الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نحن في العلم والشجاعة سواء" (1).
وكما روى الحر العاملي عن علي بن موسى بن جعفر أنه قال:
الإِمام أحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد منه بدل ولا له مثل ولا نظير مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب، بل اختصاص من الفضل الوهاب" (2).
وروى ابن بابويه القمي أيضاً عن علي بن موسى بن جعفر أنه قال:
ْ
للإِمام علامات
، يكون أعلم الناس وأشجع الناس" (3).
ثامناً: إن الإِمام لا يحتلم ولا يجنب كما رووا ذلك عن علي بن موسى بن جعفر" (4).
تاسعاً: إن الإِمام يعلم بما كان وما يكون وأنه لا يخفى عليه شىء، وعنده جميع الكتب التي نزلت من عند الله عز وجل ويعرفها على اختلاف ألسنتها (5).
وأشياء كثيرة كثيرة.
ولقد ذكر ابن بابويه القمي عن علي بن موسى بن جعفر أنه قال:
للإِمام علامات: يكون أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأحلم الناس، وأشجع الناس، وأسخى الناس، وأعبد الناس، ويولد مختوناً، ويكون مطهرّاً، ويرى من خلفه كما يرى من بين
(1) أيضاً ص 275.
(2)
الفصول المهمة، باب يجب أن يكون الإِمام أعلم الناس ص 142 ط. قم. إيران.
(3)
كتاب الخصال لابن بابويه القمي ج 2 ص 528 ط. طهران.
(4)
أنظر عيون أخبار الرضا ج 1 ص 213، كتاب الخصال ج 2 ص 528.
(5)
الكافي للكليني، كتاب الحجة ج 1 ص 227، 260، الفصول المهمة للحر العاملي ص 155.
يديه، ولا يكون له ظلٌّ، وإذا وقع على الأرض من [بطن] أُمّه وقع على راحتيه رافعاً صوته بالشهادة، ولا يحتلم، وتنام عينه ولا ينام قلبه.
ويكون محدَّثاً ويستوي عليه درع رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا يرى له بول ولا غائط لأنَّ الله عز وجل قد وكّل الأرض بابتلاع ما يخرج منه.
ويكون له رائحة أطيب من رائحة المسك، ويكون أولى الناس منهم بأنفسهم وأشفق عليهم من آبائهم، واُمّهاتهم، ويكون أشدَّ الناس تواضعاً لله عز وجل، ويكون آخذ الناس بما يأمرهم به وأكفَّ الناس عما ينهي عنه، ويكون دعاؤه مستجاباً حتّى لو أنه دعا على صخرة لانشقّت نصفين، ويكون عنده سلاح رسول الله صلى الله عليه وآله وسيفه ذو الفقار، ويكون عنده صحيفة فيها أسماء شيعته إلى يوم القيامة وصحيفة فيها أسماء أعدائهم إلى يوم القيامة، ويكون عنده الجامعة وهي صحيفة طولها سبعون ذراعاً فيها جميع ما يحتاج إليه ولد آدم، ويكون عنده الجفر الأكبر والأصغر إهاب ماعز وإهاب كبش فيهما جميع العلوم حتّى أرش الخدش وحتى الجلدة ونصف الجلدة وثلث الجلدة، ويكون عنده مصحف فاطمة عليها السلام.
وفي حديث آخر إنَّ الإِمام مؤيد بروح القدس وبينه وبين الله عز وجل عمود من نور يرى فيه أعمال العباد وكلّما احتاج إليه لدلالة اطّلع عليه" (1)
وأخيراً عن جعفر أنه قال:
لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت" (2)
وقال:
(1) كتاب الخصال للقمي ص 527، 528.
(2)
الأصول من الكافي، باب أن الأرض لا تخلو من حجة ج 1 ص 179.
لو لم يبق من الأرض إلا اثنان فأحدهما الحجة" (1).
هذه هي الأسس الكبيرة التي وضعوا عليها بناء إمامة أئمتهم، ولما وجدوا أن أكثر الذين يعتقدون فيهم الإِمامة ولا تنطبق عليهم هذه الصفات ولا يصدق عليهم هذه الشروط حيث إن بعضهم ليس بأكبر ولد أبيه مثل موسى الكاظم والحسن العسكري، وبعضهم لم يغسّله إمام مثل علي بن موسى بن جعفر، فإن ابنه محمد الجواد لم يتجاوز الثامنة من عمره آنذاك.
وكذلك موسى بن جعفر فإن ابنه علي الرضا لم يغسّله لغيابه عنه عندئذ.
والجدير بالذكر أن محمد بن الرضا -الإِمام الثامن من عندهم- كان بالمدينة حين وفاته (2).
وكذلك الحسين بن علي لم يثبت أنه غسّله ابنه علي زين العابدين لملازمته الفراش ولحيلولة عساكر ابن زياد دون ذلك.
وبعضهم لا يستوي عليه درع رسول الله مثل محمد بن علي الرضا، فإنه لم يتجاوز الثامنة عند وفاة أبيه، وكذلك ابنه علي بن محمد مات عنه وهو صغير.
ومنهم مَن لم يكن عنده سلاح رسول الله، ولو كان عنده لما نازعه في الأمر أخوه زيد، وكموسى بن جعفر حيث نازعه عبد الله الأفطح وغيره.
ومنهم من لم يكن أعلم الناس، فكيف يكون الصبى أعلمهم، وقد نقل عن القوم أنفسهم بأن من يظنونه إماماً من الصبيان قد وكل أمرهم إلى الآخرين إلى أن يستأنس منهم الرشد والعلم، وكذلك فقد
(1) أيضاً.
(2)
عيون أخبار الرضا ج 2 ص 249.
شكّ كبار الشيعة وزعماؤهم حتى في علم جعفر بن الباقر، فهذا هو زرارة بن أعين كبير رواة القوم، الذي قال فيه جعفر نفسه:
رحم الله زرارة بن أعين، لولا زرارة ونظراؤه لاندرست أحاديث أبي" (1).
فهذا زرارة قال عن جعفر وأبيه:
رحم الله أبا جعفر، فإن في قلبي عليه لفتة" (2).
وقال فيه أيضاً: وصاحبكم أيضاً ليس له بصر بكلام الرجال" (3).
ومثل ذلك حكموا في علم ابنه موسى، والقائل هو أبو بصير المرادي أحد الأركان الأربعة في رواية الحديث الشيعي، وأبو بصير هذا هو الذي بشره جعفر بن محمد بالجنة (4).
فلقد ذكر الكشي في شعيب الأقرقوفي أنه ذكر أبا الحسن عنده، فقال أبو بصير: أظن صاحبنا ما تناهى حكمه بعد، وفي رواية أظن صاحبنا ما تكامل علمه" (5).
وأما الشجاعة فبعد الحسين بن علي لم يكن واحد منهم معروفاً بهذا الوصف بين الناس حسب روايات الشيعة، بل كل ما نقل عنهم يدل على عكس ذلك، فلم يخرج واحد منهم ضد الحكام ولا السلاطين، بل خلاف ذلك، كان منهم من أقر بعبوديته لهم، ومنهم متخاذل عن نصرة بني عمومته الخارجين على الأمراء والولاة، ومنهم متجنب محترز محتاط ومنهم داع إلى التزام الولاء والإِطاعة لهم كما ذكرنا كل ذلك في الباب السابق.
(1) رجال الكشي ص 124.
(2)
أيضاً ص 131، تحت ترجمة زرارة ابن أعين.
(3)
أيضاً ص 133.
(4)
انظر رجال الكشي ص 152 تحت ترجمة أبي بصير المرادي.
(5)
أيضاً ص 154.
وهذا كله حسب روايات القوم أنفسهم، وما فعله الحسن وما قالوه له وفيه فمعروف ومشهور.
ومنهم من جاء النص بأنه كان يجنب ويحتلم كعلي بن أبي طالب والحسن والحسين، ورووا النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد إلا أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين" (1).
