الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار
تأليف
محمد بن علي الشوكاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين:
وبعد:
فإنه لما وقع الإشعار بدخول شهر رمضان سنة 1204 هـ وقت الضحى، سألني جماعة من الخاصة عن وجوب الإمساك؛ هل هو مذهب راجح أو مرجوح؟ وعما تقضي به الأدلة؟ فأجبت أن الحق يحتم الإمساك على من أفطر، وعلى من لم يفطر، فاستنكر ذل جماعة منهم، حتى زعم بعضهم أن الأدلة مصرحة بخلاف ذلك، وزعم آخر أن وجوب الإمساك لا دليل عليه، وآخر أن عدم الوجوب مذهب الجمهور، وأنه لم يقل به إلا أهل المذهب، وآخر بلغني عنه أنه أفطر بعد شعوره بالإشعار، فحملني ذلك على إعادة النظر في المسألة، ومراجعة البحث، فلم أجد لهم في تلك الجدعاوي متمسكا، ثم إن بعض العلماء الأماثل أعاد علي المذاكرة، وأدار في المسألة كؤوس المناظرة، فأمليت عليه ما أمليته، منتهضا على الوجوب، وألقيت إليه ما ظننته وافيا بالتحتم المطلوب، فسألني زبر ذلك وتحريره، لتكون عين المتمسك به قريرة، فأجبته إلى ذلك، راجيا الاستفادة منه، لا الإفادة له. وقد اختصرت في المقام الذي يليق به التطويل، علما مي أن نقل أقوال الرجال ليس على مثله عند المتأهلين تعويل، ولكني أحكي في هذه البياضة ما يسود دعوى مننزعم أن عجم الوجوب قد مال إليه الجمهور، لا سيما منن تأخر عصره من علماء اليمن، ولا بد قبل ذكر الأدلة من تقديم مقدمة أصولية لينتفع بها المتأهل للنظر.
اعلم أنه قد تقرر في الأصول أن النقص في العبادة نسخ للقدر الذي أزيل حكمه اتفاقا (1). وأما أنه نسخ للجميع ففيه خلاف قد استوفاه ابن الحاجب في المختصر (2)
(1) ذكره الزركشي في " البحر المحيط ".
(2)
(2/ 201)" شرح العضد على مختصر ابن الحاجب ".
وشراح كتابه، والإمام المهدي في شرح المعيار (1)، وابن الإمام في الغاية (2) وشرحها. وقد جعله في شرح المعيار إطلاقين وتفصيلا فقال ما لفظه:
(الأول لأبي رشيد، وأبي عبد الله البصري (3)، وأبي الحسن الكرخي (4) أن النقص ليس
(1) انظر " مؤلفات الزيدية "(2/ 184 - 185).
(2)
انظر " مؤلفات الزيدية "(2/ 293).
(3)
انظر " نهاية السول "(2/ 608 - 610).
(4)
ذكره صاحب " المعتمد "(1/ 414 - 415).
وكذلك ذكره الأسنوي في " نهاية السول "(2/ 608).
وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 650): لا خلاف في أن النقصان من العبادة نسخ لما أسقط منها لأنه كان واجبا في جملة العبادة ثم أزيل وجوبه، ولا خلاف أيضًا في أن ما لا يتوقف عليه صحة العبادة لا يكون نسخه نسخا لها كذا نقل الإجماع الآمدي - في " الإحكام " (3/ 192) والفخر الرازي في " المحصول " (3/ 373) - وأما نسخ ما يتوقف عليه صحة العبادة سواء كان جزءا لها كالشطر أو خارجا كالشرط فاختلفوا فيه على مذاهب:
الأول: أن نسخه لا يكون نسخا للعبادة بل يكون بمثابة تخصيص العام، قال ابن برها،: وهو قول علمائنا وقال ابن السمعاني إليه ذهب الجمهور من أصحاب الشافعي واختاره الفخر الرازي والآمدي قال الأصفهاني: إنه الحق وحكاه صاحب " المعتمد " عن الكرخي.
