المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في الربا والنسيئة - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٧

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

- ‌بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

- ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

- ‌الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

- ‌بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

- ‌بلوغ المنى في حكم الاستمنى

- ‌جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:1 -بحث في نفقة الزوجات.2 -بحث في الطلاق المشروط.3 -بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.4 -بحث في اختلاف النقد المتعامل به

- ‌بحث في من أجبر على الطلاق

- ‌بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

- ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

- ‌بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

- ‌رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم

- ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

- ‌دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

- ‌بحث في " لا يبيع حاضر لباد

- ‌المسك الفايح في حط الجوايح

- ‌بحث في الربا والنسيئة

- ‌تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

- ‌كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

- ‌هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

الفصل: ‌بحث في الربا والنسيئة

‌بحث في الربا والنسيئة

تأليف

محمد بن على الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3615

بسم الله الرحمن الرحيم -

كثر الله فوائدكم، ومد الطلاب على موائدكم - قلتم في سؤالكم وبحثكم النفيس ما لفظه: الشارع صلى الله عليه وآله وسلم أناط تحريم التفاضل والنسا باتفاق البدلين جنسا وتقديرا، وأناط تحريم النسا، باختلافهما جنسا، ولم يذكر اختلافهما في التقدير، فبقى اتفاقهما فيه شرطا في تحريم النسا، ويشهد له أورده المولى في السيل (1):" أمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا "(2) وعزاه إلى أبى داود،

(1) أي " السيل الجرار "(2/ 601).

(2)

وله ألفاظ منها:

1 -

أخرج مسلم رقم (80/ 1587) وأحمد (5/ 314، 320) والدرامي (2/ 258 - 259) وأبو داود رقم (3349) والترمذي رقم (1240) وقال: حديث حسن صحيح.

والنسائي (7/ 274 - 275) وابن ماجه (2/ 757رقم 2254).

من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل سواء بسواء يدا بيد فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد ".

2 -

وأخرج أحمد (5/ 320) ومسلم رقم (81/ 1587).

من حديث عبادة بن الصامت السابق وزاده في آخره: " فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد".

3 -

وأخرج أبو داود رقم (3349) والنسائي (7/ 276) عن عبادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الذهب بالذهب تبرها وعينها، والفضة بالفضة تبرها وعينها، والبر بالبر مدى بمدى، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، ولا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرها يدا بيد، وأما نسيئة فلا ولا بأس بيع البر بالشعير، والشعير أكثرها يدا بيد، أما نسيئة فلا ".

4 -

وأخرج الترمذي رقم (1240): وفيه: " فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يدا بيد ".

5 -

وأخرج ابن ماجه رقم (2254): " وأمرنا - يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن نبيع البر بالشعير والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا ".

6 -

وأخرج النسائي (7/ 275): نحوه إلا أنه قال: " وأمرنا أن بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا " والحديث صحيح.

ص: 3621

والنسائي، وابن ماجه. فمثل لتحريم النسا (1) بمختلفي الجنس متفقي التقدير الذي هو الكيل، فخرجت صورة

(1) الربا على ضربين: ربا الفضل، وربا النسيئة. وأجمع أهل العلم على تحريمهما.

" المغني "(6/ 52)." المحلي "(8/ 468).

واعلم أن الأصل في تحريم الربا الكتاب والسنة ثم الإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ][آلِ عِمْرَانَ: 130].

وقال سبحانه وتعالى: [الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ][الْبَقَرَةِ: 275].

ثم قال سبحانه وتعالى [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا][الْبَقَرَةِ: 275].

وقال سبحانه وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ][الْبَقَرَةِ: 278] ثم توعد على ذلك لتوكيد الزجر فقال سبحانه وتعالى: [فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ][الْبَقَرَةِ: 279].

أما السنة: أخرج مسلم في صحيحه رقم (1218) من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون، فأول ربا أضعه عمي العباس، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضعه دم الحارث بن عبد المطلب ".

أخرج مسلم في صحيحه رقم (106/ 1598) وأحمد (3/ 304) والبيهقي (5/ 275) عن جابر رضي الله عنه قال: " لعن رسول الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه " وهو حديث صحيح.

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2086) من حديث أبي جحيفة.