وأما العلم بما كان وما يكون فلو كان كذلك لم يختلف أجوبتهم على السائلين لعلمهم أنهم من مخلصي شيعتهم، لأنهم عند ذاك علموا بأنهم ليسوا من المخالفين كما ذكر ذلك النوبختي:
"عمر بن رياح" زعم أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن مسألة فأجابه فيها بجواب، ثم عاد إليه في عام آخر فسأله عن تلك المسألة بعينها فأجابه فيها بخلاف الجواب الأول، فقال لأبي جعفر: هذا خلاف ما أجبتني في هذه المسألة العام الماضي، فقال له: إن جوابنا ربما خرج على وجه التقية فشكك في أمره وإمامته فلقي رجلاً من أصحاب أبي جعفر يقال له (محمد بن قيس) فقال له: إني سألت أبا جعفر عن مسألة فأجابني فيها بجواب ثم سألته عنها في عام آخر فأجابني بخلاف جوابه الأول، فقلت له: لم فعلت ذلك؟ فقال: فعلته للتقية، وقد علم الله أني ما سألته عنها إلا وأنا صحيح العزم على التدين بما يفتيني به وقبوله والعمل به فلا وجه لاتقائه إياي وهذه حالي فقال له محمد بن قيس:
فلعله حضرك من اتقاه؟ فقال: ما حضر مجلسه في واحدة من المسألتين غيري لا ولكن جوابيه جميعاً خرجا على وجه التبخيت ولم يحفظ ما أجاب به في العام الماضي فيجيب بمثله، فرجع عن إمامته وقال: لا يكون إماماً
(1) عيون أخبار الرضا ج 2 ص 60.
من يفتي بالباطل على شىء" (1).
ومثل ذلك ذكر الكليني في (الكافي) عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر قال:
سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاءه رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت:
يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة، إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم.
قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال: فأجابني بمثل جواب أبيه" (2).
وكذلك لو كانوا يعلمون الغيب لما قتل البعض منهم ومات الآخرون مسمومين حسب روايات القوم، فإنهم قالوا:
لم يكن إمام إلا مات مقتولاً أو مسموماً (3).
لأنهم عند ذلك علموا بذلك.
وأما التكلم بجميع اللغات فليس إلا من الأساطير التي اختلقها القوم للضحك على عقول الناس.
فهذه هي الأشياء التي جعلت الشيعة في موقف حرج ومأزق لا يرجى منه الخروج.
(1) فرق الشيعة للنوبختي ص 80 - 81.
(2)
الأصول من الكافي، كتاب العلم باب اختلاف الحديث ج 1 ص 65.
(3)
الأصول من الكافي ج 1 ص 375، عيون أخبار الرضا ج 1 ص 214.
وعندما لم يولد مولود للحسن العسكري رأوا أن جميع قواعدهم قد انهارت، وأسسهم قد انهدمت، ولم يبق مجال للتأويل الذي كانوا يتأولون به في السابق والسابقين، ورأوا أنه لا مخلص ولا منجي منه الا أن يوجدوا معدوماً ليتخلصوا به في المستقبل عن جميع الأسئلة التي تنجم عن عدم وجود تلك الأوصاف التي وضعوها كالعلامات للإمام، هذا وزيادة على ذلك كانت إمامة الحسن العسكري معرضة للخطر حيث لم تنطبق عليه علامات كثيرة، منها أنه لم يعقب ولم يخلف.
ثم ولم يوص إلى من بعده.
ولم يغسّله إمام كذلك.
ولم يستو بعده على أحد درع رسول الله.
ومن لا يكون موجوداً كيف يحكم عليه بأنه عالم وشجاع.
وأخيراً خليت الأرض من حجة، وبقيت بلا إمام ولم تسخ.
فحاروا واضطربوا ولم يجدوا جواباً لأن عدم وجود المولود للحسن العسكري لم يكن ليقضي على إمامة الحسن العسكري فحسب، بل كان يتخطى إلى هدم إمامة الآخرين أيضاً حيث إنهم هم الذين رسخوا هذه القواعد التي -طالما انكسرت وانعدمت في الكثيرين منهم- لأنه بذلك يخطي نبوءاتهم ويغلط أقاويلهم وهم معصومون عن الخطأ والزلل، لا ينطقون إلا بما يُلهَمون، فهذا هو النوبختي وهو الشيعي المتعصب المشهور، من أكابر هذه الطائفة وعظماء هذه السلالة، متكلم فليسوف إمامي الاعتقاد (1) يصرّح بعبارة واضحة لا غبار عليها بأن الشيعة تحيّروا بعد موت الحسن وذهبوا إلى آراء مختلفة متعددة، وتفرقوا فرقاً كثيرة متنوعة:
(1) مجالس المؤمنين للتستري ص 177.
ففرقة قالت: إن الحسن حيّ لم يمت وإنما غاب وهو القائم -وسبب هذا القول؟ - ولا يجوز أن يموت ولا ولد له ظاهر لأن الأرض لا تخلو من إمام.
وفرقة قالت: إن الحسن بن علي مات وعاش بعد موته
…
ولو كان له ولد لصحّ موته ولا رجوع، لأن الإِمامة تثبت لخلفه وما أوصى لأحد.
وفرقة قالت: إن جعفر هو الإِمام لا الحسن، وتوفي الحسن لا عقب عليه، وإن الإِمام لا يموت حتى يوصي، ويكون له خلف.
وفرقة قالت: إن الإِمام بعد علي لم يكن جعفراً لأن فيه خصالاً مذمومة وهو بها مشهور، ولا الحسن لأنه قد توفي، ولا يجوز أن يموت الإِمام بلا خلف، ولذلك الإِمام بعد علي هو ابنه محمد المتوفي في حياة أبيه.
وفرقة قالت: إن الإِمام بعد علي الحسن وبعد الحسن أخوه جعفر، وأما ما روى عن جعفر بأنه لا تكون الإِمامة في أخوين بعد الحسن والحسين عندما يكون للماضي خلف من صلبه، وإذا لم يكن رجعت إلى أخيه ضرورة.
وأقاويل كثيرة.
فعند ذلك اضطروا إلى أن يقولوا إن للحسن ابناً، كيف يكون إمام قد ثبتت إمامته ووصيته وجرت أموره على ذلك وهو مشهور عند الخاص والعام، ثم يتوفى ولا خلف له.
وفرقة منهم ردّت عليهم وقالوا:
لا ولد للحسن أصلاً لأنا قد امتحنا ذلك وطلبناه بكل وجه فلم نجده ولو جاز لنا أن نقول في مثل الحسن وقد توفي ولا ولد له أن له ولداً
خفياً لجاز مثل هذه الدعوى في كل ميت عن غير خلف ولجاز مثل ذلك في النبي صلى الله عليه وآله أن يقال خلف ابناً وأن أبا الحسن الرضا عليه السلام خلف ثلاثة بنين غير أبي جعفر أحدهم الإمام لأن مجىء الخبر بوفاة الحسن بلا عقب كمجىء الخبر بأن النبي صلى الله عليه وآله لم يخلف ذكراً من صلبه ولا خلف عبد الله بن جعفر ابناً ولا كان للرضا أربعة بنين فالولد قد بطل لا محالة ولكن هناك حبل قائم قد صح في سرية له وستلد ذكراً إماماً متى ولدت فانه لا يجوز أن يمضي الإمام ولا خلف له فتبطل الإِمامة وتخلو الأرض من الحجة.
وردّت عليهم طائفة فقالوا: واحتج أصحاب الولد على هؤلاء فقالوا: انكرتم علينا أمراً قلتم بمثله ثم لم تقنعوا بذلك حتى أضفتم إليه ما تنكره العقول، قلتم أن هناك حبلاً قائماً فإن كنتم اجتهدتم في طلب الولد فلم تجدوه فأنكرتموه لذلك فقد طلبنا معرفة الحبل وتصحيحه أشد من طلبكم واجتهدنا فيه أشد من اجتهادكم فاستقصينا في ذلك غاية الاستقصاء فلم نجده فنحن في الولد أصدق منكم لأنه قد يجوز في العقل والعادة والتعارف أن يكون للرجل ولد مستور لا يعرف في الظاهر ويظهر بعد ذلك ويصح نسبه والأمر الذي ادعيتموه منكر شنيع ينكره عقل كل عاقل ويدفعه التعارف والعادة مع ما فيه من كثرة الروايات الصحيحة عن الأئمة الصادقين أن الحبل لا يكون أكثر من تسع أشهر وقد مضى للحبل الذي ادعيتموه سنون وإنكم على قولكم بلا صحة ولا بينة.
وفرقة قالت: ولد للحسن ولد بعده بثمانية أشهر، وإن الذين ادعوا ولداً في حياته كاذبون مبطلون في دعواهم، لأن ذلك لو كان لم يخف ولكنه مضى ولم يعرف له ولد، وقد كان الحبل فيما مضى قائماً ظاهراً ثابتاً عند السلطان وعند سائر الناس، وامتنع من قسمة ميراثه من أجل ذلك
حتى بطل بعد ذلك عند السلطان وخفى أمره فقد ولد بعد وفاته بثمانية أشهر وقد كان أمر أن يسمى محمداً وأوصى بذلك وهو مستوراً لا يرى.
