الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة: (اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة).
2 -
موضوع الرسالة: فقه الصلاة.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبه الأكرمين، وبعد: فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه على بحث لبعض الأعلام. ..
4 -
آخر الرسالة:.
…
جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها لكان لنا في الترك مندوحة.
حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218هـ.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
الناسخ: المؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 -
عدد الصفحات: 14صفحة + صفحة العنوان.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: 27 سطرا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.
10 -
الرسالة من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وبه نستعين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وآله الطاهرين، ورضي الله عن صحبة الأكرمين، وبعد:
فإنه وقف الحقير محمد بن علي الشوكاني - غفر الله ذنوبه، وستر عيوبه - على بحث لبعض الأعلام المبرزين في من أدرك ركعة من الجمعة، ولم يدرك الخطبة فأطال في ذلك وأطاب؛ ولكنه طلب مني بعض المستفيدين أن أحرر في هذه المسألة ما يظهر لي، وأوضح ما لدي، فأقول: حاصل ما يتعلق بهذه المسألة ينحصر في مقدمة وعشرة مقاصد.
أما المقدمة:
فاعلم أنه يقع كثيرا في كتب الاستدلال الإهمال للمسالك المعتبرة عند أهل العلم من كون من يدعي كون كذا شرطا (1) لكذا، أو فرضا فيه، أو ركنا له (2)، ونحو ذلك، هو الذي يطلب منه الدليل على إثبات تلك الدعوى، فإن جاء به خالصا عن شوب كدر النقص والمعارضة ونحوهما كانت دعواه صحيحة، وإن لم ينهض بذلك على الوجه المعتبر فالحق بيد المانع ولا يطالب بدليل، بل قيامه في مقام المنع، وثبوته في مركز الدفع يكفيه هذا إذا كان البحث بحث اجتهاد واستدلال، كما هو المفروض فيما نحن بصدده. وأما إذا كان البحث تقليد ونقل فليس على الناقل إلا تصحيح النقل، وهذه الجملة معلومة عند علماء هذا الفن، لا يختلفون في شيء من تفاصليها. فإذا رأيت من هو قائم في مقام المنع، وقد خاطبه المناظر به بالدليل، أو من كان مدعيا وقد تبرع له المانع بالدليل الذي ليس بسند للمنع فاعلم أن ذلك غلط في البحث، وخلط في المناظرة، فإن قيام المدعي في مقام المانع أو المانع في مقام المدعي لا يكون إلا لأحد أمرين:
إما عدم الخبرة بكيفية المناظرة، أو لقصد المغالطة والترويج للشبهة.
(1) سيأتي تعريفه.
(2)
سيأتي تعريفه.
إذا تقرر هذا فاعلم أن من ادعى أن الجمعة لا تصح بدون سماع الخطبة فقد ادعى أن الخطبة شرط، أو ركن لها، إذ الذي يقتضي البطلان هو ذلك.
أما الشرط (1) فلكونه وصف ظاهر منضبط يستلزم عدمه عدم الحكم، كما تقرر في الأصول، وأما الركن (2) فلأن الذات التي طلبها الشارع قد وجدت ناقصة، ولا تكون مجزية إلا بدليل يدل على ذلك، ولا يفيد مدعي البطلان إقامة البرهان على أن تلك الذات قد وجدت خالية عن فرض من فرائضها، أو واجب من واجباتها، لأنهما لا توجبان [1أ] بطلان ما هما فيه كذلك.
أما عند من يجعلهما مترادفين (3) فظاهر؛ إذ هما لا يستلزمان إلا المدح للفاعل، والذم للتارك، كما تقرر في الأصول (4) أن ذلك هو مفهومهما. أما عند من لم يجعلهما مترادفين كالحنفية (5) فهو لا يفرق بينهما إلا من حيث ثبوت الفرض بدليل قطعي،
(1) وقال صاحب " جمع الجوامع "(2/ 20) الشرط: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجودا أو عدم لذاته.
انظر: " المحصول "(1/ 109)، " الكوكب المنير"(1/ 359).
(2)
الركن: لغة ركن الشيء جانبه القوي. وفي الاصطلاح مايقوم به ذلك الشيء من التقوم إذ قوام الشيء بركنه.
وقيل: ركن الشيء ما يتم به وهو داخل فيه بخلاف شرطه وهو خارج عنه.
" التعريفات"(ص117).
(3)
ذكره صاحب " الكوكب المنير "(1/ 351 - 352).
(4)
انظر: " نهاية السول "(1/ 58)، " الإحكام " لابن حزم (1/ 323)، " المستصفى "(1/ 66).
(5)
رتب الحنفية على الفرق بينهما أثارا كثيرة منها أن حكم الفرض لازم علما وتصديقا وبالقلب وعملا بالبدن، وأنه من أركان الشرائع، ويكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر.
أما حكم الواجب فهو لازم عملا بالبدن لا تصديقا، ولا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إن استخف به. أما إذا تأول فلا.
وإذا ترك المكلف فرضا كالركوع أو السجود بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا في سهو.
ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة. أما إذا ترك واجبا فإن عمله صحيح، ولكنه ناقص. وعليه الإعادة فإن لم يعد برئت ذمته مع الإثم. " المسودة "(ص 50)، " تيسير التحرير "(2/ 135).
والواجب بدليل قطعي، والواجب بدليل ظني، مع كون لكل واحد منهما لوازم عنده لا مدخل لها في البطلان. فغاية ما يلزم من ترك فرضا، أو واجبا أن يكون مذموما بذلك الترك، وهذا الذم لا يستلزم بطلان الذات. ولا منافاة بين كون المكلف يمدح على تأديته لما هو مكلف به، ويذم على تركه بعض ما هو فرض أو واجب فيه. فإن الصحة سقوط القضاء في العبادات، وترتب الآثار جميعا في المعاملات، وههنا قد سقط القضاء، وهكذا الإجزاء كما قرره أهل الأصول؛ فإنهم جعلوا الإجزاء كالصحة في العبادات، وأما ما قاله المتكلمون من أن الصحة موافقة الأمر فهو غير اصطلاح أهل الأصول على أنهم قد صححوا الذات التي وقع التكليف بها مع، عدم شرطها في الواقع إذا حصل الظن بفعله فقط.
