الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات
تأليف
محمد بن على الشوكاني
حققه وعلق عليه وخرج أحاديثه
محمد صبحي بن حسن حلاق
أبو مصعب
وصف المخطوط:
1 -
عنوان الرسالة من المخطوط: " دفع الاعتراضات على إيضاح الدلالات ".
2 -
موضوع الرسالة: " فقه ".
3 -
أول الرسالة: " بسم الله الرحمن الرحيم " الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين بعد: فإني وقفت على ما حرره المولى العلامة شرف الإسلام زين الأعلام الحسن بن يحيى الكبسي كثر الله فوائده ومد على طلاب العلم موائده على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات "
…
"
4 -
آخر الرسالة: "
وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما لأن البحث في ذلك يطول جدا.
5 -
نوع الخط: خط نسخي جيد.
6 -
عدد الصفحات: 15 صفحة + صفحة العنوان.
7 -
عدد الأسطر في الصفحة: 24 سطرا.
8 -
عدد الكلمات في السطر: 12 كلمة.
9 -
الرسالة من المجلد الثاني من الفتح الرباني من فتاوى الشوكاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وآله الطاهرين.
وبعد:
فإني وقفت على ما حرره المولى شرف الإسلام، زين الأعلام، الحسن بن يحي الكبسي (1) - كثر الله فوائده، ومد على طلاب العلم موائده - على رسالتي التي سميتها " إيضاح الدلالات على إحكام الخيارات "(2) فوجدته - عافاه الله - قد أفاد وأجاد ، وجاء بعلوم غزيرة المواد، ولما كان ذلك البحث المشتمل على المناقشة قد تضمن الاستفهام في غضون الكلام استحسنت تحرير هذه الكلمات لتمام الفائدة.
قال - كثر الله فوائده -: وينبغي أن ينظر في حقيقة الغرر لغة
…
إلخ.
أقول: تقرر في الأصول وغيرها أن الواجب تفسير ألفاظ الكتاب والسنة على ما تقتضيه لغة العرب، لأنهما وإن كان الخطاب فيهما لكل ما يتعلق به الخطاب من الأمة، لكن لا خلاف أنه للجميع بلسان العرب، لا بلسان غيرهم، ولا بلسانهم مع لسان غيرهم، فإذا نظرنا في لفظ من ألفاظهما وقع فيه النزاع كان الحق بيد من كانت لغة العرب معه، إلا أن يتقرر بنقل صحيح أن لذلك اللفظ معنى شرعيا، فالحقائق الشرعية (3) مقدمة، ولا تلازم بين ما ينقله بعض علماء الشريعة، وينسبه إلى الاصطلاح، وبين المعنى الشرعي؛ فإن المعاني الاصطلاحية هي مما اصطلح عليه أهل الشرع، ولو بعد عصر النبوة بدهر طويل، وهذا معلوم لكل باحث، ومن عرف العلوم الشرعية عرف ما يصطلحون عليه في كل فن من الاصطلاحات الحادثة التي تواضعوا عليها؛ وكذلك من عرف غير
(1) تقدمت ترجمته في الرسالة رقم (110).
(2)
وهي الرسالة رقم (110).
(3)
تقدم توضيح الحقيقة الشرعية، واللغوية، العرفية.
وانظر: " الإحكام " للآمدي (1/ 53)، " إرشاد الفحول "(ص 107 - 110).
العلوم الشرعية عرف ما لأهلها من الاصطلاحات الدائرة بينهم، وليس ذلك من الحقائق الشرعية التي تحمل عليها خطابات الشرع في ورد ولا صدر.
فالحاصل أنه يجب عند الاختلاف في معنى لفظ من ألفاظ الكتاب والسنة أن يبحث عن كلام أهل اللغة في كتبهم المدونة لهذا الشأن، ويفسر ذلك اللفظ به إذا لم يتقرر بوجه صحيح مقبول أن الشارع قد هجر لغته ولغة العرب الذين قومه في ذلك الفظ بخصوصه، ونقله إلى معنى مشهور معروف عند أهل الشرع، كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحج (1)، ونحو ذلك.
