المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جواب سؤالات وردت من تهامة - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٦

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم

- ‌جواب سؤالات وردت من بعض العلماء

- ‌جواب سؤالات وصلت من كوكبان

- ‌بحث في جواب سؤالات تتعلق بالصلاة

- ‌رفع الأساس لفوائد حديث ابن عباس

- ‌تحرير الدلائل على مقدار ما يجوز بين الإمام والمؤتم من الارتفاع والانخفاض والبعد والحائل

- ‌بحث في كثرة الجماعات في مسجد واحد

- ‌جواب عن الذكر في المسجد

- ‌سؤال: هل يجوز قراءة كتب الحديث كالأمهات في المساجد مع استماع الدين لا فطنة لهم؟ وجواب الشوكاني عليه

- ‌إشراق الطلعة في عدم الاعتداد بإدراك ركعة من الجمعة

- ‌اللمعة في الاعتداد بإدراك الركعة من الجمعة

- ‌ضرب القرعة في شرطية خطبة الجمعة

- ‌الدفعة في وجه ضرب القرعة

- ‌بحث في الكسوف

- ‌جواب على سؤال ورد من بعض أهل العلم يتضمن ثلاثة أبحاث:1 -بحث في المحاريب2 -بحث في الاستبراء3 -بحث في العمل بالرقومات

- ‌الصلاة على من عليه دين

- ‌شرح الصدور في تحريم رفع القبور

- ‌جواب سؤالات وردت من تهامة

- ‌سؤال عن لحوق ثواب القراءة المهداة من الأحياء إلى الأموات

- ‌إفادة السائل في العشر المسائل

الفصل: ‌جواب سؤالات وردت من تهامة

‌جواب سؤالات وردت من تهامة

تأليف محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

على غلاف الرسالة ما نصه:

" هذه السؤالات أرسل بها إلينا سيدي العلامة يوسف بن إبراهيم الأمير -عافاه الله - وذكر أنها مرسلة من تهامة طالبه للجواب مني عليها فأجبت بهذا الجواب ".

ص: 3115

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة: (جواب سؤالات وردت من تهامة).

2 -

موضوع الرسالة: فقه.

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله عز وجل.

4 -

آخر الرسالة:. .. ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تحني.

وفي هذا المقدر كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب.

5 -

نوع الخط: خط رقعة.

6 -

عدد الأوراق: 6 ورقات = 12 صفحة + صفحة العنوان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 31 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 10 كلمات.

9 -

الرسالة من المجلد الرابع من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

ص: 3117

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وآله الأكرمين وبعد: فإنها وردت إلي هذه الأبحاث النفيسة، وها أنا أذكر كل بحث منها ثم أتبعه بجوابه بمعونة الله عز وجل.

قال السائل - كثر الله فوائده -:

المبحث الأول: ما حقيقة السفر (1) الذي يقصر (2) فيه الصلاة؟ فإن قيل: الضرب

(1) السفر لغة:

قال الأزهري في " تهذيب اللغة "(1/ 402): سمي المسافر مسافرا لكشفه قناع الكن عن وجهه، ومنازل الحضر عن مكانه، ومنزل الخفض عن نفسه وبروزه إلى الأرض الفضاء.

وسمي السفر سفرا لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم، فيظهر ما كان خافيا منه.

السفير: الرسول المصلح بين القوم.

وأسفر الصبح إسفارا: أضاء.

ونجد أن المتتبع لمادة " سفر " أنها ذات معان متعددة منها:

إن من معانيها: قطع المسافات، فالسفر ضد الحضر وهو مشتق من ذلك لما فيه من الذهاب والمجيء كما تذهب الرياح بالسفير من الورق وتجيء، أي بما أسقط من ورق الشجر وتحات.

والجمع أسفار، ورجل سافر، ذو سفر، وقوم سافرة وسفر وأسفار وسفار بمعنى، وقد يكون السفر للواحد، قال الشاعر:

عوجي علي فإنني سفر انظر:

" لسان العرب "(4 - 368)" تاج العروس "(2)" مختار الصحاح "(ص300 - 301).

السفر شرعا: اتفقت كلمة الفقهاء على أن السفر معناه شرعا: " قطع المسافات بنية السفر ".

(2)

والأصل في قصر الصلاة الكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب فقد قال تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)[النساء: 101]

وأما السنة: فقد تواترت الأخبار، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقصر في الصلاة في أسفاره حاجا ومعتمرا، وغازيا. - سيأتي منها خلال الرسالة -.

الإجماع: فقد أجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في الحج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصد الرباعية فيصليها ركعتين.

" المغني "(3 - 105)" الأوسط " لابن المنذر (4)" الإجماع "(ص42 رقم 58) لابن المنذر.

ص: 3121

المستوي فيه القصير والطويل كما نقل عن كثير من السلف فما حقيقته في عرفهم؟ هل إذا جاوز البنيان يسمى مسافرا عندهم يقصر ولو إلى بستانه القريب من العمران؟ وهل حكايتهم ذلك عن على رضي الله عنه فيما يروى عنهم صحيحة أم لا؟ وإن قيل له مسافة لا يجوز القصر فالمراد تحقيقها بالأدلة؟ وهل حقيقة السفر في القصر والصوم وسير المرأة واحد حتى يستدل لكل بما ورد في الآخرة؟ وفي البخاري (1) وسمى النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفر يوما وليلة (2)، فهل سماه في غير سفر المرأة؟ فإن كان المراد إنما

(1) يشير إلى الحديث الذي أخرجه البخاري وقم (1088) ومسلم رقم (421) عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة ليس معها حرمة ".

(2)

فتح الباري (2 الباب رقم 4) في كم يقصر الصلاة؟ وسمى النبي صلى الله عليه وسلم يوما وليلة سفرا.

(منها): ما أخرجه البخاري في صحيحه (1087) و (1086) ومسلم رقم (413) وأبو داود رقم (1727). عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تسافر المرأة ثلاثا إلا مع ذي محرم "

وفي رواية " لا تسافر المرأة ثلاثا أيام إلا ومعها ذي محرم ". وفي رواية لمسلم (2 رقم 414): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال إلا ومعها ذو محرم ".

وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (419) وأبو داود رقم (1723): لا يحل لامرأة مسلمة تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو محرمة منها ".

وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (420) وابن ماجه رقم (2899): " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر بسافر مسيرة يوم إلا مع ذي محرم".

وفي رواية لمسلم في صحيحه رقم (422): " لا يحل لامرأة أن تسافر ثلاثا إلا ومعها ذو محرم منها ". وأخرج البخاري في صحيحه رقم (1864) و (1197، 1995) ومسلم (415) و (416) عن قزعة مولى زياد، قال: سمعت أبا سعيد الخدري - وقد غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة، قال: أربع سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقال يحدثهن عن النبي صلى الله عليه وسلم فأعجبني وأتقنني: " أن تسافر امرأة مسيرة يومين ليس معها زوجها، أو ذو محرم. .. ".

ص: 3122

هو في سفر المرأة الذي يشترط فقد سماه بغير ذلك انتهى.

أقول: قد وقع الخلاف الطويل بين علماء الإسلام في مقدار المسافة التي يقصر فيها، وحكى ابن المنذر (1) في ذلك نحو عشرين قولا، أقل ما قيل في ذلك يوم وليلة، هكذا حكى. وفيه أنه ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن مسافة القصر يوم، وذهب آخرون إلى أنها بريد (2)، وذهب جماعة منهم ابن عمر كما روى ذلك عنه ابن أبي شيبة (3) بإسناد صحيح إلى أن أقل مسافة القصر ميل. وإلى ذلك ذهب ابن حزم (4)). (5):(5 (6) من أقوال الصحابة والتابعين والأئمة والفقهاء مذاهب كثير ة جدا. لا حاجة لنا هاهنا إلى تعداد المذاهب، لأن غرض السائل بيان ما هو الراجح في المسألة.

(1) عزاه إليه الحافظ في " الفتح "(2).

(2)

ذكره ابن قدامة في " المغني "(3 - 106).

البريد: أربعة فراسخ، وقيل فرسخان، وأصل الكلمة فارسية.

وقيل: اثنا عشر ميلا، كل ثلاثة أميال فرسخ فيكون كما سبق أربعة فراسخ.

وقدم تقديم تفصيل ذلك انظر " جامع الأصول " لابن الأثير (5 - 25)

(3)

انظر أقوال ابن عمر في " المصنف "(2 - 445).

(4)

في " المحلى "(5/ 8).

(5)

وذهب قوم إلى أنها ثلاثة أميال. وذهب آخرون إلى أنها ثلاثة فراسخ. فعلى هذا تكون الأقوال في هذه المسألة أكثر من عشرين قولا. وقد حكى ابن حزم في المحلى.

(6)

-10).

