية والبيانية والرواندية وأبو المسلمية والهاشمية والحارثية وغيرها الكثيرة الكثيرة " (2) ".
ويجمع هذه الفرق كلها القول بإمامة محمد بن الحنفية والاعتقاد بالعقائد التي زرع بذورها السبئية وعبد الله بن سبأ، الغيبة والرجعة والتناسخ وغيرها، وفي ذلك قال شاعرهم:
ألا إن الأئمة من قريش
…
ولاة الحق أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه
…
هم الأسباط ليس بهم خفاء
(1) - فرق الشيعة للنوبختي ص47 - 48.
(2)
-انظر لمعرفة ذلك فرق الشيعة للنوبختي ص48 وما بعد ومقالات الإسلاميين ص89 والفرق بين الفرق ص38 وما بعد، والحور العين ص157 وما بعد، والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص، والتبصير للإسفرائيني، مقدمة ابن خلدون ص199 وما بعد ط. مصر
فسبط سبط إيمان وبر
…
وسبط غيبته كربلاء
يقود الخيل يقدمها اللواء
…
وسبط لا يذق الموت حتى
تغيب لا يرى فيهم زمانًا
…
برضوى عنده عسل وماء" (1) "
وقد أجاب على هذه الأبيات البغدادي في كتابه (الفرق بين الفرق)" (2) ".
وقال أحد الكيسانين أيضًا:
ألا حي المقيم بشعب رضوى
…
وأهد له بمنزله السلاما
أضر بمعشر والوك منا
…
وسموك الخليفة والإماما
وعادوا فيك أهل الأرض طرا
…
مقامك عنهم سبعين عاما
لقد أمسى بجانب شعب رضوى
…
تراجعه الملائكة الكلاما
وما ذاق ابن خولة طعم موت
…
لا وارث له أرض عظاما
وإن له به لمقيل صدق
…
وأندية تحدثه كراما" (3) "
وأجابه البغدادي أيضًا بقوله:
لقد أفنيت عمرك بانتظار
…
لمن وارى التراب له عظاما
فليس بشعب رضوى من إمام
…
تراجعه الملائكة الكلاما
وأشربة يعل بها الطعاما
…
ولا من عنده عسل وماء
وقد ذاق ابن خولة طعم موت
…
كما قد ذاق والده الحماما
ولو خلد امرؤ لعلو مجد
…
لعاض المصطفى أبدًا وداما" (4) "
والجدير بالذكر أن من الكيسانية انتقلت الإمامة إلى بني العباس لأن بعض فرقها اعتقدت انتقال الإمامة من أبي هاشم بن محمد بن الحنفية إلى محمد بن علي بن العباس، ومنه إلى ابنه إبراهيم، ومن
(1) - الفرق بين الفرق ص41
(2)
- انظر ص42
(3)
- فرق الشيعة ص51
(4)
- الفرق بين الفرق ص43
إبراهيم إلى أبي العباس، ومن أبي العباس إلى أبي جعفر المنصور المؤسس للدولة العباسية" (1) "
ومن بين هذه الفرق كلها اشتهرت فرقة المختار بن أبي عبيد الثقفي لما كان له من صولة وجولة باسم القصاص بدم الحسين رضي الله عنه، وقد ذكر المختار هذا، الكشي في (رجاله) عن محمد بن مسعود قال: حدثني ابن أبي علي الخزاعي قال: [حدثني] خالد بن يزيد العمري عن الحسن بن زيد عن عمر بن علي: أن المختار أرسل إلى علي بن الحسين رضي الله عنه بعشرين ألف دينار فقبلها وبنى بها دار عقيل بن أبي طالب ودارهم التي هدمت. قال: ثم إنه بعث إليه بأربعين ألف دينار بعدما أظهر الكلام الذي أظهره فردها ولم يقبلها، والمختار هو الذي دعا الناس إلى محمد بن علي بن أبي طالب ابن الحنفية وسمو الكيسانية، وهم المختارية، وكان لقبه كيسان ولقب بكيسان لصاحب شرطته المكنى أبا عمرة وكان اسمه كيسان. وقيل إنه سمي كيسان بكيسان مولى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين ودله على قتلته، وكان صاحب سره والغالب على أمره، وكان لا يبلغه عن رجل من أعداء الحسين رضي الله عنه أنه في دار أو موضع إلا قصده وهدم الدار بأسرها وقتل كل من فيها من ذي روح، وكل دار بالكوفة خراب فهي مما هدمها، وأهل الكوفة يضربون به المثل فإذا افتقر إنسان قالوا "دخل أبو عمرة بيته" حتى قال فيه الشاعر:
إبليس بما فيه خير من أبي عمرة
…
يغويك ويطغيك ولا يعطيك كسرة" (2) "
كما ذكره النوبختي الذي نقلنا عنه آنفًا:
(1) - انظر فرق الشيعة ص69، مقدمة ابن خلدون ص199.