الثاني: أنه نسخ للعبادة، وإليه ذهب الحنفية كما حكاه عنهم ابن برهان وابن السمعاني.
الثالث: التفصيل بين الشرط فلا يكون نسخه نسخا للعبادة وبين الجزء كالقيام والركوع في الصلاة فيكون نسخه نسخا لها وإليه ذهب القاضي عبد الجبار ووافقه الغزالي وصححه القرطبي. قالوا: لأن الشرط خارج عن ماهية المشروط بخلاف الجزء وهذا في الشرط المتصل أما الشرط المنفصل فقيل: لا خلاف في أن نسخه ليس بنسخ للعبادة لأنهما عبادتان منفصلتان، وقيل: إن كان مما لا تجزئ العبادة قبل النسخ بدونه فلا يكون نسخه نسخا لها وهذا هو المذهب الرابع. حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في " اللمع "(ص 34).
وانظر مزيد تفصيل " جمع الجوامع "(2/ 93)، " البحر المحيط "(4/ 150 - 151). " تنقيح الفصول "(ص 317)، و" المسودة "(ص 213).
بنسخ للجميع مطلقا، سواء نقص ركن أم شرط متصل، أم منفصل. ومن ثمة ذكروا أن نسخ صوم يوم عاشورا لا ينسخ معه إجزاء النية للصوم م بعد الفجر (1)، بل يبقى
(1) قال في " المعتمد "(2/ 427 - 428): اعلم أن الصلاة لما كانت واجبة إلى بيت المقدس، كانت واجبة في كل مكان على البدل، وكان يجب على المصلي أن يتوجه في المكان الذي يصلي فيه إلى بيت المقدس. فالتوجه في المكان إلى بيت المقدس هو هيئة من هيئات الصلاة في المكان فنسخ التوجه إلى بيت المقدس إنما يتناول هذه لهيئة، فلم يكن نسخا للصلاة في المكان.
كما أنا لو أمرنا بصوم يوم عاشوراء على صفة، وهي أن نكون في ذلك اليوم متوجهين إلى بيت المقدس، ثم نسخ عنا التوجه فقيل " لا تتوجهوا إلى بيت المقدس " فإن ذلك لا يكون نسخا للصوم في ذلك اليوم. على أن النسخ للتوجه ورد على وجه فيه تثبت لجملة الصلاة. لأن المروي في ذلك هو " ألا إن القبلة قد حولت " وفي ذلك تثبيت للصلاة وكذلك ما ورد في القرآن من ذلك وهو قوله تعالى:{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144، 150]. وهذا هو النسخ للتوجه إلى بيت المقدس، لأن ذلك يقتضي وجوب التوجه إلى الكعبة ولا يصح الجمع بين التوجه إلى بيت المقدس وإلى الكعبة معا، فوجوب: أحدهما في كل صلاة يصليها ينفي وجوب الآخر. فأما صوم عاشوراء، فإنه ما وجب إلا في ذلك اليوم، فنظيره أن لا تجب الصلاة إلا مكان مخصوص. فلو قيل:" لا تصلوا في ذلك المكان " لكان قد انتفت جملة الصلاة، لأنها لم تجب إلا في ذلك لمكان. ألا ترى أنا نحتاج في وجوبها في مكان آخر إلى دليل آخر؟ وكذلك إذا قيل لنا:" صوموا يوم عاشوراء " ثم قيل لنا بعد حين " لا تصوموا في يوم عاشوراء " فإن ذلك ينفي جملة الصوم، لأنه لم يجب في زمان آخر، وإنما وجب في هذا الزمان فقط، فنفيه فيه نفي لجملته.