إذا عرفت هذا فاعلم أن كون الشيء شرطا لشيء لا يثبت إلا بدليل يدل على عدم وجود ذلك المشروط، عند عدم ذلك الشرط، وذلك كالنفي المتوجه إلى الذات التي وقع التكليف بها كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "(1) ونحوه، فإن هذا النفي يتوجه إلى الذات الشرعية التي وقع بها التكليف، فالخطاب باق، وعلى فرض وجود ذات غير شرعية فلا اعتبار بها، لأن التكليف الذي يلزم المكلف، ويسقط به القضاء هو شيء مخصوص، وهو ما كان شرعيا لا كل فعل يفعله، وأي صورة جاء بها، سواء كانت شرعية أم لا. وبهذا تعلم أن توجه النفي إلى الذات بهذا الاعتبار صحيح، فلا ضرورة تلجئ إلى القول بأنه لا يمكن توجيهه إلى الذات، لوجودها في الخارج، بل يتوجه إلى الصحة أو الكمال، لأنا نقول: لا اعتبار بتلك الذات التي
(1) أخرجه البخاري رقم (756) ومسلم رقم (394) وأبو داود رقم (822) والترمذي رقم (247) وابن ماجه رقم (837) وأحمد (5/ 314) من حديث عبادة بن الصامت.
وجدت في الخارج؛ إذ هي غير شرعية. والاعتبار إنما هو بالذات الشرعية التي وقع [1ب] التكليف بها. وكما يصلح الدليل المشتمل على نفي الذات لإثبات الشرطية، كذلك يصلح الدليل المشتمل على نفي القبول المتعلق بالذات، لإثبات الشرطية كقوله صلى الله عليه وآله وسلم:" لا يقبل صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ "(1).
وقد ذهب بعض المحققين إلى أنه لا تلازم بين القبول (2) والإجزاء. وقال: القبول أعم مطلقا من الإجزاء، وبينه بأن كل مقبول مجز ولا عكس (3). قال: لأن المجزي ما يخرج به المكلف عن عهدة التكليف، والقبول ما يترتب على فعله الثواب؛ وأقول: إن نفي القبول المتعلق بتلك الذات التي وقع التكليف بها ظاهره يعم القبول للذات التي يخرج المكلف بفعلها عن عهدة التكليف والقبول لثوابها إلا بدليل يدل على قبول الذات، وسقوط التكليف بفعلها مع عدم ذلك الأمر الذي كان نفي القبول لأجله، فلا يرد ما أورده هذا القائل من الأدلة على سقوط التكليف، مع تصريح الشارع بعدم القبول، كقيام الإجماع على قبول صلاة الفاسق مع قوله تعالى:(إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)(4) وكذلك الأحاديث الواردة في عدم قبلو صلاة الآبق (5)، ومن بلغت
(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6904) ومسلم رقم (2/ 225) وأبو داود رقم (60) والترمذي رقم (76) وأبو عوانة (1) وأحمد (2/ 308، 318). من حديث أبي هريرة.
(2)
أنظر " تيسير التحرير "(2/ 235)، " جمع الجوامع "(1/ 103).
(3)
انظر " المسودة "(ص52).
(4)
[المائدة: 27].
(5)
أخرجه الترمذي في " السنن " رقم (360) من حديث أبي أمامة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاثة لا تجاوز صلاتهم آذانهم: العبد الآبق حتى يرجع، والمرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وإمام قوم وهم له كارهون ". قال الترمذي في " السنن "(2/ 193): هذا حديث غريب من هذا الوجه. وهو حديث حسن
المحيض بدون خمار (1) ونحو ذلك، فإنها إذا قامت الأدلة المقبولة على سقوط التكليف مع تصريح الشارع بعد القبول (2) كانت تلك الأدلة مخصصة لما يقتضيه نفي القبول، وإن لم يقم كان الواجب البقاء على نفي القبول على العموم. فإن الفعل المنفي يتضمن النكرة، فيكون من باب النكرة (3) الواقعة في سياق النفي.
ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية النهي الصريح المتعلق بفعل الذات عند عدم شيء، وذلك كقول القائل: لا يصل أحدكم وهو محدث، ونحو ذلك؛ فإن النهي (4) يدل على الفساد المرادف للبطلان (5) إن كان لذات الشيء أو لجزء الذات، لا لأمر خارج كما قرره أهل الأصول. ولا ت نافي بين قول من قال: إنه يدل على التحريم أو القبح. ومن جملة ما يصلح للاستدلال به على الشرطية إذا قال الشارع: من فعل كذا بدون كذا ففعله خداج، أو باطل أو غير صحيح، أو غير مجز، أو نحو ذلك، مما يؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد [2أ]. وأما ذهاب ركن الشيء
(1) أخرجه أحمد في المسند (6/ 105) وأبو داود رقم (641) والترمذي رقم (377) وقال حديث حسن. وابن ماجه رقم (655) وابن خزيمة في صحيحه (1/ 380رقم 775) والحاكم في " المستدرك "(1/ 251) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وهو حديث صحيح.
(2)
انظر " السيل الجرار "(1/ 361).
(3)
انظر " جمع الجوامع "(1/ 413)، " نزهة الخاطر العاطر "(2/ 125).
(4)
قالوا أن ورود صيغة النهي مطلقة عن شيء لعينه - أي لعين ذلك الشيء كالكفر والظلم والكذب ونحوها من المستقبح لذاته: يقتضي الفساد شرعا عند الأئمة الأربعة والظاهرية. قال القرافي في " شرح وتنقيح الفصول "(ص173): ومعنى الفساد في العبادات وقوعها على نوع من الخلل يوجب بقاء الذمة مشغولة بها وفي المعاملات عدم ترتب أثارها عليها.
