المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المسك الفايح في حط الجوايح - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٧

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

- ‌بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

- ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

- ‌الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

- ‌بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

- ‌بلوغ المنى في حكم الاستمنى

- ‌جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:1 -بحث في نفقة الزوجات.2 -بحث في الطلاق المشروط.3 -بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.4 -بحث في اختلاف النقد المتعامل به

- ‌بحث في من أجبر على الطلاق

- ‌بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

- ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

- ‌بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

- ‌رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم

- ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

- ‌دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

- ‌بحث في " لا يبيع حاضر لباد

- ‌المسك الفايح في حط الجوايح

- ‌بحث في الربا والنسيئة

- ‌تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

- ‌كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

- ‌هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

الفصل: ‌المسك الفايح في حط الجوايح

‌المسك الفايح في حط الجوايح

تأليف

محمد بن على الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3597

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: " المسك الفايح في حط الجوايح ".

2 -

موضوع الرسالة: " فقه ".

3 -

أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد: فإنه ثبت في صحيح مسلم .... ". 4 - آخر الرسالة: فالملزوم مثله وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق. كتبه مؤلفه محمد الشوكاني غفر الله له.

ويليه أبيات شعرية " للعلامة على بن يحيى بن أبو طالب لما اطلع على هذا البحث.

5 -

نوع الخط: خط نسخي عادي.

6 -

عدد الصفحات: 4 صفحات.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 9 كلمات.

9 -

الرسالة من المجلد الرابع من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3599

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وبعد:

فإنه ثبت في صحيح مسلم (1) وغيره (2) من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أمر بوضع الجوايح. ولفظ عند أحمد (3)، والنسائي (4)، وأبي داود (5)" أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضع الجوايح". وكلا اللفظين من صيغ العموم.

فيشمل كل جائحة (6)، والجائحة هي الآفة التي تصيب الزرع أو الثمر، ولكن قد وقع الإجماع على أن البرد، والبرد، والقحط، والعطش، وكل آفة سماوية: داخل تحت عموم الجوائح.

واختلفوا إذا كانت الجائحة من جهة الآدميين، كالسرقة وإفساد الزرع، ونحو

(1) رقم (17/ 1554).

(2)

انظر التعليقة التالية.

(3)

في المسند (3/ 309).

(4)

في سنن (7/ 265رقم 4529).

(5)

في السنن رقم (3374).

وهو حديث صحيح.

(6)

الجائحة: وهي الآفة التي تهلك الثمار والأموال وتستأصلها، وكل مصيبة عظيمة وفتنة مبيرة: جائحة والجمع جوائح، وجاحهم، يجوحهم جوحا: إذا غشيهم بالجوائح وأهلكهم.

" النهاية "(1/ 311 - 312).

وقال ابن قدامة في " المغني "(6/ 179): أن الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها، كالريح، والبرد، والجراد، والعطش.

* الجوائح إحداها جائحة وهى الشدة، والنازلة العظيمة التي تحتاج المال، وتستأصل شأفته، وهي المصيبة التي تحل بالرجل في ماله فتجتاحه كله، وقال ابن شميل: أصابتهم جائحة: أي سنة شديدة اجتاحت أموالهم فلم تدع لهم وجاحا، والوجاح: بقية الشيء من مال أو غيره.

انظر " لسان العرب "(2/ 410)، " الأم "(6/ 184).

ص: 3603

ذلك.

وإذا تقرر عموم الجوائح كما قدمنا، دخل في ذلك كل ما أصابته الجائحة. وسواء أصابت عين المبيع، كمن يبيع زرعا، أو ثمرا، فتصيبه الجائحة قبل أن ينتفع به المشتري، أو أصابت ما هو الفائدة المطلوبة، والمنتفعة المقصودة من ذلك الشيء. وذلك كمن يؤجر أرضا للزرع، أو ماء للسقي، أو بستانا للثمرة الحاصلة منه، أو لبعضها، فأصاب ذلك الزرع، أو تلك الثمرة الجائحة، ذهبت بها، أو ببعضها، فإنه لا شك، ولا ريب أن هذا مما تشمله الجوائح، ويدخل تحت عمومها.

