الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأجابه فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول، فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية. فشك في أمره وإمامته.
فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر ُيقال له (محمد بن قيس) فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب، ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني فيها بخلاف جوابه الأول، فقلت له لم فعلت ذلك فقال فعلته للتقية، وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به، فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي. فقال له محمد بن قيس: فلعله حضرك من اتقاه. فقال له: ما حضر
مجلسه في واحدة من المسألتين غيري، لا، ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبكيت، ولم يحفظ ما أجاب به في العام الماضي فيجيب مثله.
فرجع عن إمامته وقال: لا يكون إماماً من يفتي بالباطل على شيئ بوجه من الوجوه، ولا في حال من الأحوال، ولا يكون إماماً من يفتي تقية بغير ما يجب عند الله، ولا من يرخي ستره ويغلق بابه، ولا يسع الإمام إلا الخروج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمال بسببه إلى قول البترية، ومال معه نفر يسير" (1).
الشيعة أيام جعفر بن الباقر
وفي أيامه كمل التطور في التشيع والتغير الجذري والتبدل التام الذي شمل عامة الشيعة، والذي كان بدؤه بعد مقتل الحسين رضي الله عنه وعلى أيدي السبئية، فإنهم استطاعوا بعد ستين سنة من قتله وبعد تسعين سنة من نشأتهم، فصل طائفة من الناس عن المسلمين في معظم
(1) فرق الشيعة للنوبختي ص80، 81.
المعتقدات وجل العقائد. الطائفة الكاملة التي تنسب إلى التشيع لعلي وأولاده رضي الله عنهم بجميع فرقها وطوائفها مع اختلاف القادة والزعماء واتجاهاتهم ومطامعهم، أغراضهم وأهدافهم، من حيث استغلوا النقمة المتوارثة والغضب الشديد المتنقل من الآباء إلى الأبناء من المحن والآلام والأوجاع نتيجة معارضة الحكام ومخالفة ولاة الأمور، والمقاتلة ضدهم والخروج عليهم والتشريد والتقتيل، زيادة على ذلك الدسائس والمؤامرات التي تدبر ويحكم نسيجها من وراء الأستار والتسميم الذهني والفكري، والاختلاط مع الشعوب الأجنبية بأفكارها وآرائها، المقهورة والمهزومة والمتغلب عليها وعلى بلادها وأمورها، والموتورة على الولاة وعساكرها الغازية المنصورة وجيوشها المظفرة المتغلبة، ثم واجتماع الفرس والموالي من البابليين والعاشوريين والكلدانيين وغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة والثقافات الراقية - حسب زعمهم - واحتياجهم إلى منظمة ثائرة على الحكم والحكام، والناقمة على كل ما صدر منهم أو يصدر من الآراء والأفكار وحتى العقائد والمعتقدات.
هذه الأشياء كلها جعلت التشيع يتقلب في قالب جديد، والشيعة تكون كتلة مختلفة عن الحكام والآخذين في زمام الأمور، إختلافا كاملا في جميع ما يذهبون إليه ويعتقدون به، وتشهد على ذلك رواية مروية عن جعفر أنه قال: إن كل حكم يخالف العامة يؤخذ به ويترك ما يوافقهم. فسأله سائل: جعلت فداك، أرأيت إن كان فقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة، ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفاً لهم، بأي الخبرين يؤخذ؟
قال: ماخالف العامة ففيه الرشاد.
فقلت: جعلت فداك، فإن وافقهما الخبران جميعاً؟
قال: ينظر إلى ما هم إليه أميل، حكامهم وقضاتهم، فيترك ويؤخذ بالآخر" (1).