(2)
- رجال الكشي ص117
ولقد ذكره ولهوزن أيضًا بالتفصيل، ولعل الحديث عنه أطول حديث في كتابه نقطع منه هذا الجزء لتصوير الرجل وتحليله الذي حلل به شخصيته:
كان المختار ينعت بأنه سحار " (1) "، وأنه "الدجال"1"ويوصف عادة بـ"الكذاب". وهذا الوصف لا لأنه زعم أنه مكلف من قبل ابن الحنفية، بل لأنه تبدى على أنه نبي. حقًّا إنه لم يسم نفسه بهذا الاسم، ولكنه أتى أفعالاً من شأنها أن تعطي عنه هذه الفكرة، فكرة أنه نبي. وكان يتكلم وكأنه جالس في الحضرة الإلهية، يعلم الغيب، ويسجع سجع الكهان بطلاقة ومهارة. ويريد أن يفرض شخصيته على الناس، وأفلح في هذا أيضًا وإن كان نجاحه لدى الخاصة والعقلاء أقل منه لدى العامة والدهماء. وطالما حالفه النصر اتسعت دوائر المؤمنين به. فلما مني بالهزيمة أدبرت عنه الدنيا. وراحت الروايات تطلق سهامها على ذكراه بعد مقتله. في البدء كانت تذمه دون أن تشوه صورته. ولكنها راحت بعد ذلك في مرحلة متأخرة تنعته بنعوت أملاها الحقد. وهذه النعوت نفسها هي التي تسود الصورة التي كونتها عنه الأجيال التالية. و "دوزي" لا يستخدم غيرها لرسم الصورة التي عملها للمختار في كتابه "مقالة في تاريخ الإسلام": فيقول عنه إنه هو الذي أمر بإطلاق الحمام البيض، وأنه كان خارجيًّا ثم زبيريًّا ثم شيعيًّا، وأنه ابتدع القول بالبداء في الله كيما يبرر تقلبه هو من مذهب إلى مذهب. ولكن لا يحق للمرء أن يجعله معرضًا للسخرية من أجل أن يفهمه على حقيقته. ولحسن الحظ كان لنشر "تاريخ" الطبري الفضل في وضع حد لهذا النحو من تصوير الرجل.