فإن قيل كون ذلك نسخا لجملة الصلاة لا يمنع مما نريده، وهو أنه إذا كان يجوز صوم عاشوراء بنية بعد الفجر، جاز في الصوم الواجب فيما بعد، وهو صوم شهر رمضان، أن يجب بنية بعد الفجر، لأنه قد ثبت أن الشرع قد صحح الصوم بنية بعد الفجر. فإذا لم تغير الشريعة ذلك ، وجب أن يبقى على ما كان عليه، قيل: إنما كان يجب ذلك لو ورد في ذلك لفظ عموم، نحو أن يقال:" كل صوم شرعي فإنه يصح بنية بعد الفجر، وقبل الزوال ". فأما إذا قيل: هذا الصوم الواقع في صوم عاشوراء يصح بنية بعد الفجر
…
فإنه لا يجب مثله في صوم زمان آخر، لأن ذلك عبادة أخرى، ولا يجب أن تتفق العبادات في شرائط صحتها، بل ذلك موقوف على دليل زائد على ما دل. على أن النية بعد الفجر لا تمنع من صحة صوم عاشوراء.
إجزاؤها في شهر رمضان كما كانت في صوم عاشوراء، لأنه إنمانسخ صوم اليوم لا أحكام صومه من النية وغيرها إلخ). انتهى بلفظه.
قلت: وقد ذهب إلى هذا المنصور بالله بن حمزة (1)، والإمام يحيى بن حمزة (2)، والرازي (3) والشيخ الحسن الرصاص (4). قال المحقق ابن الإمام في الغاية (5) أنه المختار، وعليه الجمهور. وقال المهدي في شرح المعيار أنه الصحيح، وصدره ابن الحاجب في المختصر (6).
وقد احتجوا على ذلك بحجج منها أن لنقض لو كان نسخا لما بقي لكان مبطلا لوجوبه أو صحته، وافتقر إلى دليل آخر، لذلك قال ابن الحاجب:(7).: وهو خلاف الإجماع، إذا تقرر لك أن هذا مذهب جمهور الأصوليين، ومختار أئمة المحققين فاعلم أن حديث العوالي الذي فيه الأمر بالإمساك يوم عاشوراء من الأحاديث المتفق على صحتها.
وقد اتفق على الاحتجاج به أهل البيت، وأهل الحديث، فأخرجه الإمام زيد بن علي في مجموعه (8) عن أبيه، عن جده، عن علي عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرجه أيضًا في شرح التجريد (9)، وأصول الأحكام (10)، والشفا (11)، والاعتصام (12)، وغير هذه
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
تقدمت ترجمته.
(3)
ذكره الرازي في " المحصول "(3/ 373).
(4)
تقدمت ترجمته.
(5)
انظر " مؤلفات الزيدية "(2/ 293).
(6)
انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201).
(7)
انظر شرح العضد على مختصر ابن الحاجب (2/ 201).
(8)
(3/ 62 - 62)" الروض النضير ".
(9)
تقدم التعريف به.
(10)
انظر " مؤلفات الزيدية "(1/ 126).
(11)
(1/ 625).
(12)
" الاعتصام " تأليف الإمام المنصور القاسم بن محمد الحسني الصنعاني جمع فيه بين ما في كتب الحديث للأئمة الزيدية والأمهات الست ونحوها للسنة ورجح في كل مسألة ما يقتضيه اجتهاده، وبلغ فيه إلى كتاب الصيام ولم يتمه، فأكمله من كتاب الحج إلى آخر كتاب " السير " السيد أحمد بن يوسف زبارة (1252) ويسمى " أنوار التمام ".
اسمه الكامل كما في بعض الفهارس " الاعتصام بحبل الله المتين القاضي بإجماع المتقين وألا يتفرقوا في الدين ".
انظر: " مؤلفات الزيدية "(1/ 134).
الكتب، وأخرجه البخاري (1) من حديث سلمة بن الأكوع، ومسلم (2) من حديث بريدة واتفقا عليه (3) من حديث الربيع بنت معوذ بألفاظ منها أن النبي صلى الله عليه وسلم:" بعث رجلا ينادي في الناس يوم عاشوراء أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل " وله ألفاظ أخر. ومنها: " فإن اليوم يوم عاشوراء ". وأخرجه النسائي (4) من حديث سلمة.