(5)
اختلف الأصوليون في اقتضاء النهي الفساد والبطلان وقيل بيان المذاهب في ذلك وما يترتب عليها من اختلاف الفروع يتعين علينا أن نوضح أمرين أثنين:
الأمر الأول: أحوال النهي:
1 -
أن يأتي النهي مطلقا أي مطلقا عن القرائن الدالة على أن المنهي عنه قبيح لغيره أو لعينه وهذا نوعان: أ- نوع يكون النهي عن الأفعال الحسية، كالزناوالقتل وشرب الخمر.
ب- نوع يكون النهي فيه عن التصرفات الشرعية وذلك كالصوم، والصلاة.
2 -
أن يكون النهي راجعا لذات الفعل أو لجزئه وذلك كالنهي عن بيع الحصاة وبيع الحصاة هو أن يجعل نفس الرمي بيعا. فالنهي إذن راجع إلى ذات الفعل. وكالنهي عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة. فالنهي راجع إلى المبيع وهو ركن من أركان العقد وجزء من أجزائه.
3 -
أن يكون النهي راجعا إلى وصف لازم للمنهي عنه دون أصله وذلك كالنهي عن الرباء، فالنهي من أجل الزيادة. والزيادة ليست هي عقد البيع ولا جزء له بل وصف له. أن يكون النهي عن العمل راجعا إلى وصف مجاور له، ينفك عنه، غير لازم، لأنه قد يحصل بغيرها. الأمر الثاني: بيان معنى الصحة والبطلان والفساد. الصحة: في العبادات عند الفقهاء هي عبارة عن كون الفعل مسقطا للقضاء. وعند المتكلمين: عبارة عن موافقة الشرع وجب القضاء أو لم يجب. والصحة في المعاملات: كون العقد سببا لترتب ثمراته المطلوبة عليه شرعا. البطلان: معناه في العبادة عدم سقوط القضاء بالفعل وذلك كمن وطئ في الحج بعد الإحرام وقبل التحلل الأول. ومعناه في المعاملات: تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مقيدة للأحكام. وذلك كبيع المضامين، كعقد النكاح على المحارم. معنى الفساد: فهو مرادف للبطلان عند جمهور الفقهاء وانظر قول القرافي وقد تقدم وعند الحنفية الفساد قسم ثالث مغاير للصحة والبطلان، فالفاسد عندهم هو ما كان مشروعا بأصله، غير مشروع بوصفه، وهو ما عرفه بعضهم بقوله:" ما كان مشروعا في نفسه، فائت المعين من وجه، لملازمة ما ليس بمشروع أياه بحكم الحال، مع تصور الانفصال في الجملة ". وذلك كعقد الربا، فإن البيع مشروع بأصله، لكن رافقه وصف الربا الذي هو غير مشروع. انظر:" التبصرة "(ص 100)، " المستصفى "(2/ 24)، " جمع الجوامع "(1/ 393).
الذي وقع التعبد به، فذلك كالصلاة التي هي ناقصة ركعة أو ركوعا، أو سجدة، فإن التعبد بالصلاة إنما ورد بصورة مخصوصة؛ فإذا كانت ناقصة نقصانا يخرج به عن الهيئة المطلوبة من الشارع، وهو النقصان الذاتي، فمن فعلها على تلك الصورة الناقصة لم يفعل الصورة التي طلبها منه الشارع.
فإذا ادعى صحتها فعليه الدليل، ويكفي المانع للصحة أن يقوم في مركز المنع حتى يأتي مدعي الصحة بما ينقله عن مقام المنع، ولا ينقله عن ذلك إلا دليل صحيح يدل على أن تلك الصورة الناقصة صحيحة، مجزية، مسقطة للقضاء، هذا إذا كان قد اتفق المتناظران على أن ذلك الشيء الذي تركه المكلف هو ركن من أركان الصورة التي وقع التكليف بها، وأنها بدونه ناقصة نقصانا ذاتيا؛ أما إذا لم يتفقا، بل قال أحدهما: إن هذ الشيء الذي تركه المكلف ليس بجزء من أجزاء الصورة المطلوبة، أو أنه لا يوجب نقصانا في تلك الصورة فالدليل على مدعي الجزئية، وكون ذلك الجزء يوجب نقصا في الصورة المطلوبة من الشارع؛ ويكفي المانع قيامه في مقام المنع، حتى يبرهن المدعي على دعواه. فإذا برهن عليها برهانا مقبولا لم يقبل بعد ذلك المنع المجرد من المناظر له، بل قد ثبت بالبرهان أن ذلك الشيء ركن لتلك الصورة المطلوبة.
فمن ادعى أنها مقبولة بدونه فعليه البرهان، إن جاء به فذاك، وإلا كان عليه أن يسلم بأنها غير مقبولة ولا مجزئة. إذا تقرر لك ما يكون به الشرط شرطا، وما يكون به الركن ركنا، وما هو الدليل الذي يصلح لإثبات ذلك، عرفت أن المقتضي للبطلان ما وقع التكليف به هو إما عدم شرطه، أو عدم شطره، لا عدم ما هو واجب من واجباته التي ليست بشرط ولا شطر. فمن استدل مثلا بالأمر بشيء على كون ذلك الشيء شرطا يستلزم عدمه عدم المشروط فقد غلط غلطا بينا، بل عامة ما يفيده الأمر هو كون ذلك المأمور به واجبا يمدح فاعله [2ب] ويذم تاركه. وهو لا يدل على استلزام عدمه لعدم ما هو واجب فيه، لا بمطابقة، ولا تضمن، ولا التزام. وإذا كان الأمر الصريح المفيد للوجوب بقاء على معناه الحقيقي، لعدم وجود ما يصرفه لا يفيد البطلان، فبالأولى عدم
استفادة ذلك من طول الملازمة، وتكرير الفعل، وإلى هنا. انتهى ما نريده من المقدمة، فلنشرع الآن في المقاصد فنقول:
[المقصد الأول]
إذا قال قائل: إن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، أو شطر لها، فمنع ذلك مانع، فالدليل على مدعي الشرطية أو الشطرية. ويكفي المانع وقوفه في موقف المنع، فيقول مثلا: لا أسلم أن الخطبة شرط لصلاة الجمعة، ولا أسلم أنها شطر لها. ولا يفيد المدعي إلا دليل يدل على أن الخطبة شرط. وقد عرفت أنه لا يدل على الشرطية إلا تلك الأدلة الخاصة، لا مجرد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: كان يخطب، أو أنه أمرنا بالخطبة، أو نحو ذلك. ولا يمكنه ههنا دعوى كون الخطبة ركنا لصلاة الجمعة، لأن صلاة الجمعة صلاة تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم. فما لم يكن بين تحريمها وتحليلها فليس منها فضلا عن أن يكون شرطا لها ولا ريب أن الشرط كما يكون داخلا ومصاحبا يكون خارجا، ولكن أين الدليل الذي يدل على الشرطية التي هي المدعاة.