وأخيراً قالت الفرقة الثانية عشرة وهم الإِمامية: ليس القول كما قال هؤلاء كلهم بل لله عز وجل حجة من ولد الحسن بن علي، ولا تكون الإِمامة في الأخوين بعد الحسنين، ولو جاز ذلك لصحّ قول أصحاب إسماعيل بن جعفر ومذهبهم، ولثبت إمامة محمد بن جعفر، وأيضاً لا يجوز أن تخلو الأرض من حجة، ولو خلت لساخت الأرض ومن عليها.
وعلى ذلك نحن مقرّون بوفاة الحسن، معترفون أن له ولداً قائماً من صلبه وأنه مخفي، وليس للعباد أن يطالبوا آثار ما سترت عنه، ولا يجوز ذكر اسمه، ولا السؤال عن مكانه، وطلبه محرّم لا يحل ولا يجوز" (1).
ْفهذه هي الحقيقة الناصعة التي تنبىء عن ضرورة إيجاد المولود للحسن العسكري مستغنية عن التعليق والتعقيب عليه.
بماذا أثبتوا إمامة أئمتهم؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى إن القوم لم يثبتوا إمامة أئمتهم مع ادعائهم النص والإشارة بأنه لا يكون الشخص إماماً إلا حينما يكون منصوصاً عليه من قبل إمام قبله وهو يشير إليه بأنه هو المنصوص، ولقد بوّب القوم في كتبهم أبواباً مستقلة في هذا المعنى مثل الكليني وغيره فإنهم بوّبوا بعنوان "باب الإشارة والنص" لكل واحد من أئمتهم المزعومين، ولكنه من العجائب أن أئمتهم أنفسهم من قبلهم لم يثبتوا إمامتهم بهذا حسب روايات القوم ولا بالشروط التي ذكروها من الوصية
(1) ملخص ما كتبه النوبختي في كتابه (فرق الشيعة) ص 119 وما بعد.
والكبر واستواء درع الرسول عليهم ووجود سلاح رسول الله عندهم وغسلهم آباءهم، وكونهم الأعلم والأشجع وإحاطتهم علم الغيب وغير ذلك من الأوصاف والخصائل التي جعلوها علائم للإمامة وشروطاً لها، والتي ذكرناها آنفا، بل عكس ذلك إلتجئوا لإثبات مدعاهم إلى الشعبذات والنيرنجيات وفنون من السحر حسب زعم الشيعة، ولو عندهم الوصية وعليهم النص وإليهم الإشارة لما التجئوا إليها. فمثلاً ْيذكرون أن علي بن الحسين الملقب بزين العابدين جاءت إليه امرأة من شيعة علي والحسن والحسين، وقد بلغت من الكبر عتيا، فقالت:
أتيت علي بن الحسين عليهما السلام وقد بلغ بي الكبر إلى أن أرعشت وأنا أعدّ يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة، فرأيته راكعاً وساجداً أو مشغولاً بالعبادة فيئست من الدلالة فأومأ إليّ بالسبابة فعاد إليّ شبابي" (1).
ومثل ذلك ذكروا لما قتل الحسين أرسل محمد بن الحنفية إلى علي بن الحسين وقال له:
قتل أبوك رضي الله عنه وصلى على روحه ولم يوص وأنا عمك وصنو أبيك، وولادتي من علي عليه السلام في، سنّي وقديمي أحق بها منك في حداثتك، فلا تنازعني في الوصية ولا الإمامة ولا تحاجني ....
فردّ عليه علي بن الحسين -انطلق بنا إلى الحجر الأسود حتى نتحاكم عليه ونسأله عن ذلك، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود، فقال علي بن الحسين لمحمد بن الحنفية: ابدأ أنت فابتهل إلى الله عز وجل وسله أن ينطق لك الحجر، ثم سل، فابتهل محمد في الدعاء وسأل الله، ثم دعا الحجر فلم يجبه
…
ثم دعا الله علي بن الحسين عليهما السلام ..
(1) الكافي في الأصول، باب ما يفصل به بين دعوى المحق والمبطل في أمر الإمامة ج 1 ص 347.
فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه، ثم أنطقه الله عز وجل بلسان عربي مبين، فقال: اللهم إن الوصية والإمامة إلى علي بن الحسين" (1).
وكما نقلوا عن موسى بن جعفر أنه لما حصل بينه وبين أخيه عبد الله -وكان أكبر ولد جعفر- خلاف في الإمامة:
أمر موسى بجمع حطب في وسط الدار وأرسل إلى أخيه عبد الله يسأله أن يصير اليه، فلما صار إليه ومع موسى جماعة من الإمامية، فلما جلس موسى أمر بطرح النار في الحطب فاحترق ولا يعلم الناس السبب فيه حتى صار الحطب كله جمراً، ثم قام موسى وجلس بثيابه في وسط النار وأقبل يحدث الناس ساعة، ثم قام فنفض ثوبه ورجع إلى المجلس، فقال لأخيه عبد الله: إن كنت تزعم أنك الإمام بعد أبيك فاجلس في ذلك المجلس" (2).
وذكر الكليني قصة أخرى لإِثبات إمامة موسى بن جعفر وأحقيته بها من موسى وإسماعيل وغيرهما من إخوته الكبار بأن شخصاً جاء إلى موسى بن جعفر فسأله عن الإِمام من هو؟. فقال:
إن أخبرتك تقبل؟. قال: بلى جعلت فداك؟ قال: أنا هو، قال: فشيء أستدل به؟ قال: اذهب إلى تلك الشجرة -وأشار بيده إلى أم غيلان- فقل لها: يقول لك موسى بن جعفر: أقبلي، قال: فأتيتها فرأيتها والله تخدّ الأرض خدّا حتى وقفت بين يديه، ثم أشار إليها فرجعت" (3).
وكذلك أثبتوا إمامة محمد بن علي الرضا أنه جاء إليه شخص
(1) أيضا ج 1 ص 348، أعلام الورى للطبرسي ص 258 - 259.
(2)
كشف الغمة للأربلي ج 3 ص 37.
(3)
الأصول من الكافي ج 1 ص 253، أعلام الورى للطبرسي ص 302.
فقال: والله إني أريد أن أسألك مسألة وأني والله لاستحيي من ذلك، فقال لي: أنا أخبرك قبل أن تسألني، تسألني عن الإمام؟ فقلت: هو والله هذا، فقال: أنا هو، فقلت علامة؟ فكان في يده عصا فنطقت وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة" (1).
وبهذا عارضوا أصولهم وأساسهم بأن الإِمامة لا تثبت إلا بالنص والإشارة، ولا يكون الإِمام إلا منصوصاً، مشار إليه من الإِمام الذي قبله حيث إن أئمتهم حسب رواياتهم لم يختلفوا مع أئمتهم ولم يحصل النزاع بينهم إلا لعدم وجود النص والوصية والإِشارة وعدم شهرتها حتى بين أبناء أب واحد وإلا لما اضطروا إلى هذه الخزعبلات.
هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى النص الذي جعلوه مثبتاً لإِمامة أئمتهم ليس إلا مجرد الدعوى ولا دليل قائم معه كما ذكر ابن حزم في فصله رادّا على الشيعة وعلى ادعائهم النص:
إن عمدة احتجاجكم في إيجاب إمامتكم التي تدعيها جميع فرقكم إنما هي وجهان فقط، أحدهما النص عليه باسمه والثانى شدة الفاقة إليه في بيان الشريعة إذ علمها عنده لا عند غيره ولا مزيد، فأخبروني بأي شيء صار محمد بن علي بن الحسين أولى بالإِمامة من إخوته زيد وعمر وعبد الله وعلي والحسين فإن ادعوا نصاً من أبيه عليه أو من النبي صلى الله عليه وسلم أنه الباقر، لم يكن ذلك ببدع من كذبهم ولم يكونوا أولى بتلك الدعوى من الكيسانية في دعواهم النص على ابن الحنفية، وإن ادعوا أنه كان أفضل من إخوته كانت أيضاً دعوى بلا برهان والفضل لا يقطع على ما عند الله عز وجل فيه بما يبدو من الإِنسان فقد يكون باطنه خلاف ظاهره، وكذلك يسألون أيضاً ما الذي جعل موسى بن جعفر أولى بالإمامة من أخيه محمد
(1) الأصول من الكافي ج 1 ص 353.