وقد ثبتت الأدلة الصحيحة أن صوم عاشوراء كان قبل نزول (صوم) رمضان واجبا. وخالفت في ذلك الشافعية مع موافقتهم على لزوم الإمساك في يوم الانكشاف. وقد جاءوا في مقابل الأدلة الناصة على الوجوب بما لا طائل تحته. وقد استوفى ذلك ابن حجر في الفتح (5)، والنووي في شرح مسلم (6)، فراجعهما. والحق أنه كان واجبا كما ذهب إلى ذلك أئمتنا والجمهور لما ثبت عند البخاري (7)، ........................
(1) في صحيحه رقم (2007) عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: " أمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من أسلم أن أذن في لناس أن من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم، فإن اليوم يوم عاشوراء ".
(2)
لم أجده في صحيحه.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1960) ومسلم في صحيحه رقم (136، 137، / 1136).
(4)
في " السنن "(4/ 192 رقم 2321).
(5)
(2/ 245 - 248).
(6)
(8/ 11 - 13).
(7)
في صحيحه رقم (2004).
ومسلم (1)، وأبي داود (2) من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه، ولما ثبت عند مالك (3)، والبخاري (4)، ومسلم (5) والترمذي (6)، وأبي داود من حديث عائشة رضي الله عنها قالت:" كانت عاشوراء تصام قبل رمضان، فلما نزل رمضان كان من شاء صام، ومن شاء أفطر " وترتيب التخيير على نزول رمضان يدل على أنه كان قبل متحتما، ومثله من حديث قيس بن سعد عند النسائي (7).
ويدل عليه أيضًا ما سلف من الأوامر بالإمساك في حديث العوالي، لا سيما بعد تعليل
(1) في صحيحه رقم (128/ 1130).
(2)
في " السنن " رقم (2444).
عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدنية فوجد اليهود صياما يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ فقالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكرا، ونحن نصومه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله وأمر بصيامه.
وعن ابن عباس، وسئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: ما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام يوما يطلب فضله على الأيام إلا هذا اليوم، ولا شهر اإلا هذا الشهر. يعني رمضان.
أخرجه البخاري رقم (2006) ومسل رقم (1132).
وعن ابن عباس، قال: حين صام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء، وأمر بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فإذا كان لعام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع " قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخرجه أحمد (1/ 225، 236) ومسلم رقم (133، 134) وابن ماجه رقم (1736).
(3)
في " الموطأ (1/ 299 رقم 33).
(4)
في صحيحه رقم (3831).
(5)
في صحيحه رقم (113/ 1125).
(6)
في السنن رقم (753).
(7)
في السنن الكبرى (2/ 158 رقم 2842/ 9).
ذلك بما ثبت في بعض ألفاظ الحديث بلفظ: " فإن اليوم يوم عاشوراء ".
إذا عرفت هذا فاعلم أن أحاديث وجوب الإمساك واردة في جنس الصوم الواجب المؤدى، فشمولها لرمضان من باب شمول النص، لا من باب القياس كما أشعر بذلك قول من سلف ذكره من أهل الأصول. ومثل هذا الوصية للوارث، فإن إيجابها لها اقترن بأحكام، وهي كونها بالمعروف (1)، وكون التبديل فيها محرما، والجنف ممنوعا، فنسخ وجوبها لا يوجب انتفاء ثبوت هذه الأحكام وغيرها من الوصايا بالنص، ولذلك نظائر كثيرة.
وهكذا لو فرض أن الصوم الواجب كان عشرا فجعل ثلاثين، فإن الأحكام الثابتة في العشر ثابتة في الثلاثين بالنص، لأنها أشياء معتبرة في ماهية الصوم، المتصفة بالوجوب، والتأدية والماهية واحدة لا تختلف.
