المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

قوله تعالى (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف - الصحيح المسبور من التفسير بالمأثور - جـ ٢

[حكمت بشير ياسين]

الفصل: قوله تعالى (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف

قوله تعالى (التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين)

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قوله: (التائبون) قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (العابدون) قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (الحامدون) قوم حمدوا الله على كل حال.

قال أبو داود: حدثنا محمد بن عثمان التنوخي أبو الجماهر، ثنا الهيثم بن حميد، أخبرني العلاء بن الحارث، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله، ائذن لي في السياحة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله تعالى".

(السنن 2/5 ح 2486 - ك الجهاد، ب في النهي عن السياحة) ، وأخرجه ابن أبى حاتم (التفسير - التوبة/‌

‌112

ح 1668) عن أبيه، والحاكم (المستدرك 2/73 - ك الجهاد) . من طريق عبيد بن شريك، كلاهما عن أبي الجماهر به. وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وذكره القرطبي في (تفسيره 8/270) ونقل عن أبي محمد عبد الحق تصحيحه. وقال الألباني: حسن.

(صحيح أبي داود ح 2172) .

قال الطبري حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال:(السائحون) الصائمون.

وسنده حسن، وأخرجه بأسانيد صحاح عن أبي هريرة وابن عباس موقوفاً أيضاً.

أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) يعني: القائمين على طاعة الله، وهو شرط اشترطه على أهل الجهاد، إذا وفوا لله بشرطه، وفى لهم بشرطهم.

ص: 489

قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قُربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم)

قال البخاري: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال:"لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أي عمّ، قل لا إله إلا الله، أحاجّ لك بها عند الله. فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لأستغفرن لك ما لم أُنه عنك"، فنزلت (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .

(الصحيح 8/192 ح 4675 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) ، وأيضاً 7/233 - ك مناقب الأنصار. باب قصة أبي طالب) ، وأخرجه مسلم في (الصحيح 1/54 ح 24 - ك الأيمان، ب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت) .

قال مسلم: حدثنا يحيى بن أيوب ومحمد بن عبّاد (واللفظ ليحيى) قالا: حدثنا مروان بن معاوية، عن يزيد (يعني ابن كيسان) ، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي".

(الصحيح 2/671 ح 976 - ك الجنائز، ب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه) .

قال الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان، حدثنا وكيع، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل كوفي، عن علي قال: سمعت رجلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان، فقال: أوليس استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين

) .

ص: 490

(السنن 5/281 ح 3101 - ك التفسير، ب ومن سورة التوبة) ، وأخرجه النسائي (السنن 4/91 - ك الجنائز، ب النهي عن الاستغفار للمشركين) من طريق عبد الرحمن بن مهدي. وأحمد (المسند ح 771 و1085) عن يحيى بن آدم ووكيع وعبد الرحمن. وابن أبي حاتم (التفسير - التوبة/113 ح 1700) من طريق أبي نعيم. والحاكم (المستدرك 2/335) من طريق أبي نعيم وأبي حذيفة ووكيع، كلهم عن سفيان به، وعند هؤلاء جميعاً زيادة وهي: نزول قوله تعالى (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة

) . قال الترمذي: حديث حسن. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وقال الألباني: حسن (صحيح الترمذي ح 2477) وكذا قال أحمد شاكر: إسناده صحيح. قال الألباني في أحكام الجنائز (ص65) : في هذا الحديث أن سبب نزول الآية غير السبب المذكور في الحديث الذي قبله -يعني حديث المسيب-، ولا تعارض بينهما لجواز تعدد سبب النزول كما وقع ذلك في غير آية وقد أيد هذا الحافظ في الفتح. (508/8 ط1 من السلفية) .

أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله:(وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه) الآية.

قال الشيخ الشنقيطي: لم يبين هنا هذه الموعدة التي وعدها إياه، ولكنه بينها في سورة مريم بقوله (قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا) .

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة قال: (تبين له) حين مات وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه يعني في قوله: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) .

أخرج الطبري بسند صحيح عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات (فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه) .

أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: (وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) يعني: استغفر له ما كان حيا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: (فلما تبين له أنه عدو الله) لما مات على شركه (تبرأ منه) .

ص: 491

قال الطبري: حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال:(الأواه) الدعّاء.

ورجاله ثقات إلا عاصم فإنه صدوق فهو حسن.

قال الطبري: حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين قال: سئل عبد الله عن (الأواه) فقال: الرحيم.

ورجاله ثقات فهو صحيح.

أخرج الطبري بسنده الحسن عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قوله: (إن إبراهيم لأواه) يعني: المؤمن التواب.

ويمكن الجمع بين الأقوال أن المؤمن الذي يدعو الله كثيرا يكون من المؤمنين والتوابين الذين يستحقون رحمة الله تعالى.

قوله تعالى (وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون إن الله بكل شيء عليم)

أخرج الطبري بسنده الصحيح عن مجاهد: (ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون) قال: بيان الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعته ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذروا.