(1) - الطبري ج2 ص730 س13، ص686 س7
فإن كان لابد من الإجابة عن السؤال: هل كان المختار نبيًّا صادقًا أو متنبئًا كاذبًا؟ - فلا مناص من تعديله إلى هذه الصيغة: أكان المختار مخلصًا أم غير مخلص؟ قد يأخذ عليه المرء أنه استعان بالتنبؤ للوصول إلى الحكم. ولكن هذا المأخذ عينه قد يؤخذ على محمد، وعلى المرء أن يلاحظ أن الإسلام دين سياسي وأن أي نبي مسلم لابد أن يسعى إلى الحكم. ولكن ما هو أشد من ذلك المأخذ خطرًا وأكبر وزنًا هو أنه تستر وراء شبح وناطور خيالي (هو محمد بن الحنفية) لم يعرف عن أمره شيئًا ولم يشأ أيضًا أن يعلم عن أمره شيئًا. فلم يكن ضميره نقيًّا من هذه الناحية، ولكن الظروف في ذلك الحين لم تسمح له - بوصفه مسلمًا وشيعيًّا - أن يظهر باسمه هو الخاص، بل كان عليه أن يخلق لنفسه مركز "أمين" للمهدي المستتر
…
وإن المختار اتخذ نقطة ابتدائه من بدعة غريبة غامضة اختط بها المختار وهي "السبئية". والسبئية كانت قد اتخذت اتجاهًا أنشأ يسيطر على طبقات واسعة بحيث اضطرت الشيعة بوجه عام إلى اتخاذ موقف أشد حدة بإزاء الإسلام السني وازداد إبراز الخلافات بين الشيعة والسنة. والسبئية يسمون أيضًا "الكيسانية" وكان كيسان زعيمًا للموالي، فإن كان في نفس الوقت زعيمًا للسبئية، فيستنتج من هذا أن السبئية والموالي كانوا
شيئًا واحدًا تقريبًا " (1) ". واعتمادًا على هذا الاستنتاج مضى البعض فزعم أن التشيع كمذهب ديني إيراني الأصل، لأن غالبية موالي الكوفة كانوا إيرانيين. قال دوزي" (2) ": "كانت الشيعة في حقيقتها فرقة فارسية، وفيها يظهر أجلى ما يظهر ذلك الفارق بين الجنس العربي، الذي يحب الحرية، وبين الجنس الفارسي الذي اعتاد الخضوع كالعبيد. لقد كان مبدأ انتخاب خليفة للنبي أمرًا
(1) - ص623 س14، ص651 س2
(2)
- في كتابه المذكور آنفًا، ص220 وما يليها
غير معهود ولا مفهوم، لأنهم لم يعرفوا غير مبدأ الوراثة في الحكم، لهذا اعتقدوا أنه مادام محمد لم يترك ولدًا يرثه، فإن عليًّا هو الذي كان يجب أن يخلفه وأن الخلافة يجب أن تكون وراثية في آل علي. ومن هنا فإن جميع الخلفاء - ما عدا عليًّا - كانوا في نظرهم مغتصبين للحكم لا تجب لهم طاعة. وقوي هذا الاعتقاد عندهم كراهيتهم للحكومة وللسيطرة العربية، فكانوا في الوقت نفسه يلقون بأنظارهم النهمة إلى ثروات سادتهم. وهم قد اعتادوا أيضًا أن يروا في ملوكهم أحفادًا منحدرين من أصلاب الآلهة الدنيا، فنقلوا هذا التوقير الوثني إلى علي وذريته. فالطاعة المطلقة "للإمام" الذي من نسل علي - كانت في نظرهم الواجب الأعلى، حتى إذا ما أدى المرء هذا الواجب، استطاع بعد ذلك بغير لائمة ضمير أن يفسر سائر الواجبات والتكاليف تفسيرًا رمزيًّا وأن يتجاوزها ويتعداها. لقد كان "الإمام" عندهم هو كل شيء، إنه الله قد صار بشرًا. فالخضوع الأعمى المقرون بانتهاك الحرمات - ذلك هو الأساس في مذهبهم" وعلى نحو مشابه يتحدث أ. ملر في كتابه المذكور سابقًا ج1 ص327، ويضيف إلى هذا أن الفرس كانوا - تحت تأثير الأفكار الهندية قبل الإسلام بعهد طويل - يميلون إلى القول بأن الشاهنشاه هو تجسد لروح الله التي تنتقل في أصلاب الملوك من الآباء إلى الأبناء.