[المقصد الثاني]
أن بعض الأعلام وهو الذي قدمنا الإشارة إليه في أول هذا البحث جعل عنوان بحثه: الكلام على تضعيف رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى "(1)، وغير خاف عليك أن المقام مقام الاستدلال من مدعي الشرطية أو الشطرية، لا مقام إيراد دليل من هو قائم مقام المنع، فإنه ليس بمستدل في هذا المقام، ولا يتوجه عليه الخطاب بإبراز الدليل، ولا يصلح للمدعي أ، يغضب عليه منصب المنع، فيجعله مستدلا، ويجعل نفسه مانعا، فإن هذا مخالف لأدب البحث، ومباين لقواعد المناظرة.
(1) انظر الرسالة رقم (87).
[المقصد الثالث]
أنه - كثر الله فوائده [3أ]- سلم في عنوان بحثه، الذي أشرنا إليه، أنه قد ثبت الحديث بلفظ:" من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " كما في الصحيحين (1) وغيرهما، فلو فرضنا أن المانع قد تبرع بإيراد هذا الدليل، ولم يتوقف في مركزه الذي ليس عليه غير الوقوف فيه، بل جاء بما يشبه سند المنع قائلا: لم لا يجوز أن تكون الجمعة كسائر الصلوات؟ يحصل إدراكها بإدراك ركعة منها، للحديث المذكور في الصلاة على العموم، لكان في هذا السند للمنع من الفائدة ما يوجب على من ادعى أنها ليس كسائر الصلوات أن يقيم البرهان على ذلك، لأن صلاة الجمعة قد وجد فيها ما وجد في غيرها من الصلوات، وهي كونها ذات أذكار وأركان، تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم (2)، مع كونها قد قامت مقام إحدى الصلوات الخمس.
فالقائل بأنها كسائر الصلوات القول قوله، والظاهر معه، والدليل على مدعي إخراجها عن الصلوات، وعدم الاعتداد بإدراك ركعة منها، ولا يفيد ذلك إلا دليل يدل على الأمرين جميعا، أعني أنها لا تستحق هذا الوصف، وهو أنها صلاة من الصلوات، ولا يكون إدراك الركعة منها إدراكا لها، فأين هذا الدليل؟ وما هو؟.
[المقصد الرابع]
لو سلم المانع بأن رواية: " من أدرك من الجمعة ركعة فقد أدركها. (3) أو: " من
(1) تقدم مرارا.
(2)
يشير إلى الحديث الذي أخرجه أبو داود رقم (618) والترمذي رقم (3) وابن ماجه رقم (275) والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(1/ 273) والشافعي كما في " ترتيب المسند "(1/ 70 رقم 206) وابن أبي شيبة (1/ 229) وأحمد (1/ 129) من حديث على رضي الله عنه مرفوعًا بلفظ: " مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير التسليم ". وهو حديث حسن.
(3)
تقدم تخريجه.
أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى وقد تمت صلاته " (1). باطلة أو موضوعة، فماذا عليه؟ وهو يقول أنا أمنع كون الخطبة شرطا أو شطرا، حتى يكون من لم يدركها غير مدرك لصلاة الجمعة، أو يقول: أنا أتبرع بسند لهذا المنع.
فأقول: قد ثبت في سائر الصلوات بالاتفاق، وبالدليل الصحيح، أن من أدرك ركعة منها فقد أدركهأ، ويتم ما بقي عليه من عدد تلك الصلاة، فما بال الجمعة لم تكن هكذا، مع كونها صلاة من الصلوات بالاتفاق، ومسقطا لإحدى الصلوات الخمس بلا خلا ف. فأنا أطلب الدليل من المدعي لها [3ب] ما ليس لغيرها من شرط أوشطر، ومن المدعي أنها ليست كغيرها في أنه يكون مدراك الركعة منها مدركا لها، وتم ما بقي عليه منها، فأين البرهان على هذا؟ أو ما هو؟.
[المقصد الخامس]
ما ذكره - دامت إفادته - من أن الإجماع كائن على أن من أدرك الركعة لا يكون مدركا لكل الصلاة، بل يتم ما بقي، فيقال له: وهكذا القائل بأن إدراك الركعة من الجمعة، إدراك للجمعة لا يقول إنها تدرك الجمعة كلها بالركعة من دون تمام، بل يقول: إنه يتم الركعة الأخرى كسائر الصلوات، وليس مطلوبه إلا هذا، مع منعه للتفرقة بين صلاة الجمعة وغيرها، فهذا القدر يكفيه، مع أنه يمكنه أن يربط ما يقوله بفحوى الخطاب فيقول: إذا كان إدراك ركعة من سائر الصلوات يكفي في إدراكها، وإن خرج الوقت بعد إدراك الركعة، وقبل تمام بقيتها فكيف لا يكون من أدرك ركعة من الجمعة مع بقاء وقتها! والتمكن من تأدية الركعة الباقية في الوقت مدركا لها، مجتزيا بها، فهذا سند للمنع قوي، وكلام سوي.
(1) تقدم تخريجه.
[المقصد السادس]
قال - كثر الله فوائده - بعد أن ساق طرق حديث: من أدرك من الجمعة ركعة ما لفظه: قلت: وهذا محمول على أنه أدرك الفضيلة، أو أدرك وقتها، بدليل قوله إلا أن يقضي ما فاته.