قوله تعالى (إن الله له ملك السموات والأرض

)

انظر حديث الترمذي عن أبي ذر الآتي عند الآية (44) من سورة الإسراء (هو حديث الأطيط) .

قوله تعالى (لقد تاب الله على النبي والهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة

)

قال البخاري: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثني ابن وهب قال أخبرني يونس. ح قال أحمد: وحدثنا عنبسة، حدثنا يونس، عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن بن كعب قال: أخبرني عبد الله بن كعب -وكان قائد كعب

ص: 492

من بنيه حين عميَ- قال: سمعت كعب بن مالك في حديثه (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) قال في آخر حديثه: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أمسِك بعض مالك، فهو خير لك".

(الصحيح 8/192-193 ح 4676 - ك التفسير - سورة التوبة، ب الآية) .

وانظر رواية مسلم الآتية تحت الآية رقم (118) من نفس السورة.

قال ابن حبان: أخبرنا عبد الله بن محمد بن سلم، قال: حدثنا حرملة بن يحيى، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس أنه قِيل لعمر بن الخطاب: حدِّثنا من شأن العسرة، قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا، أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء، فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق: يا رسول الله قد عوّدك الله في الدعاء خيرا، فادعُ لنا، فقال:"أتُحب ذلك؟ " قال: نعم. قال: فرفع يديه صلى الله عليه وسلم، فلم يرجعهما حتى أظلّت سحابة، فسكبت، فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر، فلم نجدها جاوزت العسكر.

(الإحسان 4/223 ح 1383)، وأخرجه الحاكم في (المستدرك 1/159 - ك الطهارة) من طريق محمد ابن الحسن العسقلاني عن حرملة به وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وأخرجه الضياء المقدسي (المختارة 1/278 ح 168) من طريق يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب به وأورده الهيثمي في (مجمع الزوائد 6/194-195) وعزاه للبزار والطبراني ثم قال: ورجال البزار ثقات.

أخرج آدم بن أبي إياس بسنده الصحيح عن مجاهد: (في ساعة العسرة) في غزوة تبوك.

وأخرجه الطبري بسنده الحسن عن قتادة بنحوه.

قال البخاري: حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث، عن عُقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن

ص: 493

مالك -وكان قائد كعب بن مالك- قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حين تخلف عن قصة تبوك، فوالله ما أعلم أحداً أبلاه الله في صدق الحديث أحسن مما أبلاني، ما تعمّدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين -إلى قوله- وكونوا مع الصادقين) .

(الصحيح 8/194 ح 4678 -ك التفسير- سورة التوبة، ب (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .

قوله تعالى (وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)

أخرج الطبري بسنده الحسن عن قتادة: أما قوله: (خلفوا) فخلّفوا عن التوبة.

قال مسلم: حدثني أبو الطاهر، أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن سرح، مولى بني أمية، أخبرني ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام.

قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، أن عبد الله بن كعب كان قائد كعب، من بنيه، حين عمي. قال: سمعت كعب بن مالك يُحدّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب بن مالك: لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أنّي قد تخلّفت في غزوة بدر، ولم يُعاتِب أحداً تخلف عنه، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام وما أُحبُ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدرٌ أذكر في الناس منها، وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، أنّي لم أكن

ص: 494

قطّ أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعتُ قبلها راحلتين قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيدا ومفازاً، واستقبل عدواً كثيراً، فجلا للمسلمين أمرهم ليتأهّبوا أُهبة غزوهم، فأخبرهم بوجههم الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ (يريد بذلك الديوان) قال كعب: فقلّ رجل يريد أن يتغيّب، يظن أن ذلك سيخفي له، ما لم ينزل فيه وحيٌ من الله عز وجل، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فأنا إليها أصعر، فتجهزّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقتُ أغدو لكي أتجهزّ معهم، فأرجعُ ولم أقض شيئاً، وأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك، إذا أردت. فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى استمر بالناس الجِدّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه، ولم أقض من جهازي شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلتُ، ثم لم يُقدّر ذلك لي، فطفقت، إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحزُنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلاً مغموصا عليه في النفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوكاً فقال وهو جالس في القوم تبوك:"ما فعل كعب بن مالك؟ " قال رجل من بني سلمة: يا رسول الله حبسه بُرداه والنظر في عِطفيه. فقال له معاذ ابن جبل: بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيراً. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فبينما هو على ذلك رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"كن أبا خيثمة" فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري. وهو الذي تصدّق بصاع التمر حين لمزه المنافقون. فقال كعب بن مالك: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك، حضرني بثّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بِمَ أخرج من سخطه غدا؟ وأستعين على ذلك

ص: 495

كل ذي رأى من أهلي. فلما قيل لي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظلّ قادما، زاح عني الباطل، حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبداً. فأجمعت صدقه. وصبّح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلفون، فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئتُ، فلمّا سلّمتُ، تبسم تبسُّم المغضبَ ثم قال:"تعال" فجئتُ أمشي حتى جلست بين يديه.