أو إسحاق أو علي؟ فلا يجدون إلى غير الدعوى سبيلا، وكذلك أيضاً يسألون ما الذي خص علي بن موسى بالإمامة دون إخوته وهم سبعة عشر ذكراً؟ فلا يجدون شيئاً غير الدعوى، وكذلك يسألون ما الذي جعل محمد بن علي بن موسى أولى بالإمامة من أخيه علي بن علي وما الذي جعل علي بن محمد أولى بالإِمامة من أخيه موسى بن محمد وما الذي جعل الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى أحق بالإمامة من أخيه جعفر بن علي؟ فهل هاهنا شىء غير الدعوى الكاذبة الذي لا حياء لصاحبها، والتي لو ادعى مثلها مدع للحسن بن الحسن أو لعبد الله بن الحسن أو لأخيه الحسن بن الحسن أو لابن أخيه علي بن الحسن أو لمحمد بن عبد الله القائم بالمدينة أو لأخيه إبراهيم أو لرجل من ولد العباس أو من بني أمية أو من أي قوم من الناس كان لساواهم في الحماقة، ومثل هذا لا يشتغل به من له مسكة من عقل أو منحة من دين، ولو قلت أو رقعة من الحياء، فبطل وجه النص" (1).
وعلاوة على ذلك يقول الإِمامية أو الاثنا عشرية أو الجعفرية أو الروافض -كما سماهم الله- أن الإمام لا يكون إلا معصوماً من الأخطاء ومنصوباً من قبل الله عز وجل، ولا يكون في عنقه بيعة أحد غيره.
أما كونه معصوماً من قبل الله عز وجل فلا يخلو كتاب من كتبهم التي تذكر مسألة الإِمامة إلا وقد ذكروا فيه هذا، وهذا أمر مشهور مستغن عن ذكر مصدره ومرجعه.
وأما أن الإمام لا يكون في عنقه بيعة أحد فكما ذكر الكليني أن هشام بن سالم دخل على موسى بن جعفر بعد وفاة أبيه وهو باكٍ حيران لا يدري إلى أين يتوجه ولا من يقصد، إلى المرجئة؟. إلى القدرية؟. إلى
(1) الفصل في الملل والأهوء والنحل لابن حزم ج 4 ص 102 - 103
الزيدية؟. إلى المعتزلة؟. إلى الخوارج؟. فقال له:
جعلت فداك فمن لنا من بعده؟. قال: إن شاء الله أن يهديك هداك، قال: قلت: جعلت فداك فأنت هو؟. ما أقول ذلك، قال: قلت في نفسي: لم أصب طريق المسألة، ثم قلت له: جعلت فداك عليك إمام؟ قال: لا، فداخلني شىء لا يعلم إلا الله عز وجل إعظاماً له وهيبة أكثر مما كان يحلّ بي من أبيه إذا دخلت عليه" (1).
وقد ورد مثل ذلك في كثير من كتب الشيعة بأن الإِمام لا يكون إماماً وفي عنقه بيعة أحد.
هذا وإكمالاً للبحث وإتماماً للفائدة نلقي نظرة عابرة حول هذه الأوصاف ولوازم الإِمامة الثلاثة ليشمل البحث جميع الجوانب المهمة في هذا المبحث، فنقول:
إن العصمة التي جعلوها من خواص الإِمام ولوازمه، واحتجوا بها على إمامة أئمتهم بأنه لم يكن أحد معصوماً غيرهم (2).
فإنها لم تثبت لهم أيضاً، وأحوالهم وأقوالهم تشهد على ذلك، فإن علياً رضي الله عنه -وهو الإِمام المعصوم الأول حسب زعم الشيعة- اختلف معه ابنه الأكبر حسن السبط -وهو الإمام الثاني المعصوم عند القوم- في مسألة أخذه البيعة من الناس بعد استشهاد عثمان ذي النورين رضي الله عنه، وكما اختلف معه أيضاً في خروجه لمحاربة مطالبي دم عثمان كما مرّ ذكره في الباب الثاني من هذا الكتاب. ويلزم من ذلك أن واحداً منهما كان مصيباً والثاني مخطئاً أعني الإمام الأول وهو علي، أو الإِمام الثاني وهو الحسن، لأن واحداً منهما يرى رأياً والثاني يخالفه فلا بد
(1) الأصول من الكافي، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوة الحق والمبطل في أمر الإمامة ج 1 ص 351 - 352.
(2)
انظر منهاج الكرامة للحلي ص 71 وغيره.
من أن يكون أحدهما على صواب والآخر علي خطأ.
ثم ولقد ثبت في التاريخ أن علياً رضي الله عنه صوّب رأي الحسن بعد كارثة الجمل وتأسف على عدم أخذه برأي الحسن وتقيده به.
وثانياً: لقد أقر بصدور خطأ وإمكان الوقوع فيه، علي رضي الله عنه نفسه حيث قال:
لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطىء (1).
وثالثاً: لقد ذكر المؤرخون أن الحسن رضي الله عنه لما أراد الصلح مع معاوية خالفه في ذلك مع من خالفه أخوه الحسين -وكلاهما إمامان معصومان عند الشيعة- لكن الحسن لم يلتفت إلى رأي الحسين وصالح معاوية وكان الحسين يبدي الكراهة من صلح الحسن مع معاوية ويقول:
لو جزّ أنفي كان أحب إليّ مما فعله أخي" (2).
والظاهر أن واحداً منهما كان مصيباً والآخر مخطئاً.
هذا ومثل هذا كثير.
وأما كونه منصوباً من قبل الله عز وجل فأيضاً ليس إلا دعوى مجردة عن الدليل، ولم ينزل الله به من سلطان، ولكل أن يدعي بأن الله هو الذي نصبه ما دام أن الوحي منقطع ونزول جبريل على أحد مسدود.
وأما أن الإِمام لا يكون إماماً إلا ولا يكون في عنقه بيعة أحد فهذا لم يتحقق ولا في واحد من أئمة القوم من علي رضي الله عنه إلى الحسن العسكري، اللهم إلا أن يقال في ذلك الموهوم المعدوم الذي لم يولد، لأنه
(1) الكافي في الأصول نقلاً عن أعيان الشيعة لمحسن الأمين ج 1 ص 136.
(2)
أعيان الشيعة الجزء الأول - القسم الأول ص 65.
قد ثبت تاريخياً ومن كتب القوم أنفسهم بأن كل واحد منهم بايع أئمة زمانهم وخلفاءهم.
فإن الإمام الأول المعصوم حسب زعم الشيعة علي بن أبي طالب رضي الله عنه بايع أبا بكر ثم عمر ثم عثمان (1).
كما بايع الحسن وهو الإِمام المعصوم الثاني لدى الشيعة معاوية رضي الله عنه (2).
وكما بايعه الحسين أيضاً وهو الإِمام الثالث المعصوم (3).
وبايع علي بن الحسين يزيد وأقرّ بعبوديته له حسب رواية الشيعة - وهو الإمام المعصوم الرابع عند القوم (4).
وهلمّ جرا.
فهذه هي حقيقة شروط القوم اللازمة للأئمة، المنفية في أئمتهم باعترافهم وإقرارهم وثبوتهم من كتبهم أنفسهم.
لماذا أوجبوا إمامة أئمتهم؟
إن الشيعة يقولون:
أن الإمامة واجبة وأنها رئاسة عامة في أمور الدين والدنيا لشخص من الأشخاص نيابة عن النبي (ص)، وإنما وجبت لأنها لطف واللطف واجب كما تقدم في النبوة، وإنما كانت لطفاً لأن الناس إذا كان لهم رئيس مطاع مرشد يردع الظالم عن ظلمه ويحملهم على الخير ويردعهم عن الشر كانوا أقرب إلى الصلاة وأبعد عن الفساد وهو اللطف، فالدليل
(1) انظر لتفصيل ذلك النصوص الثابتة من كتب القوم أنفسهم في كتابنا "الشيعة وأهل البيت". ط. لاهور - باكستان.
(2)
مروج الذهب للمسعودي الشيعي ج 2 ص 431، رجال الكشي 102.
(3)
رجال الكشي ص 102.
(4)
الكافي الكليني ج 8 ص 234 - 235.
الدال على وجوب النبوة يدل على وجوب الإِمامة" (1).
ويقول السيد الزين:
أما الأمامة فهى واجبة
…
لأن الامام نائب عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ الشرع الإِسلامي وتيسير المسلمين على طريقه القويم، وفي حفظ وحراسة الأحكام عن الزيادة والنقضان والإِمام موضح للمشكل من الآيات والأحاديث ومفسر للمجمل والمتشابه ومميز للناسخ من المنسوخ" (2).
