الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
"لما واعد الحسن معاوية وأخذ المال الذي بعث به إليه وصالح معاوية الحسن طعنوا فيه وخالفوه ورجعوا عن إمامته، فدخلوا في مقولة جمهور الناس"(1) "
وأما السبئية فلقد انتشرت انتشارًا فظيعًا في هذا العصر، كما أقر بذلك مؤرخ شيعي بقوله:
"فقد ظهرت هذه البدعة الضالة وسرت سريان الوباء إلى نفر من أهل العراق - ثم ذكر أسباب انتشارها فيهم نقلاً عن ابن أبي الحديد لأنهم - كانوا من ركاكة البصائر وضعفها على حال مشهور فلا عجب من مثلهم أن تستخفهم المعجزات - التي رأوها من علي رضي الله عنه، فيعتقدوا في صاحبها أن الجوهر الإلهي قد حل فيه. وقد قيل إن جماعة من هؤلاء من نسل النصارى واليهود، وقد كانوا سمعوا من آبائهم وسلفهم القول بالحلول في أنبيائهم، فاعتقدوا فيه رضي الله عنه مثل ذلك.
ويجوز أن يكون أصل هذه المقالة من قوم ملحدين أرادوا إدخال الإلحاد في دين الإسلام" (2) ".
الشيعة أيام الحسين
رضي الله عنه
ولما توفي الحسن رضي الله عنه واجتمع الشيعة حول أخيه الحسين رضي الله عنه حدثت حادثة كبيرة، ووقعت كارثة عظيمة، ألا وهي خروج الحسين على يزيد بن معاوية بعد وفاة أبيه وقتله في كربلاء. ونقف برهة يسيرة قبل أن نذكر تفرق الشيعة بعد هذه الكارثة لسرد وبيان تخاذل الشيعة وغدرهم عن الحسين، فلقد ذكر اليعقوبي المؤرخ الشيعي
(1) - فرق الشيعة للنوبختي ص46.
(2)
- الشيعة في التاريخ لمحمد حسين الزين ص105
الغالي أن يزيد بن معاوية لما تولى الخلافة بعد أبيه كتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة بن أبي سفيان أن يأخذ البيعة من الحسين بن علي رضي الله عنهما ولما طلب الوليد منه ذلك:
فخرج الحسين إلى مكة، فأقام بها أيامًا، وكتب أهل العراق إليه، ووجهوا بالرسل على أثر الرسل، فكان آخر كتاب ورد عليه منهم كتاب هانئ بن أبي هانئ، وسعيد بن عبد الله الخثعمي:
"بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من شيعته المؤمنين والمسلمين، أما بعد فحيّ هلا، فإن الناس ينتظرونك، لا إمام لهم غيرك، فالعجل ثم العجل والسلام"(1) ".
والمؤرخ الشيعي الآخر المسعودي يكتب:
"ولما مات معاوية راسل أهل الكوفة "(2)" إلى الحسين بن علي: "أن قد حبسنا أنفسنا على بيعتك، ونحن نموت دونك، ولسنا نحضر جمعة ولا جماعة" (3) ".
(1) - تاريخ اليعقوبي ج2 ص241، 242، ومثلُ ذلك في الإرشاد للمفيد ص203 وكشف الغمة للأربلي ج2 ص32
(2)
- نعم الكوفة التي كانت مركزًا للشيعة ومرتعًا خصبًا حتى قالوا فيها:
وأما الكوفة وسوادها فهناك شيعة علي بن أبي طالب. وأما البصرة فعثمانية تدين بالكف.
وأما الجزيرة فحرورية مارقة. وأما أهل الشام فليس يعرفون إلا آل أبي سفيان وطاعة بني مروان .... وأما أهل مكة والمدينة فقد غلب عليهما أبو بكر وعمر (عيون الأخبار للرضا - نقلاً عن الشيعة في التاريخ).
ورووا عن جعفر أنه قال:
إن الله عرض ولايتنا على أهل الأمصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة (بصائر الدرجات ج2 الباب العاشر).
