المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٧

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

- ‌بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

- ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

- ‌الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

- ‌بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

- ‌بلوغ المنى في حكم الاستمنى

- ‌جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:1 -بحث في نفقة الزوجات.2 -بحث في الطلاق المشروط.3 -بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.4 -بحث في اختلاف النقد المتعامل به

- ‌بحث في من أجبر على الطلاق

- ‌بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

- ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

- ‌بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

- ‌رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم

- ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

- ‌دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

- ‌بحث في " لا يبيع حاضر لباد

- ‌المسك الفايح في حط الجوايح

- ‌بحث في الربا والنسيئة

- ‌تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

- ‌كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

- ‌هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

الفصل: ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

؟

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد بن صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

ص: 3457

وصف المخطوط:

1 -

عنوان الرسالة من المخطوط: " بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا؟ ".

2 -

موضوع الرسالة: " فقه ".

3 -

أول الرسالة: بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل.

4 -

آخر ما وجد من الرسالة: " قلنا حديث في غاية السقوط لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة ".

5 -

نوع الخط: خط رقعة جيد.

6 -

عدد الصفحات: صفحتان.

7 -

عدد الأسطر في الصفحة: 21 سطرا.

8 -

عدد الكلمات في السطر: 14 كلمة.

9 -

حصلنا على هذا الجزء من الرسالة من الهند بواسطة الأخ الفاضل عادل حسن أمين جزاه الله خيرا.

10 -

الرسالة من المجلد الأول من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

ص: 3459

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

فإن وقوع الثلاث التطليقات بكلمة واحدة أو كلمات من دون تخلل. وقد اختلف أهل العلم فيها على أربعة أقوال:

الأول: وقوع جميعها، وهو مذهب الأئمة (1) وجمهور العلماء، وكثير من الصحابة وفريق من أهل البيت.

الثاني: عدم الوقوع مطلقا، لا واحدة ، ولا ما فوقها؛ لأنه بدعة محرمة، وهذا المذهب حكاه ابن حزم (2)، وحكى الإمام أحمد (3) ما يكفي، وقال ك هو مذهب الرافضة.

قلت: بل هو مذهب جماعة من التابعين (4) كما حكاه الليث، ومذهب ابن علية، وهشام بن الحكم، وجميع الإمامية. ومن أهل البيت عليهم السلام الباقر، والصادق، والناصر. وبه قال أبو عبيدة (5)، وبعض الظاهرية؛ لأن هؤلاء قالوا: إن الطلاق البدعي لا يقع والثلاث بلفظ واحد أو ألفاظ متتابعة لا يقع.

الثالث: وقوع الثلاث إن كانت المطلقة مدخولة، وواحدة إن لم يكن كذلك، وهذا مذهب جماعة من أصحاب ابن عباس، وإسحاق بن راهوية (6).

(1) ذكره ابن قدامة في " المغني "(10/ 334).

(2)

في " المحلى "(10/ 167).

(3)

انظر " المغني "(10/ 334 - 335).

(4)

انظر " مجموع الفتاوى "(33/ 8 - 9).

(5)

انظر " فتح الباري "(9/ 362 - 363).

(6)

عزاه إليه ابن حجر في " الفتح "(9/ 363).

ص: 3463

الرابع: أنه يقع واحدة رجعية من غير فرق المدخول بها وغيرها، وهذا مذهب ابن عباس على الأصح (1)، وابن إسحاق (2)، وعطاء (3) وعكرمة، وأكثر أهل البيت عليهم السلام، وهو أصح هذه الأقوال. ولنشرع الآن في سرد أدلته، ونشير إلى أدلة الأقوال المتقدمة في أثناء المقاولة، إشارة تلم بجميعها ميلا إلى الاختصار.

فنقول: من أدلة ذلك قوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) أي الطلاق الذي لكم فيه رجعة بشهادة السبب، وهو ما أخرجه الترمذي (5) وابن مردويه (6)، والحاكم (7) وصححه، والبيهقي في سننه (8)، من طريق هشام عن عروة عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان الرجل يطلق امرأته ما شاء أن يطلقها، وهي امرأته إذا ارتجعها، وهي في العدة، وإن طلقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل: والله لأطلقنك فتلبثي، ولأوذينك، قالت: وكيف ذلك؟ قال: أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة، فأخبرتها، فسكتت، حتى جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل القرآن:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} (9) قالت عائشة رضي الله عنها: فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا، من كان طلق ومن لم يطلق.