أما أن آراء الشيعة كانت تلائم الإيرانيين - فهذا أمر لا سبيل إلى الشك فيه، أما كون هذه الآراء قد انبعثت من الإيرانيين، فليست تلك الملاءمة دليلاً عليه" (1) "
وأما عقائدهم الباقية فإنها لمبسوطة موجودة في كتب الفرق، ولقد ذكرنا ما فيها الكفاية وتفي بالمطلوب. ولقد طولنا الكلام في هذه الفئة من
(1) - الخوارج والشيعة ص165 إلى 169.
الشيعة وهذا الرجل لأنه هو وطائفته هم تركة السبئية الحقيقية، ومنهم أخذ بالأفكار وتمسك بالآراء من جاء من الشيعة بعدهم، وعندئذ بدأ التشيع الأصلي يذوب، والشيعة الأولى ينقرضون إلا القليل القليل. وعلى رأسهم أولاد علي وبنو هاشم، وبدأت أفكار السبئية تتسرب إليهم وتتغلب عليهم، خصوصًا شهادة حسين رضي الله عنه جعلت الموالين لعلي وأولاده، وحتى بعض الطالبيين أيضًا يحسون بالحرمان الكبير واليأس الكثير، ويجدون أنفسهم تواقة إلى الانتقام وخصوصًا قلب نظام الحكم القائم المتهم بقتل الحسين وأهله في كربلاء، وبدأ بعض الجهلة والمغفلين ينقمون كل ما يتصل بالحكام
ويبغضون كل ما يرى برأيهم وحتى العقائد والمعتقدات، فلما رأى هؤلاء أن ولاة الأمر يعظمون أبا بكر وعمر وعثمان وبقية أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه أمهات المؤمنين بدءوا يتبرؤون منهم ويتكلمون فيهم. لا لأنهم يجدون عليهم شيئًا، بل كرهًا لكل ما يسمعونه على المنابر وفي المحاريب. وعلى ذلك نقل الذهبي عن شيخ الإسلام ابن تيمية:
كان السلف متفقين على تقديم أبي بكر وعمر حتى شيعة علي رضي الله عنه. وروى ابن بطة عن شيخه المعروف بأبي العباس بن مسروق: حدثنا محمد بن حميد حدثنا جرير عن سفيان عن عبد الله بن زياد بن حدير قال: قدم أبو إسحاق السبيعي الكوفة، قال لنا شمر بن عطية: قوموا إليه، فجلسنا إليه، فتحدثوا. فقال أبو إسحاق: خرجت من الكوفة وليس أحد يشك في فضل أبي بكر وعمر وتقديمهما، وقدمت الآن وهم يقولون ويقولون، ولا والله ما أدري ما يقولون
…
وعن ضمرة عن سعيد بن حسن قال: سمعت ليث بن أبي سليم يقول: أدركت الشيعة الأولى وما يفضلون على أبي بكر وعمر أحدًا. وقال أحمد بن
حنبل حدثنا سفيان بن عيينة عن خالد بن سلمة عن مسروق قال: حب أبي بكر وعمر ومعرفة فضلهما من السنة. ومسروق من أجلّ تابعي الكوفة وكذلك قال طاووس
…
وقد روى ذلك عن ابن مسعود. وكيف لا تقدم الشيعة الأولى أبا بكر وعمر وقد تواتر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر. وقد روي هذا عنه من طرق كثيرة قيل إنها تبلغ ثمانين طريقًا. وقد روى البخاري عنه في صحيحه من حديث الهمدانيين - الذين هم أخص الناس بعلي حتى كان يقول:
ولو كنت بوابًا على باب جنة
…
لقلت لهمدان ادخلي بسلام
فقد رواه البخاري من حديث سفيان الثوري وهو همداني، عن منذر وهو همداني عن محمد بن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: يا بني أو ما تعرف؟ فقلت: لا. قال: أبو بكر. فقلت: ثم من؟ قال: عمر. وهذا يقوله لابنه بينه وبينه، ليس هو مما يجوز أن يقوله تقية. ويرويه عن أبيه خاصة. وقاله على المنبر. وعنه أنه كان يقول: لا أوتى بأحد يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري" (1) "
"وكتب محب الدين الخطيب في الهامش هذا نص تاريخي عظيم في تحديد تطور التشيع، فإن أبا إسحاق السبيعي كان شيخ الكوفة وعالمها، ولد في خلافة أمير المؤمنين عثمان قبل شهادته بثلاث سنين، وعمّر حتى توفي سنة 127، وكان طفلاً في خلافة أمير المؤمنين علي. وهو يقول عن نفسه: رفعني أبي حتى رأيت علي بن
أبي طالب يخطب أبيض الرأس واللحية. ولو عرفنا متى فارق الكوفة ثم عاد فزارها لتوصلنا إلى معرفة
(1) - المنتقى للذهبي ص360، 361 ط. القاهرة بتحقيق السيد محي الدين الخطيب.
