المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات - الفتح الرباني من فتاوى الإمام الشوكاني - جـ ٧

[الشوكاني]

فهرس الكتاب

- ‌بحث في لزوم الإمساك إذا علم دخول شهر رمضان أثناء النهار

- ‌بلوغ السائل أمانيه بالتكلم على أطراف الثمانية

- ‌بحث في تحريم الزكاة على الهاشمي

- ‌الجواب المنير على قاضي بلاد عسير

- ‌بحث في جواز امتناع الزوجة حتى يسمى لها المهر

- ‌بلوغ المنى في حكم الاستمنى

- ‌جواب على الأسئلة الواردة من العلامة أحمد بن يوسف زبارة، وتتضمن الأبحاث التالية:1 -بحث في نفقة الزوجات.2 -بحث في الطلاق المشروط.3 -بحث في الصوم لي وأنا أجزي به.4 -بحث في اختلاف النقد المتعامل به

- ‌بحث في من أجبر على الطلاق

- ‌بحث فيمن قال امرأته طالق ليقضين غريمه إن شاء الله، ولم يقضه

- ‌بحث في الطلاق الثلاث مجتمعة هل يقع أم لا

- ‌بيان اختلاف الأئمة في مقدار المدة التي يقتضي الرضاع في مثلها التحريم

- ‌رسالة في رضاع الكبير هل يثبت به حكم التحريم

- ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

- ‌دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات

- ‌بحث في " لا يبيع حاضر لباد

- ‌المسك الفايح في حط الجوايح

- ‌بحث في الربا والنسيئة

- ‌تنبيه ذوي الحجا عن حكم بيع الرجا

- ‌كشف الأستار عن حكم الشفعة بالجوار

- ‌هداية القاضي إلى حكم تخوم الأراضي

الفصل: ‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

‌إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات

تأليف

محمد بن علي الشوكاني

حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه

محمد صبحي بن حسن حلاق

أبو مصعب

(1)

ص: 3509

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.

وبعد:

فإنه ورد هذا السؤال من سيدي العلامة المفضال، حسنة الآل، بقية أرباب الزهد والحلال إسماعيل بن أحمد بن محمد الكبسي (1) - كثر الله فوائده، ومد على الطلاب موائده - وهذا لفظه:

من حسنات علماء الإسلام - كثر الله وجودهم الملك العلام - حل ما أشكل في خيار المغابنة، وإيضاح المرام، هل له حكم خيار الإحازة كما قاله ابن بهران - رحمه الله تعالى - ناقلا عن الغيث (2): أنه في التحقيق يرجع إلى خيار الإحازة؟ فمع هذا إن كان المبيع باقيا على صفته من غير زيادة ولا نقص فلا إشكال في أن الحكم الرد بالخيار، أو الإمضاء، وإن كان قد زاد أو نقص فما الحكم؟ هل يمتنع الرد ويلزم ما بين الثمن والقيمة كما نرى عليه الحكام في العصر إذا ادعى مدع الغبن فيما باعه عنه غيره أنهم يأمرون من أول الأمر بتقويم عدلين، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، أم لا يمتنع

(1) ولد تقريبا سنة 1150 هـ، وهو أحد علماء صنعاء المعاصرين، له عرفان بالنحو والصرف، والمعاني والبيان، والفقه، وإلمام بالأصول ولا سيما أصول الدين، وهو بمكان من الزهد والعفة والقنوع بما يصل إليه، وإن كان يسيرا.

قال الشوكاني في " البدر الطالع " رقم (87): وله إلي سؤالات وكان ساكنا الروضة، فأرسلها إلي مع شيخنا العلامة الحسن بن إسماعيل المغربي رحمه الله، فأجبت عليها بجواب طويل، وأرسلتها إليه مع شيخنا المذكور ....

قال في " نيل الأوطار "(1/ 267): توفي صاحب الترجمة يوم الجمعة لست عشر ليلة خلت من صفر سنة 1206 هـ.

انظر: " نيل الأوطار "(1/ 261 - 267)، " البدر الطالع " رقم (87).

(2)

تقدم التعريف بهذا الكتاب.

ص: 3519

الرد مطلقا؟ فالكل مشكل، أو لخيار المغابنة حكم خيار العيب، وهو به أشبه من حيث إن كل واحد منهما واقع مع التزام العقد، فيتمشى عمل الحكام، لكنه لم يظهر مأخذه من كلام أهل المذهب الشريف وغيرهم، ولا من نص عليه من أهل العلم، وبقي إشكال آخر في إلزام الحكام للبائع المدعي للغبن بتقويم عدلين من أول الأمر، وجعل أجرة العدلين بينهما نصفين، وتقويمهما هو بينة يلزم المدعي، وكان الظاهر إلزام مدعي الغبن البينة، والمشتري اليمين؟ فأفيدوا في الأطراف كلها - أحيا الله بوجودكم الشريعة الغراء، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وآله الكرام - انتهى السؤال.

ص: 3520

وقد أجاب عليه ثلاثة من علماء الإسلام، هم في كل فن راسخو الأقدام، بل هم ورابعهم السائل، كثر الله فوائده.

أربعة (1) عندي هم ما هم

أعلم من يهدي طريق الصواب

فمن رام الوقوف على تحقيق الحق في هذه المسألة فليضم ما حرروه إلى ما أحرره - إن شاء الله - هنا فأقول، مستعينا بالله، ومتكلا عليه:

إن الخيارات الثلاثة عشر المعدودة في كتب الفقه كل واحد منها لا يخلو عن نوع من أنواع الغرر، فهو العلة المقتضية للفسخ في جميعها، ورجوع بعضها إليها ظاهر لا يخفى، ورجوع البعض الآخر فيه بعض خفاء يزول بالبيان، ونحن الآن نبين لك ذلك لتعلم صحة ما ذكرناه، فنقول:

الأنواع التي ترجع إلى الغرر رجوعا واضحا هو تسعة:

الأول: خيار فقد الصفة (2)؛ فإنه إنما ثبت الفسخ به لكون المشتري لما فقد الصفة التي اعتقد وجودها في المبيع كان مغرورا في الجملة، وإن لم يكن للبائع عناية في ذلك؛ إذ المراد وجود الغرر، فإن الباعث على المبيع هو كون المشتري اعتقد المبيع متصفا بتلك الصفة، هذا على فرض أنها لم تكن مشروطة، ولكنه قد حصل العلم بأن المشتري كان عند العقد معتقدا لوجودها، أما إذا كانت مشروطة فالأمر أوضح.

الثاني: خيار الخيانة في المرابحة (3)، ....................

(1) انظر " المغني "(66/ 266).

(2)

انظر " المغني "(6/ 33 - 34).

(3)

قال العيني في " البناية في شرح الهداية "

(7/ 413 - 415): المرابحة نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن مع زيادة ربح.

وقيل: نقل ما ملكه من السلع بما قام عندهم.

وقال " القدوري " المرابحة: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول مع زيادة ربح.

والمرابحة: مصدر رابح من باب المفاعلة الذي يستدعي مشاركة الاثنين.

وانظر: " الحاوي الكبير "(6/ 339).

قال الماوردي في " الحاوي الكبير "(6/ 339): بيع المرابحة، فصورته: أن يقول: أبيعك هذا الثوب مرابحة، على أن الشراء مائة درهم وأربح في كل عشرة واحد، فهذا بيع جائز لا يكره، وحكى عن عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس عنهما: أنهما كرها ذلك مع جوازه.

وحكي عن إسحاق بن راهويه: أنه أبطله ومنع من جوازه، استدلالا بأن الثمن مجهول، وإن كذبه في إخبار الشراء غيري مأمون.

وقال النووي في " الروضة "(3/ 185): " هو بيع جائز من غير كراهة، وهو عقد يبني الثمن فيه على ثمن البيع الأول مع زيادة، وله عبارات متداولة ".

ص: 3521

والتولية (1)، فإن الغرر فيه في غاية الوضوح، بل هو أظهر أنواع الغرر؛ لأن .......................

(1) بيع التولية: هو البيع بمثل ثمنه من غير نقص ولا زيادة. وحكمه في الإخبار بثمنه. وتبيين ما يلزمه تبيينه، حكم المرابحة في ذلك كله، ويصح بلفظ البيع ولفظ التولية.

" المغني "(6/ 274).

التولية: قال ابن قدامة في " المغني "(6/ 195): " وإن قال: ولني ما اشتريته بالثمن فقال: وليتك، صح، إذا كان الثمن معلوما لهما، فإن جهله أحدهما، لم يصح ".

وقيل التولية: نقل ما ملكه بالعقد الأول بالثمن الأول من غير زيادة ربح.

" البناية "(7/ 413).