وأيضًا ما رواه الكليني في كافيه عن عبد الله الوليد الكندي:
قال: دخلنا على أبي عبد الله عليه السلام في زمن مروان، فقال: من أنتم؟ فقلنا: من أهل الكوفة، فقال: ما بلدة من البلدان أكثر محبًا لنا من أهل الكوفة، ولا سيما هذه العصابة، إن الله جل ذكره هداكم لأمر جهله الناس وأحببتمونا وأبغضنا الناس واتبعتمونا وخالفنا الناس، وصدقتمونا وكذبنا الناس، فأحياكم الله محيانا وأماتكم مماتنا (الروضة من الكافي)]
(3)
- مروج الذهب ج3 ص54
وكتبًا أخرى: فقد اخضرت الجنات، وأينعت الثمار، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة" (1) ".
ولما تواترت الرسائل وكثرت، واشتد طلب الكوفيين:
وجه إليهم مسلم بن عقيل بن أبي طالب وكتب إليهم، وأعلمهم أنه إثر كتابه، فلما قدم مسلم الكوفة اجتمعوا إليه، فبايعوه وعاهدوه وعاقدوه، وأعطوه المواثيق على النصرة والمشايعة والوفاء " (2) ".
وزاد المفيد: "فبايعوه وهم يبكون، وتجاوز عددهم ثمانية عشر ألفًا"(3) "
وبعد أيام وصل إليه من مسلم بن عقيل:
"أن لك مائة أله، ولا تتأخر"(4) ".
فتحرك نحو الكوفة، فأتاه ابن العباس من بني هاشم وقائد جيوش علي رضي الله عنه ومستشاره الخاص والرجل المجرب المحنك الذي كان يعرف شيعة زمانه حق المعرفة فقال له - كما نقل المسعود الشيعي -:
"يا ابن عم، قد بلغني أنك تريد العراق، وإنهم أهل غدر، وإنما يدعونك للحرب، فلا تعجل، وإن أبيت إلا محاربة هذا الجبار وكرهت المقام بمكة فاشخص إلى اليمن، فإنها في عزلة، ولك فيها أنصار وإخوان، فأقم بها وبث دعاتك: واكتب إلى أهل الكوفة وأنصارك بالعراق أن يخرجوا أميرهم، فإن قووا على ذلك ونفوه عنها، ولم يكن بها أحد يعاديك أتيتهم، وما أنا لغدرهم بآمن، وإن لم يفعلوا أقمت بمكانك إلى أن يأتي الله بأمره، فإن فيها حصونًا وشعوبًا، فقال الحسين: يا ابن عم،
(1) - إعلام الورى للطبرسي ص223، 1 الإرشاد للمفيد ص220
(2)
- تاريخ اليعقوبي ج2 ص242
(3)
- الإرشاد ص220
(4)
- الإرشاد للمفيد ص220
إني لأعلم أنك لي ناصح وعلي شفيق، ولكن مسلم بن عقيل كتب إلي باجتماع أهل المصر على بيعتي ونصرتي، وقد أجمعت على المسير إليهم، قال: إنهم من خبرت وجربت، وهم أصحاب أبيك وأخيك وقتلتك غدًا مع أميرهم - ما أصدقه وما أحنك به وأخبر بهم - إنك لو قد خرجت فبلغ ابن زياد خروجك استنفرهم إليك، وكان الذين كتبوا إليك أشد من عدوك، فإن عصيتني وأبيت إلى الخروج إلى الكوفة فلا تخرجن نساءك وولدك معك، فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه" (1) "
هذا ما قاله عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، وله من المنزلة والمقام عند علي رضي الله عنه ما لا يخفى على أحد حتى كتب مفيد الشيعة:
"كان أمير المؤمنين يتعشى ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن العباس"(2) ".
وهذا ما كان يحمل من الشيعة، وكيف لا وقد قال فيهم علي رضي الله عنه نفسه: لوددت أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلاً منهم" (3) ".