وأقول: إن كان هذا الحمل للأدلة الواردة في سائر الصلوات من غير تخصيص بالجمعة استلزم عدم الاعتداد بالركعة التي يدركها المدرك من جميع الصلوات، وأن من أدرك من الجماعة ركعة فلا اعتبار بتلك الركعة، بل المدرك لها إنما أدرك الفضيلة فقط، ويستأنف الصلاة من أولها في جماعة أو فرادى. وهكذا من أدرك من صلاة من الصلوات الخمس بركعة، وخرج وقتها لم يدرك إلا الفضيلة، وقد فاتته الصلاة، وهذا خرق للإجماع، وإهمال للأدلة المتواترة.
وإن كان هذا الحمل إنما هو لصلاة الجمعة فقط، فما ذنبها مع اندراجها تحت الأحاديث الصحيحة المتواترة المصرحة بأن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدركها، وهي صلاة بالاتفاق؛ بل عليه أن يضيف إليها أخرى، ولا يقتصر [4أ] على الركعة بناء على ظاهر الحديث ويقول: قد تمت صلاة الجمعة بإدراك الركعة، وليس عليه غير ذلك؛ فهذا معلوم للمانع، كما هو معلوم للمستدل، بل هو مجمع عليه، ولا يحتاج إلى الحمل، فإن الأدلة قد دلت على أنه يتم ما بقي عليه.
[المقصد السابع]
قال - كثر الله فوائده -: قد تقرر في الأصول أن الفعل إذا كان تبيانا لواجب مجمل وجب، والخطبة من بيان المجمل المأمور به في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ.
…
) (1) الآية.
(1)[الجمعة: 9].
ولا يشك أن الخطبة من ذكر الله، وقصر الذكر على الصلاة محتاج إلى دليل فما هو؟.
أقول: إذا كان الواجب المدعو إليه هو الذكر الذي هو الخطبة، والذكر الكائن في الصلاة، فمن أين الإجمال سلمنا، فكل واحدة من الخطبة والصلاة مأمور بالسعي إليها على طريق الاستقلال، فكل واحد منهما واجب مستقل، فمن أدرك الواجبين فقد أدركهما، من أدرك أحدهما فقد أدركه، فمن أين للمدعي شرطية أحدهما للآخر، أو شطريته؟ والبرهان على ذلك وهذا هو محل النزاع، ولا سبيل له إلى ذليل يدل على أن خطبة الجمعة شرط لصلاة الجمعة، كما أنه لا سبيل له إلى تصحيح دعوى أن الخطبة شطر للصلاة، بعد تسليمه أنها صلاة مستقلة بتحريم، وتحليل، وأذكار، وأركان. فخلاصة ما يستفاد من الآية التي فيها الأمر بالسعي هو وجوب السعي، لا وجوب ما إليه السعي. ولو سلمنا أن وجوب الوسيلة بعلوم وجوب المتوسل إليه، فغاية ما هناك أنه يجب على الساعي استماع الخطبة، وهذا واجب مستقل، وفعل الصلاة، وهذا أيضًا واجب مستقل. فما الذي تقيده هذه الآية؟ غير هذا، وهو كون أحد الواجبين المنفصل أحدهما عن الآخر شرطا له أو شطرا له حتى يكون سماع الخطبة مؤثرا عدمه في عدم الصلاة.
فالحاصل أن المطلوب منه - عافاه الله - أن يبين؛ أولا الإجمال الذي ادعاه، ثم يوضع دليل الوجوب، ثم يبرهن على أن الخطبة داخلة في المدعو إليه، فإن الذي فهمه الصحابة فمن بعدهم أن الدعاء بالآية الكريمة، إنما هو إلى الصلاة [4ب].
ثم يبين أن الخطبة شرط للصلاة، أو شطر لها، حتى يصح ما ادعاه من أن من فاتته الخطبة لم يعتد بصلاة الجماعة، فإن هذا أعني عدم الاعتداد بالشيء لا يكون إلا لفوات شرطه أو شطره، ومهما أمكنه بيان ما تقدم فلا يمكن بيان هذا الوجه الآخر بوجه من الوجوه، وهو محل النزاع.
[المقصد الثامن]
قال - كثر الله فوائده -: " مجيبا على من علل بالانقطاع: إن أصحابنا يحتجون بالمنقطع (1)، فيقال له: إن كان المقصود بيان مذهب الأصحاب فنصوصهم في هذه المسألة معروفة للمقصر والكامل، ومصرح بها في المختصرات من كتب الفقه، فضلا عن المطولات، فقد صرحوا تصريحا لا شك فيه أن من لم يدرك قدر آية من الخطبة أتمت ظهرا، ولكن الشأن في دفع التعليل بالانقطاع بكون مذهب الأصحاب العمل به، فإنه لا يعجز المعلل بالانقطاع أن يقول: ومذهب أصحابه أنهم لا يحتجون به وحينئذ فما التخلص عن أصحاب هذا، وأصحاب هذا، وإن كان مقصودة بيان الحق في الواقع في هذا التحرير الذي حرره، فيقال له: كيف يكون ما انقطع إسناده مما تقوم به الحجة والعقل، يجوز أن ذلك الانقطاع قد يكون في كذب، أو رضاع، أو ضعيف لا يحتج به، كم يجوز العقل أن الذي فيه ثقة مقبول، بل التجويز الأول أظهر، لأن غالب الانقطاع، والتدليس، والإرسال، والإعضال (2) لا يكون إلا لعلة، وإلا فما وجه ذكر بعض الرجال السند دون بعض؟.
وما النكتة في ذلك مع كون كلهم ثقات تقوم بكل واحد منهم الحجة.
(1) المنقطع: وهو ما لم يتصل إسناده، سواء سقط منه صحابي أو غيره وبعبارة أخرى، سواء ترك ذكر الراوي من أول السند أو وسطه أو آخره إلا أن الغالب استعماله في رواية من دون التابعي عن الصحابي كمالك عن ابن عمر، المنقطع ضعيف لا يحتج به.
" وقواعد التحديث " للقاسمي (ص130). " إرشاد الفحول "(ص 247).