ص: 3123

فاعلم أن بعض أهل العلم استدل على تقدير مسافة القصر صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره، وبعضهم استدل بقوله- صلى الله عليه وآله وسلم:" لا يحل لامرأة بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم " أخرجه الجماعة إلا النسائي (1). وفي رواية للبخاري (2): " لا تسافر المرأة ثلاثة أيام إلا مع ذو محرم ". وفي رواية للبخاري (3): لا تسافر المرأة بريدا ". ولا حجة في جميع ذلك. (4)

أما اقصره صلى الله عليه وآله وسلم في أسفاره فلعدم استلزام فعله لعدم الجواز فيما دون المسافة التي قصر فيها.

وأما حديث: نهى المرأة عن أن تسافر ثلاثة أيام بغير ذي محرم، فغاية ما فيه إطلاق اسم السفر على مسيرة ثلاثة أيام، وهو غير مناف للقصر فيما دونها، وكذلك نهيها عن سفر اليوم والليلة والبريد، فالبريد لا ينافي جواز القصر في ثلاثة [ا أ] فراسخ، أو ثلاثة أميال، أو ميل. وأيضا هذا الحديث مسوق لبيان حكم آخر هو المقدار الذي يجب على المرأة أن تستصحب المحرم فيه، ويحرم عليها أن تسافر ذلك المقدار بدونه. ولا ملازمة بين هذا وبين مسافة القصر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عادة.

وأما استدلال من استدل بحديث ابن عباس عن الطبراني (5) أنه - صلى الله عليه وآله

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1088) ومسلم رقم (421) وأبو داود رقم (1724) والترمذي رقم (1170) وقال حديث حسن صحيح ومالك في الموطأ (2 رقم 37) من حديث أبي هريرة وقد تقدم.

(2)

في صحيحه رقم (1087) ومسلم في صحيحه رقم (413) من حديث ابن عمر وقد تقدم.

(3)

في السنن رقم (1725) وهو حديث شاذ.

(4)

انظر " المحلى "(5 - 17). "المغني "(3 - 109).

(5)

في الكبير (1 رقم 1162).

وأورده الهيثمي في " المجمع "(2) وقال الطبراني في الكبير من رواية ابن المجاهد عن أبيه وعطاء لم أعرفه وبقية رجاله ثقات.

قلت: وأخرجه الدارقطني في السنن (1 رقم 1) والبيهقي في " السنن الكبرى "(3) وهو حديث ضعيف.

ص: 3124

وسلم - قال: " يا أهل مكة، لا تقصروا في أقل من أربعة برد، من مكة إلى عسفان "(1) فلو ثبت لكان حجة قوية رافعة للخصام، لكن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد بن جبير (2) وهو متروك. وقد نسبه بعض أهل العلم إلى الوضع.

وقال الأذردي: لا تحل الرواية عنه. الراوي عنه إسماعيل بن عياش (3)، وهو ضعيف في الحجازيين وعبد الوهاب المذكور حجازي، والصحيح أنه موقوف على ابن عباس كما أخرجه عنه الشافعي (4) بإسناد صحيح، ومالك في الموطأ. (5)

وقد استدل على تقدير مسافة القصر بما أخرجه أحمد (6)، مسلم (7) وأبو داود (8) عن

(1) عسفان: بضم أوله، وسكون تائبه ثم فاء، وآخر نون، فعلان من عسفت المغازة، وهو يعسفها وهو قطعها بلا هداية ولا قصد. ..

قال أبو منصور: عسفان منهلة من مناهل الطريق، بين الجحفة ومكة.

وقال غيره: عسفان بين المسجدين. وهي من مكة على مرحلتين.

" معجم البلدان "(4 - 122).

(2)

انظر: " الميزان "(2)" المجروحين "(2).

(3)

انظر: " تهذيب التهذيب "(1 رقم 164).

(4)

كما في بدائع المنن (1 رقم 338).

(5)

(1 رقم 9).

(6)

في المسند (3).

(7)

في صحيحه رقم (12).

(8)

في السنن رقم (1201).

وهو حديث صحيح.

الميل = 1848م.

الفرسخ = 5544م.

ص: 3125

شعبة، عن يحيى بن سويد الهنائي قال: سالت أنسا عن قصر الصلاة فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ صلى ركعتين. والذي وقع منه الشك هو شعبة الراوي للحديث، والمتيقن من هذا الحديث هو ثلاثة فراسخ، لأن الحديث متردد بينها وبين ثلاثة أميال، والثلاثة الأميال مندرجة في الثلاثة الفراسخ، فتوجه بالأكثر احتياطا. وهذا الحديث أصح ما ورد في التقدير وأصرحه (1) وقد حمله من خالفه على أن المراد المسافة التي يبتدأ منها القصر لا غاية السفر. أوجيب (2) عنه بأن يحيى بن يزيد الواوي عن أنس إنما سأله عن جواز القصر في السفر، لا عن الموضوع الذي يبتدأ القصر منه، فيكون هذا الحديث مقيدا لإطلاق اسم السفر في القرآن، ولسائر ما ورد من قصر صلى الله عليه وآله وسلم في المواطن التي سافر إليها.

ويؤيده أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يخرج إلى البقيع لزيارة الموتى، وإلى مواطن خارجة عن المدينة، إما للإصلاح بين قوم أو نحو ذلك، ولم يقصر هو، ولا من خرج معه.

وقد وري سعيد بن منصور (3) عن أبي سعيد قال: كان رسول صلى الله عليه وآله وسلم إذا سافر فرسخا يقصر الصلاة، فان صح هذا كان مقدما على حديث أنس المتقدم، وتكون مسافة القصر فوسخا. ولا أدري الآن كيف إسناده لعدم وجود مسند

(1) قاله الحافظ في " الفتح "(2).

(2)

ذكره الحافظ في " الفتح "(2).

ثم قال بعد ذلك " ثم أن الصحيح في ذلك أنه لا يتقيد بمسافة بل بمجاوزة البلد الذي يخرج منها ". ورده القرطبي في " المفهم "(2): بأنه مشكوك فيه فلا يحتج به.

(3)

غير مطبوع فيما أعلم. وعزاه إليه ابن حجر في " التلخيص "(2).

قلت: أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه (2، 442). عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخا قصر الصلاة.

ص: 3126

سعيد بن منصور لدي.

وإذا تبين لك مقدار السفر الذي يقصر في مثله فاعلم أن هذا المسافر إذا حضرته الصلاة بعد خروجه من مدينته أو قريته قصر، ولو لم يكن بينه وبينها وإلا مقدار رمية حجر، لأنه قد صدق عليه اسم السفر الشرعي باعتبار قصره لتلك الغاية التي هي ثلاثة فراسخ فما فوقها. وهكذا لا يزال يقصر في [1ب] رجوعه إلى وطنه حتى يدخل مدينته أو قرية. ولا اعتبار بما قيل إنه لا يقصر حتى يخرج من ميل وطنه، ويتم إذا دخل ميل وطنه، فإن ذلك لم يدل عليه دليل صحيح.

فإن قلت: هلا اعتبرت مجرد الضرب (1) في الأرض المذكور في الآية مع صحة تسميته مسافرا لغة (2)، وذلك بأن يشد رحله، أو يحمل عصاه على عاتقه قاصدا للسفر، وحينئذ يفيد مطلق الضرب في الأرض بما تسمه العرب سفرا.

قلت: المسألة شرعية (3) لا لغو. وقد ورد الشرع بما قدمنا. يرد عن الشارع من وجه صحيح الصر فيما دون ذلك، فوجب التوقف على ذلك. ولو سلمنا أن المسألة لغوية. أن الاعتبار بما يصد عليه اسم المسافر لغة لم يكن في ذلك حجة لمن قال: أن من كان سفره مسافة ميل (4) أو الميلين، أو ثلاثة

(1) قال ابن القيم في " زاد المعادن " ولم يحدد صلى الله عليه وسلم لأمته مسافة محدودة للقصر والفطر، بل أطلق لم ذلك في مطلق السفر والضرب في الأرض كما أطلق لهم التيمم في سفر وأما ما يروى عنه من التحديد باليوم واليومين والثلاثة فلم يصح عنه شيء البتة والله اعلم ".

(2)

تقدم في بداية الرسالة.

(3)

تقدم في بداية الرسالة.

(4)

قال النووي: الميل ستة آلاف ذراع والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة والإصبع ست شعيرات معترضة معتدلة.

قال الحافظ في " الفتح "(2) وهذا الذي قاله هو الأشهر. . ثم إن الذراع الذي ذكره النووي تحديده قد حرره غيره بذراع الحديد المستعمل الآن في مصر والحجاز في الأعصار فوجده ينقص عن ذراع الحديد بقدر الثمن، فعلى هذا فالميل بذراع الحديد على القول المشهور خمسة آلاف ذراع ومائتان وخمسون ذراعا.