وقال الحليّ:
إن الإِمام يجب أن يكون حافظاً للشرع لانقطاع الوحي بموت النبي صلى الله عليه وآله وقصور الكتاب والسنة عن تفاصيل أحكام ْالجزئيات الواقعة إلى يوم القيامة، فلا بد من إمام منصوب من الله تعالى وحاجة العالم داعية إليه ولا مفسدة فيه فيجب نصبه
…
وأما الحاجة فظاهرة أيضاً لما بيناه من وقوع التنازع بين العالم، وأما انتفاء المفسدة فظاهر أيضاً لأن المفسدة لازمة لعدمه، وأما وجوب نصبه فلأن عند ثبوت القدرة والداعي وانتفاء الصارف يجب الفعل" (3).
فقالوا بهذه الأقوال إثباتاً لإِمامة أئمتهم مع أن الوجوه والأسباب والعلل التي بيّنوها لوجوب الإِمامة هي التي تنفي إمامة أكثر أئمتهم، بل إمامة جميعهم غير عليّ رضي الله عنه حيث إن أئمتهم الإثني عشر المزعومين لم يملكوا الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا ولم يملكوا ردع الظالم عن ظلمه وحمل الناس على الخير وردعهم عن الشر طبق روايات القوم أنفسهم، فإن واحداً منهم لم يولد على القول الصحيح، ولو
(1) أعيان الشيعة الجزء الأول القسم الثاني ص 6.
(2)
الشيعة في التاريخ ص 44 - 45.
(3)
منهاج الكرامة للحلي ص 72 - 73.
سلمّت ولادته تنازلاً لم يملك الظهور خوفاً على حفظه وبقائه فضلاً عن حفظ الشرع الإسلامي وحراسة الأحكام عن الزيادة والنقصان، والبعض الآخر مثل الإمام الحادي عشر والعاشر كانوا أطفالاً صغاراً حتى احتاج آباؤهم أن يجعلوا القيّمين عليهم وعلى أموالهم وودائعهم حتى يبلغوا الحلم لعدم قدرتهم على حفظ تركة الآباء وإرثهم، فمن لا يكون حافظاً على تركته وماله وأمور دنياه أجدر أن لا يكون حافظاً على أمور الآخرين، أمور دنياهم ودينهم.
ثم قد ثبت من كتب القوم أنفسهم أن أئمتهم كانوا يفتون حتى خاصتهم وشيعتهم خلاف ما أنزل الله وما بيّنه الرسول وخلاف ما كانوا يرونه في قلوبهم صيانة على أنفسهم وحفاظاً على حياتهم كما مرّ سابقاً عن جعفر وأبيه الباقر (وطالما كانوا يحلون الحرام ويحرمون الحلال لهذا الغرض) وكما رواه الكليني في كافيّه عن موسى بن أشيم قال:
كنت عند أبي عبد الله عليه السلام فسأله رجل عن آية من كتاب الله عز وجل فأخبره بها، ثم دخل عليه داخل فسأله عن تلك الآية فأخبره بخلاف ما أخبر الأول، فدخلني من ذلك ما شاء الله حتى كان قلبي يشرح بالسكاكين، فقلت في نفسى: تركت أبا قتادة بالشام لا يخطىء في الواو وشبهه، وجئت إلى هذا يخطىء هذا الخطأ كله فبينا أنا كذلك إذا دخل آخر فسأله عن تلك الآية، فأخبره بخلاف ما أخبرني وأخبر صاحبي" (1).
وكما رواه أيضاً عن محمد بن مسلم قال:
دخلت على أبي عبد الله عليه السلام وعنده أبو حنيفة، فقلت له: جعلت فداك رأيت رؤيا عجيبة، فقال لي: يا ابن مسلم هاتها، إن
(1) الكافي في الأصول ج 1 ص 66.
العالم بها جالس وأومأ بيده إلى أبي حنيفة، فقلت: رأيت كأني دخلت داري وإذا أهلي قد خرجت علي فكسرت جوزاً كثيراً ونثرته علي ْفتعجبت من هذه الرؤيا، فقال أبو حنيفة: أنت رجل تخاصم وتحاول أنْ تنال مالك في مواريث أهلك فبعد نصب شديد تنال حاجتك منها إن شاء الله، فقال أبو عبد الله عليه السلام: أصبت والله يا أبا حنيفة.
قال: ثم خرج أبو حنيفة من عنده، فقلت له: جعلت فداك إني كرهت تعبير هذا الناصب، فقال: يا ابن مسلم لا يسوءك الله فما يواطىء تعبيرهم تعبيرنا ولا تعبيرنا تعبيرهم وليس التعبير كما عبره، قال: فقلت له: جعلت فداك فقولك: أصبت وتحلف عليه وهو مخطىء؟ قال: نعم حلفت عليه أنه أصاب الخطأ" (1).
وأخيراً ننقل ما نقلناه سابقاً وما رواه الكليني:
عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السلام قال: سألته عن مسألة فأجابني، ثم جاء رجل فسأله عنها فأجابه بخلاف ما أجابني، ثم جاء رجل آخر فسأله فأجابه بخلاف ما أجابني وأجاب صاحبي، فلما خرج الرجلان قلت: يا بن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كل واحد منهما بغير ما أجبت به صاحبه؟ فقال: يا زرارة إن هذا خير لنا وأبقى لنا ولكم، ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم.
قال: ثم قلت لأبي عبد الله عليه السلام: شيعتكم لو حملتموهم على الأسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين؟ قال: فأجابني بمثل جواب أبيه" (2).
فهل عن مثل هؤلاء يقال إنهم يحفظون ويحرسون الأحكام عن
(1) كتاب الرضة من الكافي ج 8 ص 252.
(2)
الأصول من الكافي، باب اختلاف الحديث ج 1 ص 65.
الزيادة والنقصان، ثم والبقية الآخرون مثل الحسن تنازلوا عن رئاستهم الدنيوية علناً وجهراً رغم أنوف المنكرين، وسلمّوا إليهم أُمورهم وأُمور غيرهم الدنيوية، وقد اعترف بعضهم بعبوديتهم للآخرين حسب روايات القوم عن علي بن الحسين الملقب بزين العابدين، وبعضهم لم ينلها أي الرئاسة الدنيوية مع جدّه وجهده لنيلها وإدراكها كحسن السبط رضي الله عنه حسب تصريحات القوم، فهذه حقيقة معتقدهم في الإمامة ووجوبها، وعلى ذلك قال ابن حزم:
وأما وجه الحاجة إلى الإمامة في بيان الشريعة فما ظهر قط من أكثر أئمتهم بيان لشىء مما اختلف فيه الناس وما بأيديهم من ذلك شىء إلا دعاوى مفتعلة قد اختلفوا أيضاً فيها كما اختلف غيرهم من الفرق سواء، إلا أنهم أسوأ حالاً من غيرهم لأن كل من قلد إنساناً كأصحاب أبي حنيفة لأبي حنيفة وأصحاب مالك لمالك وأصحاب الشافعي للشافعي وأصحاب أحمد لأحمد فإن لهؤلاء المذكورين أصحاباً مشاهير نقلت عنهم أقوال صاحبهم ونقلوها هم عنه ولا سبيل إلى اتصال خبر عندهم ظاهر مكشوف يضطر الخصم إلى أن هذا قول موسى بن جعفر ولا أنه قول علي بن موسى ولا أنه قول محمد بن علي بن موسى ولا أنه قول علي بن محمد ولا أنه قول الحسن بن علي وأما من بعد الحسن بن على فعدم بالكلية وحماقة ظاهرة، وأما من قبل موسى بن جعفر فلو جمع كل ما روى في الفقه عن الحسن والحسين رضي الله عنهما لما بلغ عشر أوراق، فما ترى المصلحة التي يدعونها في إمامهم ظهرت ولا نفع الله تعالى بها قط في علم ولا عمل لا عندهم. ولا عند غيرهم، ولا ظهر منهم بعد الحسين رضي الله عنه من هؤلاء الذين سموا أحد ولا أمر منهم أحد قط بمعروف معلن، وقد قرأنا صفة هؤلاء المخاذلين المنتمين إلى
الإمامية، القائلين بأن الدين عند أئمتهم، فما رأينا إلا دعاوى باردة وآراء فاسدة كأسخف ما يكون من الأقوال، ولا يخلو هؤلاء الأئمة الذين يذكرون من أن يكونوا مأمورين بالسكوت أو مفسوحاً لهم فيه، فإن يكونوا مأمورين بالسكوت فقد أبيح للناس البقاء في الضلال وسقطت الحجة في الديانة عن جميع الناس وبطل الدين ولم يلزم فرض الإِسلام وهذا كفر مجرد، وهم لا يقولون بهذا، أو يكونوا مأمورين بالكلام والبيان فقد عصوا الله إذ سكتوا وبطلت إمامتهم، وقد لجأ بعضهم إذ سئلوا عن ْصحة دعواهم في الأئمة إلى أن ادعوا الإلهام في ذلك فإذا قد صاروا إلى هذا الشغب فإنه لا يضيق عن أحد من الناس ولا يعجز خصومهم عن أن يدعوا أنهم ألهموا بطلان دعواهم .... ثم أن بعض أئمتهم المذكورين مات أبوه وهو ابن ثلاث سنين، فنسألهم من أين علم هذا الصغير جميع علوم الشريعة وقد عدم توقيف أبيه له عليها لصغره، فلم يبق إلا أن يدعوا له الوحي، فهذه نبوة وكفر صريح" (1).