وهكذا إذا كان الواجب يوما ثم صار ثلاثين، وإلا لزم أن ما ثبت من الأحكام المتعلقة بالصوم في يوم مثلا من أيام رمضان يخص ذلك اليوم، وليس في جميع الشهر لأيام زيادة على جمع السنة لأيامها التي عاشوراء من جملتها. وقد تقرر في الأصول أن زيادة صلاة سادسة (2) لا يكون نسخا بالإجماع، إلا ما يحكى عن العراقيين (3) من الحنفية.
(1) يشير إلى قوله تعالى: {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180].
(2)
انظر " الكوكب المنير "(3/ 583 - 584). نهاية السول (2/ 189). " الإحكام " للآمدي (3/ 170).
قال الرازي في " المحصول ": " اتفق العلماء على أن زيادة عبادة على العبادات لا تكون نسخا للعبادات ". ومعلوم أنه لا يخالف في مثل هذا أحد من أهل الإسلام لعدم التنافي. قاله الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 645) وانظر: " اللمع "(ص 35).
(3)
قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 645) "
…
وإما أن يكون من جنسه كزيادة صلاة على الصلوات الخمس فهذا ليس بنسخ على قول الجمهور وذهب بعض أهل لعراق إلى أنها تكون نسخا لحكم المزيد عليه كقوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] لأنها تجعلها غير الوسطى وهذا قول باطل لا دليل عليه ولا شبهة دليل فإن الوسطى ليس المراد بها المتوسطة في لعدد بل المراد بها الفاضلى. ولو سلمنا أن المراد بها المتوسطة في العدد لم تكن الزيادة مخرجة لها عن كونها مما يحافظ عليه، فقد علم توسطها عند نزول الآة وصارت مستحقة لذلك الوصف وإن خرجت عن كونها وسطى.
وهكذا زيادة عشرين في حد القذف ، وزيادة التغريب عند جمهورهم. وقد نقح البحث السعد في تلويحه (1)، فجعل الزيادة إن كانت عبادة مستقلة فلا نزاع بين الجمهور في أنها لا تكون نسخا (2)، وإنما النزاع في غير المستقل. قال: واختلفوا فيه على مذاهب ستة (3)، ثم ذكرها.
(1)(2/ 36 - 37).
(2)
قال الشوكاني في " الإرشاد "(ص 646): الذي لا يستقل كزيادة ركعة على الركعات وزيادة التغريب على الجلد وزيادة وصف الرقبة بالإيمان وقد اختلفوا فيه على أقوال.
(3)
وهي:
الأول: أن ذلك لا يكون نسخا مطلقا وبه قالت الشافعية والمالكية والحنابلة وغيرهم من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم وسواء اتصلت بالمزيد عليه أو لا، ولا فرق بين أن تكون هذه الزيادة مانعة من إجزاء المزيد عليه بدونها أو غير مانعة.
وانظر: " المسودة "(ص 207)، " التبصرة (ص 276).
الثاني: أنها نسخ وهو قول الحنفية قل شمس الأئمة السرخسي الحنفي في أصوله (2/ 28): وسواء كانت الزيادة في السبب أو الحكم.
الثالث: إن كان المزيد عليه ينفي الزيادة بفحواه فإن تلك الزيادة نسخ كقوله: " في سائمة الغنم الزكاة " فإنه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة وإن كان لا ينفي تلك الزيادة فلا يكون نسخا حكاه ابن برهان وصاحب " المعتمد "
(1/ 405). وانظر: " البحر المحيط "(4/ 144).
الرابع: أن الزيادة إن غيرت المزيد عليه تغيرا شرعيا حتى صار لو فعل بعد الزيادة على حد ما كان يفعل قبلها لم يعتد به وذلك كزيادة ركعة كانت نسخا وإن كان المزيد عليه يصح فعله بدون الزيادة لم تكن نسخا، كزيادة التغريب على الجلد وإليه ذهب عبد الجبار كما حكاه عنه صاحب " المعتمد "(2/ 405) وابن الحاجب في مختصره (2/ 201).