ص: 3127

فرسخين، أو ثلاثة فراسخ يقصر الصلاة، فإن القاصد لمثل هذه المقادير لا تسميه العرب مسافرا. ولم نسمع عنهم أنهم أطلقوا عليه اسم المسافر (1)، ولو شد رحله، أو وضع عصاه على عاتقة. وقد طانوا يتزاورون، ويذهب بعضهم إلى محلة بعض، ولا يسمون الفاعل لذلك مسافرا.

وبالجملة فالإحالة لمحل النزاع على السفر اللغوي (2) إحالة على مجهول، أو إحالة على ما يدل على خلاف مطلوب قابله، فوجب الرجوع إلى ما ثبت في الشرع. وقد ثبت فيه أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر إذا خرج في ثلاثة فراسخ. وثبت عنه أنه صلى الظهر بالمدينة أربعا، وصلى العصر بذي الحليفة ركعتين كما في حديث أنس عند أحمد (3)،. ............................

(1) قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا.

ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك.

والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد.

وقال السياغي في " الروض النضير "(2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع صلى الله عليه وسلم بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه.

(2)

قال صاحب المصباح المنير (1/ 425): يقال ذلك إذا خرج للارتحال أو قصد موضع فوق مسافة العدوى، لأن العرب لا يسمون مسافة العدى سفرا. ثم قال في مادة عدى - بالمهلة - والعدوى - بالفتح قال ابن فارس والجوهري - في الصحاح (6/ 2421) - هي طلبك إلى وال ليعديك على من ظلمك أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون مسافة العدوى كأنهم استعارها من هذه لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود بعدو واحد لما فيه من القوة والجلد.

وقال السياغي في " الروض النضير "(2/ 365): " ومراده بالعرف عرف أهل اللغة الذي قرره العرف الشرعي، ويفهم منه أن السفر لا يطلق إلا على التي لا يمكن صاحبها أن يجمع فيها بين الذهاب والعود بمشي واحد وهو ما تدرك به المشقة ويتكلف له المؤنة ولذا قال أهل اللغة: كأن مأخوذ من سفرت الشيء إذا كشفته فأوضحته لأنه ما ينوب فيه ويكشفه، ومن المعلوم أنهم لا يسمون من خرج من بيته وسار أدنى سير مسافرا، ثم نظرنا ما هو الأنسب من تقديرات الشارع صلى الله عليه وسلم بعرف أهل الشرع المتلقي عن أهل اللغة، فلم نجد حديثا سالما عن المطاعن إلا حديث أنس وعملنا بالأحوط منه وهو ثلاثة افواسخ وهو أشد مناسبة بذلك العرف منه بالثلاثة أميال " اه.

(3)

في " المسند "(3/ 177و 186).

ص: 3128

والبخاري (1)، ومسلم (2). وبين المدينة وذي الحليفة ستة أميال (3).

فإن قلت: هذا الحديث يفيد أن القصر يكون دون ثلاثة فراسخ، فيكون أقل مسافة السفر ستة أميال.

قلت: نعم لولا أن الحليفة في هذا السفر لم يكن منتهى سفره، وإنما خرج إليها وقصر بها في سفر إلى مكة. وأما حديث الثلاثة الفراسخ (4) فلم يكن فيه ما يدل على أنها ابتداء سفره، بل فيه ما يدل على أن القصر عند إرادته لمثل هذه المسافة كان عادة له كما يدل عليه لفظ كان على ما تقرر في الأصول (5). ولولا التردد في الرواية بين الثلاثة الأميال، والثلاثة الفراسخ لكان الواجب الأخذ بالأقل، وهو الثلاثة الأميال (6)، لكنه مع التردد يجب الأخذ بالأحوط المتيقن وهو الثلاثة الفراسخ.

(1) في صحيحه رقم (1089).

(2)

في صحيحه رقم (10/ 690). قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1202) والترمذي رقم (546) والنسائي (1).

(3)

ذكره القرطبي في " المفهم "(2).

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

قال السيوطي في " معترك الأقران في إعجاز القرآن "(2/ 245): وتأتي كان بمعنى الدوام والاستمرار.

(6)

تقدم تحويلها إلى المقاييس العصرية.

ص: 3129

قال السائل - عافاه الله -

المبحث الثاني ما المعتمد الذي لا وجه بخلافه كون القصر في السفر رخصة (1)؟ فإن قيل: إنه رخصة، فما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها -الذي اتفق على

(1) الرخصة لغة: مشتقة من الرخص وهو السير والسهولة يقال: " رخص الشارع في كذا ترخيصا " و" أرخص إرخاصا ": إذا يسره وسهله.

وهو مشتق من اللين يقال: " قضيب رخص " أي طري لين.

فالرخصة في الجملة هي عبارة عن السهولة واليسر والمسامحة واللين.

وقيل خرصة بتقديم الخاء حكاها الفارابي. كما ذكره الزركشي في " البحر المحيط "(1).

وانظر: " الصحاح " للجوهري (3)، " للقاموس المحيط "(ص321)، لسان العرب (5).

الرخصة في الاصطلاح: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الرخصة اصطلاحا. ونجد أنها كلها تتفق في معناها والمقصود منها.

الرخصة: " الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر ".

فاعلم أنه لا بد للأخذ بالرخصة من الأمور التالية:

1 -

لابد من دليل يدل عليها للأخذ بها.

2 -

أنه لا بد من وجود العذر في المكلف حتى يستطيع به أن يعدل عن الحكم الأصلي - الذي هو حكم العزيمة - إلى حكم الرخصة.

3 -

أن أحكام الرخصة ليست في الأحكام الأصلية، بل أحكام وضعها الشارع للتخفيف عن المكلفين ولرفع الحرج والضيق عنهم فالرخصة تسهيل وتيسير من الشارع للمكلفين.

قال السبكي في تعريفه للرخصة: " الحكم الشرعي الذي تغير من صعوبة إلى سهولة لعذر مع قيام لسبب للحكم الأصلي.

انظر: " حاشية البناني على شرح المحلى على جمع الجوامع (1)، " الأشباه والنظائر " (ص650) للسيوطي. وقيل: أن الرخصة: ما وسع على المكلف فعله بعذر مع كونه حراما في حق من لا عذر له، أو وسع على المكلف تركه مع قيام الوجوب في حق غير المعذور.

انظر: " كشف الأسرار عن أصول البزدوي "(2) لـ (عبد العزيز النجاري) ط. 1394 هـ - بيروت.

ص: 3130

إخراجه الشيخان (1): " أول ما فرضت الصلاة ركعتين. .. إلخ "، وما روي عن ابن عمر [2أ] موقوفا:" صلاة السفر ركعتين نزلتا من السماء، فإن شئتم فردهما " أخرجه الطبراني في " الصغير "(2) وقال: لم يرو أبو الكنود عن ابن عمر حديث غير هذا، ولا رواه الطبراني إلا قيس بن وهب تفرد به شريك. وأورده الهيثمي في " المجمع " (2) وقال رواه الطبراني في الصغير ورجاله موثقون. قال الهيثمي في " المجمع " (2/ 154 - 155) وعن مورق قال سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر فقال ركعتين ركعتين من خالف السنة كفر ". رواه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح. (2): العزيمة لغة: مشتقة من العزم وهو القصد المؤكد يقال " عزم على الشيء " إذا عقد ضميره على فعله وأكده قال تعالى: (نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه: 115] أي قصدا بليغا متأكدا في العصيان. قال الجوهري في " الصحاح " (5): " عزمت على كذا عزما وعزما بالضم وعزيمة وعزيما: إذا أردت فعله ". ويطلق العزم على القطع ومنه قوله تعالى (فَإذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ)[آل عمران: 159]. انظر: " لسان العرب ط (15)، " المصباح المنير " (2). العزيمة اصطلاحا: الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض. قوله: الحكم الثابت: أي الذي ثبت، واحترز بذلك عن الحكم غير الثابت وهو المنسوخ فلا يسمى عزيمة. لأنه لم يبق مشروعا أصلا. قوله: بدليل شرعي: أحترز به عن الثابت بدليل عقلي فإن ذلك لا تستعمل فيه الرخصة ولا العزيمة. قوله: " الحكم الثابت بدليل شرعي " يتناول جميع الأحكام الخمسة - الواجب، المندوب، الحرام، المكروه، المباح، فإن لكل واحد منها حكم ثابت بدليل شرعي. قوله: " خال عن معارض " احترز عما ثبت بدليل لكن لذلك الدليل معارض، مساو أو راجح حيث إن العزيمة تنتفي هنا. انظر: " نهاية السول " (1/ 70)، " البحر المحيط " (1) للزركشي، " الكوكب المنير " (1).

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1090) " ومسلم رقم (3).