الشيخية
ثم افترقت الشيعة الاثنا عشرية إلى فرق كثيرة من أهمها الشيخية نسبة إلى الشيخ أحمد بن زين الدين الأحسائي البحراني المولود سنة 1166 هـ (2) المتوفى سنة 1243 هـ (3).
وسمّاه الخوانساري "ترجمان الحكماء المتألهين ولسان العرفاء والمتكلمين، غرة الدهر وفيلسوف العصر، العالم لأسرار المباني والمعاني" وكتب في ترجمته:
لم يعد في هذه الأواخر مثله في المعرفة والفهم، والمكرمة والحزم،
(1) الفصل في الملل والأهواء والنحل لابن حزم ج 4 ص 103 - 104.
(2)
دائرة المعارف الإِسلامية الأردية ج 2 ص 82 ط. جامعة بنجاب - باكستان.
(3)
روضات الجنات للخوانساري ج 1 ص 94.
وجودة السليقة، وحسن الطريقة، وصفاء الحقيقة، وكثرة المعنوية، والعلم بالعربية، والأخلاق السنّية، والشيم المرضيّة، والحكم العلميّة والعمليّة، وحسن التعبير والفصاحة ولطف التقرير والملاحة، وخلوص المحبّة والوداد؛ لأهل بيت الرسول الأمجاد، بحيث يرمي عند بعض أهل الظاهر من علمائنا بالإفراط والغلوّ؛ مع أنَّه -لا شكَّ- من أهل الجلالة والعلوّ.
ورد بلاد العجم في أواسط عمره، وكان بها في نهاية القرب من ملوكها وأربابها. وكان أكثر مقامه فيها بدار العبادة يزد. ثمّ انتقل منها إلى إصبهان، وتوقّف فيها أيضاً برهة من الزمان.
ولمّا أراد أن يرجع إلى أصله الذي كان في وصل الحسن عليه السلام وورد بلدة قرميسين -التي هي واقعة في البين- استدعى منه.
الوقوف بها أميرها العادل الكبير المغوار المغيار محمد علي ميرزا بن السلطان فتحعلي شاه قاجار. فأجابه إلى ذلك -لما استلزمه من المصالح أو صرف المهالك- إلى أن توفّي الوالي المذكور في سفر منه إلى حرب بغداد، وآل الأمر في تلك المملكة إلى الفتنة والفساد.
فارتحل منها إلى أرض الحائر الشريف، ليصرف فيها بقيّة عمره الطريف، ويجمع أمره على التصنيف والتأليف، والقيام بحقّ التكليف
…
وقد يذكر في حقّه أيضاً أنَّه كان ماهراً في أغلب العلوم، بل واقفاً على جملة من الحرف والرسوم، وعارفاً بالطبّ والقرائة والرياضيِّ والنجوم، ومدّعياً لعلم الصنعة والأعداد والطلسمات ونظائرها من الأمر المكتوم" (1).
(1) أيضاً ص 88 - 89، 91.
ويذكر أن له من المؤلفات ما يقارب المائة (1).
وقيل: أكثر من ذلك (2).
وذكر عنه تلميذه السيد كاظم الرشتي:
إن مولانا رأى الأمام الحسن عليه السلام ذات ليلة وضع لسانه المقدس في فمه. فمن ريقه المقدس ومعونة الله، تعلم العلوم. وكان في فمه كطعم السكر وأحلى من العسل وأطيب من رائحة المسك، ولما استيقظ أصبح في خاصته محاطاً بأنوار معرفة الله، طافحاً بأفضاله، منفصلاً عن كل ما هو مغاير لله، وزاد اعتقاده في الله في نفس الوقت الذي ظهر فيه استسلامه لإرادة العلي. وبسبب ازدياد شوقه والرغبة الشديدة التي استولت على قلبه نسي الأكل واللبس الا ما يسدّ به حاجته الضرورية" (3).
فالأحسائي هذا كان له بجانب الكتب والمؤلفات دروس في كربلاء وطوس وغيرها من البلاد الشيعية، وفيها ينشر أفكاره وعقائده ومعتقداته، فإنه كان يقول:
إن الله تجلى في علي وفي أولاده الأحد عشر. وإنهم مظاهر الله وأصحاب الصفات الإلهيه والنعوت الربانية، وهم أئمة الهدى، مختلفون في الصورة متفقون في الحقيقة" (4).
وكان يقول:
إن الأئمة هم العلة المؤثرة في وجود المخلوقات، وهم مظهر الإِرادة الإلهية والمعبرون عن مشيئة الله، ولولاهم ما خلق الله شيئاً. ولذلك فهم
(1) دائرة المعارف الإسلامية، اردو ج 2 ص 83.
(2)
هداية الطالبين لحاجي محمد كريم خان.
(3)
مطالع الأنوار للزرندي البهائي ص 3، نقلاً عن كتاب دليل المتحيرين وإرشاد المسترشدين للسيد كاظم الرشدي.
(4)
مقدمة نقطة الكاف للمستشرق الإنجليزي براؤن ص يح الفارسية ط. ليدن.
الغاية من الخلق، وكل ما يفعله الله فهو يفعله بواسطتهم، ولكن ليس لهم من ذاتهم قوة، وهم مجرّد وسائط.
ولما كانت ذات الله لا تدرك وكانت لا تحيط بها أفهام جميع المخلوقات، فإن الإِنسان لا يستطيع معرفتها إلا بتوسط الأئمة الذين هم في الحقيقة محال للذات العلية، ومن أخطأ في حقهم أخطأ في حق الله، واللوح المحفوظ هو قلب الإِمام المحيط بكل السماوات وكل الأرضين، والأئمة هم أول المخلوقات والسابقون على كل شيء" (1).
ثم كان يعتقد في الغائب المزعوم الثاني عشر:
أولاً: أنه ميت، كما كان يقول:
إن المهدي الغائب المنتظر ظهوره عند الشيعة هو الآن من سكان العالم الروحاني غير هذا العالم الذي يسمونه بجابلقاء وجابرساء" (2).
وإن الإِمام روحي له الإنداء لما خاف من أعدائه خرج من هذا العالم ودخل في جنة الهورقلياء" (3).
ثانياً: كان يقول إن الراجع لا يكون ذلك ابن الحسن العسكري بل يكون أحد غيره الذي حلّ فيه روحه، كما قال:
وسيعود في هذا العالم بصورة شخص من أشخاص هذا العالم يعني بطريق ولادة عامة الناس" (4).
ثالثاً: يكون ذلك الشخص هو نفس الإِمام محمد بن الحسن العسكري ولو ولد من أب وأم آخرين جديدين:
(1) دائرة المعارف الإسلامية لأحمد الشنتاوي ج 14 ص 12 ط. طهران.
(2)
دائرة المعارف للبستاني ج 5 ص 26.
(3)
الكواكب الدرية ص 20 الفارسي. ط. القاهرة.
(4)
أيضاً ص 20.
إنه المهدي بعينه وإن ذلك الجسم اللطيف الروحاني قد ظهر في هذا الجسم الكثيف المادي" (1).
رابعاً: يطلق عليه اسم القائم:
لأنه يقوم بعدما يموت.
ولما سئل: أيقوم من القبر؟.
أجاب: يقوم من قبره أي من بطن أمه، وقال: إن جابلسا وجابلقا منزل الموعود ومحل المنتظر في السماء لا في الأرض كما يعتقد ويظن أكثر الناس" (2).
وكان ينكر المعاد والبعث الجسماني مطلقاً لأن الجسم يتكون من العناصر الأربعة وبعد خروج الروح تنحل الأجزاء والعناصر، ولا تبقى لها أثر، فتصير إلى الفناء الأبدي.