(1) عزاه إليه ابن حجر في " الفتح "(9/ 363).

(2)

عزاه إليه ابن حجر في " الفتح "(9/ 363).

(3)

عزاه إليه ابن حجر في " الفتح "(9/ 363).

(4)

[البقرة: 229].

(5)

في " السنن " رقم (1192) عن يعلى بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة.

ورواه الترمذي عن أبي كريب عن ابي إدريس عن هشام عن أبيه مرسلا، وقال: هذا أصح من حديث يعلى بن شبيب.

(6)

عزاه إليه ابن كثير في تفسيره (1/ 611).

(7)

في " المستدرك "(2/ 279) وقال: صحيح الإسناد، وتعقبه الذهبي بأن يعقوب بن حميد ضعفه غير واحد.

(8)

في السنن الكبرى (7/ 338).

(9)

[البقرة: 229].

ص: 3464

وخرجه (1) جماعات (2)، ولا يدل على المقصود منه. والظاهر أن الألف واللام في الطلاق للاستغراق (3)، فلا طلاق في غير ذلك. وأيضا قد تقرر عند المحققين من علماء البيان أن تحلية المسند إليه باللام مفيدة للحصر (4). وأيضا فلو كان يصح إرساله دفعة واحدة لناقض الخبر بكونه مرتين.

وفيها حديث ابن عباس: " الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واحدة، فقال عمر بن الخطاب: " إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم " فأمضاه عليهم ". أخرجه مسلم (5).

وفي صحيحه (6) أيضًا عن طاووس أن أبا الصهباء قال لابن عباس: هاب من هناتك، ألم يكن الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر واحدة؟ فقال: قد كان ذلك، فلما كان في عهد عمر تتابع الناس في الطلاق، فأجازه عليهم.

وفي سنن أبي داود (7) عن طاوس أن رجلا يقال له: أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس، فقال: أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته قبل أن يدخل لها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر؟ فقال ابن عباس: بلى، كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله، وأبي بكر، وصدرا من إمارة عمر، فلما رأى الناس فيها قال: أجيزوهن عليهم.

(1) أخرجه مالك في " الموطأ "(2/ 588) عن هشام عن عروة عن أبيه مرسلا.

(2)

كلمة غير واضحة في المخطوط.

(3)

انظر " الكوكب المنير "(3/ 132 - 133)، " المسودة "(ص 105).

(4)

انظر " معترك الأقران في إعجاز القرآن "(1/ 140 - 141).

(5)

في صحيحه رقم (1472).

وأخرجه أبو داود رقم (2200) والنسائي (6 145) وهو حديث صحيح.

(6)

أي مسلم في صحيحه رقم (17/ 1472).

(7)

في " السنن " رقم (2199). وهو حديث ضعيف.

ص: 3465

في مستدرك الحاكم (1) من حديث عبد لله بن المؤمل، عن ابن أبي مليكة أن أبا الجوزاء أتى ابن عباس فقال: ألم تعلم أن الطلاق ثلاثا كن يرددن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى واحدة؟ قال: نعم. قال الحاكم (2): هذا حديث صحيح. وهذه غير طريقة طاوس عن أبي الصهباء.

وقد أخرج حديث ابن عباس هذا الشافعي (3)، وعبد الرزاق (4)، والنسائي (5) والبيهقي (6).

(1)(2/ 169).

(2)

في " المستدرك "(2/ 169).

(3)

في مسنده (2/ 37 رقم 116 - ترتيب).

(4)

في مصنفه (3/ 684).

(5)

(6/ 142).

(6)

في " السنن الكبرى "(7/ 367).

قال القرطبي في " المفهم "(4/ 239 - 242): حديث ابن عباس هذا يدل ظاهرا على أنه كن الطلاق ثلاثا واقعا لازما في تلك الأعصار، فيستدل به عليهم على جهة الإلزام، وإن كنا لا نرى التمسك به، لما يلي:

1) أنه ليس حديثا مرفوعًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ظاهره الإخبار عن أهل عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر أبي بكر باتفاقهم على ذلك وإجماعهم عليه، وليس ذلك بصحيح، فأول من خالف ذلك بفتياه ابن عباس، فروى أبو داود - رقم 2197 - من رواية مجاهد عنه قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال: إنه طلق امرأته ثلاثا. قال: فسكت حتى ظننت أنه رادها إليه، ثم قال: ينطلق أحدكم يركب الحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس، قال:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] وإنك لم تتق الله، فما أجد لك مخرجا، عصيت ربك، وبانت منك امرأتك.