قيل: دليل على وجوب القصر في السفر لأن فرضت بمعنى وجبت ووجوبه عند مذهب الهادوية والحنفية وغيرهم.

انظر: " الروض النضير " للسياغي (2)" التاج المذهب " للعنسي (1).

قال القرطبي في " المفهم "(2): واختلف في حكم القصر في السفر: فروي عن جماعة أنه فرض، وهو قول عمر بن عبد العزيز، والكفيين، وإسماعيل القاضي وهو مشهور مذهب مالك وجل أصحابه. .. ".

ثم قال: أكثر العلماء من السلف والخلف: أن القصر سنة، وهو قول أصحاب الشافعي ثم اختلف أصحاب التخيير: في أيهما أفضل؟ فقال بعضهم: القصر أفضل وهو قول الأبهري من أصحابنا وأكثرهم وقيل: إن الإتمام أفضل. .. ".

(2)

وما نقله ابن سيد الناس أحمد ابن يحيى جابر البلاذري عند ذكر مسجده صلى الله عليه وآله وسلم قال: فنزل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أبي أيوب رضي الله عنه إلى أن قال -: ونزل عليه تمام الصلاة بعد مقدمه بشهر "؟ انتهى. وإن قيل: إنه عزيمة

ص: 3131

الجواب عن حديث عائشة الذي نقل (1) سيدي محمد الأمير (2) - رحمة الله - عن الدراقطني (3) تصحيحه " كان صلى الله عليه وآله وسلم يقصر في السفر، ويتم، ويصوم ويفطر " وحديثها أيضًا الذي أخرجه البيهقي (4) أنها اعتمرت معه - صلى الله عليه

(1) في " سبل السلام "(3). بتحقيقي.

(2)

أي محمد إسماعيل الأمير الصنعاني.

(3)

في " السنن "(2/ 189 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح.

(4)

في " السنن الكبرى "(3) وقال: إسناد صحيح.

وذكر صاحب " التنقيح " أن هذا المتن منكر. فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر في رمضان قط ". قلت: وهو حديث ضعيف.

قال ابن القيم في " زاد المعاد "(1) وقد روى: كان يقصر وتتم " وكذلك يفطر وتصوم أي: تأخد في بالعزيمة في الموضعين قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم وفي الصحيح عنها رضي الله عنها: "إن الله فرض الصلاة ركعتين وركعتين فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة زيد في الصلاة الحصر وأقرت صلاة السفر " -تقدم - فكيف يظن بها مع ذلك أنها تصلي خلاف صلاته وصلاة المسلمين معه. قلت: وقد أتمت عائشة بعد موته صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس وغيره. إنها تأوله كما تأول عثمان. أخرجه مسلم في صحيحه رقم (685): قال الزهري: فقلت لعروة: ما بال عائشة تتم في السفر؟ قال: إنها تأولت ما تأول عثمان.

قال القرطبي في " المفهم "(2/ 327): وأولى ما قيل في ذلك - التأويل - أنهما تأولاً: أن القصر رخصة غير واجبة.

ص: 3132

وآله وسلم - إلى أن فالت لرسول الله: بأبي أنت وأمي أتممت وقصرت، وأفطرت وصمت؟ فقال:" أحسنت ياعائشة "، وحديث القشيري الذي رواه سيد الناس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث خيلا - إلى أن قال -: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " تعال أحدثك عن ذلك، إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة والصيام. .. إلخ ". قال ابن سيد الناس: قالوا: وضعه لا يكون إلا من فرض ثابت. وقال أيضا: ولم يقصر صلى الله عليه وآله وسلم آمنا إلا بعد نزول آية القصر في الخوف، وكان نزولها بالمدينة، وفرض الصلاة بمكة، فظاهر هذا أن القصر صار على الإتمام انتهى.

وعن معنى قوله: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ)(1) ونفي الجناح (2) في آلاية انتهى.

أقول: ذهب إلى القول بوجوب القصر كثير من السلف والخلف. قال الخطابي في

(1)[النساء: 101].

(2)

قال القرطبي في " المفهم "(2)" الجناح " الحرج وهذا يشعر أن القصر ليس واجبا لا في السفر ولا في الخوف، لأنه لا يقال في الواجب: لا جناح في فعله.

ص: 3133

المعالم (1) كان مذاهب أكثر علماء السلف، وفقهاء الأمصار أن القصر هو الواجب في السفر، وهو قول علي، وعمر، وابن عباس، وروى ذلك عن عمر بن عبد العزيز، وقتادة، والحسن.

وقال حماد بن سلميان: يعيد من يصلي في السفر أربعا. وقال مالك: يعيد ما دام في الوقت. وقد نسب القول بالوجوب إلى النووي (2) إلى كثير من أهل العلم. ذهب إلى القول بأن القصر رخصة عائشة، وعثمان. وروي عن ابن عباس، والشافعي، وأحمد ونسبه النووي (3) إلى أكثر العلماء. احتج القائلون بالوجوب بحجج:

الأولى: ما ثبت في الصحيحين (4) وغيرهما (5) من حديث ابن عمر قال: صحبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان لا يزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر وعمر وعثمان. ويجاب عن هذا الاستدلال بأن مجرد الملازمة لا تفيد الوجوب.

الحجة الثانية: حديث عائشة المتفق عليه (6) بألفاظ منها: " فرضت الصلاة ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وأتمت صلاة الحضر ". وهذا دليل ناهض على الوجوب، لأن صلاة السفر لما كانت مفروضة ركعتين لم تجز الزيادة عليها في الرباعية، كما أنها لا تجوز الزيادة على أربع في الحضر. وقد أجيب عن هذه الحجة بأنها من قول عائشة، وأنها لم تشهد زمان فرض الصلاة. وأجيب عن ذلك بأن مثل هذا مما لا مجال للاجتهاد فيه، فله حكم الرفع. وأما كونها لم تشهد زمان فرض الصلاة فليس ذلك بعلة

(1)" معالم السنن "(2).

(2)

في " المجموع "(4/ 220 - 222). وفي شرح لصحيح مسلم رقم (5).

(3)

في " المجموع "(4/ 220).

(4)

أخرجه البخاري وصحيحه رقم (1101) ومسلم رقم (8).

(5)

كابي داود رقم (1233) والترمذي رقم (544) والنسائي (3/ 122و124) وابن ماجه رقم (1071).

(6)

تقدم تخريجه.

ص: 3134

قادحة، لأنه يمكن أن تأخذ ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد زمان فرض الصلاة، وبمكن أن تأخذ عن صحابي آخر، ومراسيل الصحابة حجة.

ومن الجملة (1) ما قيل في الكلام على حديث عائشة هذا أنه معارض بحديث ابن عباس [2ب] عن مسلم (2): " فرضت الصلاة في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين "، ويجاب عن هذا بأن الجمع (3) ممكن بأن يقال: أن الصلاة فرضت ليلة الإسراء ركعتين ركعتين، إلا المغرب، ثم زيدت بعد الهجرة إلا الصبح كما رواه ابن خزيمة (4)، وابن حبان (5)، والبيهقي (6) عن عائشة قالت:" فرضت صلاة الحضر ركعتين ركعتين، وتركت صلاة الفجر لطول القراءة، وصلاة المغرب لأنها وتر النهار ".

ومما أجاب به القائلون بأن القصر رخصة عن حديث عائشة أن المراد بقولها: " فرضت " أي قدرت (7)، وهو تأويل متعسف لا ينبغي التعويل عليه، ويدفعه قولها في الحديث:" فأقرت في السفر، وزيدت في الحضر ". ومنها قول النووي (8): أن المراد بقولها " فرضت " يعني لمن أراد الاقتصار عليه، وهذا أشد تعسفا من الوجه الذي قبله.

الحجة الثالثة: ما في الصحيح. ......................................

(1) ذكره الحافظ في " الفتح "(1/ 464).

(2)

في صحيحه (5).

قلت: وأخرجه أحمد (1) وأبو داود رقم (1247) والنسائي (3 - 119) وابن ماجه رقم (1072). وهو حديث صحيح.

(3)

ذكره الحافظ في " الفتح "(1/ 464).

(4)

في الصحيحه رقم (305).

(5)

في صحيحه رقم (2738).

(6)

في " السنن الكبرى "(3) وقال المحدث الألباني في تعليقه على الصحيح ابن خزيمة: " في إسناده ضعيف. .. وقد أخرجه أحمد (6، 265) من طريقين عن داود به منقطعا " اهـ.

(7)

في شرحه لصحيح مسلم (2/ 570).

(8)

في شرحه لصحيح مسلم (5).

ص: 3135

مسلم (1) عن ابن عباس: " إن الله عز وجل فرض الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وآله وسلم على المسافر ركعتين، وعلى المقيم أربعا، والخوف ركعة " وهذا الصحابي الجليل قد صرح بما هو المطلوب للقائلين بوجوب القصر، لأن صلاة المسافر إذا كانت مفروضة ركعتين لم يحل له أن يخالف ما فرضه الله عليه.