فيجب أن يكون هناك خلافاً، ويجب أن تكون مخالفة ولو على حساب القرآن والسنة، ولو على حساب الدين والمذهب. ولما كانت الأفكار السبئية والعقائد المختلقة منهم تناوئ الإسلام وتعاليمه، وكانت تلك العقائد والأفكار المختلقة المخترعة صادرة من الذين ادعوا التشيع لعلي، فكان الأجدر والأليق أن تتبنى و ُيتمسك بها، لأنها تخالف معتقدات العامة وصدرت من الذين انتحلوا حب علي ومودته.
وبدأ الشيعة يتجاهرون، وبدأت الشيعة تصوغ وتصنع في ضوء العقائد السبئية المسائل والفتاوى في العبادات والمعاملات، وتشرع في العقائد والمعاملات، وتنسبها إلى أئمة أهل بيت علي رضي الله عنه، لتأسيس مذهب جديد وتكوين دين مستقل، له تشريعه وفقهه، وأصوله وأسسه، وقواعده وقوانينه، منفصلة عن الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقدمه للبشر كافة، واعتنقه أول ما
اعتنق به أصحابه الأخيار ورفاقه الكرام البررة، ونقلوه عنه وتعاليمه التي أعطاها إياهم من القرآن وإرشادات الرسول الناطق بالوحي.
وصار التشيع قائماً على أقاويل الرجال وأفعالهم سواء صدرت هذه الأقوال منهم أم لا ولكنها تكفي بأنها نسبت إليهم.
وإن عارضها أو ناقضها أي هذه الأقوال والأفعال قول وفعل ثابت عنهم قالوا: لم يكن هذا إلا تقية. وإن خالفها الكتاب المنزل من السماء قالوا: إن الكتاب حصل فيه التغيير والتبديل. وإن عارضتها السنة الثابتة قالوا: إنها لم تنقل إلا عن المرتدين - عياذاً بالله - لأن أصحاب الرسول كلهم ارتدوا بعده إلا ثلاثة (2) فالقرآن مغيّر ومبدّل،
(1) الأصول من الكافي، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث ج1 ص68.
(2)
انظر لتفصيل ذلك كتابنا (الشيعة والسنة) و (الشيعة أهل البيت) و (الشيعة والقرآن).
والحديث رواته كفرة مرتدون، فلا عبرة بهما. لأن القرآن والحديث يناصران العامة ونحن على خلاف ما يقوله العامة.
ولأجل ذلك نبه أولاد علي رضي الله عنه، الطيبون منهم، على كذب وافتراء هؤلاء المنتحلين المدعين حبهم.
كما روي عن جعفر بن الباقر - الإمام السادس المعصوم عند الشيعة - أنه قال: " لقد أمسينا وما أحد أعدى لنا ممن ينتحل مودتنا "(1).
عنه أيضا أنه قال:
" إنا أهل بيت صادقون، لا نخلوا من كذاب يكذب علينا، فيسقط صدقنا بكذبه عند الناس، كان رسول الله أصدق الله لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه، وكان أمير المؤمنين (ع) أصدق من برأ الله من بعد رسول الله، وكان الذي يكذب عليه من الكذب عبد الله بن سبأ لعنه الله، وكان أبو عبد الله الحسين بن علي (ع) قد ابتلي بالمختار، ثم ذكر أبو عبد الله الحارث الشامي والبنان فقال: كانا يكذبان على علي بن الحسين (ع)، ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعا والسري وأبا الخطاب ومعمراًُ وبشار الأشعري وحمزة اليزيدي وصائب النهدي - أي أصحابه - فقال: لعنهم الله، إنا لا نخلوا من كذاب يكذب علينا، كفانا الله مؤنة كل كذاب وأذاقهم الله حر الحديد "(2).
وعن حفيده علي الرضا - الإمام الثامن المعصوم حسب زعمهم - أنه قال: كان بنان يكذب على علي بن الحسين (ع) فأذاقه الله حر الحديد، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على إبن جعفر (ع) فأذاقه الله حر الحديد، وكان محمد بن بشر يكذب على إبن الحسن علي بن موسى
(1) رجال الكشي ص259 تحت ترجمة أبي الخطاب.