ثم قال صاحب " البناية "(7/ 414 - 415): والبيعان جائزان - المرابحة والتولية - لاستجماع شرائط الجواز والحاجة ماسة إلى هذا النوع من البيع لأن الغبي الذي لا يهتدي في التجارة يحتاج إلى أن يعتمد على فعل الذكي المهتدي، ويطيب نفسه بمثل ما اشترى وبزيادة ربح، فوجب القول بجوازها. ولهذا كان مبنناهما على الأمانة والاحتراز عن الخيانة وعن شبهتها، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد الهجرة ابتاع أبو بكر رضي الله عنه بعيرين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:" ولني أحدهما " فقال: هو لك بغير شيء، فقال عليه الصلاة والسلام:" أما بغير ثمن فلا ".

- وفي رواية البخاري رقم (2138): من حديث عائشة قال صلى الله عليه وسلم: " .... قد أخذتها بالثمن " -.

ولا تصح المرابحة والتولية حتى يكون العوض مما له مثل لأنه إذا لم يكن له مثل لو ملكه ملكه بالقيمة وهو مجهولة، ولو كان المشتري باعه مرابحة ممن يملك ذلك البدل وقد باعه بربح درهم أو بشيء من المكيل موصوف جاز لأنه يقدر على الوفاء بما التزم. وإن باعه بربح (ده بازده) لا يجوز لأنه باعه برأس المال وببعض قيمته لأنه ليس من ذوات الأمثال، ويجوز أن يضيف إلى رأس المال أجرة القصار والطراز والصبغ، والفتل وأجرة حمل الطعام لأن العرف جار بإلحاق هذه الأشياء برأس المال في عادة التجار.

ولأن كل ما يزيد في المبيع أو في قيمته يلحق به هذا هو الأصل، وما عددناه بهذه الصفة لأن الصبغ وأخواته يزيد في العين والحمل يزيد في القيمة. إذ القيمة تختلف باختلاف المكان.

ويقول قام علي بكذا، ولا يقول اشتريته بكذا كيلا يكون كاذبا.

فإن اطلع المشتري على خيانة في المرابحة فهو بالخيار عند أبي حنيفة إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه.

وإن اطلع على خيانة في التولية أسقطها من الثمن، وقال الثمن. وقال أبو يوسف: يحط فيهما، وقال محمد: يخير فيهما.

وقال ابن قدامة في " المغني "(6/ 266): بيع المرابحة: هو البيع برأس المال وربح معلوم ويشترط علمهما برأس المال فيقول: رأس مال فيه، أو هو علي بمائة بعتك بها وربح عشرة، فهذا جائز لا خلاف في صحته، ولا نعلم فيه عند أحد كراهة، وإن قال: بعتك برأس مال فيه وهو مائة، وأربح في كل عشرة درهما، أو قال:(ده يازده أو ده داوزده) - فارسية بمعنى ما تقدم، فقد كرهه أحمد.

ص: 3522

الخيانة فيهما غرر صادر من جهة البائع بلا شك ولا شبهة (1).

الثالث: خيار الصبرة (2) التي علم .........................

(1) انظر التعليقة السابقة.

(2)

الصبرة: الطعام المجتمع كالكومة، وجمعها صبر.

قال ابن قدامة في " المغني "(6/ 201 - 203): ولا يضر عدم مشاهدة باطن الصبرة، فإن ذلك يشق، لكون الحب بعضه على بعض، ولا يمكن بسطها حبة حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر، فاكتفي برؤية ظاهره، بخلاف الثوب فإن نشره لا يشق ولم تختلف أجزاؤه. ولا يحل لبائع الصبرة أن يغشها، بأن يجعلها على دكة، أو ربوة أو حجر ينقصها، أو يجعل الرديء في باطنها أو المبلول، ونحو ذلك.

لما روى أبو هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على صبرة من طعام، فأدخل يده فنالت أصابعه بللا، فقال:" يا صاحب الطعام، ما هذا؟ " قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال:" أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس؟ " ثم قال: " من غشنا فليس منا ".

- أخرجه مسلم في صحيحه رقم (102) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224) وأبو داود رقم (3452) وأحمد (2/ 242) من طرق -.

فإذا وجد ذلك، ولم يكن المشتري علم به، فله الخيار بين الفسخ وأخذ تفاوت ما بينهما، لأنه عيب، وإن بان تحتها حفرة أو بان باطنها خيرا من ظاهرها فلا خيار للمشتري لأنه زيادة له.

وإن علم البائع ذلك، فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة به، وإن لم يكن علم، فله الفسخ، كما لو باع بعشرين درهما، فوزنها بصنجة ثم وجد الصنجة زائدة، كان له الرجوع، وكذلك لو باع بمكيال ثم وجده زائدا. ويحتمل أنه لا خيار له لأن الظاهر أنه باع ما يعلم، فلا يثبت له الفسخ بالاحتمال.

ص: 3523

قدرها البائع فقط (1)، فإن إقدام المشتري على شراء ما لم يعلم بقدره إقدام على جهالة،

(1) قال أحمد: ومن عرف مبلغ شيء لم يبعه صبرة. وكرهه عطاء وابن سيرين، ومجاهد وعكرمة.

وبه قال مالك، وإسحاق. وروي ذلك عن طاووس، قال مالك: لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك. وعن أحمد أن هذا مكروه غير محرم، فإن بكر بن محمد روى عن أبيه، أنه سأله عن الرجل يبيع الطعام جزافا وقد عرف كيله، وقلت له: إن مالكا يقول: إذا باع الطعام ولم يعلم المشتري فإن أحب أنيرده رده، قال: هذا تغليظ شديد. ولكن لا يعجبني إذا عرف كيله، إلا أن يخبره، فإن باعه، فهو جائز عليه، وقد أساء.

ولم ير أبو حنيفة، والشافعي بذلك بأسا؛ لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره، فمع العلم من أحدهما أولى.

ووجه الأول: ما روى الأوزاعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من عرف مبلغ شيء فلا يبعه جزافا حتى يبينه " - أخرجه عبد الرزاق في مصنفه (8/ 131).

قال القاضي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة. وهو يعلم كيله. والنهي يقتضي التحريم، وأيضا الإجماع الذي نقله مالك.

ولأن الظاهر أن البائع لا يعدل إلى البيع جزافا مع علمه بقدر الكيل، إلا للتغرير بالمشتري والغش له، ولذلك أثر في عدم لزوم العقد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:" من غشنا فليس منا " - تقدم تخريجه - فصار كما دلس العيب.

فإن باع ما علم كيله صبرة، فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم، أن البيع صحيح لازم، وهو قول مالك والشافعي؛ لأن المبيع معلوم لهما، ولا تغرير من أحدهما، فأشبه ما لو علما كيله أو جهلاه، ولم يثبت ما روى من النهي فيه، وإنما كرهه أحمد كراهة تنزيه، لاختلاف العلماء فيه، ولأن استواءهما في العلم والجهل أبعد من التغرير. وقال القاضي وأصحابه: هذا بمنزلة التدليس والغش إن علم به المشتري، فلا خيار له؛ لأنه دخل على بصيرة، فهو كما لو اشترى مصراة، يعلم تصريتها، وإن لم يعلم أن البائع كان عالما بذلك فله في الفسخ والإمضاء، وهذا قول مالك؛ لأنه غش وغرر من البائع، فصح العقد منه، ويثبت للمشتري الخيار، وذهب قوم من أصحابنا إلى أن البيع فاسد لأنه منهي عنه، والنهي يقتضي الفساد.

ص: 3524

وذلك تكرير من غير نظر إلى كون سكوت البائع عن بيان القدر تغريرا.

والرابع: خيار المغابنة (1)، فإن شراء الشيء أو بيعه بغبن غرر؛ لأنه لو علم بذلك لم يقدم عليه. أما إذا كان الغبن بسبب من البائع أو المشتري، من رفع أو وضع، غير مطابقين للخارج، فالأمر ظاهر، وأما إذا كان لا بذلك السبب بل بسبب كون المغبون لا يدري بأنه مغبون فقد حصل الغرر في الجملة.

والخامس والسادس والسابع: خيار جهل قدر الثمن (2)، أو المبيع، أو تعيينه، فإن من لم يعلم بمقدار ثمن ما شراه، أو باعه، أو لم يعلم بمقدار ما باعه أو ما شراه، أو لم يعلم بأن ما باعه أو شراه هو هذا الشيء بعينه دون غيره، فلا شك ولا ريب أنه قد أقدم على هذه الأمور وهو مغرور في الجملة؛ لأنه خاطر بماله، وغرر به، وهو لا يدري بأنه غابن أو مغبون، أو لا غابن ولا مغبون.

والثامن: خيار الرؤية (3)، فإن من اشترى ما لم يره ولا عرفه قد وقع في أعظم أنواع الغرر.