الحجة الرابعة: حديث عمر عند النسائي (2) صلاة الأضحى ركعتين، وصلاة الفجر ركعتين، وصلاة السفر ركعتين، تمام غير قصر، على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم " وأخرجه أيضًا أحمد (3) وابن ماجه (4)، ورجال الحديث رجال الصحيح، إلا يزيد بن أبي الجعد فقد وثقه أحمد وابن معين (5). وقد روي من طريق أخر بأسانيد رجالها رجال الصحيح، وفيه التصريح بأن صلاة السفر مفروضة كذلك، وأنها تمام غير قصر.

والحجة الخامسة: ما أخرجه النسائي (6) عن ابن عمر قال: " أمرنا أن نصلي ركعتين في السفر.

(1) تقدم تخريجه.

(2)

في " السنن "(3 رقم 1566).

من حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عمر. قال النسائي: لم يسمعه من عمر، وكان شعبة ينكر سماعه منه.

قال الحافظ في " التلخيص "(2): وسئل ابن معين عن رواية جاء فيها في هذا الحديث عنه سمعت عمر؟ فقال: ليس بشيء. وقد رواه البيهقي بواسطة بينهما وهو كعب بن عجزة، وصححها ابن السكن.

(3)

في " المسند "(1).

(4)

في " السنن " رقم (1064) وهو صحيح.

(5)

ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب "(4/ 412).

(6)

لعله في السنن الكبرى للنسائي في " السنن الصغرى "(3) بمعناه من حديث أمية بن عبد الله بن أسيد. بسند صحيح.

ص: 3136

واحتج القائلون بأن القصر رخصة بحجج:

الحجة الأولى: قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ)(1) قالوا: ورفع الجناح لا يدل على العزيمة، بل يدل على الرخصة. (2)

وأجيب بأن الآية وردت في قصر الصفة في صلاة الخوف، لا في قصر العدد، وهي أيضًا قد اقتضت قصرا يتناول قصر الأركان بالتجفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين. وقيد ذلك بأمرين: الضرب في الأرض، والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران، فيصلون صلاة الخوف بقصور عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران وكانوا آ منين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإن وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان، واستوفي العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، وإن وجد السفر والأمن قصر العدد، واستوفيت الأركان، وصليت صلاة أمن. وهذا أيضانوع قصر وليس بالقصر المطلق. وقد تسمى هذه الصلاة مقصورة باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامة [3أ] باعتبار إتمام أركانها، وأنها لم تدخل في الآية كذا قال المحقق ابن القيم (3) وما أحسن ما قال!.

والحجة الثانية لهم: ما أخرجه مسلم (4) وأهل السنن (5) غيرهم (6) من حديث يعلى ابن أمية قال: قلت لعمر ابن الخطاب: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فقد أمن الناس! فقال عجبت مما

(1)[النساء: 101].

(2)

ذكره الحافظ في " الفتح "(1).

(3)

في " زاد المعاد "(1/ 128).

(4)

في صحيحه رقم (4/ 686).

(5)

كأبي داود رقم (1199) والترمذي رقم (3037) والنسائي (3/ 116).

(6)

كأحمد (1/ 25).

ص: 3137

عجبت منه، فسألت رسول الله فقال:" صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقتة " قالوا: فقوله: " صدقة " يدل على عدم الوجوب.

ويجاب عن هذا بأن محل النزاع هو وجوب القصر، وقد قال: فاقبلوا صدقته " ومعنى الأمر الحقيقي الوجوب، فالحديث عليهم لا لهم.

الحجة الثالثة: ما روي أن الصحابة كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمنهم القاصر، ومنهم المتم، ومنهم الصائم، ومنهم المفطر؛ لا يعيب بعضهم على بعض. كذا قال النووي في شرح مسلم (1) وقد عزي هذا إلى صحيح مسلم (2) ولم نجده فيه (3).

ويجاب عنه بأن لم يكن فيه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اطلع على ذلك وقررهم عليه. وقد نادت أقواله وأفعاله بخلاف ذلك. وقد أنكر جماعة منهم على عثمان لما أتم بمنى (4).

والحجة الرابعة لهم: ما أخرجه النسائي (5)، والدارقطني (6)، البيهقي (7)، عن عائشة قالت: خرجت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في عمرة في رمضان فأفطر

(1)(7 - 237).

(2)

بل أخرجه مسلم في صحيحه رقم (99/ 1118).

(3)

قلت: وأخرجه البخاري في صحيحه رقم (1947): عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.

وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (97) من حديث أبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله.

(4)

انظر " فتح الباري "(2).

(5)

في " السنن "(3).

(6)

في " السنن "(2 رقم 44) وقال: هذا إسناد صحيح.

وأخرجه (2 رقم 39، 40) وقال: الأول متصل وهو إسناد حسن وعبد الرحمن قد أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق وهو مع ابيه وقد سمع منها. وقد تقدم وهو حديث ضعيف.

(7)

في " السنن الكبرى "(3/ 142) وقال إسناده صحيح.

ص: 3138

وصمت، وقصر وأتممت، فقالت: بأبي وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت فقال: " أحسنت يائشة " قال الدارقطني (1): وهذا إسناده حسن.

ويجاب عنه بأن في إسناده العلاء بن زهير عن عبد الرحمن بن يزيد، والأسود النخعي عنها، والعلاء بن زهير قال فيه ابن حبان (2) كان يروي عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات فبطل الاحتجاج به فيما لم يوافق الأثبات، وقال ابن معين (3): ثقة. وقد اختلف في سماع عبد الرحمن منها. قال الدارقطني: أدرك عائشة ودخل عليها وهو مراهق، وقال أبو حاتم (4): أدخل عليها وهو صغير، ولم يسمع منها.

قال أبو بكر النيسابوري: من قال فيه عن عائشة فقد أخطأ، ومع هذا فقد اختلف قول الدارقطني (5) فيه، فقال في السنن: إسناده حسن، وقال في العلل: المرسل أشبه (6) وقال البدرالمنير (7) إن في متن هذا الحديث نكارة وهو كون عائشة خرجت معه في رمضان للعمرة، والمشهور أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يعتمر (8) إلا أربع عمر ليس منهن شيء في رمضان، بل كلهن في ذي القعدة، إلا التي مع حجته فكان إحرامها في ذي القعدة، وفعلها في ذي الحجة قال: هذا هو المعروف في الصحيحين (9)

(1) في " السنن "(2/ 188).

(2)

في " المجرحين "(2).

(3)

انظر " الميزان "(3 رقم 5731).

(4)

في " المراسيل "(ص129 رقم 464).

(5)

تقدم ذكره.

(6)

ذكره الحافظ في " التلخيص "(2/ 92).

(7)

ذكره النووي في " المجموع "(4/ 218).

(8)

ذكره النووي في " المجموع "(4/ 218).

(9)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1778) ومسلم رقم (217) عن قتادة أن أنسا- رضي الله عنه أخبره أن رسول الله اعتمر أربع عمر: كلهن في ذي القعدة إلا التي مع حجته. عمرة من الحديبية أو زمن الحديبية في ذي القعدة وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة وعمرة من جعرانة حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.

ص: 3139

وغيرهما.

وقد وجه ذلك بعض أهل العلم بتوجيهات متعسفة لا ينبغي الاعتماد عليها، خصوصا مع مخالفة هذا الحديث لأقوال صلى الله عليه وآله وسلم الصريحة، وأفعاله الصحيحة. وقال ابن حزم (1): هذا الحديث لا خير فيه، وطعن فيه، ورد عليه ابن النحوي بما لا يصلح للرد. قال في الهدي (2) بعد ذكر لهذا الحديث: سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هذا حديث كذب على عائشة.

الحجة الخامسة لهم: ما أخرجه الدارقطني (3) عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقصر في السفر، ويتم، ويفطر ويصوم. قال بعد أخراجه: إسناده صحيح.

ويجاب عنه بأن الإمام أحمد استنكره كما حكى ذلك صاحب التلخيص (4) وقال: وصحته بعيدة، فإن عائشة كانت تتم يعني بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم[3ب]- كما ذكر عروة أنها تأولت كما تأول عثمان كما في الصحيح (5)، فلو كان عندها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم رواية لم ينقل عروة أنها تأولت ما تأول عثمان.

قال في الهدي (6): وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبالجملة فهذا الحديث وأشباهه لا يقوى على معارضة بعض حجج القائلين بوجوب

(1) في " المحلى "(4/ 299).

(2)

" زاد المعاد "(1).

(3)

تقدم وهو حديث ضعيف.

(4)

" تلخيص الحبير "(2/ 92 - 93).

(5)

تقدم تخريجه.