وفي " الموطأ "- (2/ 550) - عنه: أن رجلا قال لابن عباس: إني طلقت امرأتي مئة تطليقة، فقال له ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبعة وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا، وقال أبو داود: قول ابن عباس هو: إن طلاق الثلاث يبين من الزوجة، فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، مدخولا بها كانت، أو غير مدهول بها. ونحوه عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمر. وفي " الموطأ ": أن رجلا جاء إلى ابن مسعود فقال: إني طلقت امرأتي ثماني تطليقات. قال ابن مسعود: فماذا قيل لك؟ قال: قيل لي: إنها بانت منك، قال ابن مسعود: صدقوا، هو كما يقولون، فهذا يدل على وجود الخلاف فيها في عصر الصحابة، وأن المشهور عندهم، المعمول به خلاف مقتضى حديث ابن عباس، فبطل التمسك به.

2) لو سلمنا أنه حديث مرفوع للنبس صلى الله عليه وسلم لما كان فيه حجة لأن ابن عباس هو راوي الحديث وقد خالفه بعمله وفتياه، وهذا يدل: على ناسخ ثبت عنده، أو مانع شرعي منعه من العمل. ولا يصح أن يظن به: أنه ترك العمل بما رواه مجانا أو غالطا، لما علم من جلالته، وورعه، وحفظه وتثبته. قال أبو عمر بن عبد البر بعد أن ذكر عن ابن عباس فتياه من طرق متعددة بلزوم الطلاق ثلاثا من كلمة واحدة: ما كان ابن عباس ليخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين إلى رأي نفسه، ورواية طاووس وهن وغلط، لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز، والعراق، والشام، والمشرق، والمغرب، وقد قيل: إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس.

3) لو سلمنا كل ما تقدم لما كان فيه حجة للاضطراب والاختلاف الذي في سنده، ومتنه، وذلك أن أبا الصهباء رواه عن ابن عباس بتلك الألفاظ المختلفة، التي وقعت في كتاب مسلم: كما ذكرناها ،

وقد روى أبو داود من حديث أيوب عن غير واحد عن طاووس: أن رجلا يقال له أبا الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس ..... " الحديث تقدم.

قال القرطبي: فقد اضطرب فيه أبو الصهباء عن ابن عباس في لفظه كما ترى. وقد اضطرب فيه طاووس، فمرة رواه عن أبي الصهباء، ومرة عن ابن عباس نفسه، ومهما كثر الاختلاف والتناقض ارتفعت الثقة لا سيما عند المعارضة على ما يأتي. ثم العجب أن معمرا روى عن ابن طاووس عن أبيه: أن ابن عباس سئل عن رجل طلق امرأته ثلاثا، فقال له: لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا. وظاهر هذا أنه لا مخرج له من ذلك، وأنها. وهذه كرواية الجماعة الكثيرة عن ابن عباس، كسعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، وعمرو بن دينار، ومحمد بن إلياس بن البكير، والنعمان بن أبي عياش، كلهم روى عنه: أنه ثلاث، وأنها لا تحل له إلا من زوج.

4) لو سلمنا سلامته من الاضطراب لما صح أن يحتج به لأنه لا يلزم منه ما يدل على أن أهل ذلك العصر الكريم كان يكثر فيهم إيقاع المحرمات والتساهل فيها. وترك الإنكار على من يرتكبها، وبيان اللزوم أن ظاهره أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقع الطلاق الثلاث كثيرا منهم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر أبي بكر وسنتين من خلافة عمر، أو ثلاث، ويستفتون علماءهم فيفتونهم بأنه واحدة، ولا ينكرون عليهم.

مع أن الطلاق ثلاثا في كلمة واحدة محرم بدليل قول ابن عمر وابن عباس، عن محمود بن لبيد - قال البخاري: له صحبة - قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان، ثم قال:" أيلعب بكتاب الله، وأنا بين أظهركم؟ " هذا يدل على أنه محرم، ومنكر. فكيف يكثر فيهم العمل بمثل هذا، ولا ينكرونه؟ هذا محال على قوم وصفهم الله تعالى بقوله:{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110] إلى غير ذلك مما وصفهم الله تعالى به. لا يقال: هذا يبطل بما وقع عندهم من الزنى والسرقة وغير ذلك من الأسباب التي ترتبت عليها الأحكام؛ لأنا نقول: هذه لما وقعت أنكروا تلك الأمور، وأقاموا الحدود فيها، ولم يفعلوا ذلك فيما ذكرناه، فافترقا. وصح ما أبديناه. فإن قيل: لعل تحريم ذلك لم يكن معلوما عندهم. قلنا: هذا باطل، فإنهم أعرف بالأحاديث ممن بعدهم، وقد ذكرنا ما روي في ذلك عن ابن عباس وابن عمر. والله تعالى أعلم.