والتاسع: خيار العيب (4)، فإن من اشترى شيئا انكشف له أن به عيبا من قبل العقد

(1) انظر: " المغني "(6/ 36).

(2)

انظر: " البناية في شرح الهداية "(7/ 442).

(3)

انظر: " المغني "(6/ 33 - 34) و" البناية في شرح الهداية "(7/ 229).

(4)

انظر: " المغني "(6/ 226 - 228). " الحاوي الكبير "(6/ 295).

ص: 3525

مغرور في الجملة؛ لأنه لو علم بذلك العيب لم يقدم على الشراء بلا شك، فهذه تسعة خيارات من الخيارات المعدودة في كتب الفقه، قد رجعت إلى الخيار العاشر منها، وهو الخيار المسمى بخيار الغرر، كبيع المصراة، وبقيت ثلاثة أنواع ربما يخفى رجوعها إلى الغرر، ولكنه يرتفع الخفاء بالإيضاح لوجه الرجوع.

الأول من الثلاثة: كون العقد موقوفا، فإن العاقد إنما يقدم على العقد لتترتب عليه آثاره، والعقد الموقوف قد صار المعقود عليه فيه في حكم المحبوس، فجميع آثاره غير مترتبة عليه، فالعاقد قد وقع بعقده في نوع من أنواع الغرر، فله التخلص مما وقع فيه.

والثاني: خيار تعذر تسليم المبيع؛ فإن المشتري لو علم بأن العين التي اشتراها متعذر تسليمها لم يعقد عليها، وذلك غرر، فله التخلص عنه بالفسخ.

والثالث: خيار الشرط، فإن المشتري، أو البائع لو كان على بصيرة من نفسه، ولم يكن عنده جهالة تستلزم الغرر في الجملة لم يشرط لنفسه أجلا، فلما شرطه كان متمكنا من التخلص قبل أن تلزم الصفقة، ويتم البيع.

فهذه ثلاثة عشر خيارا، وهي المعدودة في كتب الفقه قد رجع اثنا عشر منها إلى واحد، وهو خيار الغرر على ما بيناه.

وإذا تقرر لك هذا في الأنواع المعدودة في كتب الفقه فاعلم أن الأدلة الواردة في الخيار هي جميعها راجعة إلى الغرر لا تخرج عنه، وبيان ذلك أن جملة الأدلة المثبتة للخيار ستة:

الأول: بيع المصراة (1)؛ فإنه ثبت في

(1) التصرية: جمع اللبن في الضرع. يقال: صرى الشاة، وصرى اللبن في ضرع الشاة، بالتشديد والتخفيف.

ويقال: صرى الماء في الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره، إذا ترك الجماع.

انظر: " غريب الحديث "(2/ 241).

قال البخاري في صحيحه (4/ 361): والمصراة التي صري لبنها وحقن فيه وجمع فلم يحلب أياما.

وأصل التصرية حبس الماء، يقال منه: صريت الماء: إذا حبسته.

ص: 3526

الصحيح (1) بألفاظ، منها بلفظ:" لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعا من تمر "، وسائر الألفاظ تؤدي هذا المعنى، ويفيد هذا المفاد، ومعلوم أن العلة التي ثبت الفسخ لأجلها هي ما وقع فيه المشتري من الغرر بسبب التصرية (2) التي كانت سببا

(1) أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2150) ومسلم رقم (11/ 1515) وأحمد (2/ 242، 394، 410، 465) ومالك في " الموطأ "(2/ 683 رقم 966) وأبو داود رقم (3443) والنسائي (7/ 253) والبيهقي (5/ 318) من حديث أبي هريرة وهو حديث صحيح.

(2)

قال ابن قدامة في هذه المسألة ثلاثة فصول:

الأول: أن من اشترى مصراة من بهيمة الأنعام، لم يعلم تصريتها، ثم علم فله الخيار في الرد أو الإمساك، روي ذلك عن ابن مسعود، وابن عمر وأبي هريرة وأنس. وإليه ذهب مالك، وابن أبي ليلى، والشافعي وإسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم.

وذهب أبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له؛ لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لم تكن مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها، لم يملك ردها. والتدليس بما ليس بعيب لا يثبت الخيار، كما لو علفها فانتفخ بطنها، فظن المشتري أنها حامل.

قال ابن قدامة: ولنا ما روى أبو هريرة - تقدم الحديث - ولأن هذا تدليس بما يختلف الثمن باختلافه، فوجب الرد.

الثاني: أنه إذا ردها، لزمه رد بدل اللبن، وهذا قول كل من جوز ردها، وهو مقدر في الشرع بصاع من تمر، كما في الحديث الصحيح - تقدم ذكره - وهذا قول الليث وأسحاق، والشافعي، وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من غالب قوت البلد

". "

المغني " (6/ 216 - 220). " الحاوي الكبير " (6/ 286).

الثالث: وإن علم بالتصرية قبل حلبها، مثل أن أقر به البائع، أو شهد به من تقبل شهادته، فله ردها، ولا شيء معها؛ لأن التمر وجب بدلا من اللبن المحتلب، وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا ما لا خلاف فيه، أي إذا لم يحلبها لم يلزمه رد شيء معها.

وأما إذا احتلبها وترك اللبن بحاله ثم ردها، رد لبنها أيضًا شيئا، لأن المبيع إذا كان موجودا فرده، لم يلزمه، فإن أبى البائع قبوله، وطلب التمر لم يكن له ذلك، إذا كان بحاله لم يتغير. وإن كان اللبن قد تغير ففيه وجهان:

أحدهما: لا يلزمه قبوله. وهذا قول مالك، للخبر، ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه ما لو أتلفه.

الثاني: يلزمه قبوله، لأن النقص حصل باستلام المبيع، وبتغرير البائع، وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد كلبن غير المصراة.

" المغني "(6/ 220)، " الحاوي الكبير "(6/ 290 - 292)، " فتح الباري "(4/ 362 - 368).

ومن ألفاظ الحديث:

- ما أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2149) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: " من اشترى شاة محفلة فليرد معها صاعا من تمر

. ". - وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2148) قال أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها: إن شاء أمسك وإن شاء ردها وصاع تمر ". ويذكر عن أبي صالح، ومجاهد والوليد بن رباح وموسى بن يسار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " صاع تمر " وقال بعضهم عن ابن سيرين، صاعا من طعام، وهو بالخيار ثلاثا ".

- وأخرج مسلم في صحيحه رقم (25/ 1524) وأبو داود رقم (3444) والترمذي رقم (1252) والنسائي (7/ 254 رقم 4489) ومالك (2/ 683 - 684 رقم 96) وأحمد (2/ 248، 259، 273، 317، 386).

عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من اشترى مصراة فهو منها بالخيار ثلاثة أيام، إن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر لا سمراء ".

ص: 3527

لاعتقاد أنها تحلب في العادة مثل تلك الحلبة الواقعة عقب التصرية.

الدليل الثاني: حديث حبان بن المنقذ (1) الذي كان يخدع في البيوع، وكان في

(1) أخرج البخاري رقم (2117) ومسلم رقم (48/ 1533)، وأبو داود رقم (3500) والنسائي (7/ 252 رقم 4484) والبغوي في شرح السنة (8/ 46) والبيهقي (5/ 273) والطيالسي رقم (1881) ومالك (2/ 38 رقم 1019).

قلت: لكن لم يعين فيه اسم الرجل ولا ذكر فيه الخيار بل الحديث الذي عين فيه ذلك فقد أخرجه ابن الجارود رقم (567) والدارقطني (3/ 54 - 55 رقم 217) والبيهقي في " المعرفة " كما في " نصب الراية "(4/ 6) وفي " السنن الكبرى "(5/ 273) والحاكم (2/ 22) وسكت عنه وصححه الذهبي والحميدي في مسنده (2/ 292 رقم 662).

ولفظه: " ثم أنت بالخيار في كل سلعة بعتها ثلاث ليال ".

ص: 3528

عقله ضعف، وكان لا يصبر عن البيع؛ فإنه لما نهاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن البيع فقال: يا نبي الله، لا أصبر عن البيع. وله طرق وألفاظ في الصحيحين وغيرهما، منها في الصحيحين بلفظ:" من بايعت فقل: لا خلابة "، وفي بعض ألفاظه أنه جعل له الخيار ثلاثا. وفي لفظ البخاري (1):" إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها " ولا شك ولا ريب أن العلة في هذا هي الغرر بالخدع.

(1) في تاريخه (4/ 2 17).

قلت: وأخرجه ابن ماجه رقم (2355).