(6)

(1/ 472).

ص: 3140

القصر فضلا عن كلها، فالحق أن القصر عزيمة لا رخصة، وأنه متعين على كل مسافر إذا وجد المقتضى وفقد المانع.

ص: 3141

قال السائل - عافاه الله -:

المبحث الثالث:

عن مدة الإقامة التي إذا عزم المسافر عليها هل حد كما قال ابن عباس (1): " من أقام سبعة عشر يوما، ومن أقام أكثر من ذلك أتم " وكذلك ما روي عن ابن عمر (2): " كان إذا أجمع المكث، وإذا كان اليوم إذا قصر "!. وهل إباحته صلى الله عليه وآله وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة أيام يكون حدا بين السفر والإقامة كما قد قال به من قال، أو لا حد لها، لأنه لم يعلم منه صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أراد زاد على سبعة عشر أو عشرين كما في حديث جابر (3) في غزوة تبوك أتم؟ وهل هناك فرق بين إذا كانت الإقامة لحرب كما نقله أن ابن عمر في أيام حصار أذربيجان قصر ستة أشهر (4)، ولما أراد الجوار بمكة أتم أم لا فرق؟ وهل جاور بمكة؟ وهل القصر بمنى وعرفات للسفر أو للنسك، وما حال سكان منى وعرفات أقصر صلاتهم في حجهم مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أتموا؟ وهل ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لأهل منى وعرفات:" أتموا " كما قال في مكة لأهلها (5) أم

(1) أخرجه أبو داود في " السنن " رقم (1230) وهو حديث صحيح.

(2)

انظر " المغني "(3 - 149).

(3)

أخرجه أبو داود في " السنن " وهو حديث صحيح.

عن جابر- رضي الله عنه: أقام بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة.

(4)

أخرجه البيهقي في " المعرفة "(4/ 274 رقم 6148) وفي " السنن الكبرى "(3) عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: " ارتح علينا الثلج ونحن بأذربيجان ستة أشهر في غزاة، قال ابن عمر: فكنا نصلى ركعتين ".

قال النووي: وهذا سند على شرط الصحيحين كما في " نصب الراية " للزيلعي (2).

(5)

أخرجه أبو داود رقم (1229) بإسناد ضعيف فيه زيد ابن جدعان. ضعيف. عن عمران ابن حصين قال: شهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشر ليلة لا يصلي إلا ركعتين ويقول " يا أهل البلد صلوا أربعا فإنا قوم سفر ".

ص: 3142

لم يكن فيها مستوطن؟ انتهى.

أقول: قد اختلفت أقوال السلف ومن بعدهم في قدر المدة المعتبرة للمسافر مع تردده، فذهب قوم إلى أنها شهر، وذهب آخرون إلى أنها عشون يوما، وذهب البعض إلى أنها ستة أشهر. وذهب البعض إلى أنها أربعة أشهر. وذهب قوم إلى أنها أربعة أيام، وليس لكل من هذه الأقوال متمسك ينبغي الكلام عليه حتى نسوقه ونسوق الجواب عليه، وأرجحها قول من اعتبر العشرين، ووجه ذلك أن المسافر إذا أقام ببلده وحط رحله، وذهب عنه وعثاء السفر فهو بالمقيم أشبه منه بالمسافر، ولولا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قصر الصلاة عند إقامته في مكة (1)، وعند إقامته في تبوك (2) لكان الأصل التمام، فينبغي أن يقتصر على المقدر الذي قصر فيه صلى الله عليه وآله وسلم ويتم المسافر الصلاة إذا زاد عليه مع التردد لا القصر، فقال: ومن أين لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لو أقام في ذينك الموطنين زيادة على المقدار أتم، لأنا نقول: التمام مع الإقامة هو الأصل فلما قصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لنا القصر مع الإقامة إلى ذلك المقدر، والأصل عدم جواز القصر بعد تلك المدة، ولم يدل دليل على جوازه بعدها فيجب الاقتصار على ما وقع منه صلى الله عليه وآله وسلم من القصر في ذينك الموطنين، ويرجع فيما زاد إلى الأصل لعدم الدليل الدال على الجواز. وقد أخرج أحمد (3)، وأبو داود (4)، وابن حبان (5)،. .........................

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (1080) عن ابن عباس رضي الله عنه قال: أقام النبي- صلى الله عليه وسلم تسعة عشر يوما يقصر وفي لفظ: بمكة تسعة عشر يوما.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(3)

في " المسند "(3).

(4)

في " السنن "(1235).

(5)

في صحيحه رقم (2738).

ص: 3143

والبيهقي (1)، وابن حزم (2) والنووي (3) عن جابر: أقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة. وقد أعل بما لا يقدح في الاحتجاج به. وأخرج أبو داود (4)، والترمذي (5) وحسنه البيهقي (6) عن عمران بن حصين قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين يقول: " يا أهل مكة، صلوا أربعا، فإنا سفر " في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف.

وأخرج أحمد (7)[4 أ]، والبخاري (8)، وابن ماجه (9) عن ابن عباس قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم مكة أقام فيها تسع عشرة يصلى ركعتين قال: " فنحن إذا سافرنا فأقمنا تسعة عشر ليلة قصرنا، وإن زدنا أتممنا " ورواه أبو داود (10) بلفظ سبع عشرة بتقديم السين.

وقد روي أنه أقام خمس عشرة أخرجه النسائي (11)، وأبو داود (12)،. ....

(1) في " السنن الكبرى "(3) وهو صحيح.

(2)

في " المحلى "(5/ 25 - 26).

(3)

في " المجموع "(4/ 240).

(4)

في " السنن " رقم (1229).

(5)

في " السنن " رقم (545).

(6)

في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151). وقد تقدم وهو حديث ضعيف.

(7)

في " المسند "(1).

(8)

في صحيحه رقم (1080).

(9)

في " السنن " رقم (1075).

(10)

في " السنن " رقم (1230). وهو حديث صحيح.

(11)

في " السنن الكبرى " رقم (3/ 151).

(12)

في " السنن " رقم (1231). قال أبو داود: روى هذا الحديث عبدة بن سلميان وأحمد بن خالد الوهبي، وسلمة عن ابن إسحاق، لم يذكروا فيه ابن عباس.

ص: 3144

وابن ماجه (1)، والبيهقي (2) عن ابن عباس. قال البيهقي: أصح الروايات في ذلك رواية البخاري (3)، وهي رواية تسع عشرة بتقديم التاء: ولا يخفاك أن هذه الرواية وإن كانت أصح من غيرها فذلك لا ينافي وجود الصحة المعتبرة في رواية العشرين (4).

وقد صححها من قد بينا في ذلك، وهي مشتملة على الزيادة، فالاعتبار بها على أن الترجيح بين الروايات إنما وقع للحفاظ في الإقامة بمكة. وقد جاء في الإقامة بتبوك ما فيه الزيادة التي لم تقع منافية لما دونها، فكان المصير إلى ذلك محتما. والأخذ به لازما، فالحق أن المقيم متردد لا يزال يقصر إلى عشرين يوما ثم يتم، لما قدمنا. ولا يجوز التمسك بما روي عن بعض الصحابة من القصر مع الإقامة أكثر من عشرين، فليس في ذلك حجة. ولا فرق بين الإقامة لحرب وأغيره لما عرفت.

وما ذكره السائل بقوله: وما حال سكان منى وعرفات. .. إلخ.

فيقال: حالهم كحال أهل مكة يلزمهم التمسك بقوله صلى الله عليه وآله وسلم لأهل مكة: " أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر "(5) فقد ثبت بهذا حكم غير أهل مكة كما ثبت حكم أهل مكة، ولا يحتاج إلى أن يطلب هل قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثل ما قال لأهل مكة أم لا؟

(1) في " السنن " رقم (1076).

(2)

في " السنن الكبرى "(3/ 151).

وهو حديث ضعيف. انظر " الإرواء "(3 - 27).

(3)

في صحيحه رقم (1080).

(4)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(5)

تقدم تخريجه.

ص: 3145

قال السائل - عافاه الله -:

المبحث الرابع:

إذا قلنا بفرضية صلاة المسافر ركعتين، فهل يجوز له أن يصليها أربعا كما عن الطبري أنه قال: يحتمل أن قول عائشة فرضت الصلاة ركعتين في السفر يعني إن اختار المسافر أن يكون فرضه ركعتين فله ذلك، وإن اختار أن يكون أربعا فله ذلك، وشبهه بتأخر الحاج وتعجله في منى قال: إن تأخر فعن فرضه أقام، وإن تعجل فعن فرضه نفر. وأي ذلك فعل فعل صوابا، وهل قوله هذا صحيح وله وجه تسلى النفس إليه أم لا؟ انتهي.