فقال لي: "ما خلّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ " قال: قلتُ: يا رسول الله إني، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعُذر، ولقد أُعطيتُ جدلا، ولكني، والله لقد علمتُ، لئن حدثّتك اليوم حديثَ كذب ترضى به عني، ليُوشكن الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديث صدق تجد عليّ فيه، إني لأرجو فيه عقبى الله. والله ما كان لي عذرٌ. والله ما كنتُ قط أقوى ولا أيسر منّي حين تخلفت عنك. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما هذا، فقد صدق. فقم حتى يقضي الله فيك". فقمتُ.

وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك أذنبت ذنبا قبل هذا. لقد عجزت في أن لا تكون اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به إليه المخلّفون، فقد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لك. قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأكذّب نفسي. قال: ثم قلت لهم: هل لقي هذا معي من أحد؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت: من هما؟ قالوا: مُرارة بن ربيعة العامري، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً، فيهما أسوة. قال: فمضيت حين ذكروهما لي. قال: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، أيها الثلاثة، من بين من تخلف عنه. قال:

ص: 496

فاجتنبنا الناس. وقال: تغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض. فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلة. فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان. وأما أنا فكنت أشبّ القوم وأجلدهم؛ فكنتُ أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يُكلّمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُسلم عليه، وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرّك شفتيه بردّ السلام، أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه وأُسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفتُ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي، فسلّمت عليه، فوالله ما ردّ عليّ السلام. فقلت له: يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمنّ أني أحب الله ورسوله؟ قال فسكت. فعُدت فناشدته. فسكت فعُدت فناشدته. فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي، وتولّيت، حتى تسوّرت الجدار. فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا نبطي من نبط أهل الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدُلّ على كعب بن مالك. قال: فطفق الناس يشيرون له إليّ، حتى جاءني فدفع إليّ كتاباً من مَلك غسان، وكنت كاتباً، فقرأته فإذا فيه: أما بعد؛ فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة، فالحَقْ بنا نواسك. قال: فقلت حين قرأتها: وهذه أيضاً من البلاء. فتياممتُ بها التنور فسجرتها بها، حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، إذا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلتُ: أُطلقها أم ماذا أفعل؟ قال: لا، بل اعتزلها، فلا تقربنّها. قال: فأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك. قال فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. قال: فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم، فهل تكره أن أخدمه؟ قال: "لا.

ص: 497

ولكن لا يقربّنك". فقالت: إنه والله ما به حركةٌ إلى شيء، ووالله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا. قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله في امرأتك؟ فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه. قال: فقلت: لا استأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب. قال: فلبثت بذلك عشر ليال، فكمُل لنا خمسون ليلة من حين نُهي عن كلامنا. قال: ثم صليت صلاة الفجر صباح خمسين ليلة، على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله عز وجل منا، قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليَّ الأرض بما رحبت، سمعت صوت صارخ أوفي على سلع يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر. قال: فخررتُ ساجداً، وعرفتُ أن قد جاء فرج. قال فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، فذهب الناس يبشّروننا، فذهب قَبل صاحبيّ مبشرون، وركض رجل إليّ فرسا، وسعى ساع من أسلم قِبلي، وأوفي الجبل، فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعتُ صوته يُبشرني، فنزعتُ له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجاً فوجاً، يُهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهنئْك توبة الله عليك، حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المجلس، وحوله الناس، فقام طلحة بن عبيد الله يُهرول حتى صافحني وهنّأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره. قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة. قال كعب: فلمّا سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال -وهو يبرق وجهه من السرور- ويقول: "أبشر بخير يوم مرّ عليك منذ ولدتك أمك". قال فقلت: أمِن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ فقال: لا، بل من عند الله" وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرّ استنار وجهه، كأن وجهه قطعة قمر. قال: وكنا نعرف ذلك. قال: فلما جلستُ بين يديه قلتُ:

ص: 498

يا رسول الله إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمسك بعض مالك فهو خير لك". قال فقلت؟ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. قال: وقلت: يا رسول الله إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإن من توبتي أن لا أُحدث إلا صدقا ما بقيت. قال: فوالله ما علمتُ أن أحداً من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، أحسن مما أبلاني الله به. والله ما تعمّدت كذبة منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا. وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله عز وجل: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كان يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم) حتى بلغ: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قط بعد إذ هداني الله للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا. إن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شرّ ما قال لأحد، وقال الله:(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لترضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) قال

كعب: كنا خُلّفنا، أيها الثلاثة، عن أمر أولئك الذين قبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خلفوا له فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا حتى قضى الله فيه، فبذلك قال الله عز وجل:(وعلى الثلاثة الذين خلفوا) وليس الذي ذكر الله مما خُلفنا، تخلفنا عن الغزو، وإنما هو تخليفه إيانا، وإرجاؤه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.

(الصحيح 4/2120-2128 - ك التوبة، ب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه) ، وأخرجه البخاري مختصراً (الصحيح - ك التفسير - سورة التوبة) .

ص: 499