عن محمد بن يحيى بن حبان قال: هو جدي منقذ بن عمر وكان رجلا قد أصابته آمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع على ذلك التجارة، فكان لا يزال يغبن، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال:" إذا أنت بايعت فقل: لا خلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، إن رضيت فأمسك وإن سخطت فارددها على صاحبها ". وهو حديث حسن.

- وأخرج الحميدي في مسنده رقم (662): عن ابن عمر: أن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة، فخبلت لسانه، فكان إذا بايع يخدع في البيع، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بايع وقل: لا خلابة، ثم أنت بالخيار ثلاثا " قال ابن عمر: فسمعته يبايع ويقول: لا خذابة لا خذابة.

- وأخرج أبو داود رقم (3501) والترمذي (1250) وقال: حسن صحيح غريب والنسائي رقم (4485) وابن ماجه رقم (2354) وأحمد (3/ 217) والدارقطني (3/ 55 رقم 218، 219) وابن الجارود (2/ 159 رقم 568) عن أنس الأئمة، رجلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته - يعني في عقله - ضعف، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف، فدعاه ونهاه، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع، فقال:" إن كنت غير تارك للبيع فقل: ها وها ولا خلابة ".

وهو حديث صحيح.

ص: 3529

الدليل الثالث: حديث النهي عن تلقي الجلب، وله ألفاظ (1) منها في الصحيح (2) وغيره بلفظ:" فإن تلقاه إنسان فابتاعه فصاحب السلعة فيها بالخيار، إذا وردت السوق " ولا ريب أن العلة في الخيار إذ ذاك هي أنه قد وقع عليه الغرر قبل ورود السوق، فباع بثمن دون الذي يباع به في السوق، فأثبت له الخيار ليبيعها بالثمن الذي يدفع فيها في السوق.

الدليل الرابع: دليل خيار المجلس، وله طرق، وألفاظ، منها في الصحيحين (3) بلفظ:

(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2158) وطرفاه رقم (2163، 2274) ومسلم في صحيحه رقم (19/ 1521)، وأبو داود رقم (3439) والنسائي رقم (4500) وابن ماجه رقم (2177) عن طاووس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تلقوا الركبان ولا يبع حاضر لباد " قلت لابن عباس: ما قوله: " ولا يبع حاضر لباد "؟ قال: لا يكون له سمسارا.

- وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2166، 2167) ومسلم رقم (1517) وأبو داود رقم (3436) والنسائي رقم (4498، 4499) وابن ماجه رقم (2179) عن ابن عمر: " كنا نتلقى الركبان فنشتري منهم الطعام، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام ".

وأخرج البخاري في صحيحه رقم (2167) عن ابن عمر: " كانوا يبتاعون الطعام في أعلى السوق فيبيعونه في مكانه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه ".

(2)

أخرجه مسلم في صحيحه رقم (16، 17/ 1519) وأبو داود رقم (3437) والترمذي رقم (1221) وقال: هذا حديث حسن غريب. وابن ماجه رقم (2178) والبيهقي (5/ 348) وأحمد (2/ 284، 403) والدارمي (2/ 255).

(3)

أخرج البخاري في صحيحه رقم (2107) وأطرافه رقم (2109، 2111، 2112، 2113، 2116) ومسلم في صحيحه رقم (1531) وأبو داود رقم (3454، 3455) والترمذي رقم (1245) والنسائي (7/ 248، 249) وابن ماجه رقم (2181) وابن الجارود (2/ 191 رقم 617، 6618) والبيهقي (5 268، 272)، عن ابن عمر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إذا تبايع الرجلان، فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا، أو يخير أحدهما الآخر، فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع ".

وأخرج أبو داود رقم (3456) والترمذي رقم (1247) والنسائي رقم (4483) وأحمد (2 183) والدارقطني (3 رقم 207) وابن الجارود في " المنتقى "(2/ 196 رقم 620) عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله ".

وهو حديث حسن.

ص: 3530

" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا "، وفي لفظ " حتى يفترقا "، وفي لفظ فيهما:" المتبايعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يفترقا إلا بيع الخيار "، فأثبت صلى الله عليه وآله وسلم الخيار قبل التفرق؛ لأنه مظنة التأمل والتدبر للمبيع، وعدم الإحاطة بجميع أوصافه، والجهل لشيء منها فهو قبل التفرق إذا وجد ما لا يرتضيه كان له أن يفسخ به؛ لأنه إذ ذاك واقع في الغرر بالعقد الذي عقده قبل الاطلاع على هذا الأمر الذي كان سببا للفسخ، فهو قبل التفرق متمكن من التخلص من عهدة العقد، وقادر على الخروج مما دخل فيه من الغرر، فإذا فارق المجلس فقد اختار المبيع وفرغ من تدبر أوصافه، ورضي بما رآه (1).

(1) آراء الفقهاء في خيار المجلس:

الأول: ثبوته وهو لجماعة من الصحابة، منهم علي وابن عباس وابن عمر. وإليه ذهب أكثر التابعين والشافعي وأحمد وإسحاق، والإمام يحيى، قالوا: والتفرق الذي يبطل به الخيار ما يسمى عادة تفرقا، ففي المنزل الصغير بخروج أحدهما، وفي الكبير بالتحول من مجلسه إلى آخر بخطوتين أو ثلاث، ودل على أن هذا تفرق فعل ابن عمر المعروف، فإن قاما معا وذهبا معا فالخيار باق، وهذا دليله هذا الحديث المتفق عليه.

انظر: " المحلى "(8/ 354)، " المجموع "(9/ 184)، " فتح الباري "(4/ 330).

الثاني: للهادوية والحنفية ومالك والإمامية أنه لا يثبت خيار المجلس بل متى تفرق المتبايعان بالقول فلا خيار إلا ما شرط، مستدلين بقوله تعالى:{تجارة عن تراض} [النساء: 29]. وبقوله تعالى: {وأشهدوا إذا تبايعتم} [البقرة: 282}. قالوا: والإشهاد إن وقع بعد التفرق لم يطابق الأمر، وإن وقع قبله لم يصادف محله، وحديث:" إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع " - وهو حديث صحيح أخرجه أبو داود رقم (3511) والترمذي رقم (1270) والنسائي رقم (4648) وابن ماجه رقم (2186) وأحمد (1/ 466) من حديث ابن مسعود - ولم يفصل، وأجيب بأن الآية مطلقة قيدت بالحديث، وكخيار الشرط، وكذلك الحديث وآية الإشهاد يراد بهما عند العقد ولا ينافيه ثبوت خيار المجلس كما لا ينافيه سائر الخيارات.

وانظر مزيد تفصيل " فتح الباري "(4/ 327)، " المجموع "(9/ 184)، " المغني "(6/ 10 - 14).

ص: 3531

الدليل الخامس: دليل خيار العيب، وهو ما أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي وصححه، وأيضا صححه ابن حبان، وابن الجارود، والحاكم، وابن القطان. واختلفت الرواية عن ابن خزيمة في تصحيحهم، وله ألفاظ: منها أن رجلا ابتاع غلاما فاستغله، ثم وجد عيبا فرده بالعيب، فقال البائع: غلة عبدي، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" الغلة بالضمان "(1)، وفي لفظ " قضى أن الخراج بالضامن "(2)، فأثبت للمشتري الفسخ؛ لأنه لما وجد العيب كان عقده

(1) أخرجه أحمد (6/ 80، 116) وأبو داود رقم (1310) وابن ماجه رقم (2243) وابن الجارود رقم (626) والدارقطني (3/ 53 رقم 213) والحاكم (2/ 15) والطحاوي في " شرح معاني الآثار "(4/ 21 - 22). وهو حديث حسن.

(2)

أخرجه أبو داود رقم (3508) وأحمد (6 49، 80، 161، 208) والترمذي رقم (1285، 1286) وابن ماجه رقم (2242) وابن الجارود في المنتقى (2/ 199 رقم 626) وابن حبان في صحيحه (1/ 483 رقم 1125، 1126 - موارد) والدارقطني رقم (214) والبيهقي (5/ 321) والطيالسي (ص 206 رقم 1464) والشافعي (2/ 143 رقم 479 - ترتيب المسند) والبغوي (8/ 162 رقم 2118، 2119).

قال الترمذي في " السنن "(3/ 583): استغرب محمد بن إسماعيل - البخاري - هذا الحديث من حديث عمر بن علي. قلت: تراه تدليسا؟ قال: لا ".

قلت: ومداره ليس على عمر بن علي، بل رواه غيره كما أخرجه الترمذي نفسه رقم (1285) فالقول بأن البخاري ضعفه ليس على إطلاقه.

قال أبو داود في سننه (3/ 780): " هذا إسناد ليس بذاك ".