أقول: قد عرفناك فيما تقدم أن القصر عزيمة بالأدلة الصحيحة التي لا تحتمل التأويل، وهذا التأويل الذي ذكره الطبري ليس بشيء، ولم تلجئ إليه ضرورة، ولا دعت إليه الحاجة.

ص: 3146

قال السائل - عافاه الله -:

المبحث الخامس:

لو اقتدى قاصر بمنتم أيلزم كما نقل عن ابن عباس أنه سئل ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد، وأربعا إذا ائتم بمقيم؟:" إن ذلك من السنة "(1) أن القصر لأنه باق في سفره؟ وهل هناك دليل على واحد منهما غير ما ذكر؟ انتهى.

أقول: إذا ثبت وجوب القصر بأدلته المتقدمة كان تخصيص بعض الأزمنة أو الأمكنة أو الأحوال أو الأشخاص بأنه يتم محتاجا إلى دليل يصلح للتخصيص، ولم يبلغنا أنه اقتدى مسافر بمقيم في حضرته صلى الله عليه وآله وسلم ولا ثبت لنا أنه صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن ذلك فأجاب. ولكن الخبر أن ابن عباس أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا ثبت عنه أنه قال: إتمام المسافر بعد المقيم من السنة،

(1) أخرجه أحمد (1).

قال ابن قدامة في " المغني "(3/ 143 - 144): " إذا دخل مع مقيم، وهو مسافر أتم ". وجملة ذلك أن المسافر متى ائتم بمقيم لزمه الإتمام، سواء أدرك جميع الصلاة أو ركعة، أو أقل. قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن المسافر، يدخل في تشهد المقيمين؟ قال: يصلي أربعا. وروي ذلك عن ابن عمر، وابن عباس، وجماعة من التابعين، وبه الثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي. ..

ثم قال: ولا نعرف لهم في عصرهم مخالفا.

وقد أخرج البخاري في صحيحه رقم (1082) ومسلم رقم (17) والنسائي (3) عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وأبو بكر بعده، وعمر بعد أبي بكر وعثمان صدرا من خلافته، ثم إن عثمان صلى بعد أربعا، فكان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعا وإذا صلاها وحده صلى ركعتين.

قال القرطبي في " المفهم "(2 - 336): فإن عمر وابن مسعود كانا يصليان معه، ويتمان مع اعتقادهما: أن القصر أولى وأفضل، لكنهما اتبعاه لأن الإتمام جائز، ومخالفة الإمام فيما رآه مما يسوغ ممنوعة ويحتمل: أن يريد بالإمام هنا: أي إمام اتفق من أئمة المسلمين، ويعني به، أن ابن عمر إذا صلى خلف مقيم أتم تغليبا لفضلة وبحكم الموافقة فيما يجوز أصله.

ص: 3147

فالتمسك بذلك واجب، وبه تخصيص أدلة وجوب [4 ب] القصر، ولا بد من تصحيح هذا الحديث حتى يبلغ إلى درجة الاعتبار، وينتهض للتخصيص، فهاهنا جسر عظيم هو أدلة وجوب القصر التي قدمنا ذكرها، ولا يجوز أن يجوزه أحد إلا بحقه، والبقاء على ما تقتضيه الأدلة الصحيحة متحتم حتى يرد ما نصه لتخصيصها، وأين ذاك؟ ولا سيما مع احتمال لفظ السنة.

وعلى كل حال فينبغي للمسافر أن يتجنب الائتمام بالمقيم، لأنه يدخل نفسه في أحد الخطرين، إما مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الاختلاف على الأئمة، وأوجب علينا الاقتداء بهم وقال:" إنما جعل الإمام ليؤتم به. .. "(1) الحديث، فإن وقع في مثل ذلك اقتدى به في الركعتين الآخرتين من صلاته. ولا يدخل معه في الأوليين، فإن دخل معه فيهما فقد عرض نفسه للاختلاف على إمامه أو مخالفة أدلة وجوب القصر، فليوازن بين الخطرين بما يؤدي إليه اجتهاده.

(1) تقدم تخريجه. انظر الرسالة رقم (83).

ص: 3148

قال السائل - عافاه الله -:

المبحث السادس:

ما المقرر في الجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، أهو خاص بعرفات ومزدلفة كما ذهب إليه طائفة منهم الحسن، وابن سيرين، ونقل عن ابن القيم أنه قال: لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم الجمع وهو [نازل](1) إلا بعرفة ومزدلفة. أم وهو جائز فيهما، وفيما إذا كان على ظهر سير، وفيما إذا جد به السير كما في الرواية البخاري عن ابن عباس، وابن عمر، أو مطلقا كما في روايته عن أنس؟ وهل هو خاص بالسفر كما في هذه الروايات، أو فيه وفي الحضر كما في رواية أبي داود (2) وغيره (3) عن ابن عباس رضي الله عنه:" جمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " فقيل لابن عباس: ما أدرك إلى ذلك قال: " لا أراد ألا يحرج أمته " ولذلك جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بعرفة ومزدلفة إن جمع معه مستوطنوهما يصدق عليه أنه جمع بحضر إلا أن يثبت أنه نبه عليهم في ترك الجمع كما قال لأهل مكة في القصر: " أتموا "(4)؟ وهل هناك فرق ثابت بدليل بين جمع التقديم وجمع التأخير حتى يقال: أن حديث ابن عباس لا يحتج به، لأنه غير معين لجمع تأخير ولا تقديم؟ فإن وجد الدليل على أن أهل عرفة ومزدلفة لم يجمعوا، وإلا فما الجواب عن ما أخرجه الترمذي (5) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

(1) في الأصل بياض ولعل ما أثبتناه يتم العبارة.

(2)

في " السنن " رقم (1208، 1206).

(3)

كمسلم في صحيحه (52) و (51) والترمذي رقم (553، 554) والنسائي (1) وابن ماجه رقم (1070) وقد تقدم وهو حديث صحيح.

(4)

تقدم تخريجه.

(5)

في " السنن " رقم (188) قال الترمذي هذا هو أبو على الرحبي وهو " حسين بن قيس " وهو ضعيف عند أهل الحديث، ضعفه أحمد وغيره.

وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الضفيعة " رقم (4581).

ص: 3149

" من جمع بين الصلاتين من غير عذر فقد أتى بابا من أبواب الكبائر "؟ وهل تأول حديث ابن عباس في الجمع في الحضر بأنه الصوري (1) مطابق لقول ابن عباس: أواد ألا يحرج أمته؟ فإن وإن كان أيسر من حيث أنه يكفي للصلاتين تأهب واحد إلا أنه من حيث مراقبة آخر وقتي الظهر والمغرب، وأول وقتي العصر والعشاء لا يخلو فيما يظهر عن حرج والله اعلم.

أفتونا بالأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة التي تطمئن إليها القلوب، ويدان بها علام الغيوب، والتحقيق الذي تخمد به نار الخلاف - أن شاء الله - مأجورين من فضل الله. والسلام.

أقول: أما الجمع بمزدلفة فقد ثبت بالأدلة الصحيحة، وكذلك الجمع للسفر فقد ثبت تأخيرا بالأدلة الصحيحة (2) في الصحيحين وغيرهما، وثبت تقديما بالأدلة الحسنة الثابتة فيما عدا الصحيحين من دواوين الإسلام، وكذلك الجمع للمطر (3)[5أ] ثبت. ..............................

(1) انظر تفصيل ذلك في الرسالة رقم (84) انظر " الضعيفة " رقم (4581).

(2)

(منها) ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1092) ومسلم (42) وأبو داود رقم 1207، 1217) والترمذي رقم (555) والنسائي (1، 289) من حديث ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عجل به السير جمع بين المغرب والعشاء وفي رواية قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجله السير في السفر يؤخر صلاة المغرب، حتى يجمع بينها وبين صلاة العشاء.

ومنها ما أخرجه البخاري رقم (1111) ومسلم رقم (46، 48/ 704) وأبو داود رقم (1218، 1219) والنسائي (1، 258).

من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع بينهما. فإن زاغت قبل أن يرتحل صلى الظهر ثم ركب.

وفي رواية: يؤخر الظهر إلى أول وقت العصر.

(3)

انظر " المغني "(3) قال ابن قدامة: ويجوز الجمع لأجل المطر بين المغرب والعشاء ويروى ذلك عن ابن عمر وفعله أبان بن عثمان في أهل المدينة وهو قول الفقهاء السبعة ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق ويروى عن مروان، وعمر ابن عبد العزيز، ولم يجوزه أصحاب الرأي.

ص: 3150

بأدلته (1).

وأما الجمع من غير عذر ولا مطر ولا سفر فقد أطال أهل العلم الكلام فيه، وألفوا في ذلك رسائل في كل عصر خصوصا هذه العصور القريبة، وإلى عصرنا الآن. فالمسوعون للجمع مطلقا تمسكوا بما في الصحيحين (2) وغيرهما من حديث ابن عباس:" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء ".