ثم أيد ابن عباس أبو بكر بن هشام في وصف الشيعة بالغدر والخيانة وعدم الخروج إليهم كما نقله الشيعي المسعودي: دخل أبو بكر بن الحارث بن هشام على الحسين فقال: يا ابن عم، إن الرحم يظائرني عليك، ولا أدري كيف أنا في النصيحة لك، فقال: يا أبا بكر ما أنت ممن يستغش ولا يتهم، فقل، فقال أبو بكر: كان أبوك أقدم سابقة، وأحسن في الإسلام أثرًا، وأشد بأسًا، والناس له أرجى، ومنه أسمع
(1) - مروج الذهب ج3 ص55
(2)
- الإرشاد للمفيد ص14
(3)
- نهج البلاغة
وعليه أجمع، فسار إلى معاوية والناس مجتمعون عليه إلا أهل الشام وهو أعز منه، فخذلوه، وتثاقلوا عنه، حرصًا على الدنيا، وضنًّا بها، فجرعوه الغيظ، وخالفوه حتى صار إلى ما صار إليه من كرامة الله ورضوانه، ثم صنعوا بأخيك بعد أبيك ما صنعوا، وقد شهدت ذلك كله ورأيته، ثم أنت تريد أن تسير إلى الذي عدوا على أبيك وأخيك تقاتل بهم أهل الشام وأهل العراق ومن هو أعد منك وأقوى، والناس منه أخوف، وله أرجى، فلو بلغهم مسيرك إليهم لاستطغوا الناس بالأموال، وهم عبيد الدنيا، فيقاتلك من وعدك أن ينصرك، ويخذلك من أنت أحب إليه ممن ينصره، فاذكر الله في نفسك، فقال الحسين: جزاك الله خيرًا يا ابن عم، فقد أجهدك رأيك، ومهما يقض الله يكن، فقال: إنا لله وعند الله نحتسب يا أبا عبد الله، ثم دخل على الحارث بن خالد بن العاص بن هشام المخزومي والي مكة وهو يقول:
كم نرى ناصحًا فيعصى
…
وظنين المغيب يلفي نصيحًا
"فقال: وما ذاك؟ فأخبره بما قال للحسين، فقال: نصحت له ورب الكعبة"(1) "
ثم وننقل القصة بكاملها من الشيعة أنفسهم كي يعرف ويدرك خيانة القوم وجبنهم. فيذكر المسعودي:
"واتصل خبر مجيء مسلم الكوفة بيزيد فكتب إلى عبيد الله بن زياد بتولية الكوفة؛ فخرج من البصرة مسرعًا حتى قدم الكوفة على الظهر، فدخلها في أهله وحشمه وعليه عمامة سوداء قد تلثم بها، وهو راكب بغلة والناس يتوقعون قدوم الحسين فجعل بن زياد يسلم على الناس فيقولون؛ وعليك السلام يا ابن رسول الله! قدمت خير مقدم،
(1) - مروج الذهب ج3 ص56.