قلت: في إسناده مسلم بن خالد الزنجي، ضعفه الذهبي في " الميزان "(4/ 102) لكنه قد توبع، تابعه خالد بن مهران وعمر بن علي المقدمي، كما بينه محقق " المنتقى "(2/ 199) وتابع شيخهم - هشام بن عروة عن أبيه - مخلد بن خفاف، كما أخرجه أبو داود رقم (3508) والترمذي رقم (1285) والنسائي رقم (4490) وغيرهم. ومخلد وثقه ابن حبان وابن وضاح، وقال البخاري: فيه نظر.

انظر: ترجمته في " الميزان "(4/ 82) و" التهذيب "(10 67) فمثله يقبل حديثه في المتابعات.

وهو حديث صحيح لغيره.

ص: 3532

الواقع على العبد مع جهل هذا العيب من الغرر، وهذا ظاهر لا سترة به (1).

الدليل السادس: دليل خيار الرؤية، وهو حديث:" من اشترى ما لم يره فله الخيار إذا رآه " أخرجه الدارقطني (2) والبيهقي (3) من حديث أبي هريرة، وفي إسناده (4) من لا تقوم به الحجة، وله شواهد (5) غير خالية عن المقال، فأثبت الخيار لمن اشترى ما لم

(1) انظر: " المغني "(6/ 242).

(2)

في " السنن "(3/ 4 رقم 10) وقال: " عمر بن إبراهيم يقال له الكردي، يضع الأحاديث. وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره إنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".

ثم نقل الآبادي في " التعليق المغني " قول ابن القطان: " والراوي عن الكردي، داهر بن نوح، وهو لايعرف ".

(3)

في " السنن الكبرى "(5/ 268).

(4)

وفي سنده عمر بن إبراهيم الكردي، قال الذهبي في " المغني " (2/ 462 رقم 4418):" كذاب ".

وقال عنه الخطيب في تاريخه (11/ 202): " كان غير ثقة، يروي المناكير عن الأثبات ".

انظر: " الميزان "(3/ 179 رقم 6044).

(5)

منها ما أخرجه الدارقطني في " السنن "(3/ 4 رقم 8) والبيهقي في " السنن الكبرى "(5/ 268) وقال: هذا مرسل وأبو بكر بن أبي مريم ضعيف، قاله لي أبو بكر بن الحارث وغيره. عن الإمام الدارقطني الحافظ رحمه الله. عن مكحول مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي إسناده أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف لا تقوم به الحجة.

انظر: " الميزان "(4/ 497 رقم 10006) فقد ضعفه أحمد وغيره لكثرة ما يغلط، وكان أحد أوعية العلم.

وقال ابن حبان: رديء الحفظ، ولا يحتج به إذا انفرد.

وقال ابن عدي: أحاديثه صالحة.

ولكن الخيار في الغالب يمكن الاستدلال عليه بأحاديث النهي عن الغرر، فإن ما لم يقف الإنسان على حقيقته لا يخلو عن نوع غرر سواء كان بعناية البائع أم لا.

انظر: " المغني "(6/ 33 - 36).

ص: 3533

يره إذ رآه؛ لأنه أوقع العقد على ما لا يعلمه، وذلك غرر بلا شك ك.

فهذا ما أمكن استحضاره عند تحرير هذا الجواب من الأدلة الدالة على ثبوت الخيار. وقد أوضحنا أن العلة في جميع ذلك هو الغرر كما تقتضيه مسالك العلة (1) المدونة في

(1) العلة ركن من أركان القياس فلا يصح بدونها لأنها الجامعة بين الأصل والفرع - وهي في اللغة اسم لما يتغير الشيء بحصوله أخذا من العلة التي هي المرض لأن تأثيرها في الحكم كتأثير العلة في ذات المريض، يقال: اعتل فلان: إذا مال عن الصحة إلى السقم، وقيل: إنها مأخوذة من بعد النهل، وهو معاودة الشرب مرة بعد مرة لأن المجتهد في استخراجها يعاود النظر مرة بعد مرة.

انظر: " القاموس "(ص 1338) و" لسان العرب "(9/ 365).

وأما في الاصطلاح فاختلفوا فيها على أقوال:

1 -

أنها المعرفة للحكم بأن جعلت علما على الحكم إن وجد المعنى وجد الحكم، قاله الصيرفي وأبو زيد من الحنفية.

انظر: " البحر المحيط "(5/ 112).

2 -

أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين والتقبيح العقليين، والعلة وصف ذاتي لا يتوقف على جعل جاعل.

انظر: " المحصول "(5/ 135).

3 -

أنها الموجبة للحكم عن معنى أن الشارع جعلها موجبة لذاتها وبه قال الغزالي وسليم الرازي.

انظر: " الإبهاج "(2/ 40).

4 -

أنها الموجبة بالعادة، واختاره الفخر الرازي.

انظر: " البحر المحيط "(5/ 113).

5 -

أنها الباعث على التشريع بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على مصلحة صالحة لأن تكون مقصودة للشارع من شرع الحكم.

6 -

أنها التي يعلم الله صلاح المتعبدين بالحكم لأجلها وهو اختيار الرازي وابن الحاجب.

انظر: مختصر ابن الحاجب (2/ 209).

7 -

أنها المعنى الذي كان الحكم على ما كان عليه لأجلها، وللعلة أسماء تختلف باختلاف الاصطلاحات، فيقال لها: السبب، والأمارة، والداعي، والمستدعي، والباعث، والحامل، والمناط، والدليل، والمقتضي، والموجب، والمؤثر.

شروط العلة:

1 -

أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة.

وقيل: معنى كون العلة مؤثرة في الحكم هو أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون شيء سواها.

2 -

أن تكون وصفا ضابطا بأن يكون تأثيرها لحكمة مقصودة للشارع لا حكمية مجردة لخفائها فلا يظهر إلحاق غيرها بها.

3 -

أن تكون ظاهرة جلية وإلا لم يمكن إثبات الحكم بها في الفرع على تقدير أن تكون أخفى منه أو مساوية له في الخفاء، كذا ذكره الآمدي في جدله. "

البحر المحيط " (5/ 134)، " إرشاد الفحول " (ص 688).

4 -

أن تكون سالمة بحيث لا يردها نص ولا إجماع.

مثاله: أن يقول: أنا مسافر مثلا فلا تجب عليه الصلاة في السفر، قياسا على صومه في عدم الوجوب بالسفر بجامع المشقة.

فيقال: هذه العلة مخالفة للإجماع على عدم اعتبار المشقة في الصلاة ووجوب إدائها على المسافر مع وجود مشقة السفر.

" الكوكب المنير "(4/ 86)، " إرشاد الفحول "(ص 688).

5 -

أن لا يعارضها من العلل ما هو أقوى منها.

6 -

أن تكون مفردة: أي كلما وجدت وجد الحكم لتسلم من النقص والكسر، فإن عارضها نقص أو كسر بطلت.

انظر تفصيل ذلك في " إرشاد الفحول "(ص 689)، " الكوكب المنير "(4/ 57).

7 -

أن لا تكون عدما في الحكم الثبوتي. أي لا يعلل الحكم الوجودي بالوصف العدمي.

8 -

أن لا تكون العلة المتعدية هي المحل أو جزء منه؛ لأن ذلك يمنع من تعديتها.

9 -

أن ينتفي الحكم بانتفاء العلة والمراد انتفاء العلم أو الظن به، إذ لا يلزم عن عدم الدليل عدم المدلول.

10 -

أن تكون أوصافها مسلمة أو مدلولا عليها، كذا قال الأستاذ أبو منصور.

11 -

أن لا تكون موجبة للفرع حكما وللأصل حكما آخر غيره.

12 -

أن لا توجب ضدين لأنها حينئذ تكون شاهدة لحكمين متضادين، قاله الأستاذ أبو منصور.

13 -

أن لا يتأخر ثبوتها عن ثبوت حكم الأصل خلافا لقوم.

14 -

أن يكون الأصل المقيس عليه معللا بالعلة التي يعلق عليها الحكم في الفرع بنص أو إجماع.

15 -

أن يكون الوصف معينا لأن رد الفرع إليها لا يصح إلا بهذه الواسطة.

16 -

أن يكون طريق إثباتها شرعيا كالحكم.

17 -

أن لا يكون وصفا مقدرا.

انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط "، " تنقيح الفصول "(ص 410 - 411).

18 -

إذا كانت مستنبطة فالشرط أن لا ترجع على الأصل بإبطاله أو إبطال بعضه لئلا يفضي إلى ترك الراجح إلى المرجوح.

19 -

إن كانت مستنبطة فالشرط أن لا تعارض بمعارض مناف موجود في الأصل.

20 -

إن كانت مستنبطة فالشرط أن تتضمن زيادة على النص أي حكما غير ما أثبته النص.

21 -

أن لا تكون معارضة لعلة أخرى تقتضي نقيض حكمها.