الزمن الذي كان فيه شيعة الكوفة علويين يرون ما يراه إمامهم من تفضيل أبي بكر وعمر، ومتى أخذوا يفارقون عليًّا ويخالفونه فيما كان يؤمن به ويعلنه على منبر الكوفة من أفضلية أخويه صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وخليفتيه على أمته في أتقى وأطهر أزمانها. ومن العجيب أن الخوارج والإباضية ثبتوا على عقيدتهم الأولى في أبي بكر وعمر كما كانوا عليه مع علي إلى مدة الحكم، والشيعة نقضوا هذه العقيدة وعصوا فيها إمامهم بعد القرن الأول، أي في أواخر حياة أبي إسحاق السبيعي" (1) ".
هذا وبلغ الأمر بعد تطور الشيعة إلى حد أنهم بدءوا ينكرون المسلمات والأسس التي عليها يقوم المذهب الإسلامي الحنيف والشريعة السماوية السمحاء. فقط لأن الحكام يتمسكون بها ويعتقدونها، مثل القرآن، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وسنة رسول الله التي جعلها الله بيانًا لهذا القرآن" (2) "
ثم وبعد شهادة الحسين رضي الله عنه كثرت الخزعبلات والخرافات في الشيعة حتى إن المخلصين من الأشراف ومن الشيعة الأولى حاولوا إقامة السد في طريق هذه السخافات ومنع الناس عن اعتناقها ولكنهم فشلوا في ذلك، ثم اضطروا إلى التباعد عنها وعن التشيع بعدما قنطوا ويئسوا من رجوع القوم إلى الحق وانتهائهم عن الغي والضلالات، فهذا هو ابن الأشتر إبراهيم يذكره ولهوزن ضمن تسلط المختار على الشيعة وامتناع إبراهيم عن الانضمام إليه حيث يقول:
فكان على المختار أن يكسب رجلاً آخر في الكوفة نفسها لا يستطيع من دونه أن يلقى رؤساء الشيعة نجاحًا ضد الأشراف والوالي.
(1) - المنتقى للذهبي الهامش ص360، 361
(2)
- ولقد فصلنا القول في هذا في كتابنا (الشيعة والقرآن) و (الشيعة والسنة) من أراد معرفة ذلك فليرجع إليهما.