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 248): ولا تقوم الحجة بالمعضل وهو الذي سقط من رواته اثنان ولا بما سقط من رواته أكثر من اثنين لجواز أن يكون الساقط أو الساقطان أو الساقطون أو بعضهم غير ثقات.
(2)
انظر التعليقة السابقة.
[المقصد التاسع]
قال - كثر الله فوائده -: فإن قيل: هذا الذي روي عن ابن مسعود غير مرفوع، فيحتمل أن يكون مذهبا له، قيل له: الظاهر أن ذلك من المرفوع إذ لا يصدر ذلك التعميم من ذلك الصحابي الجليل، وعنده سنة مخالفة، والاحتمال لا يدفعه الظهور.
أقول: أما كونه لا يصدر عنه ذلك، وعنده سنة مخالفة فيمكن. ولكن قد وقع من جماعة من الصحابة المخالفة لما رروه بالراي، كحديث غسل الإناء سبع مرات من ولوغ [5أ] الكلب، وتعفيره بالتراب (1)؛ فإن أبا هريرة (2) الراوي له كان يفتي بثلاث. وكذا الكلام فيمن أصبح جنبا، وفي مواضع عديدة. فإن كان هذا التعلق المذكور نافعا فيلزم صاحب البحث - عافاه الله - أن يجعل قول كل صحابي حجة، ويقدمه على المرفوع، وما أراه يقول بذلك. ثم إذا سلمنا أن ابن مسعود إنما قال ذلك لأنه لم يكن عنده سنة مخالفة، فماذا ينفعنا هذا. غاية الأمر أن أفتي لعدم وجود النص لديه، فمن أين يستلزم هذا أن لا يكون ذلك اجتهادا منه؟ وأي قول لصحابي (3) في كل جزء من جزئيات الشريعة لا يمكن أن يدعي فيه مثل هذا، ومن قد سبقه إلى مثل هذه المقالة، فإن أهل الأصول وغيرهم إنما جعلوا لأقوال الصحابة حكم الرفع إذا كان الشيء لا مجال للاجتهاد فيه (4) كتقدير الجزاء، وعدد الركعات، والطوافات، والرمي للجمرات وما
(1) أخرجه مسلم رقم (280) وأحمد (4/ 86) وأبو داود رقم (74) والنسائي (1/ 177) وابن ماجه رقم (365) والدارمي (1/ 188) والدراقطني (1/ 65 رقم 11) والبيهقي (1/ 241 - 242) عن عبد الله بن مغفل. وهو حديث صحيح.
(2)
انظر المحلى (1/ 114 - 115).
(3)
تقدم قول الصحابي وتفصيل ذلك، وانظر: إرشاد الفحول ص 797.
(4)
قول الصحابي حجة فيما لا يدرك بالرأي والاجتهاد، حجة عند العلماء لأنه محمول على السماع من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من قبيل السنة والسنة مصدر للتشريع. قال الإمام النووي في مقدمة شرح صحيح مسلم (1/ 30): إذا قال الصحابي: كنا نفعل في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أو في زمنه، أو هو فينا أو بين أظهرنا أو نحو ذلك فهو مرفوع. الإحكام للآمدي (4/ 155 - 156).
نزهة الخاطر (1/ 403 - 406).
جرى هذا المجرى، فكيف يقال في مثل ما نحن بصدده من صلاة الجمعة أنه لا مجال للاجتهاد فيه. فإن كان الجزم منه بعدم احتماله للاجتهاد صادرا عن دليل فما هو؟ وإن كان لا جزم منه بل مجرد احتمال فنحن نمنع هذا الاحتمال، على أنه لو سلم الاحتمال لكان جوابنا عليه بما قاله هاهنا، من أن الاحتمال لا يدفع الظهور. [المقصد العاشر]
قد ترك - كثر الله فوائده - العمل بالأحاديث المروية فيمن أدرك ركعة من الجمعة مع كون بعضها قد صححه بعض الأئمة المعتبرين (1)، وبعضها قد حسنه بعضهم وبعضها فيه مقال، ولو فرض أنه لا صحيح فيها ولا حسن لكانت بمجموعها مع كثرة طرقها، وتباين مخارجها من الحسن لغيره، وهو معمول به، فما باله - عافاه الله - عدل عن هذه الروايات المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى ما رواه عن أولئك الصحابة رضي الله عنهم مع كون في طرق تلك الروايات عن الصحابة من المقال [5ب] ما هو أشد مما قيل في طرق هذه الأحاديث المرفوعة (2).
فليت شعري كيف وقع له هذا مع إنصافه وطول باع عرفانه، وما الموجب لهذا عليه، مع كون قول الصحابي ليس بحجة عنده، ما لم يكن إجماعا لهم على خلاف فيه، فلقد طال تعجبي من ذاك. وكيف أبعد النجعة هذا الإبعاد، وسافر إلى دعوى الإجمال في الآية الكريمة، ثم لم يكفه ذلك حتى زعم أنه يجب على الأمة العمل بقول صحابي لكونه لا يقول ما قال إلا لعدم وجود دليل لديه، وأنه لا مجال للاجتهاد في ذلك، فله
(1) انظر الرسالة رقم (87).
(2)
انظرها في الرسالة رقم (87).
حكم الرفع، فهب أنه لا وجود لدليل لدى ذلك الصحابي فكان ماذا، فقد جاءنا الدليل الثابت في الصحيح (1) وغيره (2) من طريق جماعة من الصحابة أن من أدرك من صلاة العصر ركعة قبل طلوع الشمس فقد أدرك، ومن أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل طلوع الشمس فقد أدركها، ومن أدرك من الصلاة ركعة قبل خروج وقتها فقد أدركها (3)، من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة (4)، من أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة (5). وألفاظ غير هذه، لا يتسع المقام لبسطها، وهي متواترة في المعنى المراد. أعني أن إدراك ركعة من الصلاة قبل خروج وقتها، أو مع الإمام إدراك لها، ويتم ما بقي عليه. ولا خلاف بين المسلمين أن الجمعة صلاة، وأن لها ركعة يمكن إدراكها، كما لغيرها ركعة يمكن إدراكها. فهلا قدم - كثر الله فوائده - هذه السنة المتواترة وقال: الجمعة كغيرها.