5) إن ظاهر ذلك الحديث خبر عن جميعهم أو عن معظمهم، والعادة تقتضي - فيما كان هذا سبيله - أن يفشو، وينتشر ويتواتر نقله، وتحيل أن ينفرد به الواحد.

ولم ينقله عنهم إلا ابن عباس، ولا عنه إلا أبو الصهباء. وما رواه طاووس عن ابن عباس في الأصل قد رواه أبو داود عن طاووس عن أبي الصهباء عن ابن عباس ولو رواه عنه لم يخرج بروايته عنه من كونه خبر واحد غير مشهور. وهذا الوجه يقتضي القطع ببطلان هذا الخبر. فإن لم يقتض ذلك، فلا أقل من أن يفيدنا الريبة فيه والتوقف. والله تعالى أعلم.

6) تطرق التأويل إليه. ولعلمائنا فيه تأويلان:

أحدهما: ما قاله بعض البغداديين: إن معناه الإنكار على من يخرج عن سنة الطلاق بإيقاع الثلاث، والإخبار عن تساهل الناس في مخالفة السنة في الزمان المتأخر عن العصرين السابقين، فكأنه قال: كان الطلاق الموقع الآن ثلاثا في ذينك العصرين واحدة. كما يقال: كان الشجاع الآن جبانا في عصر الصحابة، وكان الكريم الآن بخيلا في ذلك الوقت، فيفيد تغير الحال بالناس.

ثانيهما: قال غير البغداديين: المراد بذلك الحديث من تكرر الطلاق منه. فقال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق. فإنها كانت عندهم محمولة في العزم على التأكيد. فكانت واحدة. وصار الناس بعد ذلك يحلونها على التحديد. فألزموا ذلك لما ظهر قصدهم إليه. ويشهد بصحة هذا التأويل قول عمر رضي الله عنه: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، وقد تأوله غير علمائنا، على أن ذلك كان في المطلقة قبل الدخول: كما دل عليه حديث أبي داود، الذي تقدم ذكره، وأبدى بين المدخول بها وغيرها فرقا. فقال: إنما جعلوه في غير المدخول بها: أنت طالق، وقد أبانها وبقي قوله: ثلاثا.

لم يصادف محلا. فأجروا المتصل مجرى المنفصل. وهذا ليس بشيء، فإن قوله: أنت طالق ثلاثا. كلام واحد متصل غير منفصل. ومن المحال البين إعطاء الشيء حكم نقيضه، وإلغاء بعض الكلام الواحد. وأشبه هذه التأويلات الثاني، على ما قررناه. والله تعالى أعلم.

وانظر " فتح الباري "(9/ 362 - 367).

ص: 3466

وأخرج الإمام أحمد في مسنده (1) عن سعيد بن إبراهيم قال: أخبرني محمد بن إسحاق قال: حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس قال: طلق ركانة امرأته ثلاثا في مجلس واحد، فحزن عليها حزنا شديدا، قال: فسأله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: " طلقتها ثلاثا في مجلس واحد؟ " قال: نعم. قال: " فإنك تملك واحدة، فأرجعها إن شئت " قال: فراجعها. وقد صحح الإمام أحمد هذا الإسناد وحسنه، ولذا صححه الحاكم، وأخرجه أيضًا أبو داود (2) عن ابن عباس بلفظ: فقال: " راجع امرأتك أم ركانة وإخوته " فقال: إني طلقتها ثلاثا، فقال:" قد علمت، راجعها " وتلا {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} (3).

ومما يدل على ذلك أيضًا ما أخرجه النسائي (4) عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثا جميعا فقال: يا رسول الله، ألا أقتله؟ فكان إنكاره دليلا على أن مثل هذا الطلاق منكور لا يجوز في شريعته.

ومنها أيضًا ما أخرجه البخاري (5) .............................

(1)(1/ 265) وفي إسناده محمد بن إسحاق. قال النسائي وغيره: ليس بالقوي. وقال الدارقطني: لا يحتج به.

انظر: " الميزان "(3/ 468).