والتنصيص على بعض ما يشمله العموم، كما وقع في بعض الأحاديث من التنصيص بلفظ " إن بعت من أخيك ثمرا، فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ "، أخرجه مسلم (1)، وأبو داود (2)،والنسائي (3)، وابن ماجه (4). وفي لفظ " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ " أخرجه البخاري (5)، ومسلم (6): لا ينافي شمول الجوائح لما عدا ذلك، كما هو في المقرر في الأصول، عند جميع أهل العلم، إلا من يعتد بقوله.

على أن التنصيص على بعض أفراد العام، لا يكون موجبا لتخصيص العموم. على أن في لفظ الصحيحين (7) المذكور، وهو قوله:" إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ "، وتأييدا لما قررناه، فإن من أكرى أرض للزرع، أو بستانا للثمر، أو ماء

(1) في صحيحه رقم (1554).

(2)

في السنن رقم (3470).

(3)

في السنن رقم (7/ 265).

(4)

في السنن رقم (2119).

(5)

في صحيحه رقم (2195).

(6)

في صحيحه رقم (1555).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264).

(7)

في صحيحه رقم (1555).

قلت: وأخرجه أحمد (3/ 115)، والنسائي (7/ 264).

ص: 3604

للسقي، ثم ذهبت الجائحة بما هو المقصود (1) وهو الزرع أو الثمر، فهذا يقال له

(1) قال ابن قدامه في " المغني "(6/ 177 - 178): والكلام في هذه المسألة: أن ما تهلكه الجائحة من ثمار من ضمان البائع، وبهذا قال أكثر أهل المدينة، منهم يحيى بن سعيد الأنصاري، ومالك، وأبو عبيد، وجماعة من أهل الحديث. وبه قال الشافعي في التقدم.

قال الشافعي في " الأم "(6/ 184): " وإذا اشترى الرجل ثمرة، فخلى بينه وبينها فأصابتها جائحة، فلا نحكم له على البائع أن يضع عنه من ثمنها شيئا ".

قال الماوردي في " الحاوي "(6/ 246): وصورتها: في رجل باع ثمرة على رؤوس نخلها وسلمت إلى المشتري، فتلفت الجائحة قبل جدادها، فقد كان الشافعي في القديم: يذهب إلى أنها من ضمان بائعها. وأن هذا البيع باطل ورجح هذا القول في الجديد: وقال: تكون من ضمان المشتري فلا يبطل البيع بتلفها، وبه يقول أبو حنيفة والليث بن سعد.

واستدل من جعل الجوائح مضمونة على البائع:

1 -

حديث سفيان بن عيينة ، عن حميد بن قيس، عن سليمان بن عتيق، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع السنين وأمره بوضع الجوائح " - تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

2 -

وحديث بن جريح عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ ".

وقالوا: ولأن الثمر لا يتم قبضها إلا بجدها من نخلها بدليل أنها لو عطشت وأضر ذلك بها كان للمشتري الخيار في الفسخ بحدوث هذا العيب وما حدث من العيب بعد القبض لا يستحق به المشتري الخيار، وإذا دل ذلك على أنها غير مقبوضة، وجب أن تكون بالغة من مال بائعها، لأن ما لم يقبض مضمون على البائع دون المشتري.

وقالوا: ولأن قبض الثمرة ملحق بها الدار المستأجرة، لأن العرف في الثمار أن تأخذ لقطة بعد لقطة، كما تستوفى منافع الدار مدة بعد مدة، فلما كان تلف الدار المستأجرة قبل مضي المدة مبطلا للإجارة وإن حصل التمكين، وجب أن يكون تلف الثمرة المبيعة قبل الجداد مبطلا للبيع وإن حصل التمكين.

ودليل قول الشافعي في الجديد: به قال أبو حنيفة: أن الجوائح لا يضمنها البائع ولا يبطل بها البيع. وما رواه الشافعي عن مالك، عن حميد، عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن بيع الثمار حتى تزهي، قيل وما تزهي؟ قال: حتى تخمر ". أخرجه البخاري رقم (2197، 2168) ومسلم رقم (1555)، والشافعي في مسنده (2/ 145 - 151) وابن ماجه رقم (2217).

وقول النبي صلى الله عليه وسلم " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ". تقدم تخريجه.

