المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٧

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

- ‌بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

- ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

- ‌الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

- ‌بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

- ‌بلوغ المنى في حكم الاستمنى

- ‌جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:1 -بحث في نفقة الزوجات.2 -بحث في الطلاق المشروط.3 -بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.4 -بحث في اختلاف النقد المتعامل به

- ‌بحث في من أجبر على الطلاق

- ‌بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

- ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

- ‌بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

- ‌رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم

- ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

- ‌دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

- ‌بحث في " لا يبيع حاضر لباد

- ‌المسك الفايح في حط الجوايح

- ‌بحث في الربا والنسيئة

- ‌تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

- ‌كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

- ‌هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

الفصل: ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3273

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: (بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي).

2 -

موضوع الرسالة: فقه الزكاة.

3 -

أول الرسالة: " الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم.

حفظكم الله تعالى ، وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل

".

4 -

آخر الرسالة: بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب وفي هذا المقدار كفاية والله ولي التوفيق، كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني غفر الله لهما.

5 -

عدد الصفحات: 26 صفحة.

6 -

عدد الأسطر في الصفحة: 13 سطرا.

7 -

عدد الكلمات في السطر: 8 - 9 كلمات.

8 -

نوع الخط: خط نسخي جيد.

9 -

الأسئلة بخط السائل، أما الجواب فبخط المؤلف.

10 -

ملحوظة: في نهاية الرسالة فائدة بخط العلامة الحسين بن يحيي الديلمي.

11 -

الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3275

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله - سبحانه - وصلى الله على سيدنا محمد وأله وسلم.

حفظكم الله تعالى ، وكثر فوائدكم، وأعاد على منجلي العلم الشريف عوائدكم، وجعل الأعمال والأقوال خالصة لوجهه، فهو ولي التوفيق، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأتحفكم بسلامه الجزيل.

مسألة الزكاة المفروضة فيما وجبت فيه، رأينا كثيرا في زماننا وأغلب ما رأيناه في عامة العوام في مثل بلاد القبائل الطغام من حاشد (1) وبكيل (2) وغيرها من جهات القبلة وغيرها، رأينا من قد لا يصلي إلا نادرا، أو لئلا يقال: إنه قاطع صلاة، ولا يصوم إلا لمثل هذا. وقد يتجاسر على تركه ظاهرا، والحج لا يخطر له ببال، وشهادة لحق مشوبة بالشرك عنده بالعقائد الملعونة في الأولياء وغيرهم.

ومع هذا فالأكثر متجاسر على الطاغوت، ونهب المساكين، وقطع السبل، وقتل

(1) حاشد: إحدى كبريات قبائل همدان تنسب إلى حاشد بن جشم بن حبران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن أوسله بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وهي قبيلة عظيمة، وتشمل أراضيها جبال الأهنوم وظليمة وعذر والعصيمات وخارف وغيرها وتنقسم " حاشد " إلى أربعة أقسام: صريمي وخارفي وعصيمي وعذري.

انظر: " معجم البلدان والقبائل اليمنية "(ص 143 - 144).

(2)

بكيل: قبيلة مشهورة من همدان من ولد بكيل بن جشم أخو حاشد بن جشم بن خيوان بن نوف بن همدان بن مالك لن زيد بن أوسله ....

وتنقسم إلى أربعة فروع: أرحب، نهم، مرهبة، شاكر

وبالتالي فإن قبيلة بكيل تحتل الجزء الشمالي الشرقي من صنعاء.

وبكيل: قبيل بآنس ديارهم شمال ضوران.

وبكيل: قبيل ووطن في سارع من أعمال المحويت.

وبكييل المير: نحية من قضاء وشحة أعمال حجة. "

معجم البلدان اليمنية " (ص 83 - 84).

ص: 3281

النفس لا يمنعه إلا عدم الإمكان، وغير ذلك من تعدي حدود لله، وأما الزكاة فيتجرأ فيها، ويصرح أن ذلك لئلا يخلف ماله في المستقبل، أو يقع عليه جائحة بسببها في أهل، أو مال، ولا يريد بما أداه منها أداء الفريضة التي افترضها الله عليه، ولا القربة، وقليلا جدا من رأيناه منهم يسلمها ويقول: هي فريضة واجبة، ونحو هذا، لكن أما أنه يسلم من شائبة مما ذكر ، ولو كان سالما من الأكثر، فلا يخلو من مثل خيفة خلف المال.

فهل مثل هذه الزكاة ممن ذكر حكمها حكم الزكاة في مصيرها في مصرفها الشرعي؟ وتحريمها على الهاشمي والغني أو لا؟ ولها حكم غير ذلك.

أما ما أخذه المصدق، وذو الولاية، ومن له شوكة وبيده الأمر، فلعله يصير المفترض منها حكمه حكم الزكاة، لكن كيف وبما يعلم أنه راد على مقدار الزكاة، كما ينفق ذلك فهذا الزائد ما حكمه؟.

ثم زكاة الهاشمي للفقير الهاشمي، ما المتقرر عندكم؟ وقد علم الخلاف في ذلك، غنما المراد ما يرجح لديكم.

ثم ما قيل من حل زكاة غير الهاشمي للهاشمي كذلك، قد عرف، وما عندكم في ذلك، والسائل معتقده التحريم.

وثمة أعجوبة لمن تصفحها، وقد تصفحناها أنك ترى التشديد الكلي من كل أخذ على الهاشمي، وأنها محرمة عليه؛ لورود الدليل، وهو الحق. وأما الغني فقل من تسمع، من تنقم ذلك عليه، أو يتوجع، مع أن تحريمها عليه ما نعلم بخلاف فيما أظن، وإن شاع للإمام إنالة أحد الأغنياء كثيرا من يقبض الزكاة مثل أهل القطع، ويجري عليه من أولي الأمر عادته من ذلك، ويقال: قد كان هذا من إمام سابق لمن سبق آثار هذا القابض إجراء للعادة فقط، ولا يدري أو يدري، لكن لا ينظر كيف ترجيح الإمام

ص: 3282

الأول لذلك، ولا أنه جعل ذلك لوجه قد بطل في الآخر، فيقضي العجب من عدا غايته.

والزكاة هل في الحبوب فقط؟ فما يقال في العنب والزبيب، أو في كل ما أنبتت الأرض، وحملت الأشجار، فتكون في مثل البرقوق، والفرسك، وسائر الفواكه.

ومن الفوائد العائدة على أهلها شيء لا ينبت، وإنما يبقى تحت الأرض، ويستخرج منها، فما حكمه؟ وذلك كالهرد، فإنا رأيناه في بلاد الشرف ما يحسب أن في البقعة شيئا، إنما هو تحت التراب، ويبقى مدة معروفة عندهم، ويباع بأثمان نفعه، فهل مثل هذا له زكاة كزكاة المنبت أم لا؟.

- والله لا خلى عنكم - آمين.

ص: 3283

الحمد لله رب العالمين:

الجواب - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه استمداد الإعانة - أن الزكاة المفروضة قد جاء القرآن الكريم بتعيين مصارفها، بصيغة تقتضي الحصر، وهي (1) إنما التي وقع الاتفاق بين أئمة البيان والأصول والنحو على اقتضائها لذلك، ثم وردت السنة المطهرة المتواترة تواترا معنويا يجب على كل مسلم العمل به، ويحرم عليه مخالفته:" أن الصدقة لا تحل لمحمد وآل محمد "(2)، فكان هذا النص المتواتر مقيدا للآية الكريمة المصرحة بمصارف الزكاة، فتكون الصدقات الواجبة مصروفة في الفقير الذي ليس من آل محمد، وكذلك

(1) قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (168: 1072) وأبو داود رقم (2985) والنسائي (5/ 105 - 106 رقم 2609) وأبو عبيد في " الأموال " رقم (842) عن المطلب بن ربيعة بن الحارث.

وهو حديث صحيح وقد تقدم.

ومنها ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1491، 1485) ومسلم في صحيحه رقم (1069) عن أبي هريرة مرفوعا، وفيه:" إنا لا نأكل الصدقة " وفي لفظ: " إنا لا تحل لنا الصدقة ".

ومنها ما أخرجه أحمد في " المسند "(6/ 8 - 9) وأبو داود رقم (1650) والنسائي (5/ 107 رقم 2612) والترمذي رقم (657) وقال: حديث حسن صحيح. وابن خزيمة في صحيحه رقم (2344) من حديث أبي رافع: " أن الصدقة لا تحل لنا، وإن مولى القوم من أنفسهم ".

ومنها: ما أخرجه أحمد (9/ 73 رقم 1120 - الفتح الرباني) والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(2/ 6) من حديث الحسن بن علي: " لا تحل لآل محمد الصدقة ".

ومنها: ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2055) ومسلم رقم (1071) عن أنس رضي الله عنه قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم بتمرة مسقوطة، فقال:" لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها ".

ومنها: ما أخرجه الترمذي رقم (656) والنسائي (5/ 107 رقم 2613) من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: " كان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتي بشيء سأل عنه: أهدية أم صدقة. فإن قيل: صدقة، لم يأكل وإن قيل هدية، بسط يده ". وهو حديث حسن.

ص: 3284

بقية المصارف، لأن نفي لحل لآل محمد ورد تارة عاما، وتارة مطلقا؛ فيفيد أنها لا تحل لهم على كل حال، فلا بد أن يكون كل صنف من الأصناف التي لم يأت فيها تخصيص، ليس بمتصف بوصف كونه من آل محمد. ومن ادعى أنها تحل لمن كان من آل محمد إذا كان مثلا عليلا، ومؤلفا فهو مطالب بالدليل الصحيح المفيد لتخصيص دليل التحريم المتواتر، ولم يكن في شيء من الأمهات والمسانيد والمجاميع الموضوعة لجمع الأحاديث النبوية ما يفيد ذلك، ذلك فيما أعلم بل فيها التصريح بما يقوي تعميم التحريم، وهو امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من تولية المطلب بن ربيعة بن الحارث، والفضل بن العباس على الصدقات، بعد أن سألاه ذلك، كما في الصحيح معللا ذلك بقوله:" إنما هذه الصدقات أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد وآل محمد "(1).

فالحاصل أن تحريم الزكاة على آل محمد قطعي من قطعيات الشريعة، ولم يأت من رام القدح في قطعيته بشيء يصلح للتمسك به. وقد أطال العلامة الجلال في رسالته " المقال "، ولكنه في غير طائل، وهكذا جاء في شرحه للأزهار بطرف من ذلك (2)، والكل منهار، وليس هذا موضع بيان تزييفه (3). وقد تعقبه في ذلك من تعقبه من المعاصرين له (4)، فمن بعدهم بما فيه كفاية، مع احتمال تلك المقامات والمقالات التي أدخل نفسه في مضايقها

(1) تقدم تخريجه.

(2)

انظر " ضوء النهار "(2: 333 - 334).

(3)

قال الشوكاني في " السيل الجرار "(1: 810): الأدلة المتواترة تواترا معنويا قد دلت على تحريم الزكاة على آل محمد، وتكثير المقال وتطويلي الاستدلال في مثل هذا المقام لا يأتي بكثير فائدة وقد تكل الجلال في " ضوء النهار "(2/ 333 - 334) في شرحه في هذا الموضع بما يضحك منه تارة ويبكى له أخرى وجمع بين المتردية والنطيحة وما أكل السبع، وبحثه في رسالته التي أشار إليها من جنس كلامه الذي أورده هنا، وكل ذلك لا يسمن ولا يغني من جوع.

(4)

انظر تعقيب الصنعاني في " منحة الغفار على ضوء النهار ".

ص: 3285

الرد عليه، وتزييف كلامه، وتبيين فساده.

وإذا تقرر ما ذكرناه من كون التحريم قطعيا فاعلم أن كون من عليه الزكاة مخلا بشيء مما أوجب الله عليه، أو تاركا لفرض من فرائض الإسلام، أو لركن من أركانه لا يوجب تحويل المصرف الذي جعل صرف الزكاة إليه إلى مصرف آخر، ولا يحلل الزكاة لمن حرمها الله عليه؛ فإن الله - سبحانه - قد أوجب على من عصاه بذنب عقوبات معروفات، منها ما هي دنيوية، ومنها ما هي أخروية، فمن مثلا متساهلا في الصلاة فالواجب على كل مسلم أن يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويحمله على القيام بما أوجب الله عليه طوعا أو كرها، وليس لمن كان غير مصرف للزكاة كالأغنياء، وبني هاشم أن يقولوا به، ونخون الله في بعض ما حرمه علينا، فنأكل زكاة هذا المتساهل في بعض الصلاة، فإن هذا من تشفيع معصية بمعصية، وذنب بذنب، وبلية ببلية.

وما مثل هذا الغني أو الهاشمي لذي أقدم على أكل زكاة من عصى الله بذنب أو ذنوب إلا مثل بعض أعوان سلاطين الدنيا إذا عثر على خيانة للسلطان من بعض الأعوان فخانه مثل تلك الخيانة قائلا: قد سبقه إلى الخيانة فلان فاقتدى به، والكل معصية للسلطان، وخيانة له، وجناية عليه، وهكذا ما نحن بصدده هو خيانة لله، ومعصية له، وتعد لحدوده، فإن زكاة ذلك العاصي قد جعلها الله لمصارف معروفة معينة، فهي حق لهم، وليست بحق للعاصي، فمن أكلها ممن لا تحل له فقد أكل أموال مصارف الزكاة وظلمهم، وجنى عليهم، ولم يأكل مال ذلك العاصي التارك لبعض ما أوجبه الله عليه، فما ذنب هؤلاء المصارف حتى يأكل أموالهم من منعه إليه من أكلها، فإن قال من حرم الله عليه الزكاة أنه استحل هذه الزكاة عقوبة لمعصية المزكي، فيقال له: هذا باطل من وجوه:

الأول: إن هذه العقوبة بالمال واردة على خلاف الأصول الشرعية، فبقر حيث وردت، وذلك في جزئيات معروفة

ص: 3286

الوجه الثاني: أن المعاقبة بالمال ليست إلى كل فرد من أفراد المسلمين، بل هي إلى أئمة المسلمين، ولو كانت مفوضة لكل فرد لأكل الناس أموال بعضهم البعض بهذه الذريعة، وهتكوا حرمة الأملاك المملوكة بهذه الوسيلة الشيطانية.

الوجه الثالث: أن هذا الذي لا تحل له الزكاة لو فرضنا أن له ولاية تسوغ التأديب بالمال ، وفرضنا أن الذي عليه الزكاة قد افترق ذنبا من الذنوب التي جاءت الشريعة بجواز التأديب فيها بالمال، فغاية ما هناك أن له تأديب العاصي على تلك المعصية بأخذ شيء من ماله، وأما تأديبه بأخذ مال غيره، وهم المصارف الذين جعل الله هذه الزكاة لهم فليس ذلك من هذا الباب، بل من باب الظلم البحت، والطاغوت المتيقن.

فإن قال المستحل لهذه الزكاة: إن صاحبها لما عصى الله بذنب أو ذنوب صارت زكاته غير زكاة شرعية، فيقال له: ليس هذا إليك، ولا أمرك الله به، بل الذي أمرك الله به هو أن تأخذ على يد هذا العاصي، وتحول بينه وبين عصية الله، وتأمره بالقيام بما أوجب الله عليه وفاء بما أوجبه الله عليك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تعمد إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه، فتضعه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه، وتصرفه في غير مصرفه الذي صرفه الله إليه، فإن هذا منكر، معاونة للشيطان، لأنه أوقعه في بعض الذنوب ففعلها، أو سول له ترك بعض الواجبات فتركها، وأنت عمدت إلى ما قد قام به مما أوجبه الله عليه فوضعته في غير موضعه، فظلمته بوضع زكاته في غير موضعها، وظلمت المصارف، وحلت بينه وبين ما جعله الله لهم، فكنت عاصيا من جهات:

الأولى: بمخالفة التحريم القطعي.

الثانية: بظلم المزكي.

الثالثة: بظلم المصارف.

فانظر ما صنعت بنفسك، وفي أي هوة وقعت يا مسكين، فإن كنت تظن أن

ص: 3287

الله إنما حرم عليك أوساخ المؤمنين، ولم يحرم عليك أوساخ الفسقة والعصاة المتلوثين بالذنوب، فقد ركبت شططا، وسلكت غلطا، ولو فرضنا أن هذا الذي أخرج الزكاة قد ارتكب من المعاصي ما يوجب انسلاخه عن الدين بإجماع المسلمين، وصار في عداد المرتدين، فالذي يجب علينا حينئذ أن نعامله معاملة المرتدين في النفس والمال، فنطالبه بالإسلام، فإن قبل فذاك، وإن أبى فالسيف هو الحكم العدل، وهذ هو الذي أوجبه الله علينا، وطلبه منا، وليس لنا أن نعمد إلى ما قد أخرجه من ماله باسم الزكاة فنأخذه ونقرره على كفره، ونوهمه أن ذلك الذي أخرجه زكاة، وأنه من المسلمين، فإن هذا الذي أخرجه على فرض أنه ليس بزكاة شرعية هو تمليك منه لمصارف الزكاة، أو إباحة لهم، والتمليك من الكافر والإباحة صحيحان بإجماع المسلمين، فكيف يحل لنا أن نظلمهم بأخذ ما قد استحقوه بالتمليك، أو الإباحة، وهذا إنما هو على طريقة التنزل، وإرخاء العنان في المناظرة وإلا فنحن نعلم أن هؤلاء العصاة لو خبطوا بأسواط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقاموا بجميع ما أخلوا به، فضلا عن يمدوا أعناقهم للسيف، ويصروا على الكفر بعد الاستتابة، بل لو وجدوا من يعلمهم معالم الدين، ويبذل نفسه للهداية، ويصبر نفسه معهم، ويقرعهم بالقوارع التي في كتاب الله، وسنة رسوله، ويرغبهم برغائب الوعد للمطيعين، ويرهبهم بالترهيبات التي رهب الله بها العصاة لما شذ عن الإجابة إلا القليل، لأنهم يثبتون لأنفسهم الإسلام، وينفون عنها الكفر من نسبة ذلك إليه، وينفرون عنه، فليسوا ممن شرح بالكفر صدرا، بل لو قيل لأحدهم إنه كافر لقامت عليه القيامة، وقابل من رماه بذلك بكل حجر ومدر.

وهذه المقامات التي هن مقامات التكفير، هو مزالق الأقدام، ومزلات أنظار الأعلام، فمن أقام نفسه فيها، وحكم على بعض من ينتمي إلى الإسلام بالكفر، فقد تعرض لأمر عظيم، وأدخل نفسه في مدخل وخيم، فإن أسباب الكفر بعيدة المدارك مظلمة المسالك، ومن دخل في شيء من هذه القوانين التي يتعامل بها البدو المسماة عندهم تارة بالمنع، وتارة بالشرع لا يكفر بمجرد الدخول في ذلك، حتى يعلم أن تلبسه

ص: 3288

بذلك يخرجه عن الإسلام، ويلحقه بالكفار الحربيين الذي كفرهم أشد من كفر اليهود والنصارى، فلا بد ههنا من أمرين:

الأول: أن تتيقن أن ذلك الذي دخل فيه سبب من أسباب الكفر.

الثاني: علمه بذلك حتى يكون ممن شرح بالكفر صدرا، ودون الأمرين مهمامه، فيح تتعثر فيها أقدام المحققين، وتخرس عن وصف بلاقعها ألسن المبرزين.

وهكذا من كان متلبسا من العوام بالعقائد الباطلة في حي أو ميت، فلا بد من الأمرين المتقدمين، ودونهما ما وصفنا من صعوبة المدرك، وفظاعة المعترك، ولو قام أهل العلم بما أخذه الله عليهم من البيان، وقام أهل الأمر بما أوجبه الله عليهم في محكم القرآن، وقام سائر المسلمين بما أمرهم الله له من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر لما وجد على ظهر الأرض الإسلامية من يتلبس بسبب من أسباب الكفر، فإن لعوام أقرب الناس إلى قبول الهداية، ومن كان منهم غير قابل لها باللسان فهو يقبلها بالسنان.

وإذا تبين لك صعوبة مسلك الكفر، وحزونة أسبابه ، واشتراط العلم الذي لا يكون شرح الصدر بدونه، ولا يتحقق إلا بعد وجوده لاح لك أن أولئك المسئول عن حكم زكاتهم ليسوا إلا من عصاة المسلمين، ولكن معاصيهم مختلفة في كون بعضها أشد من بعض، وكل شيء مما يفعلونه من أسباب الكفر على فرض مباشرتهم لشيء منها ليس من الكفر المتفق عليه، بل من قال إنه سبب يوجب الكفر فهو يشرطه بشروط يبعد كل البعد وجودها في من ينتمي إلى الإسلام، ويدعي أنه من أهله، فإن من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة كقطع ميراث بعض من ثبت توريثه بدليل قطعي لا يكفر عند من قال بكفره إلا بعد أن يعلم تلك القطعية، ويصر على مخالفتها، إما استحلالا، أو استخفافا. وأين من يعلم قطعية الدليل من هؤلاء البدوان، فضلا عن ما وراء ذلك. فتلخص من هذا أن المزكي من أهل المعاصي يجب صرف زكاته إلى المصارف الشرعية، ولا يحل لأحد ممن لا تحل له أن يتناول شيئا منها. وهكذا من فعل سببا من أسباب الكفر المختلف فيها لا يحل لأحد أن يحكم بكفره إلا بعد قيام ........................

ص: 3289

البرهان على الكفر (1)، ولا بد بعد قيام البرهان على أن ذلك سبب من أسباب الكفر أن

(1) قال الشوكاني في " السيل "(3/ 783 - 785): اعلم أن الحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر لا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم عليه إلا ببرهان أوضح من شمس النهار، فإن ثبت في الأحاديث الصحيحة المروية من طريق جماعة من الصحابة أن:" من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما " أخرجه البخاري رقم (6103).

وفي لفظ آخر في الصحيحين وغيرهما: " من دعا رجلا بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا خار عليه " أي رجع - البخاري رقم (6045) ومسلم رقم (112/ 61) من حديث أبي ذر - ففي هذه الأحاديث وما ورد موردها أعظم زاجر وأكبر واعظ عن السراع في التكفير. وقد قال عز وجل: {وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا} [النحل: 106]. فلا بد من شرح الصدر بالكفر وطمأنينة القلب به وسكون النفس إليه، فلا اعتبار بما يقع من طوارق عقائد الشرك لا سيما مع الجهل بمخالفته لطريقة الإسلام.

ولا اعتبار بصدور فعل كفري لم يرد به فاعله الخروج عن الإسلام إلى ملة الكفر، ولا اعتبار بلفظ يلفظ به المسلم يدل على الكفر وهو لا يعتقد معناه.

فإن قلت: قد ورد في السنة ما يدل على كفر من حلف بغير ملة الإسلام، وورد في السنة المطهرة ما يدل على كفر من كفر مسلما كما تقدم. وورد ي السنة المطهرة إطلاق الكفر على من فعل فعلا يخالف الشرع كما في حديث:" لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " - أخرجه البخاري في صحيحه رقم (6785) ومسلم رقم (66) - ونحوه مما ورد مورده وكل ذلك يقيد أن صدور شيء من هذه الأمور يوجب الكفر وإن لم يرد قائله أو فاعله به الخروج من الإسلام إلى ملة الكفر. قلت: إذا ضاقت عليك سبل التأويل ولم تجد طريقا تسلكها في مثل هذه الأحاديث فعليك أن تقرها كما وردت وتقول من أطلق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم الكفر فهو كما قال ، ولا يجوز إطلاقه على غير من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسلمين كافرا إلا من شرح بالكفر صدرا، فحينئذ تنجو من معرة الخطر وتسلم من الوقوع في المحنة.

فإن الإقدام على ما فيه بعض البأس لا يفعله من يشح على دينه ولا يسمح به فيما لا فائدة فيه ولا عائدة، فكيف إذا كان يخشى على نفسه إذا أخطأ أن يكون في عداد من سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كافرا. فهذا يقود إليه العقل فضلا عن الشرع، ومع هذا فالجمع بين أدلة الكتاب والسنة واجب، وقد أمكن هنا بما ذكرنا، فتعين المصير إليه، محتم على كل مسلم أن لا يطلق كلمة الكفر إلا على من شرح صدرا ويقصد ما ورد مما تقدم على موارده وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق:

يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ومنهج الحق له واضح

ص: 3290

يكون المرتكب له عالما بأنه كفر، شارحا به صدره، مصرا على البقاء عليه، غير راجع عنه، وبعد أن يتقرر كفره لا يحل لأحد أن يعمد إلى ما قد أخرجه من ماله، وخرج ملكه إلى مصارفه الشرعية، فإن تلك القطعة من ماله قد أخرجها باسم الزكاة لمصارفها، فإذا لم يكن زكاة لمانع فيه كانت إباحة لمصارف الزكاة دون غيرهم، وذلك منه صحيح لا مانع عنه، فمن أخذها فقد ظلم المصارف؛ لأن الإباحة لهم لا لغيرهم. وقد خرجت عن ملك مالكها.

وعلى فرض أنه يصح الرجوع عن الإباحة فالذي يجوز له الرجوع فيها هو مخرجها لا غيره. ولا يقدح في ذلك كون الذي أخرجها إنما أخرجها لغرض دنيوي، كاعتقاده أنه لا يأتي له ثمرة كاملة في ماله إلا بإخراج الزكاة، فإنه إنما أخرجها هاهنا إلى قوم هم أهلها ومصارفها، لأن ما يعتقده من كمال الثمرة، وحصول البركة إنما يكون بالصرف إلى المصارف، لا إلى غيرهم ، وهذا أعني: التعويل على أنها كالإباحة لقوم معينين إنما هو بعد تسليم الكفر الصراح، والردة البحت، وانتفاء الشبهة، وارتفاع حكم الإسلام بالمرة.

وأما مع عدم كذلك فهي زكاة بلا شك، ولا شبهة، وإن كان كثير المعاصي، مسرفا على نفسه كلية الإسراف. وما ذكره السائل - كثر الله فوائده - في الغني فهو كما قال، ودليل تحريم الزكاة على الغني قطعي في الأصناف التي ورد اعتبار الفقر فيها بنص الكتاب، أو بصحيح السنة، أو بإجماع المسلمين ، وأما الأصناف التي لم يعتبر فيها الفقر فمن كان من أهلها فهي حلال له من تلك الحيثية التي سوغها الشارع له، كالعامل عليها، والمؤلف منها، والغارم.

وبالجملة فجميع ما قدمنا من الكلام ليس بخاص ببعض من تحرم عليه الزكاة دون

ص: 3291

بعض، بل هو كلام من كل من تحرم عليه الزكاة. وقد حاول جماعة من علماء السوء وشياطين المتفيهقين تحلي هذه الصدقة التي تولى الله - سبحانه - تعيين مصارفها؛ فجعلوا فيها نصيبا لغير من عينه الله بدسائس إبليسية، ووسائل طاغوتية، والكل من التقول على الله بما لم يقل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الهاشمي للهاشمي، هل تحل أم لا؟.

فأقول: لا شك أنه يصدق عليها اسم الصدقة، وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الثابت في الصحيح، بل المتواتر:" إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة "(1)، وفي لفظ:" إن الصدقة لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد "(2)، وفي لفظ:" إنا لا نأكل الصدقة "(3)، وكلها ثابتة في الصحيح ، ولا شك أيضًا أن بني هاشم من الناس. وقد علل النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريمه الصدقة عليهم بأنها أوساخ الناس (4) فلا تحل صدقة هاشمي لهاشمي؛ لأن العلة موجودة، وهي كون تلك الصدقة من أوساخ الناس.

وأما ما استدل به القائل بجواز زكاة الهاشمي للهاشمي من حديث العباس الذي أخرجه الحاكم في النوع السابع والثلاثين (5) من علوم الحديث، بإسناد جميع رجاله من بني هاشم العباسيين، أن العباس بن عبد المطلب قال: قلت ت: يا رسول الله، إنك حرمت علينا صدقات الناس، هل تحل لنا صدقات بعضنا لبعض؟ قال:" نعم ". فهذا الحديث لو صح لكان دليلا واضحا صالحا لتخصيص ذلك العموم، ولكنه لم يصح (6)، بل قد اتهم به

(1) تقدم تخريجه.

(2)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(3)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(4)

تقدم ذكره وتخريجه وهو حديث صحيح.

(5)

بل في التاسع والثلاثين (ص 175).

(6)

قال الشوكاني في " السيل الجرار "(1/ 812): فهذا الحديث قد اتهم به بعض رواته كما ذكره الذهبي في " الميزان " وفيهم من لا يعرف فلا يصلح للتخصيص.

ص: 3292

بعض رواته. وقد أطال الكلام على ذلك صاحب الميزان، ومن الغرائب أن الحافظ محمد بن إبراهيم الوزير (1) رحمه الله قال - بعد سياقه لهذا الحديث - ما لفظه: وأحسب له متابعا لشهرة القول به، قال: والقائل به جماعة وافرة من أئمة العترة، وأولادهم، وأتباعهم، بل ادعى بعضهم أنه إجماعهم ، ولعل توارث هذا بينهم يقوي الحديث. انتهى. وصدور هذا الكلام من مثل هذا الإمام من أعجب ما يطري الأسماع، فإنه بعد اعترافه بأنه اتهم به بعض رواته عول على مجرد الحسبان بأن لذلك الراوي متابعا، وهذا الحسبان لا يجوز التعويل عليه، ولا التمسك به بإجماع المسلمين، بل لو كوشف هذا العلامة رحمه الله عن هذا لما خالف، فإن الحسبان لو كان حجة ومستندا لقال من شاء ما شاء، فما يعجز من جاء بحديث في إسناده كذاب أو وضاع قد اتهم به أن يقول: أحسب أن له متابعا، ويكون هذا الحسبان حجة له على الناس، وهذا من غرائب التعسفات، وعجائب الكبوات.

وأما تعليل هذا الحسبان بأن القائل به كثير فليست الكثرة دليلا على الحق بإجماع المسلمين، على أنه لا كثرة هاهنا، بل القائل بذلك بالنسبة إلى المخالفين له نزر يسير، وعدد حقير، ولم أسمع إلى الآن من جعل ذهاب طائفة من الناس إلى قول من الأقوال دليلا على أن ذلك القول حق، وأن دليله صحيح، فاعتبر بهذا من مثل هذا الإمام، واجعله زاجرا لك عن التقليد، وليس مقصودنا من هذا الإزراء عليه رحمه الله فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف، والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل. وقد نفع الله به من جاء بعده، ولكن المعصوم من عصمه الله، وكل واحد يؤخذ من قوله ويترك، وما أردت بهذا التنبيه إلا تحذير أهل العلم عن إحسان الظن بعالم من العلماء، حتى يفضي هذا الإحسان إلى تقليده في كل ما يأتي ويذر، واعتقاد أنه محق في كل إيراد وإصدار، فهذه رتبة ما فاز بها إلا المعصومون

(1) عزاه إليه الأمير الصنعاني في " منحة الغفار "(2/ 341).

ص: 3293

فحسب.

ومن العجائب أيضًا ما ذكره رحمه الله في آخر كلامه السابق من أن بعضهم قد ادعى أنه إجماع أئمة العترة، ولا شك أن هذه الدعوى من أبطل الباطلات، فإن القائل بذلك بالنسبة إلى من لم يقل به هو القليل النادر، وكيف يصح دعوى إجماع العترة، والقاسم، والهادي، والناصر، والمؤيد بالله وأتباعهن، وهم جمهور العترة خارجون عنه، وهذه كتب العترة وأتباعهم موجودة على ظهر البسيطة، وأعجب من هذا قول العلامة محمد بن إسماعيل الأمير رحمه الله في المنحة (1) أنها سكنت نفسه إلى هذا الحديث بعد وجدان سنده، وما عضده من دعوى الإجماع، فيا الله العجب من مثل هذا السكون لمجرد وجدان السند، ودعوى الإجماع! فإن وجدان السند يكون في الموضوع كما يكون في الصحيح، وليس من وجد سند حديث من دون بحث عن حاله، وكشف عن رجاله، وجد نفسه ساكنة إليه عاملة به، فإن هذا ليسم من الاجتهاد في شيء، بل من الوساوس الفاسدة، والتشهيات الباطلة، وهكذا قوله: ودعوى الإجماع؛ فقد جعله جزء علة السكون، ويالله العجب كيف تجري بمثل هذا أقلام العلماء المتقيدين بالدليل! فإن الدعاوي إذا لم تعضد بالبراهين فهي أكاذيب، وهذه الدعوى من بينها، أوضح كذبا وأظهر بطلانا، وأبين اختلالا.

وأما ما ذكره السائل - كثر الله فوائده - من زكاة الخضروات.

فأقول الأدلى العامة من الكتاب والسنة قد دلت على وجوب الزكاة فيها، كقوله تعالى:{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (2) فإن الأموال تعم، وما خص من هذا العموم خرج، وذلك كحديث:" ليس على المرء في عبده، ولا في بيته صدقة "(3)، ونحو ذلك.

(1) في " منحة الغفار على ضوء النهار "(2/ 341 - 342).

(2)

[التوبة: 103].

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه (1436) و (1464) ومسلم رقم (8 - 9/ 982) وأبو داو رقم (1595) والترمذي رقم (628) والنسائي (5/ 35). من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 3294

ومن جملة العمومات حديث: " فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر "(1) وهو في الصحيح، وفي لفظ:" فيما سقت السماء والعيون، أو ما كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر "(2)، وهو أيضًا في الصحيح، وقد قال من لم يوجب الزكاة في الخضروات أنها مخصصة من العموم بحديث عطاء بن السائب قال: أراد عبد الله بن المغيرة أن يأخذ من أرض موسى بن طلحة من الخضروات صدقة، فقال له موسى بن طلحة: ليس لك ذلك، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول " ليس في ذلك صدقة ".

رواه الأثرم في سننه، وأخرجه الدارقطني (3) والحاكم (4) من حديث إسحاق بن يحيى بن طلحة عن عمه موسى بن طلحة، عن معاذ بلفظ:" وأما القثاء، والبطيخ، والرمان، والقضب فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ". قال ابن حجر (5): وفيه ضعف وانقطاع. وروى الترمذي (6) بعضه من حديث عيسى بن

(1) أخرجه أحمد (3/ 341، 3/ 353) ومسلم رقم (981) والنسائي (5/ 41 - 42) وأبو داود رقم (1597) من حديث جابر وهو حديث صحيح.

(2)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (1483) من حديث سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه.

قلت: وأخرجه أبو داود رقم (1596) والترمذي رقم (640) والنسائي في " السنن "(5/ 41) وابن ماجه رقم (1817).

(3)

في " السنن "(2/ 97 رقم 9).

(4)

في " المستدرك "(1/ 401) وقال: حديث صحيح الإسناد ووافقه الذهبي وقال صاحب التنقيح: وفي تصحيح الحاكم لهذا الحديث نظر؛ فإنه حديث ضعيف.

وإسحاق بن يحيى تركه أحمد والنسائي، وقال أبو زرعة: موسى بن طلحة بن عبيد الله عن عمر مرسل. ومعاذ توفي في خلافة عمر، فرواية موسى بن طلحة عنه أولى بالإرسال " التعليق المغني.

(5)

في " التلخيص "(2/ 321).

(6)

في " السنن " رقم (638).

ص: 3295

طلحة عن معاذ، وهو ضعيف، قال الترمذي (1): ليس يصح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم شيء يعني في الخضروات، وإنما يروى عن موسى بن طلحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرسلا.

وذكره الدارقطني في العلل (2)، وقال: الصواب مرسل، وروى البيهقي (3) بعضه من حديث موسى بن طلحة قال: عندنا كتاب معاذ، ورواه الحاكم (4) وقال: موسى تابعي كبير لا ينكر أنه لقي معاذا، وقال ابن عبد البر (5): لم يلق معاذا ولا أدركه، وكذلك قال أبو زرعة، وروى البزار (6) والدارقطني (7) من طريق الحارث بن نبهان، عن عطاء بن السائب، عن موسى بن طلحة، عن أبيه مرفوعا:" ليس في الخضروات صدقة " قال البزار لا نعلم أحدا قال فيه عن أبيه إلا الحارث بن نبهان. وقد حكى ابن عدي (8) تضعيفه عن جماعة، والمشهور عن موسى مرسل.

ورواه الدارقطني (9) من طريق مروان بن محمد السنجاري، عن جرير، عن عطاء بن السائب، فقال: عن أنس بدل قوله: عن أبيه، ومروان ضعيف جدا. وروى الدارقطني (10) من الحديث علي - كرم الله وجهه (11) - مثله، وفيه الصفر بن حبيب، وهو

(1) في " السنن "(3/ 30).

(2)

عزاه إليه الحافظ في " التلخيص "(2/ 321).

(3)

في " السنن الكبرى "(4/ 129).

(4)

في " المستدرك "(1/ 401).

(5)

عزاه إليه ابن حجر في " التلخيص "(2/ 321).

(6)

(7)

في " السنن "(2/ 96).

(8)

في " الكامل "(2/ 191) ترجمة الحارث بن نبهان.

(9)

في " السنن "(2/ 96).

(10)

في " السنن "(2/ 95).

(11)

تقدم التعليق عليها.

ص: 3296

ضعيف جدا.

وفي الباب عن جماعة، وفي أسانيدها مقال، وقد استوفيت ذلك في شرح المنتقى (1)، ويشد من عضد هذا الحديث الأحاديث الواردة في أن الصدقة لا تؤخذ إلا من أربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب، والتمر، وهي مروية من طريق جماعة من الصحابة، منها من حديث أبي موسى ومعاذ عند الحاكم (2)، والبيهقي (3)، والطبراني (4)، قال البيهقي (5): رواته ثقات، وهو متصل، ومن حديث عمر عند الطبراني (6)، ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده عند ابن ماجه (7) والدارقطني (8)، وروي ذلك من طرق غير هذه يقوي بعضها بعضا. وهذا الحصر في الأربعة هو بالنسبة إلى ما تنبته الأرض، وإلا فقد وجبت في الذهب والفضة والسوائم بالأدلة الصحيحة، وبإجماع المسلمين.

وقد أخرج البيهقي (9) من طريق الحسن قال: لم تفرض الصدقة إلا في عشرة، فذكر

(1)(4/ 141 - 142).

(2)

في " المستدرك "(1/ 401) وقال: " إسناده صحيح ووافقه الذهبي وأقره الزيلعي في " نصب الراية " (2/ 389) " إلا أنه قال: قال الشيخ الإمام وهذا غير صريح في الرفع.

ورجح لمحدث الألباني في " الإرواء "(3/ 278) رفعه، وذكر له مرسل صحيح السند عن موسى بن طلحة قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ الصدقة والشعير والنخل والعنب ". أخرجه أبو عبيد في " الأموال " رقم (1174)، (1175).

(3)

في " السنن الكبرى "(4/ 125).

(4)

في " الكبير " كما قال في " مجمع الزوائد "(3/ 75): وقال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح.

وهو حديث حسن.

(5)

في " السنن الكبرى "(4/ 125).

(6)

لم أجده.

(7)

في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه.

(8)

في " السنن "(2/ 94). وهو حديث ضعيف جدا. انظر " الإرواء "(801).

(9)

في " السنن الكبرى "(4/ 129).

ص: 3297

الأربعة المتقدمة، والذرة، والإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، وأخرج ابن ماجه (1) الحديث السابق، وذكر خامسة، وهي الذرة، ولكن في إسنادها محمد بن عبد الله العرزمي، وهو متروك، وأخرج البيهقي (2) عن مجاهد قال: لم تكن الصدقة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا في خمسة، فذكر الذرة، وقد روى عدم وجوب الزكاة في الخضروات عن علي عن البيهقي (3) موقوفا، وكذلك عن عمر عنده (4) أيضًا موقوفا، وعن عائشة عند الدارقطني (5) موقوفا أيضا، وفي إسناده صالح بن موسى، وفيه ضعف، وعن محمد بن جحش عن الدارقطني (6) أيضا، وفي إسناده عبد الله بن شبيب، وهو ضعيف.

وقد اختلف من بعد الصحابة في ذلك من العلم اختلافا طويلا. والذي أقول به هو عدم وجوبها في الخضروات، لانتهاض جميع ما ذكر لتخصيص تلك العمومات التي قد دخلها التخصيص بالأوساق، والبقر العوامل، والعبد، والفرس، ونحوها. وقد تقرر الخلاف في الأصول في حجية العام المخصص، فذهب بعضهم إلى أنه ليس بحجة، وذهب البعض الآخر إلى أنه حجة، فما بقي وهو الراجح لدي.

ويدخل في الخضروات ما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - ي آخر سؤاله من ذلك الشيء الذي لا ينتفع إلا بما يستخرج من أصوله المستورة بالتراب. وفي هذا المقدار كفاية. والله ولي التوفيق.

كتبه المجيب محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما -.

(1) في " السنن " رقم (1815) بإسناد واه.

(2)

في " السنن الكبرى "(4/ 129).

(3)

في " السنن الكبرى "(4/ 129).

(4)

في " السنن الكبرى "(4/ 125 - 126).

(5)

في " السنن "(2/ 95 رقم 2).

(6)

في " السنن "(2/ 95 رقم 3).

ص: 3298

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا خط سيدي العلامة الحسين بن يحيى الديلمي (1) - حفظه الله - لعله رقم هذا هنا مزيدا لمباحثة الحقير فيه.

الحمد لله:

فائدة: الذي حفظناه في تخصيص العام العمل بما بقي من العموم بعد المخصص، وإنما الخلاف في كونه في الباقي، هل حقيقة أو مجاز؟ والخلاف معروف في تقدمه على الخاص وتأخره، والتباسه، لكن في عبارة الجلال (2) ما يفهم أنه لا يبقى دليلا بعد التخصيص، ولعله مع قرينة تقتضيه، وذلك كما في حديث:" فيما سقت السماء العشر "(3) هكذا لفظه أو معناه، وفي لفظ:" فيما سقت الأنهار والعيون والغيم العشور "(4)، وعند الجماعة من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريا العشر "(5) إلخ.

(1) الحسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي الذماري ولد سنة 1149 هـ ونشأ بذمار وأخذ عن علمائها، ثم ارتحل إلى صنعاء وقرأ العربية وله قراءة في الحديث على السيد العلامة محمد بن إسماعيل الأمير، ثم عاد إلى ذمار واستقر بها.

له مؤلف جمع فيه الأدلة على " متن الأزهار " من كتب الحديث وكتب أهل البيت سماه " العروة الوثقى في أدلة مذهب ذوي القربى " وله " الإمتاع في الرد على من أحل السماع " ومنظومة في الأسماء الحسنى نحو مائة بيت، ونظم " نخبة الفكر " لابن حجر وشرحها. توفي سنة 1249 هـ. "

نيل الوطر " (1/ 402)، " البدر الطالع " رقم (155).

(2)

قال الجلال في " ضوء النهار "(2/ 310): قالوا عمومات مخصوصة بالأوساق والعموم بعد تخصيصه ليس بحجة فيما بقي وإن سلم ففي محل النزاع.

(3)

تقدم تخريجه.

(4)

تقدم تخريجه وهو حديث صحيح.

(5)

تقدم تخريجه آنفا وهو حديث صحيح.

ص: 3299

فتخصصت هذه العمومات بحديث الأوسق (1)، ثم تخصص حديث الأوسق بأحاديث أخر، منها ما قد انحصر كحديبث الشعبي: كتب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن: " إنما الصدقة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب " قال البيهقي (2): هذه الأحاديث توكد بعضها بعضا.

قلت: لأن في الباب غير هذا، كحديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده:" إنما سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الزكاة في الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب "(3) زاد ابن ماجه (4)(والذرة)، وفيه العرزمي متروك، ورواه البيهقي (5) من طريق مجاهد، ومن طريق الحسن: لم يفرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الصدقة إلا في عشرة، فذكر الخمسة، وساق الحديث.

قال الجلال (6): قلت: وهي كافية في تخصيص العمومات، للأدلة، ثم قال ما معناه: إن المخصصات لم تبق معها للتعميم رمقا، فمن هذا يؤخذ أن الخاص قد رفع العموم، وأنه بمنزلة النسخ في نقص الأحوال، ولا يسلم أن تكون كلية، والله أعلم (7).

(1) منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه رقم (980) والنسائي (5/ 36) وابن خزيمة (4/ 34 - 35 رقم 2298، 2299) عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة وليس فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة، وليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة ". وهو حديث صحيح.

(2)

في " السنن الكبرى "(4/ 126).

(3)

تقدم تخريجه وهو حديث ضعيف جدا.

(4)

في " السنن " رقم (1815) ولفظ الذرة منكرة. انظر: " الإرواء "(801).

(5)

في " السنن الكبرى "(4/ 126).

(6)

في " ضوء النهار "(2/ 310).

(7)

قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام "(4 - 33 - 34) فالجمهور أن حديث الأوساق مخصص لحديث سالم - تقدم تخرجه وهو حديث صحيح - وأنه لا زكاة فيما لم يبلغ لخمسة الأوساق، وهب جماعة منهم زيد بن علي وأبو حنيفة إلى أنه لا يخص بل يعمل بعمومه، فيجب في قليل ما أخرجت الأرض وكثيره، والحق مع أهل القول الأول لأن حديث الأوساق حديث ورد لبيان القدر الذي تجب فيه الزكاة كما ورد حديث مائتي الدرهم لبيان ذلك مع ورود:" في الرقة ربع العشر ". وهو حديث صحيح.

ولم يقل أحد: إنه يجب في قليل الفضة وكثيرها الزكاة، وإنما الخلاف هل يجب في القليل منها إذا كانت قد بلغت النصاب كما عرفت، وذلك لأنه لم يرد حديث:" في الرقة ربع العشر " إلا لبيان أن هذا الجنس يجب فيه الزكاة، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث التبيين له بمائتي درهم، فكذا هنا قوله:" فيما سقت سقت السماء العشر " أي في هذا الجنس يجب لعشر، وأما بيان ما يجب فيه فموكول إلى حديث الأوساق، وزاده إيضاحا قوله في الحديث:" ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " كأنه ما ورد لدفع ما يتوهم من عموم: " فيما سقت سقت السماء ربع العشر " كما ورد ذلك في قوله: " وليس فيما دون خمسة أواقي من الورق صدقة " ثم إذا تعارض العام والخاص كان العمل بالخاص عند جهل التاريخ كما هنا، فإنه أظهر الأقوال في الأصول.

قال صحب " الكوكب المنير "(3/ 382) إذا ورد عن الشارع لفظ عام ولفظ خاص، قدم الخاص مطلقا، أي سواء كانا مقترنين، مثل ما لو قال في كلام متواصل: اقتلوا الكفار، ولا تقتلوا اليهود، أو يقول: زكوا البقر، ولا تزكوا العوامل، أو كانا غير مقترنين، سواء كان الخاص متقدما أو متأخرا، وهذا هو الصحيح لأن تقديم الخاص عملا بكليهما، بخلاف العكس فكان أولى.

وانظر مزيد تفصيل في " البحر المحيط "(3/ 407 - 410)، " اللمع "(ص 20)، " إرشاد الفحول "(ص 536 - 540).

وقد تقدم ذكر شروط بناء العام على الخاص.

ص: 3300