وأخرج أحمد، ومسلم (3)، وأهل السنن إلا ابن ماجه عنه بلفظ:" جمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر " قيل لابن عباس: ما أراد بذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته " وفي لفظ من غير خوف ولا سفر.

وقد أجاب الجمهور القائلون بعدم جواز الجمع لغير عذر عن هذا الحديث بأجوبة منها: أن الجمع منه صلى الله عليه وآله وسلم كان لعذر المرض وقواه النووي (4). وليس هذا الجواب صحيح ولا قوي، فإنه لو كان الجمع لعذر المرض لبينه راوي الحديث، ولما صلى معه صلى الله عليه وآله وسلم إلا من كان له مثل ذلك العذر. وقد وقع التصريح في بعض الروايات بأنه صلى الله عليه وآله وسلم جمع بأصحابه.

ومن جملة (5) ما أجابوا به أنه كان في غيم ثم انكشف الغيم فبان أن وقت العصر قد دخل. وهذا جواب متعسف، فإن مثل هذا ما كان يخفى على الراوي ولا كان لقوله: لئلا يحرج أمته " معنى.

ومما أجابوا به بأن الجمع المذكور صوري بأن يكون آخر الأولى إلى آخر وقتها، وقدم

(1) انظر هذه الآثار في " المغني "(3 - 133).

(2)

تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

(3)

تقدم تخريجه. وانظر الرسالة رقم (84). من (الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني).

(4)

في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281).

(5)

في شرحه لصحيح مسلم (5/ 281).

ص: 3151

الثانية في أول وقتها. قال النووي (1): وهذا احتمال ضعيف أو باطل، لأنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل. قال الحافظ ابن حجر (2): وهذا الذي ضعفه قد استحسنه القرطبي (3)، ورجحه إمام الحرمين، وجزم به من القدماء ابن الماجشون، والطحاوي، قواه ابن سيد الناس بأن الشعثاء وهو راوي الحديث عن ابن عباس قد قال به انتهى (4).

ومما يؤيد حمل هذا الجمع على الجمع الصوري ما أخرجه النسائي (5) عن ابن عباس بلفظ: " صليت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم الظهر والعصر جمعا، والمغرب والعشاء جمعا، أخر الظهر، وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء " فهذا تفسير ابن عباس الراوي لحديث الجمع، وكفى به حجة على بيان ماهية هذا الجمع الذي أطال الناس الكلام فيه، وغلا فيه من غلا حتى أخرجوا الصلوات عن أوقاتها المضروبة لها المبينة بتعليم جبريل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتعليم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه كما ثبت بذلك الأحاديث الصحيحة، وخالفوا ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ بعثه الله - سبحانه - إلى أن قبضه من الإتيان لكل صلاة في وقتها المضروب لها، وكذلك أصحابه في حياته وبعد موته.

ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (6) ومسلم (7) وغيرهما (8) عن عمرو بن دينار أنه قال

(1) في شرحه لصحيح مسلم (5).

(2)

في " الفتح "(2).

(3)

في " المفهم "(2).

(4)

أي كلام ابن حجر في " الفتح "(2).

(5)

في " السنن الكبرى "(1 رقم 1573).

(6)

في صحيحه رقم (1174).

(7)

في صحيحه رقم (55).

(8)

كأبي داود رقم (1210 - 1214). والترمذي رقم (187) والنسائي (1).

ص: 3152

يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. وأبو الشعثاء هو راوي الحديث عن ابن عباس.

ومما يؤيد ذلك ما أخرجه البخاري (1)، ومالك في الموطأ (2)، وأبو داود (3)، والنسائي (4)، عن ابن مسعود قال:" ما رأيت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم[5ب]- صلى لغير ميقاتها إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة " ففي هذا من ابن مسعود التصريح بأنه لم يقع منه صلى الله عليه وآله وسلم الجمع الحقيقي إلا بالمزدلفة، وقد كان أكثر الصحابه ملازمة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأفاد ذلك أن الجمع غير الحقيقي بل صوري جمعا بين حديث ابن عباس، وحديث ابن مسعود هذا. ويزيد هذا تأكيدا أن ابن مسعود أحد رواة حديث الجمع كما بينت ذلك في غير هذا الموضع، فلا بد من الجمع بين روايتيه بما ذكرنا.

ومن المؤيدات لذلك ما أخرجه ابن جرير عن ابن عمر قال: " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان يؤخر الظهر ويعجل العصر فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب ويعجل العشاء فيجمع بينهما " وهذا هو الجمع الصوري. وابن عمر ممن روى جمعه صلى الله عليه وآله وسلم بالمدينة كما أخرج ذلك عبد الرزاق عنه. فهؤلاء الصحابة الذين رووا ذلك الجمع فسروه بالصوري، وكذلك فسره بعض الرواة عنهم فلم يبق حينئذ ما يشكل في المقام. فإن قلت: قد زعم بعضهم أن الجمع الصوري لم يرد عن الشارع ولا عن أهل الشرع.

قلت: ما ذكرناه هاهنا يرد زعم هذا الزاعم، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال للمستحاضة: " وإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر

(1) في صحيحه رقم (1682) ومسلم في صحيحه رقم (1289).

(2)

لم يخرجه مالك في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى الليثي، ولا من رواية محمد بن الحسن الشيباني.

(3)

في " السنن " رقم (1934).

(4)

في " السنن " رقم (1 - 292 رقم 608) وهو حديث صحيح.

ص: 3153

فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين " (1) ومثله في المغرب والعشاء، وهو ثابت في الأمهات من حديث ابن عباس، وابن عمر. وهذا هو الجمع الصوري بلا شك ولا شبهة. وقد زعم الخطابي (2) أنه لا يصح حمل الجمع المذكور على الجمع الصوري، لأنه يكون أعظم ضيقا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأن أوائل الأوقات وأوخرها مما لا يدركه الخاصة فضلا عن العامة.

ويجاب عنه بأن الشارع قد بين أوقات الصلوات بعلامات حسية مشترك في العلم بها الخاصة والعامة، ومعلوم أن الخروج إلى الصلاتين مرة واحدة أخف من الخروج مرتين والضوء لها مرة واحدة أخف من التأهب لهما مرتين، فمن هذه الحيثية ظهر التخفيف وعدم الحرج، لأنه فعله صلى الله عليه وآله وسلم المستمر الدائم طول حياته من بعد أن بعثه الله إلى أن قبضه هو فعل كل صلاة في أول وقتها، وخفف عن امته بتشريع الجمع الصوري مع كونه فعلا لكل صلاة في وقتها المضروب لها، لكن الصلاة الأولى فعلت في آخر وقتها، والصلاة الأخرى فعلت في أول وقتها، وليس في ذلك إخراج يدل على شيء من الصلوات عن وقتها المضروب لها، ولا ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء يدل على ذلك دلالة مطلقة تستلزم إخراج إحدى الصلاتين المجموعتين عن وقتها المضروب لها إلا في جمع مزدلفة (3)، وفي جمع السفر والمطر، فليعض الجامعون بين الصلوات على بنانهم، وليبكوا على تفريطهم

(1) أخرجه أحمد (6، 381 - 382، 439 - 440) وأبو داود في " السنن " رقم (287) والترمذي رقم (128) وابن ماجه رقم (627).

قال الترمذي في " السنن "(1) سألت محمدا -البخاري- عن هذا الحديث فقال: هو حديث حسن. وهو كما قال.

(2)

ذكره الحافظ في " الفتح "(2).

(3)

تقدم ذكره.

ص: 3154

في صلواتهم التي كانت على المؤمنين كتابا موقوتا، وليعلموا دخولهم تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم[6 أ]-:" ليس التفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة، وذلك بأن تؤخر الصلاة حتى يدخل وقت أخرى "(1) ودخولهم تحت قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " من جمع بين الصلاتين فقد أتى بابا من أبواب الكبائر "(2) كما روي ذلك مرفوعا. وليعلموا أيضًا أنهم من القوم الذين يميتون الصلاة وقد ذمهم الشارع بما هو معروف.

والحاصل أنهم مخالفون لهديه الدائم المستمر منذ ثلاث وعشرين سنة، ومتمسكون بما هو خارج عن مطلوبهم خروجا أوضح من شمس النهار، وعلى نفسها براقش تجني. وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. انتهى الجواب والله الموفق للصواب [6ب].

(1) أخرجه مسلم في صحيحه رقم (881) وأبو داود رقم (437) و (441) وأحمد (5) والترمذي رقم (177) والنسائي (1) وابن ماجه في صحيحه رقم (989) من طرق عن قتادة قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس في النوم تفريط إنما على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت صلاة أخرى ". وهو حديث صحيح.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا.

ص: 3155