فإن قال: قد قام البرهان أنها ليست كغيرها. فما هو البرهان؟ وما الموجب لإخراجها عن غيرها مع كونها صلاة ذات أذكار وأركان، فيها تحريم بالتكبير، وتحليل بالتسليم، وقد قامت مقام غيرها من الصلوات الخمس، وهي الظهر في يوم الجمعة؟ فإن قال: إن الذي أخرجها عن هذه العمومات، ما رواه عن بعض الصحابة. فهل يقول في غير هذه المسألة بالتخصيص للسنن المتواترة بمثل ذلك، أم هذا تخصيص منه لهذه العبارة بهذه الخصوصية. فإن قال: إنه يقول في غيرها بذلك فما البرهان على هذا؟ وإن كان لا
(1) أخرجه البخاري رقم (556) ومسلم رقم (163/ 608).
(2)
كأحمد (2) وأبو داود رقم (412) والترمذي رقم (1116) والنسائي (1 - 258) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر.
(3)
انظر التعليقات السابقة.
(4)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم 580 ومسلم رقم 607 من حديث أبي هريرة وقد تقدم مرارا.
(5)
تقدم مرارا، وهو حديث صحيح.
يقول بذلك بل يخص هذه العبادة بذلك [6أ] وحدها دون غيرها، فما هذا بأول تعسف خصصت به هذه العبادة. فقد تلاعبت بها أقوال الرجال من يمين إلى شمال (1). هذا يقول: لا تصح إلا بعدد أربعين، وآخر يقول بأكثر من ذلك العدد، وآخر يقول بأقل منه، وهذا يقول: يشترط فيها المصر الجامع، وآخر يقول الذي فيه حمامات ومساجد ويسكنه عشرة آلاف، وآخر يقول دون ذلك، وآخر يقول أكثر، وهذا يقول: الإمام الأعظم على شروط يشترطونها واختراعات يخترعونها، وهذا يقول: يشترط سماع الخطبة، وهذا يقول كذا، وهذا يقول كذا. ليت شعري ما بال هذه العبادة من بين سائر العبادات ثبتت لها شروط وفروض وأركان بأمور لا يستحل العالم المحقق العارف بكيفية الاستدلال أن يجعل أكثرها سننا، ومندوبات، فضلا عن فرائض وواجبات، فضلا عن شرائط.
ومع هذا فقد تأكد دخول هذه الصلاة تحت عموم الصلوات بأدلة خاصة مصرحة بها. وبالغ الشارع في البيان حتى قال: من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، وقد تمت صلاته. (2) فلم يكتف بمجرد الإدراك، بل ضم إلى ذلك إضافة أخرى إليها ثم لم يكتف بذلك، بل جاء بما يدفع كل علة، وينقع كل غلة، فقال: وقد تمت صلاته. ومع هذا فقد أوضحنا لك أن الدليل على مدعي كون لهذه العبادة شرطا أو شطرا، وبينا ما يصلح للاستدلال به على مثل ذلك، فأين الدليل القائل لا صلاة جمعة لمن لم يسمع الخطبة أو بعضها، أو لا تقبل صلاة جمعة إلا بسماع خطبة، أو لا يصل أحدكم الجمعة إذا لم يسمع شيئا من الخطبة، فإنا لم نجد حرفا من هذا في السنة المطهرة؛
(1) انظر المغني (3/ 184) قال ابن قدامة: أكثر أهل العلم يرون أن من أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام فهو مدرك لها، يضيف إليها أخرى، ويجزئه وهذا قول ابن مسعود وابن عمر وأنس وسعيد بن المسيب والحسن وعلقمة والأسود وعروة، والزهري والنخعي ومالك، والثوري والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وأصحاب الرأي، وانظر مزيد تفصيل في المصدر المذكور.
(2)
تقدم تخريجه.
بل لم نجد فيها قولا يشتمل على الأمر بها الذي يستفاد منه الوجوب، فضلا عن الشرطية. وليس هناك إلا مجرد أفعال محكية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه خطب وقال في خطبته كذا، وقرأ كذا، وهذا غاية ما فيه أن تكون الخطبة قبل صلاة الجمعة سنة [6ب] من السنن المؤكدة، لا واجبة، فضلا عن أن تكون شرطا للصلاة بخلاف الصوم، فإن الشارع صرح لأمته أن الله أبدلهم يوم الجمعة بصلاة مكان صلاة الظهر وهي الجمعة.
وورد الأمر بها والنهي عن تركها (1)، والوعيد لتاركها (2) بأن يحرق عليه منزله بالنار ، وبأن الله يطبع على قلبه (3)، ويختم على قلبه ويكون من الغافلين، وغير ذلك من النصوص الصحيحة الصريحة الكثيرة، ولم يأت في حرف منها ذكر الخطبة، ولا ما يدل على وجوبها، فضلا عن كونها شرطا للصلاة، ولا ورد الوعيد على تركها لا بتصريح ولا بتلويح. فما بال من يتصف بجعلها فريضة كفريضة صلاة الجمعة، وتجاوز ذلك إلى أنها شرط لصلاة الجمعة، فليته إذا فرط في إثبات مشروعية الخطبة وجاوز بها كونها سنة إلى كونها فريضة أن لا يدعي ما لا يقبله الإنصاف من كونها شرطا لغيرها، ويهمل ما يعتبره أهل العلم في دلائل الشروط من الأمور التي يجب الوقوف عندها، بل يعمل الأدلة المتواترة الواردة في أن من أدرك ..............
(1) لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} [الجمعة: 9]
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (254/ 652) وأحمد (1/ 402، 422، 449، 461) وابن خزيمة رقم (1853، 1854) من حديث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة: لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم.
وهو حديث حسن.
(3)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (655) من حديث أبي هريرة: لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين.