(2)
أيضا ص257، 258.
الرضى (ع) فأذاقه الله حر الحديد، وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد الله (ع) فأذاقه الله حر الحديد، والذي يكذب علي، محمد بن الفرات (1).
وعن أبي جعفر محمد الباقر أنه قال: " لعن الله بنان البيان، وإن بنان لعنه الله كان يكذب على أبي، أشهد أن أبي كان عبداً صالحاً "(2).
وبدءوا يتبرءون منهم، ويمنعون متبعيهم من الوقوع في شراكهم وحبائلهم، كما نقل الكشي عن جعفر أنه ذكر عنده جعفر بن واقد ونفر من أصحاب أبي الخطاب فقيل: أنه صار إليهم يتردد وقال فيهم:
وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، قال هو الإمام، فقال أبو عبد الله (ع): لا والله لا يأويني وإياه سقف بيت أبدا، هم شر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا، والله ما صغر عظمة الله تصغيرهم شيئاً قط، وإن عزيراً جال في صدره ما قالت اليهود، فمحى الله إسمه من النبوة. والله لو أن عيسى أقّر بما قالت فيه النصارى، لأورثه الله صمماً إلى يوم القيامة، والله لو أقررت بما يقول فيّ أهل الكوفة لأخذتني الأرض، وما أنا إلا عبد مملوك لا أقدر على ضر شيئ ولا نفع شيئ.
محمد بن مسعود قال: حدثني علي بن محمد قال: حدثني محمد بن أحمد بن يحيى عن محمد بن عيسى عن زكريا عن ابن مسكان عن قاسم الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: " قوم يزعمون أني لهم إمام، والله ما أنا لهم بإمام، مالهم لعنهم الله كلما سترت ستراً هتكوه، هتك الله سترهم، أقول كذا، يقولون إنما يعني كذا، أنا إمام من أطاعني "(3).
(1) أيضا ص256.
(2)
رجال الكشي ص255.
(3)
رجال الكشي ص254، 255.
ولكن باءت الجهود المخلصة بالفشل، وزادت الشيعة في غلوائهم وغيهم لكثرة ما وجد في ذلك الزمان من الكذابين ومن المنتحلين مودة أهل البيت، والمدعين موالاتهم ومشايعتهم من أبي الخطاب وأبي البصير المرادي وزرارة بن أعين وجابر الجعفي ومغيرة بن سعيد والهشامين وأبي الجارود وغيرهم. فكثرت الآراء وتشعبت، وزادت الفرق وتفرقت، ذهب بعضها إلى المذاهب البعيدة، وزاد حتى على السبئية مؤسسي بنيانها وواضعي نواتها، وقربت البعض منها، وأحصرت على تلقي ما لقنته السبئية وألقته إليهم، وقلل الأخذ بعض منها وأكثر البعض، ولقد أقر بذلك مؤرخ شيعي حيث قال:
" ولم يتمكن الصادق - في تلك الظروف القاسية التي ظهرت فيها الزيدية - على أن يناظرهم غالباً في شيئ من أمر الإمامة، لأنه كان يتكتم فيها، ويتقي ملوك عصره، ويحذر من وشاتهم وجواسيسهم الكثيرة، ومع تكتمه الشديد قد أحضره المنصور وقال له: قتلني الله إن لم أقتلك، أتلحد في سلطاني؟ فقال له الصادق (ع): والله ما فعلت ولا أردت، وإن كان بلغك، فمن كاذب "(1).
فمن الذين اختلفوا أول الأمر على جعفر وأخذوا عليه في حياته، من ذكرهم النوبختي:
" وأما الفرقة الأخرى من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، فنزلت إلى القول بإمامة أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام، فلم تزل ثابتة على إمامته أيام حياته غير نفر منهم يسير، فإنهم لما أشار جعفر بن محمد إلى إمامة إبنه إسماعيل، ثم مات إسماعيل في حياة أبيه،
(1) الشيعة في االتاريخ ص107، 108.