وأخرجه مسلم في صحيحه رقم (105/ 1597) وأبو داود رقم (3333) والترمذي رقم (1206) وابن ماجه رقم (2277). وهو حديث صحيح.

الإجماع:

قد أجمع المسلمون على تحريم الربا، وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه حتى قيل: إن الله تعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعة قط وهو معنى قوله تعالى: [وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ][النِّسَاءِ: 161].

انظر: " المجموع "(9/ 391) و" الحاوي الكبير "(6/ 82 - 84).

ص: 3622

اختلافهما جنسا وتقديرا، كالشعير المكيل بالدرهم الموزونة من تحريم النسا. هذا ملخص كلام الأمير (1) في شرحه للضوء (2)، ورسالته: القول المجتبى (3).

قال: ولم ير ومن تنبه له قبله، والمولى - أبقاه الله - أدخلها في محرم النسا، وأن الشعير مثلا بالدراهم لا يدفعه من التقابض، وخصص منه ما رهن فيه المشتري رهنا كرهنه صلى الله عليه وآله وسلم درعه عند اليهودي في حديث عائشة (4) رضي الله عنها.

فانظروا في ذلك، وأفيدوا - جزيتم خيرا - فالمسألة مما تعم به البلوى انتهى.

(1) الأمير: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني.

(2)

أي " منحة الغفار في ضوء النهار "(3/ 1217).

(3)

سيأتي تحقيقها ضمن مجموع " عون القدير من فتاوي ورسائل الأمير " رقم (107).

(4)

أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2513) ومسلم رقم (124/ 1603) والنسائي رقم (4609) وابن ماجه رقم (2436): عن عائشة رضي الله عنها قالت: " اشتري رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهودي طعاما بنسيئة وأعطاه درعا له رهنا ".

قال الشوكاني في " السيل الجرار "(2/ 602): ولا معارضة بين هذا وبين حديث عبادة لإمكان الجمع بأن هذا مخصص لاشتراط التقابض بمثل هذه الصورة إذا سلم المشتري رهنا في الثمن، وقد استدل بعضهم بالإجماع على جواز ذلك من غير تقابض إذا كان الثمن نقدا فإن صح هذا الإجماع كان حجة على من يرى حجيته.

ص: 3623

أقول: - وبالله الثقة، وعليه التوكل، ومنه الإعانة في جميع الأمور -: إن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم "الإشارة فيه بقوله هذه الأصناف إلى الأصناف المذكورة في أول الحديث (1) وهي: الذهب، والبر، والشعير، والتمر، والملح.

فالمعنى فإذا اختلفت (2) هذه الأصناف في ذات بينها بأن وجد أحدها مقابلا لصنف يخالفه فيصدق على الذهب في مقابلة الفضة وفى مقابلة البر، وفى مقابلة الشعير، وفى مقابلة التمر، وفى مقابلة الملح، وهكذا يصدق على الفضة في مقابلة الذهب، والبر والتمر والملح، وهكذا يصدق على كل واحد من البر، والشعير، والتمر، والملح إذا وقع في مقابلة ما يخالفه من هذه الأجناس أنه قد وقع الاختلاف [الذي](3) أشار إليه في

(1) فهذه الأعيان المنصوص عليها يثبت الربا فيها بالنص والإجماع.

واختلف أهل العلم فيما سواها، فحكي عن طاوس وقتادة أنهما قصرا الربا عليهما، وقالا: لا يجري في غيرها. وبه قال داود ونفاه القياس.

وقالوا ما عداها على أصل الإباحة لقوله تعالى: [وأحل الله البيع][البقرة: 275] واتفق القائلون بالقياس على ثبوت الربا فيها بعلة، وأنه يثبت في كل ما وجدت عليه علتها، لأن القياس دليل شرعي، فيجب استخراج علة هذا الحكم، وأثباته في كل وجدت علته فيه. وقوله تعالى:{وحرم الربا} [البقرة: 275] يقتضي تحريم كل زيادة، إذ الربا في اللغة الزيادة إلا ما أجمعنا على تخصيصه.

انظر: " المغني "(6/ 54)، " الحاوي "(6/ 92 - 93)، " الأم "(6/ 52 - 53).