فموضع الدلالة منه هو: أنه لو كانت الجائحة مضمونة على البائع لما استضر المشتري بالجائحة قبل بدو الصلاح، ولما كان لنهيه عنه حفظا لمال المشتري وجها، لأنه محفوظ إن تلف في الحالتين بالرجوع إلى البائع، فلما نهى في البيع عن الحالتين بالرجوع على البائع، فلما نهى عن البيع في الحال التي يخالف من الجائحة فيها، لئلا يؤخذ مال المشتري بغير حق، علم أن الجائحة لا تكون مضمونة على البائع، وأنها مضمونة فيما صح بيعه عن المشتري.

وحديث عمرة بنت عبد الرحمن - مرسلا، ومستندا، عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من الأنصار ابتاع من رجل ثمرة فأصيب فيها، فسأل البائع أن يحطه شيئا فحلف بالله أن لا يفعل فأتت أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تألي فلانا أن لا يفعل خيرا ".

أخرجه البخاري (2705) ومسلم رقم (1557) وأحمد (6/ 69) ومالك (2/ 621) وهو حديث صحيح.

قيل: ولو كان واجبا لأجبره عليه، لأن التخلية يتعلق فيها جواز التصوف فتعلق بها بالضمان، كالنقل التحويل، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره؟.

انظر: " المغني "(6/ 177).

وروى الشافعي عن يحيى بن حسان، عن الليث بن سعد، عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري: أن رجلا اشترى ثمرا فأصيبه فيها فكثر دينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " تصدقوا عليه " فتصدق الناس عليه، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك ".

- أخرجه مسلم رقم (18/ 1556) وأبو داود رقم (3469) والترمذي رقم (655) وابن ماجه رقم (2356) والنسائي (7/ 312) وأحمد.

وهو حديث صحيح.

- فلو أن الجوائح مضمونة على المشتري لما أخرجه إلى الصدقة، وجعل لغرمائه ما وجدوه، ولكان يجعلها مضمونة على البائع ويضعها على المشتري.

قال ابن قدامه في " المغني "(6/ 177): ولنا ما روى مسلم في صحيحه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح - تقدم وهو حديث صحيح.

وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا، لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ " تقدم.

وحديث: " من باع ثمرا، فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا، على م يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ".

هذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه. قال الشافعي: لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ولو ثبت لم أعده، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير. قلنا الحديث ثابت رواه الأئمة منهم: الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلى بن حرب ، وغيرهم عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق الجابر ورواه مسلم في صحيحه وأبو داود في سنته وابن ماجه وغيرهم

- وهو حديث صحيح -.

ولا حجة لهم في حديثهم، فإن فعل الواجب خير فإذا لا تأتي أن لا يفعل الواجب، فقد تألي أن يفعل خيرا، فأما الأخيار فلا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع، ولا حضور.

ثم قال: ولأن التخلية ليست بقبض تام، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم، ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض. بدليل المنافع في الإجازة يباح التصرف فيها، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر، كذلك الثمرة، فإنها في شجرها، كالمنافع قبل استيفائها، توجد حالا فحالا، وقياسهم ببطل التخلية في الإجازة.

انظر " الحاوي الكبير "(6/ 246 - 248)، " الأم "(6/ 182 - 185).

* وقال مالك رضي الله عنه: إن كان تلفها بجناية آدمي فهي من ضمان المشتري وإن كانت بجائحة من السماء، فإن كانت قدر الثلث فصاعدا فهي من ضمان البائع، وإن كانت دون الثلث فهي من ضمان المشتري.

قال القرطبي في " المفهم "(4/ 425): أما تفريق المالك بين القليل والكثير فوجهه أن القليل معلوم الوقوع، بحكم العادة، إذ لا بد من سقوط شيء منه، وعفنه، وتتريبه، فكأن المشتري دخل عليه، ورضي به، وليس كذلك الكثير فإنه لم يدخل عله، فلما افترق الحال في العادة فينبغي أن يفترق في الحكم. وإذا لم يكن بد من فرق بينهما - فالقليل ما دون الثلث، والكثير: الثلث فما زاد، لقوله صلى الله عليه وسلم:" الثلث، والثلث كثير " أو كبير - أخرجه البخاري رقم (1295) -ثم هل يعتبر ثلث مكيله الثمرة، أو ثلث الثمن؟ قولان: الأول لابن القاسم والثاني لأشهب.