الخامس: التفصيل بين أن تتصل به فهي نسخ وبين أن تننفصل عنه فلا تكون نسخا، حكاه ابن برهان عن عبد الجبار واختاره الغزالي في " المستصفى "(2/ 70).
السادس: إن تكن الزيادة مغيرة لحكم المزيج عليه في المستقبل كانت نسخا وإن لم تغير حكمه في المستقبل بأن كانت مقارنة لم تكن نسخا حكاه ابن فورك عن أصحاب أبي حنيفة قال صاحب " المعتمد "(1/ 405) وبه قال شيخنا أبو الحسن الكرخي وأبو عبد الله البصري.
وانظر: " إرشاد الفحول "(ص 647)، " المحصول "(3/ 365).
ومما يرشدك إلى صحة هذه الطريقة التي ذكرناها أعني: أن حديث العوالي كالنص في رمضان وقوع الإجماع الذي سنبينه على لزوم الإمساك. ولو كان دلالته على ذلك بالقياس فقط لوقع الاختلاف فيه على حد الاختلاف في العمل بالقياس والتخصيص به. ولو سلمنا عدم ثبوت هذا الحكم في رمضان بالنص بل قلنا أنه بالقياس كما صرح به الأكثر لما كان ذلك قادحا في رجحان هذا المذهب؛ فإن التعبد بالقياس عقلا (1) وسمعا، أو سمعا فقط، أو عقلا فقط، مذهب جميع الأمة إلا الإمامية، وتابعهم شذوذ من معتزلة بغداد (2). وناهيك أن الظاهرية المشهورين بنفي القياس قائلون بالتعبد به عقلا (3)، ولا يشك عارف أن حديث:" لا صيام لمن لم يبيت النية "(4) عام لصوم الفرض، والنفل،
(1) انظر " البحر المحيط (5/ 16)، " اللمع " (ص 53 - 54)، " إرشاد الفحول (ص 659).
(2)
انظر " المحصول "(5/ 23)" البحر المحيط "(5/ 16).
(3)
انظر " التبصرة "(ص 419)، " إرشاد الفحول "(ص 662).
(4)
أخرجه أبو داود رقم (2454) والترمذي رقم (730) والنسائي (4/ 196 رقم 2334) واللفظ له.
وابن ماجه رقم (1700) وابن خزيمة رقم (1933) والدارقطني (2/ 172) والدارمي (2/ 6 - 7) والبيهقي في " السنن الكبرى "(4/ 202) والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(2/ 54) وأحمد (6/ 287) كلهم من حديث حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وأورده النووي في " المجموع "(6/ 289) وقال: " والحديث حسن يحتج به اعتمادا على رواية الثقات الرافعين والزيادة من الثقة مقبولة ".
قلت: وهناك فرق خلاف بين العلماء في رفع الحديث ووقفه، فذهب فريق إلى أنه مرفوع وبه قال الحاكم، والدارقطني، وابن خزيمة وابن حزم وابن حبان.
وذهب فريق إلى أنه موقوف ولا يصح رفعه وبه قال البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد. انظر " فتح الباري "(4/ 142) وتلخيص الحبير (2/ 200). والخلاصة أن الحديث حسن والله أعلم.
والأداء والقضاء والنذر والكفارة؛ لأن لفظ صيام نكرة في سياق النفي (1) ولا نزاع في عمومها.
والقياس صحيح على يوم عاشوراء يخصص هذا العموم. والتخصيص بالقياس مذهب مشهور ذهب إليه أئمتنا (2) عليهم السلام والجمهور، والفقهاء الأربعة (3) والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين (4) والرازي (5) والآمدي (6)، والكرخي (7) هكذا في شرح الغاية. وقال ابن الحاجب في المختصر (8): مسألة: الأئمة الأربعة، والأشعري، وأبو هاشم، وأبو الحسين جواز تخصيص العموم بالقياس إلخ
…
على أن حديث: " لا صيام لمن لم يبيت النية "(9) قال فيه أبو داود (10): لا يصح رفعه. وقال الترمذي (11) الموقوف أصح. ونقل في العلل (12) عن البخاري أنه قال: هو خطأ، وفيه
(1) انظر البحر المحيط (3/ 122) و" إرشاد الفحول "(ص 420 - 422).