(2)

في " السنن " رقم (2196) وهو حديث حسن.

(3)

[الطلاق: 1].

(4)

في " السنن "(6/ 142 رقم 3401) وهو حديث ضعيف.

(5)

في صحيحه رقم (5273).

ص: 3469

والنسائي (1) في قصة المختلعة بلفظ: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ".

والقول بأن الأمر بالشيء نهي عن ضده (2) قوي كما تقرر في الأصول، فيكون في هذا الحديث المنع من الزيادة. وقد جعل في الكشاف (3) قوله تعالى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (4) في الثاني الذي يراد به مطلق التكرار مثل: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} (5) أي: الطلاق المعتبر شرعا متعدد لا مرسل دفعة واحدة، وهذا في حكم النص على مذهب المانع من التوالي، وألفاظ بمنزلة الواحدة.

وقد أثبت جار الله (6) ها هنا، ورفض التمذهب مع أنه حنفي الفروع. قال أهل القول الأول - أعني: القائلين بالتتابع - قال الله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} (7)، وقال: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (8)، وقال:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} (9)، وقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} (10). ولم يفرق في هذه

(1) في " السنن "(6/ 169).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2065) لهم من حديث ابن عباس.

(2)

انظر الرسالة رقم (66). من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.

وانظر: " الكوكب المنير "(3/ 51)، " المستصفى "(2/ 11)، " البرهان " للجويني (1/ 265).

(3)

(1/ 443).

(4)

[البقرة: 229].

(5)

[الملك: 4].

(6)

أي الزمخشري في " الكشاف "(1/ 443).

(7)

[البقرة: 229، 230].

(8)

[البقرة: 237].

(9)

[البقرة: 241].

(10)

[الأحزاب: 49].

ص: 3470

الآيات بين أن تكون هذه الثلاث مجموعة أو مفرقة، فدلت على وقوع الثلاث دفعة واحدة.

قلنا: هذه عمومات قد خصصت بأدلة صورة النزاع السابقة، أو إطلاقات قد ثبتت بالآية النازلة على سبب مبين للمراد، وهي:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} (1) وبالسنة النبوية.

قالوا في الصحيحين (2) أن عويمر العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن يأمره بطلاقها، فدل على جواز الثلاث ووقوعها.

قلنا: إنما سكت صلى الله عليه وآله وسلم لأن الملاعنة تبين بنفس اللعان، وهذا تكلم بكلام من قبل نفسه لا محل له، فكأنه طلق أجنبية، ولا يجب إنكار مثل ذلك، فلا يكون السكوت عنه تقريرا (3).

قالوا: في البخاري (4) عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته فتزوجت فسئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل تحل للأول؟ فقال: " لا حتى يذوق

(1)[البقرة: 229].

(2)

البخاري في صحيحه رقم (5259) ومسلم في صحيحه رقم (1492).

قال الأمير الصنعاني في " سبل السلام "(6/ 167): واستدلوا بما في الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرته صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليه، فدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها، وأجيب بأن هذا لتقرير لا يدل على الجواز ولا على وقوع الثلاث لأن النهي إنما هو فيما يكون في طلاق رافع لنكاح كان مطلوب الدوام، والملاعن أوقع الطلاق على ظن أنه بقي له إمساكها، ولم يعلم أنه باللعان حصلت فرقة الأبد سواء كان فراقه بنفس اللعان، أو بتفريق الحاكم، فلا يدل على المطلوب.

قال الحافظ في " الفتح "(9/ 367): " وقد تعقب بأن المفارقة في الملاعنة وقعت بنفس اللعان فلم يصادف تلطيقه إياها ثلاثا موقعا، وأجيب بأن الاحتجاج به من كون النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه إيقاع الثلاث مجموعة، فلو كان ممنوعا لأنكره، ولو وقعت الفرقة بنفس اللعان.

(3)

انظر التعليقة السابقة.

(4)

في صحيحه رقم (5261).

ص: 3471

عسيلتها كما ذاق الأول "، فلم ينكر صلى الله عليه وآله وسلم تلك، وهو دليل على إباحة الثلاث ووقوعها (1).

قلنا: لا دليل فيه على مطلوبكم، بل غايته وقوع احتمال الثلاث مفرقة على الوجه المشروع الذي لا ينكره، ومجتمعة، والمحتمل لا يثبت به الحجة في محل النزاع، على أنا لو سلمنا لكم اجتماعها لم يستلزم ذلك التسليم تقرير مجموعها، بل الظاهر تقرير مطلق الوقوع.

قالوا: في الصحيحين (2) من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن أن فاطمة بنت قيس

(1) قال القرطبي في " المفهم "(4/ 244 - 245): وحجة الجمهور في اللزوم من حيث النظر ظاهر جدا، وهو أن المطلقة ثلاثا لا تحل للمطلق حتى تنكح زوجا غيره، ولا فرق بين مجموعها ومفرقها لغة وشرعا، وما يتخيل من الفرق صوري ألغاه الشرع اتفاقا في النكاح والعتق والأقارير، فلو قال الولي: أنكحتك هؤلاء الثلاث في كلمة واحدة انعقد، ك ما لو قال: أنكحتك هذه وهذه وهذه، وكذا اعتق والإقرار وغير ذلك من الأحكام، واحتج من قال: إن الثلاث إذا وقعت مجموعة حملت على الواحدة بأن من قال: أحلف بالله ثلاثا لا يعد حلفه إلا يمينا واحدة، فليكن المطلق مثله، قال الحافظ في " الفتح " (9/ 365): " وتعقب باختلاف الصيغتين، فإن المطلق ينشئ طلاق امرأته وقد جعل أمد طلاقها ثلاثا، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، فكأنه قال: أنت طالق جميع الطلاق. وأما الحلف فلا أمد لعدد أيمانه فافترقا.

وفي الجملة فالذي وقع في هذه المسألة نظير ما وقع في مسألة المتعة سواء، أعني قول جابر: إنها كانت تفعل ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر، فقال: ثم نهانا عمر عنها فانتهينا، فالراجح في الموضعين تحريم المتعة وإيقاع الثلاث للإجماع الذي انعقد في عهد عمر على ذلك، ولا يحفظ أن أحدا في عهد عمر خالفه في واحدة منهما. وقد دل إجماعهم على وجود ناسخ وإن كان خفي عن بعضهم قبل ذلك حتى ظهر لجميعهم في عهد عمر، فالمخالف بعد هذا الإجماع منابذ له، والجمهور على عدم اعتبار من أحدث الاختلاف بعد الاتفاق، والله أعلم.

انظر: " المغني "(10/ 330 - 334).

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (1480) ولم يخرجه البخاري.

قال الأميري الصنعاني في " سبل السلام "(6/ 168): وأجيب عنه بأنه ليس في الحديث تصريح بأنه أوقع الثلاث في مجلس واحد فلا يدل على المطلوب.

قالوا: عدم استفصاله صلى الله عليه وسلم هل كان في مجلس أو مجالس دال على أنه لا فرق في ذلك. ويجاب عنه بأنه لم يستفصل لأنه كان الواقع في ذلك العصر غالبا عدم إرسال الثلاث كما تقدم، وقولنا: غالبا، لئلا يقال قد أسلفنا أنها وقعت الثلاث في عصر النبوة، لأنا نقول: نعم، لكن نادرا.

ص: 3472

أخبرته صلى الله عليه وآله وسلم أن زوجها طلقها ثلاثا، فهل لها من نفقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:" ليس لها من نفقة ".

قلنا: ليس بصريح في جمعها كما سبق، على أنه قد ثبت في الصحيح (1) في خبرها نفسها من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها تطليقة بقيت لها من طلاقها، وفي لفظ في الصحيح أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات. فهذا مبين لذلك الاحتمال، فأي مثبت في هذا الاستدلال.

قالوا: أخرج عبد الرزاق في مصنفه (2) عن يحيى بن العلاء، عن عبد الله بن الوليد، عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال: طلق جدي امرأته ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذكر له ذلك، فقال النبي:" ما اتقى الله جدك، أما الثلاث فله، وأما تسعمائة وسبع وسبعون فعدوان وظلم، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له "، وفي رواية:" إن أباكم لم يتق فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير السنة، تسعمائة وسبع وتسعون إثم في عنقه ".

قلنا: حديث في غاية السقوط؛ لأن يحيى بن العلاء ضعيف من المرتبة الرابعة (3).

(1) في صحيح مسلم رقم (113/ 1433).

(2)

(6/ 393 رقم 11339).

قلت: وأخرجه الدارقطني في " السنن "(4/ 20).

قال ابن قدامة في " المغني "(10/ 334): ولأن النكاح ملك يصح إزالته متفرقا، فصح مجتمعا كسائر الأملاك.

(3)

انظر " تهذيب التهذيب "(11/ 229 - 230).

ص: 3473