انظر: " الحاوي "(6/ 249).

وقال ابن قدامه في: " المغني "(6/ 189 - 180): أن ظاهر المذهب، أنه لا فرق بين قليل الحيلة وكثيرها إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله كالشيء اليسير الذي لا ينضبط، فلا يلتفت إليه.

قال أحمد: إني لا أقول في عشر ثمرات، ولا عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف. الثلث، أو الربع، أو الخمس، توضع.

وفى رواية أخرى، أن ما كان دون الثلث فهو ضمان المشتري، وهو مذهب مالك والشافعي في القديم، لأنه لا بد أن يأكل الطير منها.

وتنشر الريح، ويسقط منها، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة، والثلث قد رأينا الشرع قد اعتبره من مواضع منها: الوصية، وعطايا المريض، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث، قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم تقدم - فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به.

ووجه الأول، عموم الأحاديث فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح وما دون الثلث داخل فيه فيجيب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها، فكان ما تلف منها من مال البائع، وإن كان قليلا، كالتي على وجه الأرض وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة، ولا يسمي جائحة، فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، وضع من الثمن بمقدار الذاهب. فإن تلف الجميع، بطل العقد، ويرجع المشتري بجميع الثمن.

وأما الرواية الأخرى، فإنه يعتبر ثلث المبلغ، وقيل: ثلث القيمة فإن تلف الجميع، أو أكثر من الثلث، رجع بقيمة التالف كله من الثمن وإذا اختلفا في الجائحة أو قد ما أتلف، فالقول قول البائع، لأن الأصل السلامة، ولأنه غارم، والقول في الأصول وقول الغارم.

ص: 3605

بما قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم: " إذا منع الله الثمرة فبم تستحل مال أخيك؟ ". ولا يخفى ما في لفظ الثمرة من العموم، وكذلك ما في لفظ مال أخيك من العموم. ولا ينافي كون السبب واردا في بيع الثمرة، فإن الاعتبار

ص: 3608

بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب (1)، هو مذهب الجماهير، بل مذهب الكل إلا من لا يعتد به، فتقرر لك بهذا، عموم الجوائح، وعموم الثمرة، وعموم مال الأخ، وذلك يقتضي حط كل جائحة، إذا ذهبت بالزرع أو الثمرة، وحط البعض، إذا ذهبت بالبعض، وأنه لا فرق بين كون المبيع زرعا، أو ثمرا، أو كونه منفعة يراد بها الزرع، أو الثمر، كتأجير الأرض، أو الماء للزرع، أو الثمر، بل حط الجائحة في كرى الأرض والماء للزرع، أو الثمر إذا أصابت تلك الجائحة ما هو المقصود من الزرع أو الثمر ثابت بطريق الأولى.

وبيان ذلك: أن الذي باع الزرع، أو الثمر قد غرم على ذلك غرامات:(منها): حرث الأرض وبذرها، أو العمل في الشجر والتعب في تحصيل ثمرها، حتى صار ذلك زرعا، أو ثمرا بعد أن غرم عليه صاحبه غرامات متعددة في الأرض أولا، ثم في الزرع والثمر ثانيا.

فإذا ثبت وضح الجائحة فيما كان هكذا، فكيف لا يثبت وضع الجائحة فيما هو مجرد تأجير للأرض، أو الماء، من دون أن يغرم علي الأرض غرامة قط!، ولا غرم على الماء غرامة قط، ولا بذر، ولا فعل ما يوجب تنمية الزرع، ولا الثمر مع العلم بأنه ليس المقصود بذلك، إلا مجرد الزرع الذي قد ذهبت به الجائحة، أو الثمر الذي قد أصيب بها أهل الأصول فحوى ..................................

(1) العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويريدون بهذه العبارة، أن العام يبقى على عمومه وإن كان وروده بسبب خاص كسؤال أو واقعة معينة. فالعبرة بالنصوص وما اشتملت عليه من أحكام، وليست العبرة بالأسباب التي دعت إلى مجيء هذه النصوص.

فإذا النص بصيغة عامة لزم العمل بعمومه، دون الالتفات إلى السبب الذي جاء النص العام من أجله سؤالا جاء هذا السبب أو واقعة حدثت لأن مجيء النص بصيغة العموم يعني أن الشارع أراد أن يكون حكمه عاما لا خاصا بسببه، وهذا مذهب الحنابلة والحنفية وغيرهم. "

الكوكب المنير " (3/ 177 - 178).