(2)
ذكره الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص 525).
(3)
ذكره الرازي في " المحصول "(3/ 96).
(4)
في " المعتمد "(2/ 275).
(5)
في " المحصول "(3/ 96).
(6)
في " الإحكام "(2/ 360).
(7)
ذكره الرازي في " المحصول "(3/ 96).
(8)
(2/ 153).
(9)
تقدم تخريجه وهو حديث حسن.
(10)
في " السنن "(2/ 824).
(11)
في " السنن "(3/ 108).
(12)
" العلل الكبير "(ص 119 - 120) رقم (204).
اضطراب، والصحيح عن ابن عمر أنه موقوف كما ثبت عنه في الموطأ (1) والنسائي (2) وقال أحمد: ما له عندي ذلك. وقال النسائي: الصواب عندي موقوف، ولم يصح رفعه. وقال ابن أبي حاتم (3) عن أبيه: الموقوف أشبه.
وقد روى أبو داود عن معمر بن راشد ، والزبيدي ، وابن عيينة، ويونس، كلهم عن الزهري أنه موقوف على حفصة. وقال البيهقي (4): رواته ثقات، إلا أنه روي موقوفا ، وفي رجاله في حديث عائشة مجهول، وفي حديث حفصة الواقدي، وتصحيح الحاكم (5) له لا ينافي الوقف، وكون الرفع زيادة مقبولى لا يتم عند جماعة من أهل الحديث، بل هو علة قادحة عندهم، كما ذكره الزين في شرح المنظومة (6)، وعلى تسليم قبولها فالاضطراب مانع منه. فهذا هو الحديث الذي بنيت حوله القناطر، وردت به الأدلى الصحيحة، وهو كما ترى ن والنزاع في غير النفل لا فيه؛ فإنه مخصوص من وجوب التبييت بما أخرجه مسلم (7)، وأبو داود (8) والترمذي (9)، والنسائي (10)، ........................................
(1)(1/ 288 رقم 5).
(2)
في " السنن "(4/ 197 - 198).
(3)
ذكره ابن حجر في " التلخيص "(2/ 362).
(4)
في " السنن الكبرى "(4/ 202).
(5)
في الأربعين كما في " التلخيص "(2/ 361).
وانظر " فتح الباري "(2/ 144)" والإرواء "(2/ 25 رقم 914).
(6)
في ألفية الحديث (ص 93 - 95).
(7)
في صحيحه رقم (170/ 1154).
(8)
في (السنن) رقم 2455.
(9)
في " السنن " رقم (733، 734) وقال: حديث حسن.
(10)
في " السنن "(194 - 195).
والدارقطني (1)، والبيهقي (2) من حديث عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: " هل عندكم شيء؟ قلت: لا، قال: فإن صائم، فلما خرج أهديث لنا هدية فلما جاء قلت: يا رسول الله، أهديث لنا هدية، وقد خبأت لك شيئا، فقال هاتيه، فجئت به فأكل " وفي لفظ: أنه كان يدخل على أهله فيسألهم عن الغداء، فإن لم يجده قال: إني صائم. وهو ظاهر في إنشاء الصوم. وقد رد بأنه لا يدل على عدم التبييت. وفي المقام نزاع لا يتسعه البحث.
قال ابن حجر في الفتح (3) عند الكلام على حديث سلمى السابق لما قهرته حجته: وكل ذلك لا ينافي أمرهم بالقضاء، بل قد ورد ذلك صريحا في حديث أخرجه أبو داود (4)، والترمذي (5) من طريق قتادة عن عبد الرحمن بن سلمة، عن عمه أن أم سلمة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:" صمتم يومكم هذا؟ " قالوا: لا، قال: فأتموا بقية يومكم واقضوه. وهكذا قال النووي في شر مسلم (6).
وأنت إن أنصفت علمت أن الأمر بالقضاء مرتب على إخبارهم بعدم الصوم. ولا نزاع في وجوب القضاء على من أمسك بعد الإفطار، وإنما النزاع فيمن لم يأكل قبل الشعور بأن ذلك اليوم من رمضان؛ فالشافعية أوجبوا عليه الإمساك والقضاء لوجوب التبييت، وهكذا عن المؤيد بالله (7). ومذهب الجمهور صحة صوم ذلك اليوم، وعدم وجوب القضاء إن لم يأكل فيه وهو الحق.
(1) في " السنن "(2/ 176 - 177 رقم 21).
(2)
في " السنن الكبرى "(4: 274 - 275) وهو حديث صحيح.
(3)
(4/ 142).
(4)
في " السنن " رقم (2447).
(5)
في " السنن "(3/ 126).
(6)
(8/ 13).
(7)
انظر " البحر الزخار "(2/ 237).
إذا تصفحت ما سلف فنحن نزيده تأكيدا، ونقول: لم نقف بعد البحث في كثير من الكتب التي هي مجاميع الخلاف على قول عالم أن الإمساك في اليوم الذي ينكشف من رمضان غير واجب، وليس من قال بوجوب التبييت يقول بعدم وجوب الإمساك في يوم الانكشاف، بل يوافق في وجوبه. إما لأنه يخص مثل هذه الصورة لو وقعت كما صرح بذلك ابن القيم (1)، وصاحب المنار (2)، وضوء النهار (3)، ومنحة الغفار (4)، أو لا يخصص، ولكنه يوافق في الوجوب، ونقول بفساد الصوم، وعدم إجزائه، ووجوب القضاء كالمؤيد بالله، والشافعية.
وناهيك أن ابن حزم (5) من الظاهرية قد وافق على وجوب الإمساك، وجزم بإجزاء النية في النهار، وإجزاء الصوم، مستدلا بحديث سلمة ، روى ذلك عنه ابن حجر في الفتح (6)، وهذا مما يرشدك إلى أن التمسك في المسألة ليس بمجرد القياس كما أوضحناه، ولو كان كذلك لما ذهب ابن حزم (7) الظاهري مع نفيه للقياس مطلقا، وتأليفه في إبطاله إلى الجزم باللزوم، والاستدلال بحديث سلمة إن فرضنا أنه لم يدل على ذلك بغير القياس. ومما يؤيد ذلك ما ثبت في أمالي (8) أحمد بن عيسى (9) بلفظ: قال أبو جعفر: من صام يوم الشك نوى أنه من شعبان، فإن تبين أنه من شهر رمضان قضاه
…
إلى أن قال:
(1) انظر " زاد المعاد "(2: 37)، (المنار المنيف)(1/ 38 - 41).
(2)
أي المقبلي في " المنار في المختار "(1/ 348).
(3)
(2/ 434 - 435).
(4)
حاشية " ضوء النهار " للأمير الصنعاني (2/ 434 - 435).
(5)
في " المحلى "(6/ 160 - 164).
(6)
(4/ 141 - 142).
(7)
انظر " المحلى"(6/ 160 - 164).
(8)
ويسمى " علوم آل محمد " و" بدائع الأنوار ". انظر " مؤلفات الزيدية "(1/ 153).
(9)
تقدمت ترجمته.
فإنه يتم صومه ويقضيه، لا يعلم فيه اختلاف. فهذا الإمام الجليل قد حكى الإجماع على وجوب الإمساك، وهذه مجاميع الخلاف لم نر فيها خلافا، فمن أهدى إلينا في المسألة قول قائل فأجره على الله.
نعم قد وقع الخلاف في مسألة من زال عذره في النهار، هل يلزمه الإمساك، أو يندب له أو لا أيهما، وهي مسألة أخرى، وقد التبس على البعض فخلط المسألتين، وجعل الخلاف راجحا، وهو محض الغلط.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: انتهى في شعر رمضان سنة 1204 هـ.