حتى انتهى إلى القصر وفيه النعمان بن بشير، فتحصن فيه، ثم أشرف عليه، فقال: يا ابن رسول الله مالي وما لك؟ وما حملك على قصد بليد من بين البلدان؟ فقال ابن زياد: لقد طال نومك يا نعيم، وحسر اللثام عن فيه، فعرفه، ففتح
له، وتنادى الناس: ابن مرجانة، وحصبوه بالحصباء، ففاتهم ودخل القصر، ولما اتصل خبر ابن زياد بمسلم تحول إلى هانئ بن عروة المرادي، ووضع ابن زياد الرصد على مسلم حتى علم بموضعه، فوجه محمد بن الأشعث ابن قيس إلى هانئ، فجاءه فسأله عن مسلم، فأنكره فأغلظ له ابن زياد القول، فقال هانئ: إن لزياد أبيك عندي بلاء حسنًا، وأنا أحب مكافأته به، فهل لك في خير؟ قال ابن زياد: وما هو؟ قال تشخص إلى أهل الشام أنت وأهل بيتك سالمين بأموالكم، فإنه قد جاء حق من هو أحق من حقك وحق صاحبك، فقال ابن زياد: أدنوه مني، فأدنوه منه، فضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشق حاجبه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه، وضرب هانئ بيده إلى قائم سيف شرطي من تلك الشرط، فجاذبه الرجل، ومنعه السيف، وصاح أصحاب هانئ بالباب: قتل صاحبنا، فخافهم ابن زياد، وأمر بحبسه في بيت إلى جانب مجلسه، وأخرج إليهم ابن زياد شريحًا القاضي، فشهد عندهم أنه حي لم يقتل، فانصرفوا، ولما بلغ مسلمًا ما فعل ابن زياد بهانئ، أمر مناديًا فنادى "يا منصور" وكانت شعارهم، فتنادى أهل الكوفة بها، فاجتمع إليه في وقت واحد ثمانية عشر ألف رجل، فسار إلى ابن زياد، فتحصن منه، فحصروه في القصر فلم يمس مسلم ومعه غير مائة رجل، فلما نظر إلى الناس يتفرقون عنه سار نحو أبواب كندة، فما بلغ الباب إلا ومعه منهم ثلاثة، ثم خرج من الباب فإذا ليس معه منهم أحد، فبقي
حائرًا لا يدري أين يذهب، ولا يجد أحدًا يدله على الطريق فنزل عن فرسه ومشى متلددًا في أزقة الكوفة لا يدري أين يتوجه، حتى انتهى إلى باب مولاة للأشعث بن قيس، فاستسقاها ماء فسقته، ثم سألته عن حاله، فأعلمها بقضيته، فرقت له وآوته، وجاء ابنها فعلم بموضعه، فلما أصبح غدا إلى محمد بن الأشعث فأعلمه، فمضى ابن الأشعث إلى ابن زياد فأعلمه" (1) "
فقتله وقتل هانئ بن عروة وهو يصيح:
"يا آل مراد، وهو شيخها وزعيمها، وهو يومئذ يركب في أربعة آلاف دارع وثمانية آلاف راجل، وإذا أجابتها أحلافها من كندة وغيرها كان في ثلاثين ألف دارع، فلم يجد زعيمهم منهم أحدًا فشلاً وخذلانًا"(2) ".
فلما بلغ الحسين القادسية لقيه الحر بن يزيد التميمي فقال له: أين تريد يا ابن رسول الله؟ قال: أريد هذا المصر، فعرفه بقتل مسلم وما كان من خبره، ثم قال: ارجع، فإني لم أدع خلفي خيرًا أرجوه لك، فهم بالرجوع فقال له أخوة مسلم: والله لا نرجع حتى نصيب بثأرنا أو نقتل كلنا، فقال الحسين: لا خير في الحياة بعدكم" (3) ".
ثم قال للناس:
"أما بعد فإنه قد أتانا خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن يقطر وقد خذلنا شيعتنا فمن أحب منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ليس معه ذمام فتفرق الناس عنه وأخذوا يمينًا وشمالاً حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة ونفر يسير ممن انضموا إليه وإنما فعل ذلك لأنه رضي الله عنه علم أن الأعراب الذين اتبعوه إنما
(1) - مروج الذهب للمسعودي ج3 ص57، 58
(2)
- مروج الذهب ص59
(3)
- مروج الذهب ص60، 61
اتبعوه وهم يظنون أنه يأتي بلدًا قد استقامت له طاعة أهله، فكره أن يسيروا معه إلا وهم يعلمون على ما يقدمون، فلما كان السحر أمر أصحابه فاستقوا ماء وأكثروا ثم ساروا حتى مر ببطن العقبة فنزل عليها فلقيه شيخ من بني عكرمة يقال له عمرو بن لوذان فسأله أين يريد فقال له الحسين رضي الله عنه الكوفة فقال الشيخ أنشدك لما انصرفت فوالله ما تقدم إلا على الأسنة وحد السيوف وإن هؤلاء الذين بعثوا إليك لو كانوا كفوك مؤنة القتال ووطئوا لك الأشياء فقدمت عليهم كان ذلك رأيًا فأما على هذه الحالة التي تذكر فإني لا أرى لك أن تفعل فقال له يا عبد اله ليس يخفى علي الرأي وإن الله تعالى لا يغلب على أمره" (1) ".