ص: 3609

الخطاب (1)، وهو معمول به إجماعا، ولم يخالف فيه من خالف في العمل ببعض المفاهيم، ولا خالف في العمل ببعض أنواع القياس.

وبيان آخر وهو أنه لا شك، ولا ريب أن وضع الجائحة الواقعة على نفس الزرع الذي باعه البائع، وقد صار زرعا، وعلى نفس الثمر الذي باعه البائع، وقد صار ثمرا، فيه من ذهاب الفائدة (2) العائدة إلى البائع زيادة على ما ذهب من الفائدة: العائدة للمؤجر لنفس الأرض، أو الشجر، ولا زرع هناك، ولا ثمرة، فإن قيمة الزرع أو الثمر الحاصل أكثر من مجرد قيمة الأرض، أو الماء للثمرة التي لا تحصل للمستأجر، إلا بالحرث للأرض والبذر، والتعب في تحصيل الزرع والثمر.

هذا معلوم لكل عاقل، ومعلوم لكل عاقل أنه لا يقصد باستئجار الأرض، أو الماء، إلا ما يترتب على ذلك من فائدة الزرع، أو الثمر، وكان دخول حط الجوايح في الأشياء المؤجرة لذلك أولى من دخول حط ما قد صار زرعا، أو ثمرا. وأصابته الجائحة، ومن لا يفهم هذا، فهو لا يفهم مدلولات الكلام كما ينبغي. وعلى كل حال فالاستدلال بعموم الجوائح (3)، وبعموم:" بم تستحل مال أخيك " لا يحتاج معهما إلى

(1) تقدم توضيحه.

(2)

قال ابن قدامه في " المغني "(6/ 180): إذا استأجر أرضا، فزرعها فتلف الزرع، فلا شيء على المؤجر، نص عليه أحمد. ولا نعلم فيه خلافا، لأن المعقود عليه منافع الأرض، ولم تتلف، وإنما تلف مال المستأجر فيها، فسار كدار استأجرها ليقصر فيها ثيابه، فتلفت الثياب فيها.

قال الماوردي في " الحاوي "(6/ 250): وأما الجواب عن الاستدلال بالدار المؤجرة، فلا يصح الجمع بينهما، لأن ما يحدث من منافع غير وجود في الحال، ولا يقدر المستأجر على قبضه، فبطلت الإجارة بتلف الدار قبل المدة وليست الثمرة كذلك، لأنها موجودة يمكن للمشتري أن يتصرف فيها ويحدث في الحال جميعها، فلا يبطل البيع بتلفها بعد التمكين منها والله أعلم.

(3)

لا يخلوا حال تلفها بعد العقد من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن تتلف قبل التسليم.

أ - إما أن يكون بجائحة من السماء، أو بجناية آدمي، أو بجناية البائع فإن تلفت بجائحة من السماء، كانت من ضمان البائع، وبطل البيع، لا يختلف، لأن تلف المبيع قبل القبض مبطل للبيع.

ب- وإن تلفت بجناية آدمي غير البائع، ففي بطلان البيع قولان:

1 -

قد يبطل كما لو تلفت بجائحة سماء.

2 -

لا يبطل البيع، لأن بدلها مستحق على الجاني، لكن يكون المشتري بالخيار بحدوث الجناية بين الفسخ والرجوع بالثمن، وبين إمضاء البيع بالثمن مطالبة الجاني بمثل قيمتها إن لم يكن لها مثل.

ج -وإن تلفت بجناية البائع، ففيه وجهان حكاهما ابن سريج:

1 -

أن جناية البائع كجائحة من السماء، فعلى هذا يكون البيع باطلا قولا واحدا.

2 -

أنها كجناية الأجنبي، فعلى هذا في بطلان البيع بها قولان.

ثانيهما: أن يكون تلفها بعد التسليم وقبل الجداد، فهذا ضربين:

1 -

أن يكون المشتري قد تمكن من جدادها بعد التسليم فأخره حتى تلفت فيتكون من ضمان المشتري، ولا يبطل به الأحوال كلها سواء كان تلفها بجائحة أو بجناية، لأن تأخير الجداد مع الإمكان تفريط منه.