22 -

إذا كان الأصل فيه شرط فلا يجوز أن تكون العلة موجبة لإزالة ذلك الشرط.

23 -

أن لا يكون الدليل الدال عليها متناولا لحكم الفرع لا بعمومه ولا بخصوصه للاستغناء حينئذ عن القياس.

24 -

أن لا تكون مؤيدة لقياس أصل منصوص عليه بالإثبات على أصل منصوص عليه بالنفي.

انظر: " البحر المحيط "(5/ 157)، " الكوكب المنير "(4/ 53)، " الإبهاج "(3/ 93).

ص: 3534

الأصول، وكذلك أوضحنا فيما سلف من أنواع الخيارات المدونة في كتب الفقه أن العلة هو الغرر كما تقتضيه أيضًا مسالك العلة (1) العشرة المقررة في علم الأصول

(1) قد اختلفوا في عدد هذه المسالك. فقال الرازي في " المحصول "(5/ 137) عشرة [النص والإيماء والإجماع والمناسبة والدوران والسبر والتقسيم والشبه والطرد، وتنقيح المناط].

المسلك الأول: الإجماع، وهو نوعان إجماع على علة معينة كتعليل ولاية المال بالصغر، وإجماع على أصل التعليل وإن اختلفوا في عين العلة كإجماع السلف على أن الربا في الأصناف الأربعة معلل وإن اختلفا في العلة ماذا هي؟.

المسلك الثاني: النص على العلة: قال في " المحصول "(5/ 139): ونعني بالنص ما يكون دلالته على العلة ظاهرة سواء كانت قاطعة أو محتملة، أما القاطع فما يكون صريحا وهو قولنا: لعلة كذا، أو لسبب كذا، أو لمؤثر كذا، أو لموجب كذا، أو لأجل كذا، قال تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 32].

وأما الذي لا يكون قاطعا فثلاثة: (اللام، وإن، والباء).

قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

قال صلى الله عليه وسلم: " إنها من الطوافين ".

وأما الباء: فكقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13].

انظر مزيد تفصيل: " المسودة "(ص 438)، " الكوكب المنير "(4/ 117).

المسلك الثالث: الإيماء والتنبيه، وضابط الاقتران بوصف لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيدا فيحمل على التعليل دفعا للاستبعاد وحاصله أن ذكره يمتنع أن يكون لا لفائدة لأنه عبث فيتعين أن يكون لفائدة وهي إما كونه علة أو جزء علة أو شرطا وإلا ظهر كونه على لأنه الأكثر في تصرفات الشرع، وهو أنواع:

1 -

تعليق الحكم على العلة بالفاء وهو على وجهين:

أحدهما: أن تدخل الفاء على العلة ويكون الحكم متقدما كقوله صلى الله عليه وسلم في المحرم الذي وقصته الناقة: " فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا " - وهو حديث صحيح.

ثانيهما: أن تدخل الفاء على الحكم وتكون العلة متقدمة وذلك على وجهين:

أحدهما: أن تكون الفاء دخلت على كلام الشارع مثل قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38]. {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا} [المائدة: 6].

ثانيهما: أن تدخل على رواية الراوي كقوله: سها رسول الله فسجد، وزنى ماعز فرجم.

2 -

أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا لو لم يكن علة لعري عن الفائدة. إما مع سؤال في محله أو سؤال في نظيره.

الأول: كقول الأعرابي: واقعت أهلي في رمضان، فقال:" أعتق رقبة " يدل على أن الوقاع علة للإعتاق والسؤال مقدر في الجواب كأنه إذا وقاعت فكفر.

الثاني: كقوله وقد سألته الخثعمية: إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج أفينفعه إن حججت عنه؟ فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين فضيته أكان ينفعه؟ قالت: نعم

".

3 -

أن يفرق بين حكمين لوصف، نحو قوله صلى الله عليه وسلم: للراجل سهم وللفارس سهمان، فإن ذلك يفيد أن الموجب للاستحقاق لسهم والسهمين هو الوصف المذكور.

4 -

أن يذكر عقب الكلام أو في سياقه شيئا لو لم يعلل به الحكم المذكور لم ينتظم الكلام، كقوله تعالى:{وذروا البيع} [الجمعة: 9]، لأن الآية سيقت لبيان وقت الجمعة وأحكامها، فلو لم يعلل النهي عن البيع بكونه مانعا من الصلاة أو شاغلا عن المشي إليها لكان ذكره عبثا لأن البيع لا يمنع منه مطلقا.

5 -

ربط الحكم باسم المشتق، فإن تعليق الحكم به مشعر بالعلية نحو: أكرم زيدا العالم فإن ذكر الوصف المشتق مشعر بأن الإكرام لأجل العلم.

6 -

ترتب الحكم على الوصف بصيغة الشرط والجزاء، كقوله تعالى:{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2]، أي لأجل تقواه.

{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي لأجل تواكله لأن الجزاء يتعقب الشرط.

7 -

تعليل عدم الحكم بوجود المانع منه، كقوله تعالى:{وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} [الزخرف: 33].

8 -

إنكاره سبحانه على من زعم أنه لم يخلق الخلق لفائدة ولا لحكمة بقوله: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115].

9 -

إنكاره سبحانه أن يسوى بين المختلفين ويفرق بين المتماثلين.

الأول: كقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم: 35].

الثاني: كقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71].

وانظر مزيد تفصيل " إرشاد الفحول "(ص 709 - 712)، " الكوكب المنير "(4/ 141).

المسلك الرابع: " الاستدلال على علية الحكم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وصورته أن يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد وقوع شيء فيعلم أن ذلك الفعل إنما كان لأجل ذلك الشيء الذي وقع، كأن يسجد صلى الله عليه وسلم للسهو فيعلم أن ذلك السجود إنما كان لسهو قد وقع منه

. ". وقد يكون ذلك الفعل من غيره بأمره كرجم ماعز. وكذلك الترك له حكم الفعل كتركه صلى الله عليه وسلم للطيب والصيد وما يجتنبه المحرم.

المسلك الخامس: السبر والتقسيم وهو في اللغة الاختبار ومنه الميل الذي يختبر به الجرح فإنه يقال له: المسبار، وسمي هذا به لأن المناظر يقسم الصفات ويختبر كل واحدة منها في أنه هل يصلح للغلبة أم لا.

وفي الاصطلاح الحكم هو قسمان: أن يدور بين النفي والإثبات، وهذا هو المنحصر. والثاني: أن لا يكون كذلك وهذا هو المنتشر، فالأول أن تحصر الأوصاف التي يمكن التعليل بها للمقيس عله ثم اختبارها في المقيس وإبطال ما لا يصلح منها بدليله. وذلك الإبطال إما بكونه ملغى أو وصفا طرديا أو يكون فيه نقض أو كسر أو خفاء أو اضطراب فيتعين الباقي للعلية.

انظر: " البحر المحيط "(5/ 222)، " الكوكب المنير "(4/ 46).

وأما القسم الثاني: المنتشر، وذلك بأن لا يدور بين النفي والإثبات أو دار ولكن كان الدليل على نفي علية ما عدا الوصف المعين فيه ظنيا واختلفوا في ذلك على مذاهب:

1 -

أنه حجة في العمليات فقط؛ لأنه يحصل غلبة الظن.

2 -

أنه حجة للناظر دون المناظر.

انظر تفصيل ذلك في " الإحكام " للآمدي (3/ 291).

المسلك السادس: المناسبة ويعبر عنها بالإحالة وبالمصلحة وبالاستدلال وبرعاية المقاصد ويسمى استخراجها تخريج المناط وهي عمدة كتاب القياس ومحل غموضه ووضوحه.

ومعنى المناسبة هو تعين العلة بمجرد إبداء المناسبة مع السلامة عن القوادح لا بنص ولا غيره.

والمناسبة في اللغة الملائمة، والمناسب الملائم، قال الرازي في " المحصول " (5 157): الناس ذكروا في تعريف المناسب شيئين:

الأول: أنه المفضي إلى ما يوافق الإنسان تحصيرا وإبقاء، وقد يعبر عن التحصيل بجلب المنفعة وعن الإبقاء بدفع المضرة.

ثم هذا التحصيل والإبقاء قد يكون معلوما وقد يكون مظنونا، وعلى التقديرين فإما أن يكون دينيا أو دنيويا

.

الثاني: أنه الملائم لأفعال العقلاء في العادات فإنه يقال: هذه اللؤلؤة تناسب هذه اللؤلؤة في الجمع بينهما في سلك واحد متلائم.

المسلك السابع: الشبه ويسميه بعض الفقهاء الاستدلال بالشيء على مثله وهو عام أريد به خاص.

إذ الشبه يطلق على جميع أنواع القياس لأن كل قياس لا بد فيه من كون الفرع شبيها بالأصل بجامع بينهما وهو من أهم ما يجب الاعتناء به.