هذا الرجل هو إبراهيم بن الأشتر زعيم قبلة النخع من مذحج. وكان بارعًا ماكرًا مستقل الرأي، وكان كأبيه مخلصًا لعلي، وكان على اتصال بابن الحنفية. ولكنه لم يكن يؤمن بالتشيع على الصورة التي استحال إليها في ذلك العهد. لم يشأ الانضمام إلى سليمان بن صرد كما لم يرغب في أن يعرف شيئًا عن المختار. ولم تفلح المحاولات في اكتسابه. وأخيرًا وصله كتاب يطلب فيه ابن الحنفية نفسه منه أن يعترف بالمختار بن أبي عبيد. ولكنه تضايق من كون ابن الحنفية يلقب نفسه في هذا الكتاب بلقب "المهدي" وهو أمر لم يعهد منه، فحاك في صدره الشك في صحته. ولكن الذين قدموا بالكتاب، والمختار نفسه أكدوا صحة الكتاب، إلا اثنين لفتا نظره بتحفظهم، وهما: عامر بن شراحيل الشعبي الراوي الفقيه المحدث الكبير. وأبوه شراحيل. فانتحى بعامر ناحية وسأله هل يشك في أمانة هؤلاء الشهود على صحة الكتاب. فقال عامر الشعبي: معاذ الله فإنهم "سادة القراء ومشيخة المصر وفرسان العرب ولا أرى مثل هؤلاء يقولون إلا حقًّا! "(1) ".
فسأله ابن الأشتر أن يكتب له أسماءهم وكتب محضرًا صوريًّا بما وقع. فلما اطمأن قلبه بهذا امتثل لما ورد في الكتاب ووضع نفسه في خدمة المختار بن أبي عبيد" (2) ".
ولما تقلب المختار وبدأ يظهر ما كان يكنه من الأفكار السبئية من عداوة السلف الصالح والطعن في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أخذوا يعتبون على المختار أنه تأمر عليهم بغير رضى منهم ولا بإذن من ابن الحنفية وأنه أظهر هو وسبئيته (ببدع ابتدعها في الإسلام) البراءة من أسلافهم الصالحين"(3) ".
"واحتل هؤلاء الأشراف المراكز الرئيسية في الكوفة وحصروا
(1) - الطبري 2/ 612
(2)
- الخوارج والشيعة ص147، 148
(3)
- الخوارج والشيعة ص155
المختار في القصر والمسجد وقطعوا الاتصال بينه وبين الخارج. وحتى يفسد عليهم تدبيرهم اقترح عليهم أن يبعثوا من قبلهم وفدًا إلى ابن الحنفية ويرسل هو من قبله وفدًا إليه لسؤاله في تأييد ابن الحنفية له، ولكن لم ينجح في هذا التدبير" (1) ".
ويقول: "كان المختار في الذروة، وكان أيضًا أمام الهاوية. فالشيعة العرب من الجيل القديم كانوا لا يثقون به حتى اعتزلوه جانبًا"(2) ".
وهذا القدر يكفي لبيان الصراع الذي حدث بين الشيعة في التطور والتغير من المنهج الأول القديم، وبدأ الشيعة أكثرهم يعتقدون بمثل هذه الخرافات والسخافات عن الحمامات البيض بأنها ملائكة، وعن الكرسي المقدس والنبوءات وأخبار الغيب.
ثم حصلت التفرقة في الشيعة مرة ثانية بعد قتل المختار:
ففرقة قالت بإمامة علي بن الحسين، وكان يكنى بأبي محمد ويكنى بأبي بكر وهي كنيته الغالبة عليه فلم تزل مقيمة على إمامته حتى توفي بالمدينة في المحرم في أول سنة أربع وتسعين وهو ابن خمس وخمسين سنة، وكان مولده في سنة ثمان وثلاثين وأمه أم ولد يقال لها سلافة وكانت تسمى قبل أن تسبى جهانشاه وهي ابنة يزدجرد بن شهريار بن كسرى ابرويز بن هرمز وكان يزدجرد آخر ملوك فارس.
(وفرقة) قالت انقطعت الإمامة بعد الحسين إنما كانوا ثلاثة أئمة مسمين بأسمائهم استخلفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوصى إليهم وجعلهم حججًا على الناس وقومًا بعده واحدًا بعد واحد فلم يثبتوا إمامة لأحد بعدهم.
(1) - الخوارج والشيعة ص156.
(2)
- الخوارج والشيعة ص159