ثم ارتحل إلى الكوفة فلقي في الطريق واحدًا من أهل الكوفة وأخبره عن غدرهم وتخاذلهم وجبنهم قائلاً:
"ليس لك بالكوفة ناصر ولا شيعة بل نتخوف أن يكونوا عليك"(2) ".
ولما عارضه ورفاقه جيش الكوفة ورأى منهم عكس ما كتبوا وقالت رسلهم، وتنكروا ما كتبوا إليه قال لبعض أصحابه:
اخرج الخرجين اللذين فيهما كتبهم إلي، فأخرج خرجين مملوئين كتبًا فنشرت بين يديه" (3) ".
فأنكروا عليه هذه الكتب والرسائل، ثم سار حتى وصل كربلاء:
"فلما كثرت العساكر على الحسين أيقن أنه لا محيص له فال: اللهم احكم بيننا وبين قوم دعونا لينصرونا ثم هم يقتلوننا، فلم يزل يقاتل حتى قتل رضوان الله عليه
…
وكان جميع من حضر مقتل الحسين
(1) - الإرشاد للمفيد ص223، إعلام الورى للطبرسي ص231، 232، جلاء العيون للمجلسي ج2 ص540
(2)
- الإرشاد ص222
(3)
- إعلام الورى ص232، الإرشاد ص225، جلاء العيون ص541 - 542
من العساكر وحاربه وتولى قتله من أهل الكوفة خاصة، فلم يحضرهم شامي" (1) ".
ثم يذكر اليعقوبي الشيعي المتحمس - كما يسميه ولهوزن - "إن أهل الكوفة لما قتلوه، انتهبوا مضاربه وابتزوا حرمه، وحملوهن إلى الكوفة، فلما دخلن إليها
خرجت نساء الكوفة يصرخن ويبكين، فقال علي بن الحسين: هؤلاء يبكين علينا فمن قتلنا؟." (2) ".
وهنا نريد أن نثبت ما ذكره ولهوزن المستشرق الألماني المتعاطف على الشيعة:
ولم يكن جمهور أهل الكوفة حريصًا على مساعدة الحكومة، ولكنه مع ذلك لم ينضم إلى صف أعدائها. وحتى أولئك الذين بعثوا بالكتب إلى الحسين وأقسموا على الإخلاص له تخلوا عنه في المحنة ولم يقدموا له يد المعونة، وقصارى ما فعلوه أنهم راقبوا المعركة من بعيد ومصرعه الأخير ثم بكوا. وقليلون جدًّا هم أولئك الذين تجاسروا على اللحاق به ومشاركته في مصيره، مثل أبي ثمامة الصائدي خازن بيت المال، وابن عوسجة. وعدا هذا فإن بعض الذين شاركوه في مصرعه إما أنهم كانوا من أولئك الذين التقطهم عرضًا في الطريق أو من أولئك الذين دفعتهم الحمية الإنسانية في اللحظة الأخيرة إلى الانضمام إليه وإن لم يكن لهم من قبل شأن به أو لم يكونوا من شيعته. وقد أبرز المؤرخون هذا التعارض بين المكلفين، الذين لم يعملوا شيئًا، وبين غير المكلفين الذين أخجلوا الأولين، أبرزوه وعرضوه أحيانًا عرضًا دراميًّا. ومما هو جدير بالاعتبار أن الأنصار أيضًا، لا القرشيون وحدهم، قد تخلوا عن الحسين، فلم يخرج من المدينة واحد منهم معه ولم يكن منهم بين شيعة الكوفة إلا أفراد قلائل
(1) - مروج الذهب ج3 ص61
(2)
- تاريخ اليعقوبي ج1 ص235
جدًّا. والثورة التي قامت في المدينة سنة 63هـ لم تكن من أجل آل علي، كما أن علي بن الحسين نفض يديه منها.