2 -

أن لا يتمكن المشتري من جدادها حتى تلفت، فتنظر في سبب تلفها فإنه لا يخلوا من الأحوال الثلاثة: إما بجائحة سماء، أو جناية أجنبي أو جناية البائع.

فإن كان تلفها بجائحة سماء، ففي بطلان البيع قولان مضيا.

وإن كان تلفها بجناية البائع، فإن قيل: إن البيع لا يبطل بجائحة السماء، فيكون أن يبطل بجناية أجنبي. وإن قيل: إنه يبطل بجائحة السماء ففي بطلانه بجناية الآدمي قولان:

وإن كان تلفها بجناية البائع: فأحد الوجهين: أنها تكون كجائحة السماء فيكون في بطلان البيع قولان.

والوجه الثاني: أنها كجناية الأجنبي على ما مضي، فهذا الحكم في تلفها بعد التسليم وقبل الجداد.

ثالثهما: هو أن يكون تلفها بعد الجداد، فالبيع ماض لا يبطل بتلفها على الأحوال كلها، لاستقرار القبض، وانقضاء العقد وتكون مضمونه على الآدمي بالمثل أو بالقيمة إن يكن لها مثل.

انظر: " المغني "(6/ 179 - 180)، " الأم "(6/ 191 - 192).

ص: 3610

طلب دليل آخر، فإنه قد صدق الدليل على المدلول صدقا لغويا وشرعيا. ولا يخالف في هذا الصدق إلا من لا يفهم الحقائق. ولا يدري بكيفية الاستدلال، ولا كيف يستدل

ص: 3611

لأن ذلك، لا يكون، إلا لمجرد الجمود على الأسباب، وهو لا يقع من عارف، أو لمجرد الجمود بما ليس مخصص، وهو التنصيص على بعض أفراد العام. فإن قال القائل: بالفرق بين الأعيان والمنافع فهذا مع كونه كلام من لا يفهم الحقائق، هو أيضًا غلط فاحش على مصلحة اللغة، ومصطلح الشرع، فإنه لا يراد بالأعيان، إلا ما يترتب عليها من المنافع كما أنه لا يراد بالمنافع إلا ما يترتب عليها منها وبمجرد التسمية، لا سيما إذا كانت حادثة، بين قوم تواضعوا عليها، لا يحل لمسلم، أن يقول: إنه ينبني عليها تحليل، أو تحريم، وإلا لزم أنه إذا تواضع قوم على تسمية شيء من الحرام باسم الحلال، أو على تسمية شيء من الحلال باسم الحرام، أن يكون ذلك كما تواضعوا عليه، واللازم باطل بالضرورة الدينية، فالملزوم مثله، وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية، والله ولي التوفيق.

كتبه مؤلفه محمد الشوكاني. غفر الله له.

ص: 3612

هذا النظم لسيدي العلامة على بن يحيى أبو طالب (1) لما اطلع على هذا البحث:

تدفق من طود العلوم معين

لينبت في أرض القلوب يقين

فأثمر علما لا يخاف اجتياحه

إذا كان خوف في الثمار يكون

وأومض في ليل العمى برق فطنة

فلاحت بأشباه الأمور عيون

وكانت مجاريه إلي صحائفا

يسير بها در إلى مشين

فإن عرضت للعلم بالوهم آفة

فليس على تلك الصحائف هون

فلله بحر لا تغيضه الدلاء

وبدر لمستور المكان يبين

(1) العلامة على بن يحيى بن الحسن بن القاسم بن أبي طالب أحمد ابن الإمام القاسم بن محمد الحسني الصنعاني، مولده سنة 1159 هـ.

قرأ على جماعة من المتقدمين كالقاضي العلامة أحمد بن صالح بن أبي الرجال والقاضي عبد الله بن محيي الدين العراسي، والسيد أحمد بن يوسف الحديث السيد يحيى بن الحسن بن إسحاق والفقيه لطف بن أحمد الورد وأخذ عن القاضي محمد بن علي الشوكاني في الصحيحين وسنن أبي داود والكشاف وفتح القدير وقد ترجم له الشوكاني.

مات في صفر سنة 1236 هـ.

انظر: " البدر الطالع " رقم (351)، "نيل الوطر "(2/ 165 - 166).

ص: 3613