وقد اختلفوا في تعريفه: فقال إمام الحرمين في " البرهان "(2/ 859): لا يمكن تحديده، وقال غيره: يمكن تحديده.

وقيل: هو الجمع بين الأصل والفرع بوصف يوهم اشتماله على الحكمة المقتضية للحكم من غير تعيين. كقول الشافعي في النية في الوضوء والتيمم: طهارتان فأنى تفترقان.

انظر: " البحر المحيط "(2/ 859)، " المحصول " للرازي (5/ 201 - 203)، " المستصفى " للغزالي (3/ 641 - 642).

المسلك الثامن: الطرد.

قال الرازي في " المحصول ": والمراد منه الوصف الذي لم يكن مناسبا ولا مستلزما للمناسب إذا كان الحكم حاصلا مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع وهذا المراد من الاطراد والجريان. وهو قول كثير من فقهائنا.

" المحصول "(5/ 222)، " البحر المحيط "(5/ 250).

المسلك التاسع: الدوران. وهو أن يوجد الحكم عند وجود الوصف ويرتفع بارتفاعه في صورة واحدة كالتحريم مع السكر في العصير فإنه لما لم يكن سكرا لم يكن حراما فلما حدث السكر فيه وجدت الحرمة. ثم لما زال السكر بصيرورته خلا زال التحريم فدل على أن العلة السكر.

" الكوكب المنير "(4/ 193)، " المسودة "(ص 406).

المسلك العاشر: تنقيح المناط. التنقيح في اللغة: التهذيب والتمييز، ويقال: كلام منقح أي لا حشو فيه.

المناط: وهو مفعل من ناط نياطا أي علق، فهو ما نيط به الحكم، أي علق به وهو العلة اتي رتب عليها الحكم في الأصل.

" الصحاح "(3/ 1165)، " لسان العرب "(14/ 330).

ومعنى تنقيح المناط عند الأصوليين إلحاق الفرع بالأصل بإلغاء الفارق بأن يقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا وذلك لا مدخل له في الحكم البتة فيلزم اشتراكهما في الحكم لاشتراكهما الموجب له. كقياس الأمة على العبد في السراية فإنه لا فارق بينهما إلا الذكورة وهو ملغى بالإجماع.

المسلك الحادي عشر: تحقيق المناط وهو أن يقع الاتفاق على علية وصف لنص إجماع فيجتهد في وجودها في صورة النزاع، كتحقيق أن النباش سارق وسمي تحقيق المناط لأن المناط وهو الوصف علم أنه المناط وبقي النظر في تحقق وجوده في الصورة المعينة. قال الغزالي في " المستصفى "(3/ 484) وهذا النوع من الاجتهاد لا خلاف فيه بين الأمة.

وانظر: " مجموع الفتاوى " لابن تيمية (19/ 17 - 18). " البحر المحيط "(5/ 257)، " جمع الجوامع "(2/ 341).

ص: 3536

وإذا تقرر هذا علم السائل - كثر الله فوائده - أن خيار المعاينة الذي وقع السؤال عنه هو لاحق بخيار الغرر، وله حكمه إجمالا وتفصيلا، لأن خيار الغرر هو الأصل الذي رجعت إليه أنواع الخيارات، كما أسلفنا.

وأما القول بأنه كخيار الإجازة فلا أدري بأي مسلك من المسالك المقبولة ثبت ذلك، فإن إلحاق الشيء بالشيء لا بد فيه من وجود الأركان الأربعة (1)، أي: الأصل بعد ثبوت كونه أصلا بالبرهان، والفرع بعد ثبوت كونه فرعا بالبرهان، والعلة بعد ثبوت كونها علة بمسلك مقبول، والحكم الذي هو ثمرة الإلحاق وفائدته، ومن قام في مقام منع كون خيار الإجازة أصلا، وخيار المغابنة فرعا، فقد قام مقاما لا يزحزحه عنه إلا البرهان المقبول. هذا على فرض عدم وجود الفارق، فكيف والفارق ها هنا موجود! فإنه ناجز يترتب عليه أحكامه.

وإذا تقرر ما قدمنا من إلحاق خيار المغابنة بخيار الغرر للعلة الجامعة بينهما، فقد حكم الشارع في خيار الغرر في المصراة (2) بأنه يرد المشتري قيمة ما استهلكه من درها، فليثبت

(1) أي أركان القياس.

انظر تفصيل ذلك: " البحر المحيط "(5/ 74)، " الكوكب المنير "(4/ 12)، " المسودة "(ص 425)، " تيسير التحرير "(3/ 272).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 3541

مثل ذلك في الفرع، وهو سائر الخيارات، فمن فسخ ما اشتراه بنوع من أنواع الخيارات كان عليه إرجاع ما هو باق لديه من فوائده، وضمان قيمة ما استهلكه كما يقتضيه القياس الصحيح بالجامع الذي كررنا ذكره.

فإن قلت: لا عموم في حديث المصراة، حتى يستدل به على سائر أنواع الخيارات.

قلت: الأمر كذلك، ولم ندع أنه عام، بل قلنا: إنه حكم الأصل، فكان للفرع مثله، ولو كان الدليل عاما لم يحتج إلى القياس لشموله للفرع بنفسه من دون واسطة فيكون هذا الحكم الثابت في المصراة ثابتا في جميع الفروع، وهي سائر الخيارات إلا ما دل الدليل على أن لفوائده حكما غير حكم الأصل، وهو خيار العيب، فإن الشارع قد أثبت فيه أن الخراج بالضمان فيكون ذلك خاصا به، لأنه فرع من فروع الغرر، فلا يرد إليه ما هو مماثل له في الفرعية، بل يرد إلى الأصل الجامع، ويثبت له حكمه، ويكون ذلك الفرع الذي ورد في فوائده دليل يخصه خارجا عن حكم الأصل في مورد الدليل، لأن القياس حينئذ يكون مصادما للنص، وهو فاسد الاعتبار، ولا يوجب هذا الدليل الوارد في بعض تفاصيل فرع من الفروع أن يكون ذلك الفرع خارجا عن كونه فرعا في غير مورد الدليل، فتحرر من هذا أن الفوائد في كل نوع من أنواع الخيار بكون للبائع من غير فرق بين الأصلية والفرعية، فما كان منها باقيا رجع بعينه (1)، وما كان تالفا فقيمته.

والتقدير بالمدة من ثلاثة أيام أو غيرها يرجع المجتهد فيه إلى اجتهاده (2).

(1) انظر: " المغني "(6/ 217 - 220).

(2)

قال ابن قدامة في " المغني "(6/ 220): قالوا: فهذه الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها؛ لأنها في اليوم الأول لبنها لبن التصرية، وفي الثاني يجوز أن يكون لبنها قد نقص، لتغير المكان واختلاف العلف، وكذلك في الثالث. فإذا مضت الثلاثة استبانت التصرية وثبت الخيار على الفور. ولا يثبت بعد انقضائها. وقال أبو الخطاب: عندي متى ثبتت التصرية، جاز له الرد، قبل الثلاثة وبعدها؛ لأنه تدليس يثبت الخيار، فملك الرد به إذا تبينه، كسائر التدليس. فعلى هذا يكون فائدة التقدير في الخبر بالثلاثة؛ لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها، فاعتبرها لحصول العلم ظاهرا، فإن حصل العلم بها، أو لم يحصل بها فالاعتبار به دونها، كما في سائر التدليس. وظاهر قول ابن أبي موسى أنه متى علم التصرية، ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى تمامها.

وهو قول ابن المنذر وأبي حامد من أصحاب الشافعي، وحكاه الشافعي نصا لظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وعلى قول القاضي لا يثبت الخيار في شيء منها، وإنما يثبت عقبها، قول أبي الخطاب يسوي بين الأيام وبين غيرها، والعمل بالخبر أولى والقياس ما قال أبو الخطاب لأن الحكم كذلك في العيوب وسائر التدليس.

ص: 3542

فإن قلت: إذا كان الأمر كما ذكرته من أن العلة الغرر في كل نوع من أنواع الخيارات، فهل يثبت خيار المعاينة لغير صبي، ومن له حكمه، ومتصرف عن الغير؟.