"وفي مقابل الجبناء وغير المخلصين كان أعداء الشيعة الصرحاء وهم أتباع حكومة بني أمية وموظفوها. ولم يكن الجدال يدور حول أمور دينية إيمانية"(1) "
وعلى ذلك قال البغدادي:
روافض الكوفة موصوفون بالغدر، والبخل، وقد سار المثل بهم فيهما، حتى قيل: أبخل من كوفي، وأغدر من كوفي، والمشهور من غدرهم ثلاثة أشياء:
"أحدهما: أنهم بعد قتل علي رضي الله عنه بايعوا ابنه الحسن، فلما توجه لقتال معاوية غدروا به في ساباط المدائن، فطعنه سنان الجعفي في جنبه فصرعه عن فرسه، وكان ذلك أحد أسباب مصالحته معاوية.
والثاني: أنهم كاتبوا الحسين بن علي رضي الله عنه، ودعوه إلى الكوفة لينصروه على يزيد بن معاوية فاغتر بهم، وخرج إليهم، فلما بلغ كربلاء غدروا به، وصاروا مع عبيد الله بن زياد يدًا واحدة عليه، حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء.
والثالث: غدرهم بزيد بن علي بن الحسين بن أبي طالب بعد أن خرجوا معه على يوسف بن عمر، ثم نكثوا بيعته وأسلموا عند اشتداد القتال حتى قتل وكان من أمره ما كان" (2) ".
فهؤلاء كانوا الشيعة، شيعة علي والحسن والحسين، وهذه هي كانت معاملتهم لأئمتهم وقادتهم.
(1) - الخوارج والشيعة ص134.
(2)
- الفرق بين الفرق ص37
ولقد فصلنا في ذلك القول لأنه بعد هذه الحادثة حصل في التشيع تطور كبير، وبدأ يتجه إلى اتجاه ديني ويصبغ بصبغة مذهبية بعد أن كان سياسيًّا بحتًا، يرى رأي علي وأولاده مقابل معاوية وبني أمية. وبذلك صرح ولهوزن بكل وضوح حيث يذكر مقتل الحسين وبعده قيام المختار باسم الثأر، فيقول:
"كان التشيع في الكوفة آنذاك قد لبس ثوبًا جديدًا. وقد عرفنا من قبل المعنى الذي كان يدل عليه في الأصل. لقد كان تعبيرًا عن الاتجاه السياسي العام لمعارضة العراق لسلطان الشام. وفي بادئ الأمر كان الأشراف صفًّا واحدًا مع سائر الناس ويتولون قيادتهم. ولكن حينما أحدث الخطر تراجعوا واستلانوا لإغراء الحكومة (حكومة الأمويين في الشام) ثم استخدموا للقضاء على الثورات الشيعية. وبهذا انفصلوا عن الشيعة، فتحدد نطاق التشيع واتخذ شيئًا فشيئًا صورة فرقة دينية في تعارض مع الأرستقراطية ونظام العشائر، وأصبح بفضل استشهاد زعمائه وأوليائه ذا طابع مثالي خيالي. وكان أنصار سليمان بن صرد يرمون إلى الثورة على أرستقراطية العشائر في الكوفة. ولكن المختار كان أول من نفذ هذا الغرض وحققه عمليًّا. وإلى هذه الحركة اجتذب الموالي أيضًا. وهؤلاء كان اجتذابهم سهلاً لأنهم كانوا ذوي نزعة واضحة إلى الحكم الديني، لا القومي الشعوبي، وإن كان العرب هم الذين كانوا يتولونه حتى ذلك الحين، كما كانوا - أعني الموالي - يكرهون المتعصبين لسيادة العرب.
فلما ارتبطت الشيعة بالعناصر المضطهدة تخلت عن تربية القومية العربية وكانت حلقة الارتباط هي الإسلام. ولكنه لم يكن ذلك الإسلام القديم، بل نوعًا جديدًا من الدين" (1) ".
(1) - الخوارج والشيعة ص167 - 168