رجعوا عن إمامة جعفر، وقالوا كذبنا ولم يكن إماماً، لأن الإمام لا يكذب ولا يقول مالا يكون، وحكموا على جعفر أنه قال: إن الله عز وجل بداله في إمامة إسماعيل، فأنكروا "البداء " والمشيئة من الله، وقالوا هذا باطل لا يجوز، ومالوا إلى مقالة (البترية) ومقالة سليمان بن جرير، وهو الذي قال لأصحابه بهذا السبب أن أئمة الرافضة وضعوا لشيعتهم مقالتين لا يظهرون معهما من أئمتهم على كذب أبداُ، وهما القول بالبداء وإجازة التقية. فأما البداء فإن أئمتهم لما أحلوا أنفسهم من شيعتهم محل الأنبياء من رعيتها في العلم فيما كان ويكون، والإخبار بما يكون في غد، وقالوا لشيعتهم أنه سيكون في غد وفي غابر الأيام كذا وكذا، فإن جاء ذلك الشيئ على ما قالوه، قالوا لهم: ألم نعلمكم أن هذا يكون، فنحن نعلم من قِبَل الله عز وجل ما علمته الأنبياء، وبيننا وبين الله عز وجل مثل تلك الأسباب التي علمت بها الأنبياء عن الله ما علمت. وإن لم يكن ذلك الشيئ الذي قالوا إنه يكون على ما قالوا لشيعتهم، بدا لله في ذلك بكونه.
وأما التقية، فإنه لما كثرت على أئمتهم مسائل شيعتهم في الحلال والحرام وغير ذلك من صنوف أبواب الدين، فأجابوا فيها، وحفظ عنهم شيعتهم جواب ما سألوهم وكتبوه ودونوه، ولم يحفظ أئمتهم تلك الأجوبة لتقادم العهد، وتفاوت الأوقات، لأن مسائلهم لم ترد في يوم واحد ولا في شهر واحد، بل في سنين متباعدة، وأشهر متباينة، وأوقات متفرقة. فوقع في أيديهم في المسألة الواحدة عدة أجوبة مختلفة متضادة، وفي مسائل مختلفة أجوبة متفقة. فلما وقفوا على ذلك منهم، ردوا إليهم هذا الإختلاف والتخليط في جواباتهم، وسألوهم عنه، وأنكروا عليهم فقالوا: من أين هذا الإختلاف؟ وكيف جاز ذلك؟ قالت لهم أئمتهم: إنما أجبنا بهذا للتقية، ولنا أن نجيب بما أجبنا، وكيف شئنا، لأن ذلك إلينا، ونحن نعلم بما يصلحكم وما فيه
بقاؤكم، وكف عدوكم عنا وعنكم.
فمتى يظهر من هؤلاء على كذب؟ ومتى يعرف لهم حق من باطل؟.
فمال إلى سليمان بن جرير هذا لهذا القول، جماعة من أصحاب أبي جعفر، وتركوا القول بإمامة جعفر عليه السلام " (1).
وهنا آخران من أهل البيت إدعيا الإمامة في حياة جعفر، وهما عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي، وأمه فاطمة بنت الحسين بن علي.
وهو الذي كان يقول: ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله مرتين " (2).
والذي قال عنه الأصفهاني الشيعي:
" كان عبد الله بن الحسن بن الحسن شيخ بني هاشم والمقدم فيهم، وذا الكثير منهم فضلاً وعلماً وكرماً"(3).
والثاني إبنه محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية، هو الذي كتب فيه الأصفهاني الشيعي:
" وكان محمد بن عبد الله الحسن، من أفضل أهل بيته، وأكبر أهل زمانه في زمانه في علمه بكتاب الله، وحفظه له، وفقهه في الدين، وشجاعته، وجوده، وبأسه، وكل أمر يجمل بمثله، حتى لم يشك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك له في العامة، وبايعه رجال من بني هاشم جميعاً، من آل أبي طالب، وآل العباس، وسائر بني هاشم "(4).