قلت: نعم، يثبت كما ثبت خيار الغرر في المصراة لكل متصرف عن نفسه، أو عن غيره (1)، وكما ثبت لرب السلعة في تلقي الجلب الخيار إذا وصل السوق، سواء كان متصرفا عن نفسه بعد تكليفه أو عن غيره، وليس في حديث حبان بن منقذ ما ينفي ثبوت الخيار لغير من كان مماثلا له في نقص العقل، بل غاية ما هناك أنه أثبت الخيار لرجل يخدع في البيوع، غير كامل الرجولية، وثبت الخيار لغيره من المتصرفين عن أنفسهم، أو عن غيرهم بدليل الأصل، وهو حديث المصراة، وبما ثبت في خيار تلقي الجلب بعلة الغرر، وليس في قوله صلى الله عليه وآله وسلم لحبان:" فقل: لا خلابة "(2) ما يخالف ما قررنا، أو ما يقتضي أنه لا يثبت الخيار إلا بهذه المقالة؛ لأن الباعث على تلقينه لذلك يحتمل أن يكون هو إرادة الإشعار لمن يبايعه من أول الأمر بأن حبان رجل يخدع فلا يخادعه من يعامله مع أن هذا الأمر، أعني: عدم الخدع، هو شأن كل معاملة يتعاملها أهل الإسلام.

(1) انظر: " المغني "(2/ 246 - 247).

(2)

تقدم تخريجه.

ص: 3543

أخرج ابن ماجه (1) والترمذي (2) وحسنه (3)، والبخاري (4) تعليقا، والبيهقي (5) عن العداء بن خالد قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا: " هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله، اشترى منه عبدا أو أمة لأداء (6) ولا غايلة (7)، ولا خبثة (8)، بيع المسلم للمسلم ".

وأخرج ابن ماجه (9) من حديث عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: " المسلم أخو المسلم لا يحل لمسلم باع بيعا من أخيه وفيه عيب إلا بينه ".

وأخرج أحمد (10) من حديث واثلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لا يحل لأحد يبيع شيئا إلا بين ما فيه، ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بينه ".

(1) في " السنن " رقم (2251).

(2)

في " السنن " رقم (1216).

(3)

في " السنن "(3/ 520) وقال حديث حسن غريب.

(4)

في صحيحه (4/ 309).

(5)

في " السنن الكبرى "(5/ 328) وهو حديث حسن.

(6)

لأداء: الداء المرض والعاهة.

(7)

لا غائلة: الغائلة: الخصلة التي تغول المال، أي تهلكه من إباق وغيره.

(8)

ولا خبثة: والخبثة: نوع من أنواع الخبيث. أراد به الحرام.

(9)

في " السنن " رقم (2246).

قلت: وأخرجه الحاكم في " المستدرك "(2/ 8) وصححه ووافقه الذهبي. وقد حسن ابن حجر إسناده في " الفتح "(4 311). وهو حديث صحيح.

(10)

في " المسند "(4/ 491).

قلت: وأخرجه ابن ماجه في " السنن " رقم (2247) والحاكم في " المستدرك "(2/ 9 - 10) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي.

ص: 3544

وفي إسناده أبو جعفر الرازي (1)، مختلف فيه، عن أبي سباع، مجهول.

وأخرج مسلم (2)، وأحمد (3)، وأهل السنن (4) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر برجل يبيع طعاما، فأدخل يده فيه، فإذا هو مبلول، فقال:" من غشنا فليس منا " فكل بيع في الإسلام هو مشروط بمثل ما قاله صلى الله عليه وآله وسلم لحبان بن منقذ (5)، ولا فرق بينه وبين غيره في ذلك.

فإن قلت: إذا كان خيار المغابنة ثابتا لمن تصرف من المكلفين عن نفسه، أو عن غيره، فكيف الجواب عن حديث جابر الثابت في صحيح مسلم (6) بلفظ: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعضهم ".

قلت: الجواب عن ذلك بأنه لا منافاة بينه وبين ثبوت الخيار لهذا البادي إذا عرف بعد ذلك أنه مغبون، وغاية ما في هذا الحديث النهي للحاضر أن يبيع للبادي؛ لأن البادي ربما باع برخص، إما لكون الغالب (7) على أهل البادية السماحة وعدم المماحكة في ثمن ما يجلبونه، فإذا باعوا ما يجلبونه بأنفسهم رزق الله المشتري منهم بما يتحصل له من

(1) انظر: " تلخيص الحبير "(3/ 53).

(2)

في صحيحه رقم (102).

(3)

في المسند (2/ 242).

(4)

أبو داود في " السنن " رقم (3452) والترمذي رقم (1315) وابن ماجه رقم (2224). وهو حديث صحيح وقد تقدم.

(5)

تقدم آنفا.

(6)

رقم (1522).

قلت: وأخرجه أحمد (2/ 307) والترمذي رقم (1223) والنسائي (7/ 256) وابن ماجه رقم (2176). وهو حديث صحيح.

(7)

انظر: " المفهم "(4/ 367 - 368).

ص: 3545

الرخص المستلزم لانحطاط الثمن، أو لأنهم يجهلون السعر الذي يبتدعه أهل الحضر فيبيعون بخص طيبة بذلك أنفسهم، غير ملتفتين إلى القوانين المعروفة في الحضر. وعلى تقدير أنهم باعوا برخص جاهلين للغلا، ولو علموا به لم تطب أنفسهم بذلك، فهذا نوع من الغرر إذا طلبوا الفسخ به كان لهم ذلك. فالحاصل أن بيع البادي قد يحصل له الرزق للمشتري منه على هذه الاحتمالات، ولا ينافيه ثبوت الخيار على تقدير من تلك التقادير، فتدبر هذا الإجازة.

وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - إذا كان المبيع الذي وقعت فيه المغابنة قد زاد أو نقص.

فأقول: قد تقدم الدليل على ثبوت الرد للعين المغبونة، فإذا ذهب بعضها، وبقي البعض، فهذا الحكم الذي أثبته الشارع للكل هو ثابت لذلك البعض، بنفس ذلك الدليل، ومن ادعى أن تلف البعض يمنع من ثبوت حكم الكل له فعليه الدليل، ولا أعلم هاهنا دليلا يدل على اختصاص الرد بالكل لا بالبعض، والأصل عدم وجود المانع حتى يقيم مدعيه البرهان عليه، وهذه الأمور معلومة من قواعد الشريعة.

وقد تكلم أئمة الفروع رحمهم الله في هذه المادة بتفاصيل، وجمل معلومة عند من يعلمها، ولكن فرض المجتهد أن يمشي مع الدليل على مقتضى قواعد علوم الاجتهاد. ويكون ما ذكرناه من رد البعض بحصته من الثمن بالنسبة إلى الكل (1). وما أشار إليه السائل - كثر الله فوائده - من صنيع كثير من الحكام أنهم يأمرون بتقويم المبيع الذي وقع فيه الغبن، ويلزمون المشتري ما نقص عن القيمة، فهذا إن تراضيا عليه الخصمان، فهو أقل مؤونة، وأقرب مسافة، والتراضي هو المناط الأكبر في تحليل أموال العباد، وأما إذا وقف الخصمان على مر الحق، وطلبا من الحاكم أن يقضي بينهما به، فلا يجوز له أن يسلك هذا المسلك، ويصنع هذا الصنع، فإنه خلاف المسلك الشرعي

(1) انظر: " المغني "(6/ 223 - 225)" الأم " للشافعي (6/ 14 - 15).

ص: 3546

بل يقول للمغبون: قد أثبت لك الشرع رد ما غبنت فيه، وأخذ ما دفعته في مقابلته، وخذ إن شئت أو دع.

وأما ما سأل عنه السائل - كثر الله فوائده - من إلزام الخصمين أجرة العدلين.

فأقول: إن كان للتقويم هو المدعي للغبن فلا شك أن أجرة عملهما عليه؛ لأنه الطالب، وخصمه قائم مقام المنع، وليس على من قام مقام المنع من الغبن أن يغرم من ماله للعدول، بل قيامه في هذا المقام يكفيه، سواء ترتب على التقويم ثبوت الغبن أو عدمه، وإن كان الذي أمر بالتقويم هو القاضي توصلا إلى مستند يرفع به الخصومة، ويدفع عن الخصمين معرة طولها المستلزمة لإتعابهما، وذهاب شطر من مالهما، لا سيما إذا وقعا في حاكم حكام السوء المبالغين في تطويل ذيول الخصام للحطام، والمتكالبين على توسيع دائرة الزحام لمباهاة أمثالهم من الحكام، فلا شك ولا ريب أن هذا النظر من ذلك الحاكم من أسد الأنظار وأنفسها، وله أن يوزع ما يلزم للمقومين على الغريمين على ما يرياه أقرب إلى الصواب، وهذه الشريعة الغراء قد شهدت كليات منها وجزئيات بأن جلب المصالح ودفع المفاسد من أهم مقاصدها، وأجل مواردها (1).

وفي هذا المقدار كفاية.

حرره محمد بن علي الشوكاني - غفر الله لهما - في الثلث الأول من ليلة الجمعة، لعلها ليلة ثلاثين من شهر محرم سنة 1219 هـ.

(1) تقدم مناقشتها.

ص: 3547