(2)

اتفق أهل العلم على أن ربا الفضل لا يجري إلا في الجنس الواحد إلا سعيد بن جبير، فإنه قال: كل شيئين يتقارب الانتفاع بهما لا يجوز بيع أحدهما متفاضلا. كالحنطة والشعير، والتمر بالزبيب والذرة بالدخن، لأنهما يتقارب نفعهما، فجريا مجرى نوعي جنس واحد وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم:" بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدا بيد، وبيعوا البر بالتمر كيف شئتم " فلا يعول عليه - أي قول سعيد بن جبير -.

انظر: "المغني "(6/ 54). " المجموع " للنووي (9/ 401).

(3)

في المخطوط (التي) والصواب ما أثبتناه.

ص: 3624

الحديث (1)، فهذا معلوم لكل من يعرف لغة العرب، ويعرف معنى الإشارة، ويعرف ما في قوله: هذه الأصناف من العموم الشمولي المحيط بكل واحد منها، بحيث لا يخرج عنها واحد إلا بمخرج يقتضيه لغة، أو شرعا.

وإذا كان الأمر هكذا فواجب علينا العمل بما أفادته هذه العبارة النبوية، والوقوف عند هذه الإفادة، وحرام علينا مخالفتها بمجرد الرأي، ومحض الشبه التي لم يسوغ الشارع العمل بها، ولا جوز الالتفات إليها، على تقدير أنها لم تقع معارضة للدليل الصحيح، فكيف إذا وقعت معارضة له مخالفة لمدلوله، منافية لمضمونه! ولم يرد ما يصلح لتخصيص ما أفادته هذه العبارة النبوية، إلا ما ثبت في الصحيح (2) وغيرهما من حديث عائشة قالت:" قالت اشترى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن يهودي طعاما بنسيئة، وأعطاه درعا له رهنا " فأن هذا الحديث يفيد أن الرهن يقوم مقام التقابض في المختلفين جنسا، وأما ما قيل من أنه لا يعقل التفاضل والاستواء إلا مع الاتفاق في التقدير (3)

(1) تقدم من حديث " عبادة بن الصامت " بألفاظه.

(2)

تقم تخريجه.

(3)

لا خلاف في جواز التفاضل في الجنسين تعلمه إلا عن سعيد بن جبير - تقدم رده.

قال ابن قدامة في " المغني "(6/ 62): وفى لفظ: " إذا اختلفت هذه الأشياء فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " ولأنهما جنسان، فجاز التفاضل فيهما، كما لو تباعدت منافعها، ولا خلاف في إباحة التفاضل في الذهب والفضة من تقارب منافعها، فأما النسا، فكل جنسين يجري فيهما الربا بعلة واحدة، كالمكيل بالمكيل، والموزون بالموزون والمطعوم بالمطعوم، عند من يعلل به فإنه يحرم بيع أحدهما بالآخر نساء بغير خلاف نعلمه وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد ".

وفي لفظ: " لا بأس ببيع الذهب بالفضة، والفضة أكثرهما يدا بيد وأما نسيئة فلا، ولا بأس ببيع البر بالشعير، والشعير أكثرهما يدا بيد، وأما النسيئة فلا ". إلا أن يكون أحد العوضين ثمنا، والآخر مثمنا، فإنه يجوز النساء بينهما بغير خلاف، لأن الشرع أرخص في السلم والأصل في رأس المال الدراهم والدنانير، فلو حرم النساء ههنا لانسد باب السلم في الموزونات في الغالب.

فأما إن اختلفت علتهما كالمكيل بالموزون، مثل بيع اللحم بالبر ففيهما روايتان:

إحداهما: يحرم النساء فيهما وهو الذي ذكره الخرقي ههنا لأنهما مالان من أموال الربا، فحرم النسا فيهما، كالمكيل بالمكيل.

والثانية: يجوز النساء فيهما وهو قول النخعي، لأنهما لم يجتمعا في أحد وصفي علة ربا الفضل، فجاز النساء فيهما، كالثياب بالحيوان.

ص: 3625

كالذهب بالفضة، فإنهم موزونان، والبر بالشعير، فإنهما مكيلان ونحو ذلك.