وقد ذكر الكليني في (كافيه) إدعاءهما الإمامة زمن جعفر ودعوتهما إياه إليهما، حيث ذكر أن عبد الله بن الحسن دخل على جعفر بن الباقر وقال:
(1) فرق الشيعة للنوبختي ص84إلى 87.
(2)
مقاتل الطالبيين للأصفهاني ص181.
(3)
الأغاني لأبي فرج الأصفهاني ج1 ص205، مقاتل ص180.
(4)
مقاتل ص233.
" قد علمت جُعلت فداك أن السن لي عليك، وأن في قومك من هو أسن منك، ولكن الله عز وجل قد قدم لك فضلاً ليس هو لأحد من قومك، وقد جئتك معتمداً لما أعلم من برّك، واعلم - فديتك - إنك إذا أجبتني لم يتخلف عني أحد من أصحابك، ولم يختلف علي إثنان من قريش ولا غيرهم. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: إنك تجد غيري أطوع لك مني ولا حاجة لك فيّ، فوالله إنك لتعلم أني أريد البادية أو أهم بها فأثقل عنها، وأريد الحج فما أدركه إلا بعد كد وتعب ومشقة على نفسي، فاطلب غيري وسله ذلك ولا تعلمهم أنك جئتني. فقال له: إن الناس مادون أعناقهم إليك، وإن أجبتني لم يتخلف عني أحد، ولك أن لا تكلف قتالاً ولا مكروهاً. قال: وهجم علينا ناس فدخلوا وقطعوا كلامنا، فقال أبي: جعلت فداك ما تقول؟. فقال: نلتقي إن شاء الله. فقال: أليس على ما أحب؟. فقال: على ما تحب إن شاء الله من إصلاحك
…
فقال له أبوعبد الله عليه السلام: يا ابن عم، إني أعيذك بالله من التعرض لهذا الأمر الذي أمسيت فيه، وإني لخائف عليك أن يكسبك شرا. فجرى الكلام بينهما، حتى أفضى إلى ما لم يكن يريد. وكان من قوله: بأي شيئ كان الحسين أحق بها من الحسن؟ فقال أبو عبد الله عليه السلام: رحم الله الحسن، ورحم الحسين، وكيف ذكرت هذا؟ قال: لأن الحسين عليه السلام، كان ينبغي له إذا عدل أن يجعلها في الأسن من ولد الحسن
…
فقام أبي يجر ثوبه مغضباً، فلحقه أبو عبد الله عليه السلام، فقال له: أخبرك أني سمعت عمك وهو خالك يذكر أنك وبني أبيك ستقتلون، فإن أطعتني ورأيت أن تدفع بالتي هي أحسن فافعل، فوالله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الكبير المتعال على خلقه، لوددت أني فديتك بولدي وبأحبهم إلي بأحب أهل بيتي
إلي، وما يعدلك عندي شيئ، فلا ترى أني
غششتك. فخرج أبي من عنده مغضباً أسفا
…
ثم أتى محمد بن عبد الله بن حسن، فأخبر أن أباه وعمومته قتلوا - قتلهم أبو جعفر- إلا حسن بن جعفر وطباطبا وعلي بن ابراهيم وسليمان بن داوود بن حسن وعبد الله بن داود، قال: فظهر محمد بن عبد الله عند ذلك، ودعى الناس لبيعته، قال: فكنت ثالث ثلاثة بايعوه واستوثق الناس لبيعته، ولم يختلف عليه قرشي ولا أنصاري ولا عربي، قال: وشاور عيسى بن زيد وكان من ثقاته وكان على شرطه، فشاوره في البعثة إلى وجوه قومه، فقال له عيسى بن زيد: إن دعوتهم دعاء يسيراً لم يجيبوك، أو تغلظ عليهم، فخلني وإياهم، فقال له محمد: إمض إلى من أردت منهم، فقال: إبعث إلى رئيسهم وكبيرهم - يعني أبا عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام فإنك إذا أغلظت عليه علموا جميعاً أنك ستمرهم على الطريق التي أمررت عليها أبا عبد الله عليه السلام، قال: فوالله ما لبثنا أن أتى بأبي عبد الله عليه السلام حتى أوقف بين يديه، فقال له عيسى بن زيد: أسلم تسلم، فقال له عبد الله عليه السلام: أحدثت نبوة بعد محمد صلى الله عليه وآله؟ فقال له محمد: لا، ولكن بايع تأمن على نفسك ومالك وولدك ولا تكلفن حرباً، فقال له أبوعبد الله عليه السلام: ما فيّ حرب ولا قتال، ولقد تقدمت إلى أبيك وحذرته الذي حاق به، ولكن لا ينفع حذر من قدر، يابن أخي عليك بالشباب، ودع عندك الشيوخ. فقال له محمد: ما أقرب ما بيني وبينك في السن، فقال له أبوعبد الله عليه السلام: إني لم أعازّك ولم أجيئ لأتقدم عليك في الذي أنت فيه. فقال له محمد: لا والله لابد من أن تبايع. فقال له أبوعبد الله عليه السلام: ما فيّ ياابن أخي طلب ولا حرب، وإني لأريد الخروج الى البادية
فيصدني ذلك ويثقل علي حتى تكلمني في ذلك الأهل غير مرة، ولا يمنعني منه إلا
الضعف، والله والرحم أن تدبر عنّا ونشقى بك. فقال له: يا أبا عبد الله قد والله مات أبو الدوانيق - يعني أبا جعفر - فقال له أبو عبد الله عليه السلام: وما تصنع بي وقد مات؟ قال: أريد الحمال بك، قال: ما إلى ما تريد السبيل، لا والله ما مات أبو الدوانيق إلا أن يكون مات موت النوم. قال: والله لتبايعني طائعا ً أو مكرها ولا تحمد في بيعتك. فأبى عليه إباء شديداً، وأمر به إلى الحبس. فقال له عيسى بن زيد: أما إن طرحناه في السجن وقد خرب السجن وليس عليه اليوم غلق، خفنا أن يهرب منه. فضحك أبو عبد الله عليه السلام، ثم قال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، أوتراك تسجنني؟ قال: نعم والذي أكرم محمد صلى الله عليه وآله بالنبوة، لأسجننك ولأشددّن عليك. فقال عيسى بن زيد: إحبسوه في المخبأ - وذلك دار ريطة اليوم - فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أما والله إني سأقول ثم أصدق. فقال له عيسى بن زيد: لو تكلمت لكسرت فمك. فقال له أبوعبد الله عليه السلام: أما والله يا أكشف يا أزرق، لكأني بك تطلب لنفسك جحراً تدخل فيه، وما أنت في المذكورين عند اللقاء، وإني لأظنك إذا صفق خلفك، طرت مثل الهيق النافر. فنفر عليه محمد بانتهار: إحبسه وشدد عليه وأغلظ عليه. فقال له أبو عبد الله عليه السلام: أما والله لكأني بك خارجاً من سدة أشجع إلى بطن الوادي وقد حمل عليك فارس معلم في يده طرّادة نصفها أبيض ونصفها أسود، على فرس كميت أقرح، فطعنك فلم يصنع فيك شيئاً وضربت خيشوم فرسه فطرحته، وحمل عليك آخر خارج من زقاق آل أبي عمار الدئليين عليه غديرتان مضفورتان، وقد خرجتا من تحت بيضة، كثير شعر الشاربين، فهو والله صاحبه، فلا رحم الله رمته. فقال له محمد: