الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاثة أبحاث:
1 -
بحث في المحاريب
2 -
بحث في الاستبراء
3 -
بحث في العمل بالرقومات
تأليف محمد بن علي الشوكاني
حققته وعلقت عليه وخرجت أحاديثه محفوظة بنت علي شرف الدين أم الحسن
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الأبحاث: - بحث في المحاريب - بحث في الاستبراء - بحث في العمل بالرقومات.
2 -
موضوع الرسالة: فقه.
3 -
أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد: فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتمضن. ..
4 -
آخر الرسالة:.
…
إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق.
حرره المجيب بن محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما في شهر جمادى الآخرة سنة (1215هـ).
5 -
نوع الخط: خط نسخي معتاد.
6 -
الناسخ: لمؤلف: محمد بن علي الشوكاني.
7 -
عدد الأوراق: (14) روقة = (28) صفحة.
8 -
عدد الأسطر في الصفحة: 22 - 25 سطرا.
9 -
عدد الكلمات في السطر: 11 - 12 كلمة.
10 -
الرسالة - أو الأبحاث - من المجلد الثاني من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين. وبعد:
فإنها وردت مذاكرة من بعض أهل العلم تتضمن السؤال عن ثلاثة أبحاث:
البحث الأول:
السؤال عن صحة ما ذكره الحافظ السيوطي في الجامع الصغير من حديث ابن عمرو مرفوعًا بلفظ: " اتقوا هذه المذابح يعني المحاريب " قال أخرجه الطبراني في الكبير (1)، والبيهقي في شعب الإيمان (2)، ثم قال السائل - عافاه الله -: إن وجد في حاشية ما لفظه: أخرج ابن أبي شيبة (3) .....................
(1) كما في " مجمع الزوائد "(8) وقال الهيثمي: " وفيه عبد الله مغراء وثقه ابن حبان وغيره، وضعفه ابن المديني في روايته عن الأعمش وليس هذا منها.
(2)
بل في " السنن "(2/ 439) بسند حسن.
وقد عزاه السيوطي في " الدر المنثور "(2/ 188) إلى البيهقي في سننه ولم يعزه للبيهقي في شعبه.
قلت: حديث ابن عمرو صحيح لغيره.
(3)
في مصنفه (2/ 59) وهو حديث ضعيف.
قال الألباني رحمه الله في " الضيفة "(1/ 640) وهذا سند ضعيف وله علتان:
الأولى: الإعضال، فإن موسى الجهني - وهو ابن عبد الله - إنما يروي عن الصحابة بواسطة التابعين، أمثال: عبد الرحمن بن أبي ليلى، والشعبي ومجاهد، ونافع وغيرهم، فهو من أتباع التابعين، وفيهم أورده ابن حبان في " ثقاته "(7/ 449).
وعليه، فقول السيوطي في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب " - (ص68) - " إنه مرسل " ليس دقيقا، لأن المرسل في عرف المحدثين إنما هو قول التابعي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ليس كذلك.
الأخرى: ضعف أبي إسرائيل هذا، واسمه إسماعيل بن خليفة العبسي، قال: الحافظ في " التقريب "" صدوق سيء الحفظ ".
وهذا على ما وقع في نسختنا المخطوطة من " المصنف " ووقع فيما نقله السيوطي عنه في " الإعلام "" إسرائيل " يعني: إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة وهو من طبقة أبي إسرائيل، وكلاهم من شيوخ وكيع، فإن نسختنا جيدة مقابلة بالأصل، نسخت سنة 735هـ. وقد عرفت أن الصواب معضل، وهذا إن سلم من أبي إسرائيل، وما أظنه بسالم فقد ترجح عندي أن الحديث من روايته، بعد أن رجعت إلى نسخة أخرى من " المصنف "(1/ 188) فوجدتها مطابقة للنسخة الأولى، وعليه فالسند ضعيف مع إعضاله ثم رأيته كذلك في " المطبوعة "(2/ 59) 1 هـ.
في [الضعفاء](1) عن موسى الجهني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تزال أمتي يخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى ". وأخرج (2) أيضًا عن ابن مسعود قال: " اتقوا هذه المذابح "، وأخرج (3) أيضًا عن عبد الله (4) بن أبي الجعد قال:" كان أصحاب محمد يقولون: إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد " يعني
(1) بيدو أنه خطأ في المخطوط وصوابه " المصنف ".
(2)
في " المصنف " (2 - بسند صحيح.
قال المحدث الألباني رحمه الله في " الضعيفة "(1/ 642): قلت: فهذا صحيح عن ابن مسعود فإن إبراهيم، وهو ابن يزيد النخعي، وأن كان لم يسمع من ابن مسعود، فهو عنه مرسل في الظاهر، إلا أنه قد صحح جماعة من الأئمة مراسيله، وخص البيهقي ذلك بما أرسله عن ابن مسعود.
قلت: وهذا التخصيص هو الصواب، لما روى الأعمش قال: قلت لإبراهيم: أسند لي عن ابن مسعود. فقال إبراهيم: " إذا حدثتكم عن رجل عن عبد الله فهو الذي سمعت، وإذا قلت: قال عبد الله، فهو عن غير واحد عن عبد الله ".
علقه الحافظ هكذا في " التهذيب " ووصله الطحاوي (1/ 133) وابن سعد في الطبقات (6/ 272) وأبو زرعة في " تاريخ دمش "(2/ 121) بسند صحيح عنه.
قلت: وهذا الأثر قد قال فيه إبراهيم: " قال عبد الله " فقد تلقاه عنه من طريق جماعة، وهم أصحاب ابن مسعود، فالنفس تطمئن لحديثهم، لأنهم جماعة وإن كانوا غير معروفين، لغلبة الصدق على التابعين، وخاصة أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
في مصنفه (2/ 59).
(4)
كذا في المخطوط ولكنه في " المصنف " سالم بن أبي الجعد.
الطاقات. وأخرج أيضًا (1) عن أبي ذر قال: " إن من أشراط الساعة أن تتخذ المذابح في المساجد "، وأخرج (2) أيضًا عن علي عليه السلام:" أنه كره الصلاة في الطاق "، وأخرج وأخرج (3) أيضًا عن إبراهيم:" أنه كان يكره الصلاة من الطاق "، وأخرج (4) أيضًا عن سالم بن أبي الجعد قال:" لا تتخذوا المذابح في المساجد "، وأخرج (5) أيضًا عن كعب:" أنه كره المذابح في المسجد "، نقل السائل - عافاه الله - بعد هذا كلاما فيه بعض اختلاط فتر كناه.
وأقول: الجواب عن هذا من وجوه:
الوجه الأول [1أ]: في بيان ما يتعلق بالحديث الأول الذي نقله السائل - كثر الله فوائده - من الجامع الصغير (6) فنقول: في إسناده عبد الرحمن بن مغراء، وقد اختلف أئمة الحديث في الاحتجاج به، ووثقه جماعة منهم: ابن حبان (7)، وضعفه آخرون (8) منهم: علي بن المديني، لكن من ضعفه لم يضعفه مطلقا، بل جعل التضعيف مقيدا بما يرويه عن الأعمش، وليس هذا الحديث مما يرويه عن الأعمش. وقال السيوطي (9): إنه حديث ثابت صحيح على رأي أبي زرعة، وحسن على رأي ابن عدي انتهى.
(1) أي ابن أبي شيبة في " المصنف "(2/ 60).
(2)
في " المصنف "(2/ 59).
(3)
في " المصنف "(2/ 59).
(4)
في " المصنف "(2/ 59) بسند صحيح.
(5)
في " المصنف "(2/ 59).
(6)
الحديث رقم (153).
(7)
في " الثقات "(7/ 92).
(8)
انظر " الكاشف "(2/ 162 رقم 3363): قال الذهبي: " وثقه أبو زرعة الرازي وغيره ولينه ابن عدي.
وقال الذهبي في " الميزان "(2/ 592رقم 4980) ما به بأس وقال في " المعني "(2/ 388رقم 3641): وثقه أبو زرعة وقال: ابن المديني ليس بشيء، ولينه ابن عدي ".
(9)
في " إعلام الأريب بحدوث بدعة المحاريب "(ص16) تحقيق: محمد صبحي حلاق حسن.
وأقول: أما الحكم بصحة الحديث فغير مسلم، فإن عبد الرحمن بن مغراء ليس من رجال الصحيح، وأما الحكم بأن الحديث حسن فإن كان المراد بذلك أنه من قسم الحسن لغيره باعتبار ورود الحديث من طرق أخر كما سنوضحه فمسلم، وإن كان المراد أنه من قسم الحسن لذاته ففيه إشكال؛ فإنه لا فرق بين الحسن لذاته، والصحيح إلا مجرد كمال الضبط وتمامه في الثاني دون الأول، فهو مجرد وجود الضبط المتصف بكونه خفيفا فقط، فإن حد الصحيح هو ما اتصل إسناده بنقل عدل تام الضبط من غير شذوذ ولا علة قادحة (1)، وحد الحسن لذاته هو ما اتصل إسناده بنقل عدل ضابط ضبطا غير تام، من غير شذوذ ولا علة قادحة (2).
وهذا الحديث لا ينتهض لإدراجه في حد الصحيح، ولا في حد الحسن لذاته، ولهذا قال الحافظ الذهبي في المهذب (3) على البيهقي ما لفظه: قلت: هذا خبر منكر تفرد به عبد الرحمن بن مغراء وليس بحجة. انتهى. قال: المناوي (4) بعد أن نقل كلام الذهبي: إن ثبات الحكم بصحته لا يصار إليه انتهى. قلت أنا: وهكذا أيضًا إثبات الحكم بكونه حسنا لذاته لا يصار إليه [1ب]، لما تقرر عند أهل الفن من أن حديث من ليس بحجة لا يصح وصفه بكونه لذاته، فمن أي قسم يكون؟ هل من قسم الحسن لغيره، أم من قسم الضعيف؟ قلت هو لو لم يرد في معناه غيره من قسم الضعيف، فلما ورد في معناه حديث (5) موسى الجهني مرفوعًا كما ذكره السائل، وكذلك سائر ما حكاه عن الصحابة في السؤال، وهو مما ليس للاجتهاد فيه
(1) انظر " تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي "(1/ 47 - 58).
(2)
انظر " شرح ألفية السيوطي في الحديث "(1/ 63 - 67).
(3)
أي " المهذب في اختصار السنن الكبير "(2/ 400 رقم 3124).
(4)
في " فيض القدير شرح الجامع الصغير "(1/ 145).
(5)
تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف.
مسرح، بل له حكم الرفع كان الحديث من قسم الحسن لغيره. وقد تقرر عند علماء الفن أن الحسن لغيره هو مما تقوم به الحجة، ويجب العمل عليه، فإن قلت: هذه الأحاديث التي ذكرها السائل - عافاه الله - ناسبا لها: إلى حاشية وجدها، هل تعرف من ذكرها من أهل العلم في كتبهم المعتبرة؟ قلت: نعم، ذكرها بحروفها الحافظ السيوطي في " الدر المنثور في تفسير القرآن بالمأثور " (1) عند تفسيره لقوله تعالى:(فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ)(2) فالحاشية التي وقف عليها السائل منقولة من الدر المنثور لفظا وترتيبا، لا تفاوت بين ما نقله السائل، وما بين ما في الدر المنثور إلا في أن السائل يقول: وأخرج أيضًا يعني ابن شيبة، وصاحب الدر يقول: وأخرج ابن أبي شيبة، فيصرح بلفظه من تلك الطرق جميعها.
الوجه الثاني: إذا تقرر لك أن الحديث من قسم الحسن لغيره، وهو مما يجب العلم به، فما هي هذه المذابح المذكورة في الحديث؟ قلت: أما الحافظ [2أ] السيوطي فقد فسرها في الجامع الصغير (3) بالمحاريب كما ذكره السائل في السؤال، فإنه كذلك في الجامع مفسرا بالمحاريب، وقد فسره بذلك صاحب مسند الفردوس وغيره. وروى عبد الرزاق (4) عن إبراهيم النخعي، وصرح بأن الصلاة فيمها مكروهة، وصرح أيضًا النووي (5) بالكراهة.
وقد ذكر السيوطي في موضع آخر غير الجامع في تفسير هذا الحديث أنه نهى عن اتخاذ المحاريب في المساجد، والوقوف فيها. وقال: خفي على قوم كون المحراب بالمسجد
(1)(2/ 188).
(2)
[آل عمران: 39].
(3)
الحديث رقم (153).
(4)
في مصنفه (2/ 412).
(5)
في " المجموع شرح المهذب "(3/ 201).
بدعة، وظنوا أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمنه، ولا زمن أحد خلفائه، بل حدث بعد المائة الثانية، مع ثبوت النهي عن اتخاذه، هكذا نقل هذا الكلام عن السيوطي المناوي، في شرح الجامع (1)، ثم قال: وتعقب قول الزركشي (2) المشهور أن اتخاذه جائز لا مكروه، ولم يزل عمل الناس عليه بلا نكير، بأنه نقل في المذهب فيه. وقد ثبت النهي عنه. قال المناوي (3) متعقبا للسيوطي: وهذا بناء منه على ما فهمه من لفظ الحديث أنه مراده بالمذابح المحاريب، وهي غير ما هو المتعارف في المسجد الآن، ولا كذلك، فإن الإمام الشهير المعروف بان الأثير (4) قد نص على أن المردا بالمحاريب في الحديث صدور المجالس [فالزومية](5) حديث أنس كان يكره المحاريب، أي لم يكن يحب أن يجلس في صدور المجالس، ويترفع على الناس انتهي.
قال المناوي: واقتفاه، أي: ابن الأثير في ذلك جمع جازمين به، ولم يحكوا خلافه، منهم: الحافظ الهيثمي وغيره (6) فقد قال الحراني: المحراب صدور البيت ومقدمه الذي لا يكاد يوصل إليه إلا بفضل مؤنة أو قوة وجهد. وفي الكشاف (7) في تغيير: (كُلَّمَا
(1)" فيض القدير شرح الجامع الصغير"(1/ 144).
(2)
في " إعلام الساجد بأحكام المساجد "(ص364).
(3)
في " فيض القدير شرح الجامع الصغير "(1/ 144).
(4)
في " النهاية "(1/ 359).
(5)
كذا في المخطوط ولعله [فالذي فيه].
(6)
قال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(11/ 84 - 85) قوله تعالى: " فخرج على قومه من المحراب: أي أشرف عليهم من المصلى، والمحراب أرفع المواضع وأشرف المجالس، وكانوا يتخذون المحاريب فيما ارتفع من الأرض ". واختلف الناس في اشتقاقه، فقالت فرقة: هو مأخوذ من الحرب كأنه ملازمه يحارب الشيطان والشهوات، وقالت فرقه: هو مأخوذ من الحرب (بفتح الراء) كأن ملازمه يلقى منه حربا وتعبا ونصبا.
(7)
ي (1/ 187).
دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) (1) ما نصه: قيل بنى لها زكريا محرابا في المسجد، أي غرقة تصعد (2) إليها بسلم. وقل: المحراب [2ب]: المجالس ومقدمها، كأنها وضعت من أشرف موضع في بيت المقدس. وقيل: كانت مساجدهم تسمى المحاريب انتهى. وقال في تفسير قوله تعالى: (يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ) المحاريب: المساكن والمجالس الشريفة؛ سميت به لأنه يحامى عليها، ويذب عنها. وقيل المساجد. انتهى (3). وفي الأساس (4) للزمخشوي: مررت بمذبح النصارى، ومذابحهم، وهي محاريبهم ومواضع كتبهم، ونحوها المناسط [للتعبدات](5) وهي في الأصل المذابح. انتهى.
وفي الفائق (6) له أيضا: المحراب الأسد مأواه، وسمي القصر والغرفة المنفية محرابا. انتهى.
وفي القاموس (7) المذابح المحايب، والمقاصير، وبيوت النصارى. والمحراب الغرفة وصدر البيت، أكرم مواضعه، ومقام الإمام في المسجد، والموضع، الذي ينفرد به
(1)[آل عمران: 37].
(2)
وقال القرطبي في " الجامع لأحكام القرآن "(4/ 71): قوله تعالى: (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ) المحراب في اللغة أكرم موضع في المجلس، وجاء في الخبر: إنها كانت في غرفة كان زكريا يصعد إليها بسلم. وقال وضاح اليمن:
ربه محراب إذا جئتها
…
لم ألقها حتى أرتقي سلما
(3)
كلام الزمخشري في " الكشاف "(1/ 187).
(4)
" أساس البلاغة "(1/ 294).
(5)
كذا في المخطوط وفي " أساس البلاعة " للمتعبدات.
(6)
(1/ 273).
(7)
" القاموس المحيط "(ص 93، 278 - 279).
الملك. انتهى.
في النهاية (1) المذبح واحد المذابح وهي المقاصير، وقيل المحاريب. وقال الكمال بن الهمام في الفتح (2) بعدما نقل كراهة صلاة الإمام في المحراب، لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، والامتياز على القوم ما نصه:" لا يخفى أن امتياز الإمام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان، حتى كان التقدم واجبا عليه، وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، فإنه بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولو لم تبن لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان، لأنه يحاذي وسط الصف، وهو المطلوب، إذ لم قيامه في غير منحاذاته مكروه، وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام ولا بدع فيه، على أن أهل الكتاب إنما يخصون الإمام بالمكان المرتفع كما قيل فلا تشبه " انتهى.
وأقول [3أ]: لا يخفى أنه لا ملازمة بين تقدم الإمام وكونه في محراب، فالمحراب هو بناء مخصوص، على هيئة مخصوصة، في مكان مخصوص، وليس مشروعية تقدم الإمام على المؤتمين (3) يستلزم أن يكون ذلك في المكان المخصوص بل المراد تقدمه بني يدي الصف، وهو ممكن دخوله في ذلك البناء الموضوع على تلك الهيئة، فلا يتم قول الكمال ابن الهمام: وغاية ما هنا كونه في خصوص مكان، ولا أثر لذلك، بل نقول لذلك أثر وهو التشبه بأهل الكتاب، ومخالفتهم مطلوبة بنص الشارع.
وأما قوله: فإن بني في المساجد المحاريب من لدن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فباطل، فإنه لم يبن في زمنه (4)، ولا في زمن الصحابة شيء من ذلك كما تقدمت
(1)(1/ 359).
(2)
(1/ 425).
(3)
انظر الرسالة رقم (83).
(4)
قال الشيخ محفوظ في كتابه " الإبداع في مضار الابتداع "(ص 184): " وأما اتخاذ المحاريب فلم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم محراب قط، ولا زمان الخلفاء الأربعة فمن بعدهم، وإنما حدث في آخر المائة
الإشارة إليه. وأما المحراب المبني في مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال الواقدي: حدثنا هلال بن محمد قال: أول من أحدث المحراب الجوف عمر بن عبد العزيز ليالي بنى مسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كذا حكاه المقريزي في الخطط والآثار (1)، وأما قول الكمال بن الهمام: ولو لم بين لكانت السنة أن يتقدم في ذلك المكان المجوف المخصوص.
وأما قوله وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام إلخ، فلا يخفى أن هذا الحكم الذي هو محل النزاع قد ورد النهي بخصوصه، فلا ينفع التعليل باتفاق الملتين.
فإن قلت: فعلام تحمل ما رواه عمر بن أبي شيبة أن عثمان بن مظعون تفل في القبلة
(1)(2/ 247).
فأصبح مكتئبا، فقالت له امرأته: ما لي أراك مكتئبا؟ قال: لا شيء إلا إني تفلت في القبلة وأنا أصلي، فعمدت إلى القبلة [3 ب] فغسلتها، ثم عملت خلوقا فخلقتها، فكانت أول من خلق القبلة (1).
قلت: لا ملازمة بين القبلة والمحراب المجوف، والقبلة هي الموضع الذي يتقبلة الإمام في الموضع الذي تختص به، ولا يلزم أن يكون ذلك مكانا مجوفا معمولا على هئية مخصوصة، وأيضا قد ورد ما يؤيد كراهة الصلاة في مكان مخصوص لا يتجاوزه المصلي إلى غيره. فوري عنه صلى الله عليه وسلم:" النهي عن إيطال المكان المسجد "(2) أي اتخاذ مكان منه مخصوص يصلي فيه الإنسان، أو يتلو، ولا يتجاوزه إلى غيره. وهذا حديث معروف موجود في دواوين الإسلام، فهو من المؤيدات للنهي عن اتخاذ المحاريب المعروفة الآن، لأنها صارت مختصة بصلاة الإمام يتجاوزها إلى غيرها.
(1) أخرجه ابن شيبة (14، 2/ 362): عن ابن عباس بن عبد الله الهاشمي قال: أول ما خلقت المساجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأي بالقبلة نخامة فحكها، ثم أمر بالخلوق فلطخ به مكانها، فخلق الناس المساجد.
وانظر: " الأوائل " لأبي هلال العسكري (ص180).
(2)
ذكره ابن الأثير في " النهاية "(5).
وأخرج أحمد (3/ 428، 444) وابن ماجه رقم (1429) والحاكم (1/ 229) وابن خزيمة رقم (1319) والبغوي في " شرح السنة " رقم (666) والدارمي (1) وابن أبي شيبة في " المصنف"(2) من طرق عن عبد الحميد بن جعفر، عن أبيه، عن تميم بن محمود، عن عبد الرحمن بن شبل، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاث: عن نقرة الغراب، وعن فرشة السبع، وأن يوطن الرجل المكان الذي يصلي فيه كما يوطن البعير ".
وأخرجه أحمد (5 - 447) وفي سنده مجهول وهو عبد الحميد هذا.
وهو حسن لغيره والله أعلم.
وقال ابن الأثير في " النهاية "(5): " معناه أن يألف الرجل مكانا معلوما من المسجد مخصوصا به يصلي فيه كالبعير لا يأوي من عطن إلا مبرك دمث قد أوطنه واتخذه مناخا ".
وقال القاسمي في " إصلاح المساجد "(ص185): " يهوى بعض ملازمي الجماعات مكانا مخصوصا أو ناحية من المسجد، إما وراء الإمام أو جانب المنبر أو أمامه أو طرف حائطه اليمين أو الشمال أو الصفة المرتفعة في آخره بحيث لت يلذ له التعبد ولا الإقامة إلا بها وإذا أبصر من سبقه إليها فربما اضطره إلى أن يتنحى له عنها لأنها محتكرة أو يذهب عنها مغضبا أو متحوقلا أو مسترجعا وقد يفاجئ الماكث بها بأنها مقامه من كذا كذا سنة وقد يستعين بأشكاله من جهلة المتنسكين على أن يقام منها إلى غير ذلك من ضروب الجهالات التي ابتليت بها أكثر المساجد ولا يخفى أن محبة مكان من المسجد على حده تنشأ من الجهل أو الرياء أو السمعة وأن يقال أنه يصلي إلا في الكان الفلاني، أو أنه من أهل الصف الأول مما يحيط العمل ملاحظته ومحبته نعوذ بالله. وهب أن هذا المتوطن لم يقصد ذلك فلا أقل أنه يفقد لذة العبادة بكثرة الإلف والحرص على هذا المكان بحيث لا يدعوه إلى المسجد إلى موضعه وقد ورد النهي عن ذلك - كما في الحديث الحسن وقد تقدم.
والوجه الثالث: من وجه الجواب بيان ما هو الذي يتوجه في حمل الأحاديث الواردة في المنع من المحاريب، على أن التفاسير للمحراب والذابح قد اختلف كما تقدم، والواجب حمل النهي على معنى مناسب لمقصود الشارع، ولا شك أن صدور المجالس محل للنهي عنها، لأن التنافس فيها، والتدافع دونها هو من محبة الشرف الذي ورد الحديث الصحيح بأنه يفسد دين المؤمن ويهلكه، وهو أيضًا صنع أهل الكبر والخيلاء والترفع، ومحبة العلو المخالف لقوله سبحانه:(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا)[4أ](1) وهكذا إذا حمل النهي على المذابح التي هي بيوت النصارى، أو المواضع التي يصلون فيها، لأن قربانها ربما يكون ذريعة إلى الفتنة، أو الوقوع في الشبة، أو التلوث بشيء من النجاسات. وهكذا إذا فسرت المذابح بمحاريب المساجد المجوفة، لأن في ذلك نوع تشبه بأهل الكتاب؛ إذ ذلك مختص بهم، لم يفعله نبينا صلى الله عليه وآله وسلم ولا أحد من أصحابه الراشدين. والمخالفة لأهل الكتاب مقصد من مقاصد الشرع عظيم، ومطلب من مطالب الدين قويم، فهذه المعاني
(1)[القصص: 83].
الثلاثة قد وقعت في تفسير المذابح كما عرفت، وتفسير الحديث بها مناسب لمقصود الشارع، لأن في كل واحد منها معنى يقتضي المخالفة لمقصوده، ويحلق بذلك ما وقع في تفسير المذابح المذكورة في الحديث بالموضع الذي يقعد فيه الملك، ويختص به، فإنه مظنة للزهو والكبر، والعجب، والخيلاء إذا قعد فيه الملك، فكأنه قال: اتقوا المواضع المعدة لقعود الملوك لما في ذلك من المفاسد. فإن قلت: وأي هذه المعاني المناسبة لمقصود الشارع يحمل الحديث عليه؟ قلت: إنما عند من قال من أهل الأصول أنه يجوز حمل المشترك (1) على جميع معانيه المناسبة، وأما عند من منع من استعمال المشترك في جميع معانيه فيجعل [4ب] الحديث كالمجمل المتردد بينها، كما صرح بذلك جماعة من المحققين، وهذا بعد ثبوت كون كل واحد منهما، معنى حقيقيا، وأما إذا كان بعضها حقيقة وبعضها مجازا فالواجب الحمل على المعنى الحقيقي دون المجاز (2) بالمصير إلى عموم المجاز هذا، فهذا ما يناسب القواعد الأصولية المقررة في مواضعها. وأما ما يناسب الورع فهو اجتناب جميع هذه
(1) قال صاحب " الكوكب المنير "(3): يصح إطلاق جمع المشترك على معانيه: ومثناه على معنييه معا لـ إطلاق مفرده على كل معانيه. أما إرادة المتكلم باللفظ المشترك أحد معانيه، أو أحد معنييه فهو جائز قطعا وهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له.
وأما إرادة المتكلم بالفظ المشترك استعمال في كل معانيه وهي مسألة المتن ففيه مذاهب.
والصحيح: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه كقولنا: العين مخلوقة ونريد جميع معانيها.
انظر: جمع الجوامع " (1)، " التبصرة " (184).
قال ابن الحاجب في " شرح المفصل " كما في " البحر المحيط "(2):
المشترك: وهو اللفظ الواحد الدال على معنيين مختلفين أو أكثر دلالة على السواء، عند أهل تلك اللغة. سواء كانت الدلالتان مستفادتين من الوضع الأول أو من كثرة الاستعمال. وهو في اللغة على الأصح.
(2)
انظر " الكوكب المنير "(1/ 195 - 197).
المعاني المناسبة لمقصود الشارع، فمن أراد الخروج من الشبهة، الأخذ بالعزيمة (1)، والعمل بالأحوط فلا ينافس في صدور المجالس، ولا يدخل في بيوت النصارى، ولا يغشى مساجدهم، ولا يجعل محرابا مجوفا في مسجد بينيه، ولا يقعد في المقاعد المعدة لقعود الملوك فيها، ولا يأخذ في مقدمات ما يوصله إلى ذلك المقعد.
(1) تقدم توضيح معناها.
السؤال الثاني
عن كلام أهل المذهب في إيجا ب الاستبراء للأمة على البائع، سواء كان صغيرا أو كبيرا، ثم استثنى الحامل والمزوجة، والمتعدة، قال السائل - عافاه الله -: فما وجه الاستثناء، وما الفرق، فإنهم أو جبوا الاستبراء، وعللوا ذلك بأنه تعبد، ولم يوجبه في الثلاث المستثنيات، بل ظاهر كلامهم أن الاستبراء لمعرفة خلو الرحم، وأن ذلك هو الملاحظ بالأمارات مثل الخروج من أيام النفاس، أو أيام العدة، فهلا جعلوا العلة واحدة في حق الجميع؟ أما التعبد أو معرفة خلو الرحم، ويأتي التفصيل [5 أ] في حق من هي كبيرة، ومن هو صغير وغير ذلك، فهذا الموضع أشكل (1)، فهل هو بدليل خاص، أم رجوع إلى قاعدة قد بنوا عليها؟ فتفضلوا بالإيضاح - جزيتم خيرا - انتهى مضمون السؤال.
وأقول: أعلم أن هذا السؤال قوي الإشكال، عظيم الإعضال، حقيق ببسط المقال. والسبب في ذلك ما وقع في كلام بعض أهل العلم في تعليل الاستبراء بالتعبد، وهو عند التحقيق دعوى مجرده عن الدليل، لأن التعبد هو أن يتعبد الله عباده بحكم من الأحكام، ولا يعرف ذلك إلا بنص من كتاب الله، أو سنة رسوله، أو ما يرجع إليها، وليس الأمر كذلك كما ستعرف الكلام على أطراف هذا المقام، والكلام على هذا السؤال ينحصر في أبحاث. البحث الأول: إيجاب الاستبراء على البائع، اعلم أنه لا دليل يدل على ذلك أصلا إلا مجرد ما استدل به صاحب البحر (2) وغيره من القياس فقال: إنه يجب على البائع الاستبراء للبيع، وهو مالك للوطء ولا يملكه غيره إلا بعد الاستبراء كالزوجة، ثم قال: بعد ذلك قلنا:. .............................
(1) لعل الجملة " موضع إشكال ".
(2)
(3).
والقياس (1) دليل شرعي. انتهى.
(1) القياس لغة: التقدير والمساواة. فالقياس في اللغة يدل على معنى التسوية على العموم، لأنه نسبة وإضافة بين شيئين ولهذا يقال: فلان يقاس بفلان، أي يساوي فلانا، ولا يساوي فلانا.
انظر: " معجم مقاييس اللغة "(5/ 40)، " لسان العرب "(6).
القياس اصطلاحا: هو رد فرع إلى أصل بعلة جامعة.
وقيل: هو تحصيل حكم الأصل في الفرع لا شتباههما في علة الحكم.
انظر: " اللمع "(ص53)، " المستصفى "(2/ 288).
*انقسم العلماء في حجة القياس إلى قسمين:
1 -
القسم الأول المثبتون لحجية القياس: أي يتعبد به عقلا وشرعا وهؤلاء يستدلون به على إثبات الأحكام الفقهية بعد الكتاب والسنة والإجماع وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف.
2 -
القسم الثاني النافون للقياس وهم القائلون: إن القياس ليس بحجة ولا يعتبر دليلا من أدلة الشرع وهؤلاء انقسموا إلى فرق:
أ-القائلون بأنه يجوز التعبد بالقياس عقلا ولم يرد في الشرع ما يدل على العمل به، وبعضهم استدل بورود الشرع على منعه وهم الظاهرية.
ب-الفرقة الثانية: القائلون بأن القياس يجب العمل به في صورتين فقط وهما:
1 -
أن تكون علة حكم الأصل منصوصا عليها إما بصريح اللفظ أو بإيمائه كما في تحقيق الماط وتنقيح المناط. 2 - أن يكون الفرع أولى بالحكم من الأصل أو مساويا له وقد نسب ذلك إلى الفاشاني والنهرواني، ونسب هذا إلى داود الظاهري ولكن ابن حزم نفاه في " الإحكام ".
3 -
الفرقة الثالثة: القائلون بأن القياس يمنع من التعبد به عن طريق العقل وبالتالي لا يصح شرعا. وقد ذهب إلى ذلك الشيعة الأمامية، وجماعة من معتزلة بغداد وسواء كان المنع بطريق العقل، أو بطريق الشرع أو بطريق الشرع والعقل معا فإن أصحاب هذا القسم ينكرون القياس، ولا يعتبرونه دليلا من أدلة الشرع.
" البحر المحيط "(5)، " الإحكام " لا بن حزم (7)، " الكوكب المنير "(4 - 214).
وأقول: لا أدري كيف كان هذا القياس دليلا شرعيا! فإن الزوجة تجب العدة عليها، وهذا فيه إيجاب الاستبراء على الرجل، ثم إن العدة إنما تكون بعد الطلاق، وهذا الاستبراء قبل البيع، ثم إن العدة إنما تجب على المرأة بعد دخول أو خلوة. وقد أوجبوا الاستبراء [5ب] على البائع مطلقا، ثم لا يخفى تنافي أحكام النكاح والملك في كثير من الأمور لو لم يكن منها إلا أنه لا يصح الجمع بين الأحقين في النكاح، ويصح الجمع بينهما في الملك إجماع، فكيف يصح إلحاق الملك بالنكاح! مع احتلاف الأحكام وتنافيها، وعدم الجامع الذي هو أحج أركان القياس المعتبرة، ولو كان هذا القياس صحيحا لكان الأولى أن يقال: إنه يجب على الأمة إذا أعتقها سيدها بعد دخول أوخلوة أن تعتد كعدة الزوجة، ولا يجب عليها قبل الدخول أو الخلوة أن تعتد، كما لا يجب ذلك على الزوجة، ثم كان يجب على مقتضى هذا القياس الذي عولوا عليه أن يجب الاستبراء على بائع الأمة وواهبها، ولو كانت حاملا، أو مزوجة، أو معتدة، كما تجب العدة على الزوجة إذا طلقها زوجها.
والحاصل أن هذا القياس ليس فيه شيء من الأركان الأربعة (1) المعتدة عن أهل الأصول، لأن العلة الجامعة إذا لم توجد بطلت دعوى الأصلية والفرعية، ثم بطل الحكم المترتب على ذلك، فلم يبق حينئذ شيء مما ينبغي التعويل عليه.
فإن قلت: قد حكى البخاري في صحيحه (2) عن ابن عمر أنه قال: " إذا وهبت الوليدة التي توطأ، أو بيعت، أو أعتقت، فلتستبرئ بحيضة، ولا تستبرئ العذراء.
قلت: ليس في هذا تصريح، فإن الإستبراء على البائع، بل ظاهره أنه يجب الاستبراء
(1) أركان القياس " أصل، وفرع، وعلة، وحكم " وهذه الأركان ما لا يتم القياس إلا به ".
انظر: " تيسير التحرير "(3/ 275)، " اللمع "(ص57).
(2)
(4) تعليقا.
ووصله اليبهقي (7) وصححه الألباني في " الإرواء " رقم (2139).
وأما قوله: " ولا تستبرأ العذراء " فقد وصله عبد الرزاق في " المصنف "(7 رقم 12906).
على المشتري أو المتزوج للمعتقة، وعلى تسليم احتماله لذلك فقد تقرر أن قول الصحابي ليس بحجة في مسائل الاجتهاد (1)
وإذا تقرر لك هذا عملت أنه لا دليل يدل على وجول الاستبراء على البائع قبل اليبع كانت الأة موطؤة بالغة يجوز الحمل عليها، وأما إذا كانت صغيرة، أو المالك صغيرا، أو امرأة، أو كانت الأمة للخدمة فإيجاب الاستبراء على البائع من غرائب العلماء التي ينبغي الاعتبار بها، فإن الاستبراء إن كان لمعرفة خلو الرحم فكيف يصح تجويز عدم خلوه في الصغيرة، وفي الآيسة، وفي أمة المرأة، وأمة الصغير! بل هو خال عن القلوق بلا شك ولا شبهة عقلا، وشرعا، عادة، وتجريبا، وإن كان الاستبراء للتعد فأي دليل يدل على أن الله سبحانه تعبد الصغير باستبراء أمته، تعبد المرأة باستبراء أمتها، وتعبد الرجل باستبراء أمته الصغيرى والآيسة؟ وكيف كلف الله الصغيرة بهذا الحكم، ولم يكلفه بالصلاة والصيام! فليت شعري ما أصل هذا التكليف الذي تتنزه عنه هذا الشريعة المطهرة السمحة السهلة؟ وما هو الملجئ إليه؟ والحامل عليه؟ وبالجملة فليس في كتاب الله، ولا سنة رسول الله، ولا في إجماع الأمة، ولا في القياس الصحيح، ولا في مسالك الاجتهاد ما يدل على أنه يجب على البائع أن يستبرئ أمته مطلقا [6أ]، ومن زعم أن في شيء من ذلك دليلا يدل على وجوب الاستبراء على البائع فليهده إلينا تفضلا، فإنا لم نجده بعد البحث عنه في جميع ما وفقنا عليه من مؤلفا العلماء، ومجاميع الأدلة.
البحث الثاني:
في وجوب الاستبراء على من دخلت الأمة إلى ملكه، وفي ذلك أنواع:
النوع الأول: المسبية وقد دل الدليل على أنه يجب على من صارت إليه استبراؤها،
(1) تقدم توضيح ذلك.
فأخرج أحمد (1)، وأبو داود (2): في " السنن " رقم (2157). (3): في " المستدرك "(2) وصححه على شرط مسلم وأقره الذهبي. قلت: وأخرج الدرامي (2) والبيهقي (7/ 449) من طريق شريك، عن قيس بن وهب. وهو حديث صحيح. (4):(5)، وأحمد (6)، وأبو داود (7) عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" أتى على امرأة مجح (8) على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها. فقالوا: نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره، كيف يورثه وهو لا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! ".
وأخرج الطبراني (9) من حديث ابن عباس بنحو حديث أبي سعيد، وأعل بالإرسال. وأخرج الطبراني (10) من حديث أبي هريرة نحوه بإسناد ضعيف، وأخرج أحمد (11)،
(1) في " المسند "(3/ 62).
(2)
(3)
، والحاكم
(4)
وصححه عن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبي أو طاس: " لا توطأ حاما حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة ". وأخرج مسلم
(5)
في صحيحه رقم (1456).
(6)
في " المسند "(21600 - الزين).
(7)
في " السنن " رقم (2156).
(8)
أي حامل المقرب وقال الخطابي مجحا: اسم فاعل من (أجحت المرأة) أي قرت ولا دتها. " معالم السنن "(2).
(9)
في " الكبير " رقم (3172) وفي " الصغير "(2). وأورده الهيثمي في " المجمع "(4): وفيه محمد بن عقبة السدوسي وثقه ابن حبان وضعفه، وتركه أبو زرعة.
(10)
في " الأوسط " رقم (2974) و" الصغير"(1) وأورده الهيثمي في " مجمع الزوائد "(5) وفيه بقية الحجاج بن أوطأة وكلاهما مدلس.
(11)
في " المسند "(4) بسند حسن.
والترمذي (1) من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " رحم وطء السبايا حتى يضعن ما في بطونهن ".
وأخرج ابن أبي شيبة (2) من حديث علي - كرم الله وجهه - قال نهي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حامل حتى تستبرأ بحيضة، وفي إسناده ضعيف وانقطاع؛ فهذه الأدلة بمجموعها تفيد وجوب استبراء المسبية (3) إذا كانت حاملا بالوضع، وإذا كانت غير حامل بحيضة. وإلى ذلك الجمهور، وقد تمسك بقوله في الحديث: ولا غير حامل، وكذلك قوله في الحديث الآخر: ولا حامل.
من قال: إنه يجب استبراء البكر المسبية؟ وأجاب عنه من قال بعدم [7أ] وجوب استبراء المسبية إذا كانت بكرا (4) بما وقع في بعض ألفاظ حديث رويفع: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا ينكحن ثيبا من السبايا حتى تحيض "(5)، وهو مقيد لقوله في الحديث الأول: ولا غير حامل، وقوله: ولا حامل، أي: إذا كانت ثيبا لا بكرا، لأن وجه مشروعية استبراء المسبية إنما هو لأجل خلو رحمها كما يدل على ذلك قوله في الحديث السابق:" كيف يورثه ولا يحل له! كيف يستخدمه وهو لا يحل له! "(6) وهو الحق،
(1) في " السنن " رقم (1564) وقال الترمذي: حديث غريب.
قلت: وهو حديث صحيح لغيره.
(2)
في مصنفه (4/ 370) بسند ضعيف.
(3)
انظر " المغني "(11 - 285).
(4)
قال ابن عمر: لا يجب استبراء البكر، وهو قول داود، لأن الغرض بالاستبراء معرفة براءتها من الحمل وهذا معلوم في البكر فلا حاجه إلى الإسبتراء. " المغني "(11/ 247).
(5)
أخرجه أحمد (4 - 109) وأبو داود رقم (2158) والترمذي رقم (1131) وقال حديث حسن.
وأخرجه ابن حبان رقم (1675 - موارد) وسعيد ين منصور رقم (2722) والدارمي (2/ 230) من طرق. هو حديث حسن.
(6)
وهو حديث صحيح لغيره وقد تقدم.
لأن البكر رحمها معلوم بسبب البكارة.
ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (1)، وأحمد (2) من حديث بريدة قال:" بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عليا عليه السلام إلى اليمن ليقبض الخمس، فاصطفى علي من سبيه، فأصبح وقد اغتسل، فلما قدمنا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرت ذلك له فقال: يا بريدة، إن له في الخمس أكثر من ذلك "، وللحديث ألفاظ هذا أحدها قيل: إن هذه السبية التي أصابها كانت بكرا (3)، وقيل كانت صغيرة، والمصير إلى التأويل بمثل ذلك واجب للجمع بينه وبين الأحاديث المتقدمة، فالحاصل أنه يجب استبراء المسبية إذا كانت حاملا، أو ثيبا، لا آيسة ولا صغيرة، وأما إذا كانت بكرا أو آيسة أو صغيرة فلا يجب استبراؤها، هذا هو الحق الذي لا ينبغي العدول عنه، ولا يحل المصير إلى غيره.
البحث الثالث
من أبحاث الجواب في استبراء الأمة التي تدخل في ملك الإنسان ببيع، أو هبة، أو نذر، أو صدقة أو وصية، أو ميراث، أو نحو ذلك.
فقال الجمهور (4): إنه يجب، وقال داود الظاهري (5):[7 ب] والبتي أنه لا يجب،
(1) في صحيحه رقم (4350).
(2)
في المسند (5/ 259) وهو حديث صحيح.
(3)
قال الحافظ في الفتح: ". .. لا حتمال أن تكون عذراء أو دون البلوغ أو أداه اجتهاده أن لا استبراء فيها. وعزاه للخطابي.
" فتح الباري "(8/ 67).
(4)
انظر المغني (11/ 274 - 275): قال ابن قدامة: " أن من ملك أمة بسبب من أسباب الملك، كالبيع، والهبة، والإرث وغير ذلك لم يحل له وطؤها حتى يستبرئها. .. ".
وانظر: " زاد المعاد "(5/ 711 - 745).
(5)
انظر " المحلى "(10/ 315 - 320 رقم 2011).
وقد استدل صاحب البحر (1) للجمهور بالقياس لهؤلاء الإماء على المسبية، وكذلك استدل بذلك لهم غيره. قال الإمام يحيى: والجامع بينهما تحدد الملك. ثم استدل لهم في البحر (2) أيضًا بقول علي - كرم الله وجهه - " من اشترى جارية فلا يقربها حتى تستبرئ بحيضة ".
وأقول: في المقام من المدفوع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما فيه دلالة على ذلك، فمن ذلك ما أخرجه أحمد (3) والطبراني بإسناد ضعيف من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يقعن رجل على امرأة وحملها لغيره ".
وأخرج أحمد (4)، والترمذي (5)، وأبو داود (6) من حديث رويفع بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسق ماؤه ولد غيره ". وله ألفاظ، وقد أخرجه أيضًا ابن أبي شيبة (7)، والدارمي (8)، والطبراني (9)، والبيهقي (10)، وأيضا المقدسي، وابن حبان (11) وصححه،. ...............................
(1)(3).
(2)
(3).
(3)
في المسند (رقم 8799 - الزين). بإسناد ضعيف.
وأورده الهيثمي في " المجمع "(4) وقال: " رواه أحمد وفيه وشدين بن سعد وقد وثق وهو ضعيف ".
(4)
في المسند (4).
(5)
في " السنن " رقم (1131) وقال: حديث حسن.
(6)
في " السنن " رقم (2158) وهو حديث حسن.
(7)
في مصنفه (4).
(8)
في السنن (2/ 230).
(9)
في الكبير رقم (4483، 4483، 4484، 4486، 4488، 4489) من طرق.
(10)
في السنن الكبرى (7/ 449).
(11)
رقم (1675 - موارد).
والبزار، وحسنه (1)، وأخرج الحاكم (2) عن ابن عباس مرفوعا:" لا يسق ماؤك زرع غيرك "، وأصله في النسائي (3)، وهذه الأحاديث يقوي بعضها بعضا، فتنتهض للاحتجاج بها على وجوب استبراء الأمة التي يحدد الملك عليها، فلا رجه للتعويل على القياس معها، ولكن العلة هاهنا مذكورة في هذه الأحاديث، وهي أن يسقي ماؤه ولد غيره، أو زرع غيره، فلا يجب الاستبراء على المشتري إلا إذا كانت الأمة حاملا، أو حاملا ثيبا بالغة، وبالمشتري بالغا قاصدا بشرائه الوطء.
وأما إذا كانت الأمة صغيرة (4)، أو آيسة، أو بكرا، أو كان [8 أ] المشتري صغيرا، أو امرأة فلا يجب الاستبراء، لأنه حينئذ لا يسقي بمائه زرع غيره. وما ورد من الأحاديث مطلقا عن التعليل بهذه العلة تقييده بالأحاديث التي ذكرت فيها هذه العلة كما هو المسلك الأصولي من حمل المطلق على المقيد، ولا محيص عن هذا لمن سلك بنفسه مسالك الإنصاف، مشى على القوانين الأصولية التي هي جسر الاجتهاد، وقتطرة أرباب الانقياد، فتلخص من هذه المباحث أنه لا يجب الاستبراء على البائع مطلقا، ويجب على من تحدد له ملكه بسبي أو غيره في الأمة الحامل والبالغة الثيب، ولا يجب لغير ذلك مطلقا. وقد ذكرت هذه المسألة في شرحي للمنتقى (5) بما فيه زيادة بسط، بذكر الخلاف وألفاظ الأحاديث المختلفة، واستيفاء طرقها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي الهداية.
(1) لم يطبع مسند رويفع بن ثابت من مسند البزار بعد؟!.
(2)
في المستدرك (2/ 137) وقال حديث حسن الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة ووافقه الذهبي.
(3)
في السنن (7/ 301 رقم 4645) وهو حديث صحيح.
(4)
انظر " المغني "(1/ 273 - 277).
(5)
" نيل الأوطار "(6/ 305 - 309).
وانظر " المغني "(11/ 274 - 285).
السؤال الثالث
قال السائل - كثر الله فوائده - إنه أشكل عليه ما صار الناس يتعاملون به من العمل بالرقومات في جمع المعاملات: البيوع، والإجارات، والمصادقات، والقبض، والإقباض، وهو أن يجعل ذلك في مرقوم باطلاع أحد القضاة [8 ب]، فيضع عليه علامته، ثم قد يحصل بعد ذلك بين الغريمين التناكر في ذلك، ويترافعان إلى حاكم آخر، فيقرر أحدهما المرقوم، فهل له أن يعمل به لمجرد الاطلاع في إسقاط حق أو إثباته من الأموال والحقوق على هذه الصفة أم لا؟ فإن قلتم يعمل؛ فهل هو بمنزلة الحكم، أو الشهادة، أو الإخبار؟ وإذا جعلناه كذلك فقد لا يوجد في المرقوم سوى خط كاتب واحد، والعلامة من القاضي، وتحتها لفظة مجملة، وإن قلتم قد جاء في الكتاب العزيز (1) وما يقتضي جواز العمل بالخط، وعمل بذلك الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكثير من الأئمة وشيعتهم، ولولا ذلك لضاعت الأموال والحقوق، وأتنم قد أشرتم إلى العمل بالخط في كتابكم المبارك " إطلاع أرباب الكمال "(2)، وذكرتم مادة مفيدة قلت: لعل ذلك في العبادات وما يتبعها في العبادات وما يتبعها في العادات، وعلى صفة مشروطة، وهي معرفة الخط، والعدالة والشخص وشهرته، هذا عند غير أهل المذهب، وأما أهل المذهب فأجازوا العمل بالخط في الأموال إذا انضم إليه ثبوت اليد، كما ذلك هو المقرر في مواضعه؟ قلت: أما مع ثبوت اليد فالرجوع إليه أولي وأحرى وما بقي من فائدة فقد صار
(1) يشير إلى قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ)[البقرة: 282].
(2)
وهي رسالة للشوكاني لا تزال مخطوطة: وعنوانها الكامل: " إطلاع أرباب الكمال على ما في رسالة الجلال من الإضلال والاختلال " وقد وعدنا الدكتور هيكل بإرسالها من الولايات المتحدة الأمريكية. أثناء زيارته لصنعاء ونحن نطبع هذا الكتاب. والله الموفق.
المرقوم (1) مستغنى عنه بالرجوع إلى ما هو أقوى منه، فدل على عدم جواز العمل بالخط في الأموال والحقوق، ولو من خطوط المشاهير،؟ فتقبلوا بالجواب، انتهى السؤال [9أ].
وأقول: اعلم أن العمل بالخط ثابت بالكتاب (2) والسنة (3)،. .................................
(1) الرقم: يريد النقش والوشي والأصل فيه الكناية.
" النهاية "(2/ 253).
وقال صاحب لسان العرب (5/ 290) الرقم والترقيم: تعجم الكتاب ورقم الكتاب يرقمه رقما: أعجمه وبينه. وكتاب مرقوم أي قد بينت حروفه بعلاماتها من التنقيط. وقوله عز وجل (كِتَابٌ مَرْقُومٌ) كتاب مكتوب. وأنشد:
سأرقم في الماء القراح إليكم
…
على بعدكم، إن كان راقم
أي سأكتب، وقولهم، وهو يرقم في الماء أي بلغ من حذقه بالأمور أن يرقم حيث لا يثبت الرقم.
قال الجوهري في الصحاح (5/ 1935): " قال الرقم: الكتابة والختم "" والختم والخاتم " الخاتم هو من الخطط السلطانية والوظائف المملوكية. والختم على الرسائل معروف للملوك قبل الإسلام وبعده وقد ورد في الصحيحين.
…
وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه:
-أن الخاتم يطلق على الآلة التي تجعل في الإصبع ومنه تختم إذ لبسه.
-ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر، إذا بغت آخره.
-ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر.
فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشئ عنها وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة، معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه، واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الختم، ذكره الطبري.
أنظر: " مقدمة ابن خلدون "(2/ 643 - 644) ط 2. تحقيق على عبد الواحد.
(2)
تقدم ذكر الآية من سورة البقرة (282).
(3)
استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع المجالات، فكانت وسيلة لتبليغ الرسالة، وكتابة الأحكام الشرعية، وفي المعاهدات والصلح والأدمان وفي الإقطاع ومع الأمراء في البلدان البعيدة ومع القادة في السرايا والحروب كما استعملها في المعاملات كالبيع وفي الوصية وفي القضاء. . " وسائل الإثبات "(2/ 426)، " زاد المعاد "(1/ 24).
انظر الرسالة رقم (149) بحث في العمل بالخط ومعاني الحروف العليمة النقطية.
والإجماع (1). وقد أوضحنا ذلك في الكتاب الذي أشار إليه السائل - دامت إفادته - فلا حاجة للتطويل بذلك هاهنا، وبالكتابة حفظ الله هذه الشريعة المطهرة، حتى علمها من تأخر، كما علمها من تقدم، ولولا ذلك لذهبت الشريعة لا سيما في العصور المتأخرة، فإن الحفاظ فيها في غاية القلة، ولم يبق من العلم إلا ما حوته بطون الدفاتر، وهكذا حفظ الله بالكتابة أخبار السلف، حتى عرفها الخلف، ولولا ذلك لذهب بها الأعصار، وصارت نسيا منسيا، وبهذا ظهرت الحكمة الإلهية في الأمر بالكتابة بنص القرآن الكريم، وما ذكره السائل - عافاه الله - في التفرقة بين العبادات والمعاملاة غير صحيح؛ فإنه لا فرق، بل الكتابة معمول بها في الجميع، وبذلك جاء القرآن الكريم؛ فإنه أمرنا بالكتابة إذا تداينا بدين، والمداينة معاملة محضة ليست من العبادات في شيء، وبهذا عمل أهل العلم قاطبة، فإنك إذا نظرت في الكتب الفقهية وجدت كثيرا من الأبواب المعقودة فيها قد ذكر فيه العمل بالكتابة كما تراه في الأزهار (2) وفضلا عن غيره من المؤلفات - الكتاب - ولكن هذه الكتابة المعمول بها ليست الكتابة المطلقة، بل الكتابة المقيدة بقيود منها [9 ب]: معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره، فإذا كان الخط جامعا لذلك، فالعمل به متعين، فإن كان كاتبه حاكما، وصرح فيه بالحكم كان ذلك منزلا منزلة أحكام الحكام وإن كان مفتيا كان ذلك بمنزلة الرواية لتلك المسألة، وإن كان لا حاكما ولا مفتيا بل حرر رقما في دين، أو بيع، أو هبة، أو نحوها كان ذلك بمنزلة الخبر من ذلك الكاتب، وحكم الخبر معروفا.
(1) انظر التعليقة السابقة.
(2)
" الأزهار في فقه الأئمة الأطهار ". تأليف الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى الحسني. / وقد تقدم.
وأما إذا كان الخط غير معروف فهذا لا خلاف بين المسلمين أنه لايجوز العمل به في نقر ولا قطمير، ولكن ربما يلتبس بغيره لم يجز العمل به في شيء، وهكذا لو كان معروفا ولا يلبس بغيره، ولكن صاحبه ليس بعدل فإنه لا يجوز العمل بالكتابة، لما تقرر من أن عدم العدالة مسقط للشهادة، والرواية باللفظ، فضلا عن الكتابة، فإذا اجتمعت المقتضيات للعمل، وهي الثلاثة الأمور التي ذكرناها (1)، وعدم المانع وهو القادح في شيء منها فلا شك ولا ريب أن ذلك الخط معمول به على ذلك التفصيل الذي ذكرناه.
فإن قلت: إذا كان الخط الموجود في شيء [10 أ] من المعاملات، مثلا لو أبرز شخص مرقوما يتضمن أن المتمسك به اشترى الدار الفلانية، أو الأرض الفلانية من فلان، وخط كاتبه معروف، وفيه شهود معروفون، ورقم حاكم من الحكام المعروفين في أعلاه لفظا مجملا، مثل ما جرى به عرف حكام الزمان أنهم يرقمون في ذلك لفظ يعتمد، ثم وقع النزاع بينه وبين آخر في زمان قد مات فيه الكاتب والشهود والحاكم؟ قلت: لا شك ولا ريب أن التحرير الكائن على هذه الصفة حيث لم يصرح الحاكم فيه بلفظ الحكم لا يكون له حكم الحاكم، وكذلك الكاتب والشهود لا يكون رقمهم منزلة الشهادة أو الأخبار إلا إذا ذكر الكاتب في كتابته، وذكر الشهود في شهادتهم أنهم يعرفون البائع، ويعرفون أنه مالك لما باعه، وثابت اليد عليه، فإذا قرروا في المرقوم هذا التقرير، وكانت خطوطهم أو خط الكاتب الذي رقم شهادتهم معروفة لا تلتبس كان ذلك كالإخبار منهم بأن فلان باع من فلان ما هو في مكله. ولا ريب أنه يجوز الاستثناء إلى هذا المرقوم، والعمل بما تضمنه فإن لم يأت المدعي لخلافه بحجة جاز [10ب] العمل بذلك المرقوم لأمرين: أحدهما: أن الأصل الأصيل عدم انتقال ذلك
(1) وهي معرفة الكاتب، ومعرفة عدالته، ومعرفة خطه على وجه لا يلتبس بغيره.
الشيء عن ملك صاحب رقم، والثاني: أن الظاهر معه، فقد اجتمع هاهنا الأصل والظاهر، هما القتطرة التي يجري عليها غالب الأحكام الشرعية، وقد عمل صلى الله عليه وسلم بالظاهر في غير موطن، فمن ذلك أن عمه العباس قال في يوم بدر -:" ظاهرك علينا، ولم يغدره من الفدا "(1) فهذا عمل بالظاهر، وأما ما يروى من أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر "(2) فهذا لم يصح عنه، ولا ثبت أنه من قوله، وإن كان كلاما صحيحا، لأن معناه معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم للعباس.
وأما إذا كان المرقوم المتضمن للبيع مثلا لم يذكر فيه الكاتب والشهود أن البائع باع وهو مالك لذلك الشيء فهذا وإن كان لا يفيد ما أفاده الأول لجواز التواطؤ بين البائع
(1) أخرجه البخاري في صححه رقم (4018).
(2)
قال العراقي في تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في " منهاج البيضاوي " رقم (178)" لا أصل له وسئل عنه المزي فأنكره ".
وكذلك قال ابن كثير والسخاوي في " المقاصد الحسنة " رقم (178) وأيضا السيوطي كما في " كشف الخفاء " للعجلوني رقم (585) وانظر: " كوافقة الخبر الخبر " لابن حجر (1/ 181 - 183). قلت: وقد ورد في السنة ما يؤدي معناه.
ففي الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه رقم (12/ 339 رقم 6967) ومسلم في صحيحه (3/ 1337 رقم 4/ 1713) عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع. .. ".
وأخرجه النسائي (8/ 323) وترجم له في باب الحكم بالظاهر.
وأخرج ملسم في صحيحه (2/ 742 رقم 144/ 1064) من حدي ث أبي سعيد: " أني أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم ".
وأخرج أيضًا البخاري رقم (3344) وأحمد (3/ 4).
وأخرج البخاري في صحيحه رقم (5310) ومسلم في صحيحه رقم (12/ 1497) من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة: " لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها ".
والمشتري على بيع ملك (1) الغير، إلا أنه يفيد أصلا ضعيفا وظاهرا ضعيفا يجوز تعزيره إذا لم يأت الخصم بحجة راجحة عليه، وأما إذا جاء الخصم بحجة راجحة عليه لم يجز العمل به، وذلك كأن بأتي الخصم بمرقوم فيه التصريح من الكاتب والشهود أن البائع باع ذلك الشيء وهو يملكه؛ فإن هذا المرقوم أرجح من ذاك [11 أ]، فلا حكم للمرجوح مع وجود الراجح، وأما إذا تعارض المرقوم الواقع على الصفة المذكورة وثبوت اليد فهاهنا محل إشكال لا يعمله إلا القليل من الرجال، وأما الغالب من الحكام والمفتين فتراهم يرجحون الثبوت، ويصرحون في مراقيمهم وأحكامهم، فإن الثبوت من أعلا مراتب القوة، وهذه الكلمة ظاهرها علم، وباطنها جهل؛ فإن ثبوت اليد إنما هو من باب دليل الاستصحاب (2)، ودليل الاستصحاب هو من أحسن الأدلة كما يعرف ذلك ممن له خبرة
(1) وجد في هامش المخطوط: " قوله: لجواز التواطؤ بين البائع والمشتري على بيع ملك الغير قد ظهر من هذا التعليل أنه إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا من غير ثابت اليد اعتبر فيه تصريح الكاتب والشهود بملك البائع لم باعه لجواز التواطؤ إلخ. فأما إذا كان المرقوم مشتملا على المشتري مثلا ممن هو ثابت اليد أو ممن ثابت اليد بعد تاريخ الرقم الأول. فالظاهر عدم اشتراط التصريح من الكاتب والشهود وبملك البائع بل تكفي المصادقة هنا لعد وجود العلة المقتضية للاشتراط المذكور وهي التواطؤ إلخ وهذا هو الحق وإن أغفله المجيب دامت إفادته. تمت. كاتبه ".
(2)
الاستصحاب: قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 774): أي استصحاب الحال لأمر وجودي أو عدمي عقلي أو شرعي. ومعناه: أن ما ثبت في الزمن الماضي فالأصل بقاءه في الزمن المستقبل مأخوذ من المصاحبة، وهو بقاء ذلك الأمر ما لم يوجد ولزم يظن عدمه قهو مظنون البقاء.
وقال ابن القيم في " إعلام الموقعين "(1/ 339): " بأنه استدامة ما كان ثابتا، ونفي ما كان منفيا " أي بقاء الحكم نفيا وإثباتا على ما كان عليه. حتى يقوم دليل على تغيير الحال، فهذه الاستدامة لا تحتاج إلى دليل إيجابي، بل تستمر حتى يقوم دليل مغير، والأصل فيها البراءة الأصلية ومن ادعي خلافها فعليه الدليل.
ومثال ذلك إذا ثبت الملكية في عين بدليل يدل على حدوثها: كشراء أو ميراث أو هبة أو وصية فإنها تستمر حتى يوجد دليل على نقل الملكية أو غيره، ولا يكفي احتمال البيع.
…
أنظر: " أصول الفقه " للشيخ محمد أبو زهرة (ص 295 - 296).
أنواعه الاستصحاب انظرها في " إرشاد الفحول "(ص 772 - 775).
أما حجية الاستصحاب: هو حجة وهو رأي الأكثرية من أصحاب مالك والشافعي وأحمد والظاهرية.
انظر: " إرشاد الفحول "(ص 774).
بعلم الأصول، فإن ثبوت اليد هو أضعف مراتب القوة، لا أوسطها، ولا أعلاها، فإذا اتفق التعارض الذي ذكرنا بين المرقوم الذي على تلك الصفة، وبين ثبوت، فإن كان المرقوم يشتمل على ما يفيد الحكم المعروفين دينا وعلما وعملا، وذلك كأن يقول: تقرر البيع أو صح، أو نحو ذلك، فهذا المرقوم لا شك أنه أرجح، وإن كان المرقوم المذكور ليس فيه لفظ يفيد الحكم وكان كاتبه معروفا، وشهوده معروفين، وصرحوا بأنهم يعرفون البائع ويعرفون (1) ملكه لما باعه، فهذا لا شك أنه أرجح من مجرد الثبوت، وإن كان المرقوم على الصفة التي توجد عليها المراقيم الآن من الترجمة لصدور البيع من دون تصريح الشهود والكاتب بما ذكرنا، وقد رقم حاكم في ذلك [11 ب] المرقوم رقما مجملا، فهذا محل نظر للحاكم المعتبر، لأن مجرد الكتابة قد أفادت ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، ومجرد الثبوت قد أفاد ظاهرا ضعيفا، وأصلا أضعف منه، والحاكم الموفق ينبغي له في مثل هذا أن يعول على القرائن إذا أعياه الأمر، ولم يجد إلى الحق سبيلا، ولم يأت ثابت اليد بمستند إلا مجرد الثبوت فيها، مثلا في حال ثابت اليد هل هو ممن يجوز منه الاغتصاب أم لا؟ فإن وجده كذلك كانت هذه قرينة تقوي حجة المتمسك بالرقم، وأن كان ليس له قدره على الاغتصاب كانت هذه قرينة تقوي الثبوت، ثم ينظر أيضًا في مدة الثبوت، فإن كانت متأخرة عن تاريخ الرقم كان ذلك موجبا لقوة حجة المتمسك بالرقم، وأن كانت متقدمة كان ذلك مقويا للثبوت، ثم ينظر في حال المتمسك بالرقم، هل هو باق في الموضع الذي وقع فيه الاختلاف والنزاع، أم هو غائب عنه؟ فإن كان غائبا عن المكان الذي فيه المبيع كان ذلك مقويا لحجة صاحب
(1) في هامش المخطوط قوله: " ويعرفون لما باعه حيث يكون الثابت غير البائع إلى صاحب الرقم. .. المصادفة كما في الحاشية اليمني والله أعلم. تمت كاتبه ".
الرقم، وإن كان ذلك مقويا للثبوت، لا سيما مع طول المدة، ثم ينظر أيضًا في الجهة التي فيها البيع إذا كان أرضا أو دارا، فإن كانت جهة تجزي فيها الأحكام الشرعية، وينتصف [12 أ] المظلوم من الظالم كان ذلك مقويا للثبوت، وإن كان في جهة لا تجري فيها الأحكام الشرعية كان ذلك مقويا لحجة صاحب الرقم.
وبالجملة فهذه المسألة هي من أشد الإشكالات التي ترد على القضاة، فمن كان منهم معانا من رب العزة فينبغي له أن يسأل ثابت اليد عن مستند ثبوته، ولا يتركه عن ذلك، فإن قال: إنه صار إليه مثلا بشراء أو هبة طلب منه المستند، فإن أبرز مرقوما يقتضي أنه شراه أو نحو ذلك بحث عن صحة ملك من باعه من هذا الذي قد صار ثابتا عليه، فربما يننتهي به البحث إلى شيء يزول معه الإشكال، فإن قال ثابت اليد: إنه تلقاه إرثا من مؤرثه تسأله أن يبرز المرقوم المشتمل على ذكر نصيبه من تركة والده، فإن أبرزه بحث عن وجه تملك والده لذلك الموضع، فإن أعياه الحال وصمم ثابت اليد على المتمسك بالثبوت المذكور، ولم يجد الحاكم إلى الإطلاع على الحقيقة مستدلا رجع إلى القرائن التي ذكرناها، فتقرر لك بهذا أن الخط إذا كملت شروط العمل به فهو معمول به، ما لم يعارضه معارض، فإن عارضه معارض كان الواجب البحث عن الراجح والمرجوح من المتعارضين، وهذه قاعدة كلية لأهل المذهب وغيرهم، ونصوصهم قاضية بها [12 ب].
وقد صرحوا في مواضع عديدة بالعمل بالخط، ولم يشترطوا سوى ما ذكرنا من الشروط الراجعة إلى الخط، من كون كاتبه معروفا، وعدالته ثابتة، وخطه معروف، ولكن العمل به متفاوت كما قدمنا، فليس العمل بما كان إخبارا كالعمل بما كان حكما. وقد وقع في كلام أهل المذهب في مواطن يسيرة ما يفيد أنه يعتبر في العمل بالخط غير ما ذكرناه، وذلك كما ذكروه في كتاب حاكم (1) إلى مثله، من أنه لا بد أن يكتب إليه،
(1) أنظر " تبصرة الحكام "(2/ 11)، " المبسوط "(16/ 96، 101).
ومن شروط ذلك:
1 -
أن يذكر فيه اسم القاضي الكاتب واسم المدعى عليه والمدعي والشهود، ويحدد فيه المدعي به صفاته لتمييزه تمامًا عن غيره. ..
2 -
أن تكون الكتابة مستبينة أي ظاهرة مقروءة تفيد المعنى وتؤدي المقصود من كتابة الشهادة أو كتابة الحكم بحيث يستطيع القاضي المكتوب إليه العمل بموجب الكتاب، كما يجب على القاضي المكتوب إليه أن يتأكد من عدالة القاضي الكاتب وأنه أهل للقضاء ومعرفة الأحكام.
" تبصرة الحكام "(2/ 15).
3 -
أن يكون الكاتب مختوما بخاتم القاضي الكاتب وموقعا بتوقيعه عند جمهور الفقهاء لأنه أدعى للقبول والاحتياط، ولضمان عدم الزيادة فيه أو النقص منه، ولأنه أبعد عن تزوير الخط ومحاكاته.
ويشهد أنه كتابه إلى آخر ما ذكروه هناك، وكما ذكروه في الحاكم أنه لا يعمل بما وجد في ديوانه (1) إن لم يذكر، ولكنهم عللوا ذلك بعلة تفيد أن الخط في هذين الموضعين
(1) أن الاعتماد على ديوان القاضي وكتابته وخطه مقبول، وكذلك ديوان القاضي الذي سلفه إذا وثق بالخط وأمن التحريف والتغيير وبتعدت الريبة والشك، وإن لم يتذكر خطه وكتابته وإن لم تقم البينة عليها، كما يعتبر الصك الذي في يد أحد المتخاصمين، والمسجل في دواوين القضاة دليلا في الإثبات وبرهانا على الحق لصاحبه إن كان محفوظا.
واستدلوا على ذلك بما يلي:
1 -
أن القاضي قد أخذ الاحتياط بالكتابة والحفظ بحسب وسعه وإذا لم يعمل بكتابته تاهت الحقوق بطلت الأحكام وكانت كتابته سدى، ولأن سجل القاضي لا يزور عادة، لأنه محفوظ عند الأمناء، والظاهر من الديوان أنه خطه واجب.
2 -
أن العمل بديوان القاضي مستفيض وقد ارتفع عنه الإنكار.
3 -
قياس الحكم في الديوان على الرواية في الأحكام الشرعية إذا وثق بصحة كتابته.
4 -
أن الغلط فيه نادر، وأثر التغيير يمكن الاطلاع عليه ومعرفته وقلما يشتبه الخط من كل وجه.
5 -
إن اشتراط التذكر يؤدي إلى الصعوبة، وفيه مشقة وحرج الغين وإن القاضي يعجز عن حفظ كل حادثة لكثرة اشتغاله وخاصة في مثل هذه الأيام فإن الدعاوي والأحكام تبلغ الآلاف وليس وسع القاضي التحرز عن النسيان فإنه طبيعة في الإنسان فالنسيان جبلة فيه، وما سمي الإنسان إنسانا إلا لأنه نيسي.
وانظر " تبصرة القضاة "(ص 42)، " المبسوط "(16/ 92).
لم تجتمع فيه الشروط التي ذكرنا، فإنهم قالوا: إنه ربما جوز الزيادة والنقصان والتغيير والتبديل، ولا شك أن الخط إذا كان يدخله التجويز المذكور غير معمول به، لأن شرط العمل به هو ما قدمنا من كونه معروفا على وجه لا يلتبس بغيره، ولا يدخله التجويز، فإذا كان هكذا فأهل المذهب يقولون: إنه معمول به من غير تلك الشروط المذكورة في كتاب حاكم إلى مثله، ومن غير ما ذكروه من اشتراط الذكر لما وجده في ديوانه (1)، فتقرر بهذا أن الخط إذا كملت شروطه معمول به [13 أ] عند أهل المذهب وغيرهم، من غير خلاف.
وأما ما ذكره السائل - دامت إفادته - من أن أهل المذهب ذكروا أن من شرط العمل بالخط في الأموال أن ينضم إليه الثبوت فهذا غير مسلم، فإن أهل المذهب لم يشترطوا هذا الشرط، ولا أظنه يوجد في كتبهم المعتبرة المتقنة، وربما ذكره بعض المتأخرين الذين لا يعرفون سوى التفريعات، وكيف يقول عالم: إن من شروط العمل بالخط الجامع للشروط أن ينضم إليه ما هو دونه بمراحل أو مثله في نادر الأحوال! وذلك الثبوت الذي هو من جنس الاستصحاب الكائن في أدني منازل الاستدلال! وكيف يقول عارف إن الثبوت للذي هو مجرد استصحاب معمول به من غير شرط! والخط الذي هو تارة يتصمن الحكم، وتارة يتصمن الإخبار من العدول والشهادة من الثقات لا يعمل به إلا مع الثبوت! فإن هذا عكس لغالب الاستدلال، غفلة عن الحقائق، حيث يكون العمل بالأقوى مشروطا بانضمام الأضعف إليه، والعمل بالأضعف غير مشرط بشرط.
وأما ما ذكره السائل - عافاه الله - من المراقيم المتضمنة للمصادقة، مثلا بدين إذا وقع
(1) واعلم أن " الديوان "، جريدة الحساب ثم أطلق على الحساب ثم أطلق على موضع الحساب. وقال في القاموس: الديوان مجتمع الصحف وهو معرب والكتاب يكتب فيه أهل الجيش وأهل العطية، وأول من وضعه عمر بن الخطاب.
" القاموس "(ص 1545)، " الصحاح "(5/ 2115).
الإنكار من الذي عليه الدين [13 ب] بعد ذلك متقول: إعلم أن المرقوم المتضمن للمصادقة إن كان جامعا للشروط المعتدة المذكورة سابقا فأقل أحواله وأدني منازله أن يكون القول قول حامله، لأنه يفيده ظاهرا قويا.
وقد تقرر أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، ويكلف المدعي لما يخالف ما اشتمل عليه الرقم البرهان، فإن جاء البرهان راجحا على الرقم وجب الانتقال إليه عن الظاهر، وإن لم يأت بذلك وجب البقاء على ما يقتضيه الظاهر ووهذا هو الحق المطابق للقوانين الأصولية، والقواعد الفرعية، وأهل المذهب قد صرحوا به في غير موضع لو لم يكن من ذلك إلا ما ذكروه في كتاب الدعاوي، فإنهم قالوا: إن المدعي من معه أخفى الأمرين، والمدعي عليه من معه أظهرها (1)، وهذا هو معنى ما ذكرنا من أن القول قول من معه الظاهر مع يمينه، لأن قد صار بالرقم المذكور معه أظهر الأمرين.
ومن جملة ما عملوا فيه بالظاهر قولهم: الثوب للابس، والعزم للأعلى، والفرس للراكب، والجدران لمن ليس إليه توجيه البناء. وقولهم: يحكم لكل من ثابتي اليد الحكمية بما يليق به، قولهم من فعل في شيء ما ظاهره السبيل خرج عن ملكه إلى غير ذلك من المواضع التي يصعب تعدادها. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.
حرره المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في شهر جمادي الآخرة سنة 1215هـ.
(1) وجد في هامش المخطوط: " إن قيل: إذا كان الثبوت مع أحد الخصمين، والرقم مع الآخر فمن ذا يكون المدعي؟ فإن قيل هو الثابت لأنه الذي معه أخفى الأمرين ففيه نظر، لأنه لا يسمي مدعيا لغة ولا عرفا ولا شرعا، ولعله يجاب بأن المدعي هو صاحب الرقم قد يعزون رقمه إليه فيصدق عليه في تلك الحال مع أحق الأمرين. والله أعلم. تمت.