ولا يعقل التفاضل مع الاختلاف جنسا وتقديرا، كالذهب بالبر، والشعير والفضة بهما، ونحو ذلك فيجاب عن ذلك بأن غاية ما فيه دعوى تخصيص الكلام النبوي بالعقل، وهذا إنما يتم إذا كان العمل بما يقتضيه الدليل ممتنعا عقلا كما هو مقرر في مواطنه، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل، فإن التفاضل معقول لو كانت النقود مثلا تكال، أو الطعام يوزن، ولو في بعض الأزمان. وعلى بعض الأحوال، وفى بعض الأمكنة. وقد كان هذا. فإن كتب التاريخ مصرحة بأن النقود في بعض الأمكنة تكال، والطعام في كثير من البلدان يوزن، وأيضا قد يبلغ ثمن الطعام إلى مقدار من الدراهم كثير عند شدة الغلاء، بحيث يعقل أن يقال: الطعام أكثر من الدراهم، فتقرر بهذا بطلان ما ادعوه من التخصيص بالعقل، لأنه إذا أمكن القدح ولو بوجبة بعيد في دعوى التخصيص بالعقل لم تتم دعوى من ادعى التخصيص بالعقل كما هو مقرر في مواطنه.

وأما ما يقال من أن في ذلك حرجا ومشقة فيقال لهذا القائل: ما وجه تخصيصك للحرج والمشقة بالمختلفين في الجنس والتقدير دون المختلفين في الجنس المتفقين في التقدير؟ فإن الكل مستو في ذلك، مثلا من أراد أن يشتري برا بشعير متفاضلا واجب عليه مع التفاضل التقابض كما يجب على من أن أراد أن يشتري برا بدراهم. ثم هذه المشقة المدعاة، والحرج الموهوم مندفع بأن يأخذ المشتري شيئا من المتاع فيرهنه عند البائع حتى يأتي بما عليه، فهل في هذا حرج يقبله ذهن من يفهم الحقائق، ويتعقل الحجج، ويعرف مواقع الكلام! نعم قد ادعى مدع أنه وقع .................

ص: 3626

الإجماع على جواز بيع مختلفي الجنس والتقدير أحدهما بالآخر من غير اشتراط التقابض (1)، فإن صح ما ادعاه هذا المدعي كان المخصص هو الإجماع عند من يقول بحجيته، والحق أنه لم يقم دليل لا من عقل ولا نقل يدل على حجيته، هذا على فرض إمكان نقله، وإمكان وقوعه وإمكان العلم به، والكل ممنوع. وقد أوضحت الكلام على حجية الإجماع في كتابي في الأصول الذي سميته: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول (2)، فإن شئت أن يتضح لك المقام بما لا يحتاج بعده إلى النظر في كلام فطالعه، ثم هذا المدعي للإجماع هو (بلدينا)(3) العلامة المغربي (4) رحمه الله فإن كان قد قلد في

(1) قال أبو حنيفة: لا يشترط التقابض فيهما كغير أموال الربا، وكبيع ذلك بأحد النقدين.

انظر تفصيل ذلك في " البناية في شرح الهداية "(7/ 461 - 465).

قال ابن قدامة (6/ 63): ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر والملح بالملح، مثلا بمثل، سواء بسواء، يدا بيد ". تقدم تخريجه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء " متفق عليه.

والمراد به القبض، بدليل أن المراد به في ذلك في الذهب والفضة ولهذا فسره عمر به ولأنهما مالان من أموال الربا علتهما واحدة فحرم التفرق فيهما قبل القبض كالذهب بالفضة، فأما إن اختلفت علتهما ن كالمكيل بالموزون عند من يعلل بهما.

فقال أبو الخطاب: يجوز التفرق فيهما قبل القبض رواية واحدة، لأن علتهما مختلفة، فجاز التفرق قبل القبض، كالثمن بالثمن، وبهذا قال الشافعي إلا أنه لا يتصور عنده ذلك إلا في بيع الأثمان بغيرها.

انظر: " الأم "(6/ 51 - 54). " بداية المجتهد " لابن رشد (3/ 259 - 260) بتحقيقنا.

(2)

(ص 280 - 350) بتحقيقنا.

(3)

في المخطوط [بلدينا] والصواب ما أثبتناه.

(4)

هو الحسن بن إسماعيل بن الحسين بن نسبة إلى مغارب صنعاء ثم الصنعاني حفيد الشارح بلوغ المرام. ولد بعد سنة 1140هـ.

انظر: "البدر الطالع " رقم (126)، " نيل الوطر"(1/ 319).

ص: 3627

ذلك غيره فلا نرى من هو؟ وإن كان قال: ذلك من جهة نفسه فيبعد عليه أن يستقرئ ما يقوله أهل البلدة، وهي مدينة صنعاء في هذه المسألة لكثرة من يعتقد في الإجماع من أهلها في عصره، وغالبهم مترد بأردية الخمول، مترمل في أثواب الاعتزال كما هو عادتهم وديدنهم وهجيراهم، فكيف يستقرئ ما عند جميع علماء هذه الجزيرة اليمنية وهي بالنسبة إلى جميع البلاد الإسلامية كغرفة من بحر متلاطم الأمواج، نعم قد وقع الاختلاف في هذه الأجناس إذا اختلفت، سواء اختلف التقدير، أو اتفق، فالجمهور اشترطوا التقابض عملا بالدليل الصحيح المصرح بأنها إذا اختلفت باعوا كيف شاؤوا إذا كان يدا بيد (1).

وقال أبو حنيفة (2) وأصحابه وابن علية أنه لا يشترط التقابض في ذلك. والحديث يرد عليهم، ويدفع قولهم. وأما الاستدلال بما عند النسائي، وابن ماجه، وأبي داود من حديث عبادة بن الصامت، وفيه:" وأمرنا أن نبيع البر بالشعير، والشعير بالبر، يدا بيد كيف شئنا "(3). فيجاب عنه بأن تخصيص النوعين بذلك ليس فيه ما يخالف ما في الأحاديث الواردة في كل الأصناف المختلف، فقد صرح فيه باشتراط التقابض بقوله: يدا بيد، وذلك هو المطلوب، ولو كان في ذكر هذين النوعين، وإهمال بقية الأنواع دليل

(1) انظر: " الأم "(6/ 51 - 52، 65).

(2)

" البناية في شرح الهداية "(7/ 471 - 472) يعتبر فيه التعيين ولا يعتبر فيه التقابض خلافا للشافعي في بيع الطعام بالطعام له قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المعروف يدا بيد ولأنه إذا لم يقبض في المجلس يتعاقب بالقبض، وللنقد مزيد فتحقق شبهة الربا، ولنا أنه مبيع متعين فلا يشترط فيه القبض كالثوب وهذا لأن الفائدة المطلوبة إنما هو التمكن من التصرف ويترتب ذلك على التعيين بخلاف الصرف لأن القبض فيه يتعين به ومعني قوله صلى الله عليه وسلم:" يدا بيد عينا بعين ". وتقدم قول الجمهور اشتراطهم التقابض عملا بالدليل الصحيح. انظر: " المغني "(6/ 63 - 64)

(3)

تقدم تخريجه.

ص: 3628

يدل على جواز ترك القابض في بقيتها لخرج بيع الذهب بالفضة، والفضة بالذهب، والتمر بالشعير، والبر ونحو ذلك، وهو خلاف مقصود المستدل، فإن هذه الأشياء من مختلف الجنس متفق التقدير. ومعلوم أن الاقتصار على بعض ألفاظ الحديث في بعض الروايات مع اشتماله على الجميع في الروايات الآخرة لا يصلح للاستدلال به، فكثير من الأحاديث تذكر بكمالها في رواية، ويقتصر على بعضها في بعض الحالات، كما يفعله البخاري في مكرراته، وكما يفعله غيره من علماء الرواية المتصدرين لجمع السنة.

والحاصل: أن أسعد الناس بالحق، وأحسنهم موافقة له، وأخذ به، وعملا بمضمونه من وقف (1) على قاله الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم من قوله:" فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " وما ورد بمعناه في الأحاديث الصحيحة ، ولم يتزحزح عن هذه الحجة بلا حجة، ولا تزلزل قدمه عن هذا البرهان بلا برهان.

وفي هذه المقدار كفاية لمن له هداية، كتبه المجيب محمد بن على الشوكاني - غفر الله له -.

(1) وهو الرأي الراجح قول الشوكاني رحمه الله اعتمادا وأخذا بدلالة الأحاديث الصحيحة.

انظر تفصيل ذلك مطولا في " الحاوي "(67/ 122 - 136). " المغني "(6 - 80). " الأم "(6 - 55).

ص: 3629