والشىء الذي يبقى ويعود هو الجسم اللطيف الروحاني هو جوهر الجواهر عنده، والذي يسمونه الجسم الهورقليائي تبعاً للمصطلحات الكيماوية القديمة.
"فجوهر الجواهر هو الجسم الهورقليائي الذي يحشر ويعاد، والعناصر الباقية التي هي أعراض ولواحق فهي تنتشر وتنحل وتندمج في أصلها كالماء في الماء والطين في الطين، والروح البالية أيضاً تفنى ويبقى الجسم الأصلي الذي يظهر في عرض الجسم من الأبعاد الثلاثة"(3).
ومن العقائد التي نشرها بين الناس أن الإِمام المهدي يتجلىّ ويظهر في كل مكان في صورة رجل يكون هو المؤمن الكامل أو الباب أو
(1) دائرة المعارف للبستاني ج 5 ص 26.
(2)
الكواكب ص 20 - 21.
(3)
دائرة المعارف الإسلامية للأردية نقلاً عن مجلة (يغما) الفارسية رقم 162 ص 82.
الولي، ولابد من الإيمان به.
فالأركان الأربعة التي هي أصل الدين وأصوله عندهم هي:
(1)
التوحيد.
(2)
النبوة.
(3)
والإمامة.
(4)
والاعتقاد بالرجل الكامل (1).
ولقد حلت هذه الشخصية في عصر الأحسائي في جسمه، ولأجل ذلك يسمى ركناً رابعاً أو الباب فالباب في رأيه شخص حلّ فيه روح الباب، والمهدي الذي حل فيه روح المهدي، والإِمام والنبي كذلك، وهم مع ذلك مختلفون في الصورة متحدون في الحقيقة كما ذكرنا سابقاً لأن الله تعالى هو المتجلي في الجميع على اختلاف المراتب والمناصب.
وكان ينكر المعراج الجسماني والروحي، بل كان يقول إن رسول الله موجود في كل مكان في كل آن، وعلى ذلك لا معنى لهذا القول أنه كان في الأرض وعرج به إلى السماء لأنه ليس بمقيّد في مكان وزمان، فمن رآه في السماء رآه واللواحق السماوية وعوارضها ملتصقة به" (2).
وبعد أن مات الأحسائي تولىّ زعامة الشيخية ومنصبه، تلميذه
السيد كاظم الرشتي سنة 1242 هـ ونهج منهجه وسلك مسلكه، وصار ركناً رابعاً للشيخية غير أنه زاد الطين بلّة حيث قال:
حل فيه روح الأبواب كما حلّ في الأحسائي ولكن آن الآوان لانقطاع الأبواب ومجىء المهدي نفسه" (3).
ويقول الشيخية:
(1) دائرة المعارف الإسلامية مادة إحسائي، والعقيدة والشريعة لجولد زيهر ص 103.
(2)
فهرست لأبي القاسم إبراهيمي شيخ الشيخية ص 196. ط. إيران.
(3)
انظر الكواكب ص 24 ط. فارسي.
العالم قديم بالزمان حادت بالذات، لأن الأعراض لا يمكن أن توجد بدون الجوهر، والصور لا يمكن أن توجد بدون محلهّا. والأعراض حادثة زائلة توجد تارة وتنعدم تارة، تأتي من العدم وتعود إلى العدم. أما الجوهر فليس شيئاً حادثاً زائلاً، وعلى هذا فإن المادة في ذاتها حادثة. هي موجودة أبداً في المستقبل لا في الماضي وإلا لكان للحياة الأخرى نهاية وفنيت الجنة والنار، والجنة هي محبة أهل البيت، أهل بيت النبي عليه السلام، الأئمة. والجنة والنار تحدثان بسبب أفعال الإنسان" (1).
ولقد ذكره الخوانساري في كتابه بقوله:
إن تلميذه العزيز، وقدوة أرباب الفهم والتمييز، بل قرّة عينه الزاهرة، وقوة قلبه الباهرة الفاخرة، بل حليفه في شدائده ومحنه، ومن كان بمنزلة القميص على بدنه، أعني السيد الفاضل الجامع البارع الجليل الحازم، سليل الأجلة السادة القادة الأفاخم الأعاظم، ابن الأمير سيد قاسم الحسيني الجيلاني الرشتي، الحاجّ سيد كاظم، النائب في الأمور منابه، وإمام أصحابه المقتدين به بالحائر المطهّر الشريف إلى زماننا هذا" (2).
وروّج هذا الرشتي أفكار شيخه وأدخل الكثيرين في مذهبه ومذهب الأحسائي، وصارت فرقة مستقلة حتى دخل فيه الكثيرون من شيعة إيران وعربستان والعراق وآذربائيجان والكويت (3) ثم خلف الرشتي محمد كريم خان الكرماني ابن ظهير الدولة حاكم كرمان، ثم ابن محمد كريم خان محمد خان، وبعده أخوه زين العابدين، ثم ابن زين العابدين قاسم خان ابراهيمي.
(1) دائرة المعارف العربية ج 14 ص 13 لأحمد الشنتاوي ط. طهران.
(2)
روضات الجنات للخوانساري ج 1 ص 92.
(3)
فهرست ج 1 ص 217.
ومن الجدير بالذكر أن الباب علي محمد الشيرازي أيضاً كان من تلامذة السيد كاظم الرشتي ومن المعتنقين بأفكار الشيخية وكل من قبلوا دعوته كانوا من الشيعة الشيخية أيضاً (1).
ومن الطرائف أن عامة الشيعة الاثنى عشرية في باكستان والهند يعتقدون نفس الاعتقادات التي روّجها الأحسائي والرشتي ولو أنهم لا ينسبون أنفسهم إلى الشيخية، فإنهم شيخية اعتقاداً ولو أن بعضاً من علمائهم تجاهروا بالقول إنهم يعتقدون اعتقاد الشيخية، وفتحوا مراكز لها في مختلف المدن، وفي باكستان لهم مركز كبير في ملتان وفي كراتشي أيضاً، وأن أكثر المساعدات والإمدادات كتباً ومالاً تأتي إليهم من دولة الكويت. ونكتفي بهذا القدر من البيان عن الشيخية مع أننا ننوي إصدار كتاب مستقل ولو في المستقبل البعيد إن شاء الله حول هذه الطائفة لما عمّ صيتُها وكثر معتنقوها من الشيعة أنفسهم.
النوربخشية
وهناك طائفة أخرى توجد في وديان هملايا وكوهستان بلتستان المتصلة بتبت الصينية، يدعي الشيعة الاثنا عشرية بأنها فرقة من فرقهم لأنهم يسمون أنفسهم الشيعة النوربخشية نسبة إلى محمد نوربخش
القوهستاني من مواليد سنة 795 هـ، ويقولون:
أنه ولد في قاوين قصبة قوهستان، وكان أبو هاجر من الأحساء، وقيل: إن أباه عبد الله ولد في الأحساء وجدّه محمد ولد في القطيف" (2).
وكان محمد نوربخش مريداً لخواجه إسحاق الختلاني تلميذ السيد علي الهمداني الذي أعجب بقابلياته حتى لقبه بنوربخش بمعنى
(1) انظر لذلك كتابنا (البابية) ط. إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان، وكذلك كتابنا (البهائية). ط. باكستان.
(2)
أنساب بيوتات سكان قاين ص 159 ط. طهران 1369.
واهب الأنوار" (1).
ويقولون: إن نسبه اكتشف عن طريق الكشف الصوفي بأنه علوي" (2).
ثم ادعى محمد نوربخش هذا بأنه هو المهدي الذي أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام بمجيئه في آخر الزمان لأن اسمه يواطىء اسمه، واسم أبيه يواطىء اسم أبيه فهو محمد وأبوه عبد الله، وكذلك كنيته حيث سمى أحد أبنائه القاسم، ولقبه أنصاره بالإِمام والخليفة على كافة المسلمين (3).
وكان يقول: لقد كنت أخفي حالي ولكن وجب إظهارها لتقوم الحجة على الناس كافة على صورة تعرّفهم بمظهر الكل والهادي إلى السبيل" (4).
وقد قام بالثورة العلنية الكبيرة ضد حكومة إيران آنذاك وقبض عليه، ولما اطلق سراحه ذهب إلى كردستان وبدأ يبثّ دعوته فيها فانقاد إليه سكانها، وضرب النقود باسمه" (5).