ركعة من الصلاة فقد أدركها (1) بل يعمل الأدلة الخاصة بصلاة الجمعة بعد اندراجها تحت هذا العموم، وقد رويت من ثلاث عشرة طريقا (2)، من حديث أبي هريرة، يقول الحاكم في ثلاث (3) منها: إنها على شرط الشيخين، ورويت من ثلاث طرق من حديث (4) ابن عمر، ورويت من طرق غير هذه الطرق (5). فليت شعري ما هو الأولى بالتأثير؟ هل جميع ما ذكرناه هنا، أم قول يقوله بعض الصحابة على ضعف في طريقه، ونزاع فيمدلوله، وكونه من باب الاجتهاد، والذي لا يكون حجة على أحد فليتأمل
(1) تقدم تخريجه
(2)
انظر الإرواء (3/ 84 - 90 رقم 622).
(3)
1 - أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق الأوزاعي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الصلاة.
2 -
أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق أسامة بن زيد الليثي عن الزهري عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
3 -
أخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 291) من طريق مالك بن أنس وصالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن أبي سلمة أن أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
4 -
وأخرجه ابن ماجه في السنن (1/ 356 رقم 1121) من طريق عمر بن حبيب، عنه بلفظ: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها أخرى.
(4)
أخرجه النسائي (1/ 274 رقم 557) وابن ماجه رقم (1123) والدارقطني (2/ 12 رقم 12) من حديث ابن عمر. وقال ابن حجر في بلوغ المرام عند الحديث رقم (5/ 416) إسناده صحيح وقوى أبو حاتم في العلل إرساله (1/ 172 رقم 491).
والخلاصة أن الحديث بذكر الجمعة صحيح من حديث ابن عمر، لا من حديث أبي هريرة.
(5)
وأخرجه الطبراني في الكبير (9/ 358 رقم 9545) من حديث ابن مسعود بلفظ من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان فليصل أربعا. وقال: وأورده الهيثمي في المجمع (2/ 192) وقال: إسناده حسن.
المنصف هذا بعين بصيرته، وليدع ما يعرض له من أسباب العدول عن الصواب؟ فالدين دين الله، والتكليف هو لعباد الله، والشريعة المطهرة الموضوعة بين ظهراني هذا العالم هي ما في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وليس أحد من العباد بمستحق للمجادلة والمصاولة عن وقله على وجه يستلزم طرح ما هو ثابت من الشريعة، فأهل العلم أحياؤهم وأمواتهم، وإن بلغوا في معرفة الشريعة المطهرة إلى حد يقصر عنه الوصف، وفي التقيد بها إلى مبلغ تضيق عنه العبارة [7أ]، وفي جلالة القدر ونبالة الذكر إلى رتبة يضيق الذهن عن تصورها، فهم رحمهم الله متعبدون بهذه الشريعة كتعبدنا بها، وتابعون لا مبتدعون ومكلفون لا مكلفون. هذا يعلمه كل من لديه نصيب من علم الشريعة، ومع هذا فالخلاف قائم بين أهل البيت رضوان الله عليهم في هذه المسألة فضلا عن غيرهم.
قال الأمير الحسين في الشفا: فصل: فيمن أدرك ركعة من الجمعة ولم يدرك شيئا من الخطبة اختلف في ذلك علماؤنا رحمهم الله فقال يحيى: من لم يدرك من الخطبة قدر آية لم تصح منه الجمعة، وصلى أربعا، وبه قال ولده أحمد بن يحيى، فإنه قال: من لم يدرك شيئا من الخطبة يصلي الظهر أربعا عند القاسم، والناصر، وعند زيد بن علي أن من أدرك ركعة من الجمعة اضاف إليها أخرى، وأجزأته الجمعة. وبه قال المؤيد بالله والمنصور بالله (1)، انتهى كلامه.
(1) قال الشوكاني في السيل الجرار (1/ 612 - 613): قد عرفت مما أسلفنا أنه لم يصح شيء من تلك الشروط وأن إطلاق اسم الشروط عليها لم يدل عليه دليل يثبت به الوجوب فضلا عن الشرطية إلا الخطبتان، فقد قدمنا أن دليلهما قد يدل على وجوبهما، وبعد هذا كله تعلم أنه لا يضر اختلال شيء مما جعله شروطا، ثم حكمه على بعض الشروط بأنه يضر اختلاله قبل الفراغ وبعضها بأنه لا يضر بعد حكمه على الجميع بالشرطية - تحكم يأباه الإنصاف فإن الشرط هو ما يؤثر عدمه في العدم فكيف كان بعض الشروط مؤثرا وبعضها غير مؤثر، فهذا مع كونه تحكما مخالف لاصطلاح أهل الأصول والفروع. وأعجب من ذلك كله أنه لا دليل بيده يدل على ما ذكره لا صحيح ولا حسن ولا ضعيف بل إيجاب فرض الجمعة وتتميمها ظهرا مخالف للدليل وهو ما أخرجه النسائي (3/ 12 رقم 1425) من حديث أبي هريرة بلفظ: ومن أدرك الركعة من الجمعة فقد أدرك الجمعة. ولهذا الحديث اثنا عشر طريقا صحح الحاكم ثلاثا منها وقال في البدر المنير: هذه الطرق الثلاث أحسن طرق هذا الحديث والباقي ضعيف - انظر التعليقة السابقة - ثم قال: فهذه الأحاديث تقوم بها الحجة ويندفع ما قاله المصنف صاحب الأزهار ويدل على ما دلت عليه هذه الأحاديث ما في الصحيحين - البخاري رقم (580) ومسلم رقم (607) وغيرهما - كأبي داود رقم (1121) والترمذي رقم (523) والنسائي رقم (532) وابن ماجه رقم (1122) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة، فإن صلاة الجمعة داخلة في هذا العموم ولا تخرج عنه إلا بمخصص ولا مخصص
ولنقتصر على هذا المقدار، ففيه كفاية لمن كانت له هداية، ولولا أن جامع البحث الذي جمعنا هذه الورقات للكلام على ما فيه من العلماء المنصفين المؤثرين للأدلة على غيرها كلان لنا في الترك مندوحة.
حرر في نهار يوم الخميس لعله سادس شهر شوال سنة 1218 [7ب].