ثم ألقي القبض عليه وأعلن على منبر هرات وهو في قيده يوم الجمعة سنة 840 هـ تنازله عن دعوى الخلافة وما يستتبعها، ثم سيّر إلى كيلان، ومن هناك إلى الريّ، وتوفي هناك سنة 869 هـ (6).
وكان أتباعه موجودين آنذاك بكثرة في بلاد العراق وإيران.
ويظهر من هذا السرد الموجز السريع أن محمد نوربخش لم يكن
(1) طرائق الحقائق للحاج معصوم علي ج 2 ص 143.
(2)
مجالس المؤمنين للتستري ص 314.
(3)
هامش ديوان شمس تبريزي، نقلاً عن الفكر الشيعي والنزعات الصوفية للدكتور كامل مصطفى الشيبي ص 335.
(4)
أيضاً ص 336.
(5)
مجالس المؤمنين ص 314.
(6)
ملخص ما ذكره كامل مصطفى الشيبي في الفكر الشيعي ص 333.
اثنى عشرياً لأن الاثنى عشرية لا يرون المهدي إلا ابن الحسن العسكري المزعوم، وهذا عكس هؤلاء يعدّ نفسه مهدياً وأكثر من ذلك أنه ردّ في كتابه على من يزعم أن ابن الحسن العسكري هو المهدي الموعود، فقال:
وزعم بعض الناس أن محمد بن الإمام العسكري عليهما السلام هو المهدي الموعود وليس كذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال في محمد المهدي الموعود: يواطىء اسمه اسمي وكنيته كنيتي واسم أبيه اسم أبي، وقيل: اسم أمه اسم أمي، وفي هذا المهدي لا يواطيء شيئاً منهم إلا اسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم" (1).
"والحقيقة أن محمد نوربخش لم يكن شيعياً اثنى عشريا، بل كان صوفياً من أصحاب وحدة الوجود، عرض لانتقال الولاية من آدم والأنبياء إلى أقطاب التصوف وأخرجها من التناسخ واصطلح لها اسم البروز بدلاً منه، فكان وصول الروح إلى الجنين في الشهر الرابع عندهم معاداً إنسانياً يصل الوجود الإنساني بالوجود الحقيقي وجود الله، وربما كان في هذا عنصر يفيد صدور النوربخشية عن الفلسفة الإشراقية كما يفترض الدكتور محمد علي أبو ريان دون أن يجد مبرراً واضحاً يصحح افتراضه. وقد جاء في غزل نوربخش شعر يتصل بوحدة الوجود قال فيه ما ترجمته:
سواء أكنا هادين أم مهديين
…
فنحن بالمقارنة بالقدم أطفال مهديون
قطرة نحن من محيط الوجود
…
ولا عبرة بمدى طاقتنا من الكشف والشهود
(1) مشجر الأولياء ص 164 ط. باكستان.
فيا إلهي متى أعود من القطرة
…
ويا الهي أبلغني بحر النور
وذكر نوربخش العشق على الصورة التي عبر عنها محمد بن عربي في قوله:
أدين بدين الحب إني توجهت
…
ركائبه، فالحب ديني وإيماني
ولكنه أخذ الجانب السلبي من المسألة وعبر عنها بأبيات لطيفة منها ما ترجمته:
منذ اليوم الذي استجليت فيه طلعة حبيبي
…
غدوت متميزاً من الخلائق أجمعين
وذلك أني صرت مبرأ من العقيدة والمذهب
…
والملة كلية وأصبحت ولا دين لي
وذكر استغراقه في هذا العشق إلى الحد الذي أضاع معه كيانه الشخصي فجعل يتساءل: أأنا نوربخش نفسه أم من أنا؟ " (1).
نعم لا شك في ذلك أن الصفويين لما تسلطوا على إيران وأجبروا الناس على اعتناق التشيع على حد السيف أعلن النوربخشية تشيعهم، ولذلك لما فتح إسماعيل الصفوي التستر كان يسأل الناس عن عقيدتهم، فمن قال: نحن على مذهب نور الله الشيخ نوربخشي لم يكن يتعرض لهم" (2).
وفرّ كثير من مريدي هذا الصوفي الوجودي إلى شبه القارة الهندية ولجئوا إلى الجبال ومناطق منعزلة، فبقوا هناك على طريقتهم الصوفية.
وأكبر دليل على كون القوم غير الاثنى عشرية أن لهم فقهاً خاصاً، كذلك كيان مستقل ومدارس مستقلة ولو أنهم يقومون ببعض
(1) الفكر الشيعي والنزعات الصوفية للدكتور كامل مصطفى الشيبي 339 - 340
(2)
مجمع الأوصياء ص 302، نقلاً عن الفكر الشيعي ص 341.
الأعمال التي يقوم بها الشيعة الاثنا عشرية من المآتم على الحسين، وغير ذلك ولكنهم يختلفون معهم في أشياء كثيرة أيضاً، ومنها الإِغراق في التصوف والسلسلة الصوفية التي تصل إلى السهروردي وجنيد البغدادي والسرّي السقطي، وكل هؤلاء ليسوا من الشيعة، وقد ذكر محمد نوربخش سلسلته الصوفية بعنوان السلسلة الذهبية، وننقلها من كتابه كما ذكرها:
محمد نوربخش. خواجه إسحاق الختلاني. حضرة أمير الكبير السيد علي الهمداني. حضرة الشيخ محمد المزدقاني. حضرة الشيخ ْعلاء الدولة السمناني. حضرة الشيخ عبد الرحمان الإسفراني. حضرة الشيخ أحمد الذاكر الجوزقاني. حضرة الشيخ علي اللالا. حضرة الشيخ نجم الدين الكبرى. حضرة الشيخ عمار ياسر البديسي. حضرة الشيخ أبو النجيب السهروردي. حضرة الشيخ أحمد الغزالي. حضرة الشيخ أبو بكر النساجي. حضرة الشيخ أبو علي الكاتبي. حضرة الشيخ أبو علي الرودباري. حضرة الشيخ جنيد البغدادي. حضرة الشيخ سرّي السقطي. حضرة الشيخ معروف الكرخي. حضرة الإِمام عليّ الرضا" (1).
ثم ولقد ذكر محمد نوربخش هذا في كتابه عبارة صريحة تدّل على عدم تشيعه وهو يذكر الوقائع التي حدثت بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فداه أبواي وروحي فقال:
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بايع الأنصار والمهاجرون أبا بكر رضي الله عنه علي الإِمارة بالاتفاق لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان أمره بإمامة الصلاه الفريضة أيام مرضه
(1) مشجر الأولياء ص 2 ط. باكستان.
فبايع أصحابه كله على أبي بكر اتباعاً لأمره صلى الله عليه وآله وسلم لأن الصلاة عماد الدين وقوامه كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرض ليالي وأياماً ينادي بالصلاة، فيقول عليه السلام: مروا أبا بكر يصلي بالناس.
فلما قبض رسول الله عليه الصلاة وآله وسلم نظرت فإذا الصلاة علم الإسلام وقوام الدين فرضينا لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لديننا فبايعناه.
وذلك أن علياً عليه السلام لما رأى النزاع بين الصحابة بسقيفة بني ساعدة في الخلافة يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتجهيزه وقد نزع خاتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يده المباركة، ففوّض الخاتم إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: فاذهب إلى الناس وأدركهم وأجمعهم على إمارتك فذهب إليهم أبو بكر ومعه عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فكلّم الناس عمر في إمارة أبي بكر ورضوا بإمارة أبي بكر رضي الله عنه واتفقوا كلهم ببركة خاتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبتدبير عليّ المرتضى عليه السلام" (1).
وعلى كل فهذه هي الطائفة الأخرى التي اختلف (2). في تشيعها، ونظن أن هذا القدر كاف في هذا الموضوع.
(1) أيضاً ص 51 - 52.
(2)
لقيني كثير من علماء الشيعة في باكستان فسألتهم عن النوربخشية فالأكثر قالوا بأنهم ليسوا من الاثنى عشرية ولكنهم يدعون التشيع الاثنى عشري لجلب الأموال وحصول المنافع من شيعة الخليج والدول العربية الاثنى عشريين وشيعة إيران أيضاً ولقد رضي علماء الشيعة الإيرانيين بادعائهم هذا لاستكثار عدد الشيعة، وإلا فهم ليسوا من الإمامية الاثنى عشرية.
وقال البعض: إنهم من الشيعة الاثنى عشرية ولكنهم من الفرقة التي ابتعدت عن الاثنى عشرية الخلصّ بنزعاتها الصوفية وبأفكارها المناوئة المختلفة للتشيع الاثنى عشرية.