إذا عرفت هذا، فاعلم أنه لم يشتهر عند المتشرعين أن للغرر المذكور في أحاديث بيع الغرر معنى شرعيا يخالف المعنى اللغوي، وجميع ما نقله العلامة الشرفي هي معان لغوية لكن منهم من جاء بعبارة عامة بحيث يندرج تحتها جميع أنواع الغرر، وبعضهم اقتصر على بعض من ذلك، فمن الناقلين للمعنى العام القاضي عياض (2) حيث قال: الغرر في اللغة هو ما له ظاهر محبوب، وباطن مكروه. فإن هذا المعنى يشمل كل نوع من أنواع الغرر، وهو مثل ما نقله صاحب النهاية (3) في تفسير الغرر، فإنه قال: هو ما كان له ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول. ونقل عن الأزهري (4) أنه قال: بيع الغرر ما كان على غير عهد ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا تحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول.
انتهى.
وهذا هو المعني الأول في العموم، وهكذا قول القرافي (5) أصل الغرر هو الذي لا
(1) هذه الألفاظ كانت معلومة لهم ومستعملة عندهم في معانيها المعلومة ومعانيها الشرعية ما كانت معلومة لهم. " البحر المحيط "(2/ 158).
(2)
ذكر الحافظ في الفتح (4/ 356).
(3)
(3/ 355).
(4)
في " تهذيب اللغة "(16/ 83 - 84).
(5)
انظر "فتح الباري "(4/ 357).
قال الخطابي في " معالم السنن "(3/ 672): أصل الغرر هو ما طوى عنك علمه، وخفي عليك باطنه وسره، وهو مأخوذ من قولك طويت الثوب على غرة أي: على كسر الأول وكل بيع كان المقصود منه مجهولا غير معلوم ومعجوزا عنه غير مقدور عليه فهو غرر، وذلك مثل أن يبيع سمكا في الماء أو طيرا في الهواء، أو لؤلؤة في البحر، أو عبدا آبقا، أو جملا شاردا، أو ثوبا في جراب لم يره، ولم ينشره، أو طعاما في بيت لم يفتحه، أو ولد بهيمة لم يولد، أو ثمرة شجرة لم تثمر في نحوها من الأمور التي لا تعلم ولا يدري هل تكون أم لا فإن البيع فيها مفسوخ.
وإنما نهى صلى الله عليه وسلم عن هذه البيوع تحصينا للأموال أن تضيع وقطعا للخصومة والنزاع أن يقعا بين الناس فيها.
وأبواب الغرر كثيرة وجماعها ما دخل في المقصود منه الجهل.
يدري هل يحصل أم لا، فإن هذا المعنى عام كالمعاني المتقدمة، لأنه لما تحصل الدراية كان الباطن مجهولا، والمجهول مكروه لا محبوب.
وأما قوله: كالطير في الهواء (1)، والسمك في الماء. فهذا تمثيل للغرر بعض أنواعه، وليس المثال قيدا كما هو الظاهر في مثل هذه العبارة، وكما تدل عليه كاف التمثيل، فهذا المعنى العام للغرر الذي نقله هؤلاء الأئمة وغيرهم هو الذي أريده، والمصير إليه متحتم، لأن تفسير ذي المعنى العام ببعض أفراده بدون مخصص تحكم، وهذا المعنى هو وصف ظاهر منضبط، وأما مأخذ عليته فبعد تسليم أنه ورد النهي عنه، بل تواتر ذلك تواتر معنويا، لا وجه للتردد في كونه العلة للنهي عن البيع المشتمل عليه، فكل بيع غرر يدخل تحت النهي، فيكون له حكمه، ولا يصح من البيوع المشتملة على
(1) انظر " فتح الباري "(4/ 357). " المفهم " للقرطبي (4/ 362).
وقد أخرج أحمد في مسنده (1/ 388) من حديث ابن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر ".
وفى إسناده يزيد بن أبي زياد، وقد رجح البيهقي وقفه.
وأخرج مسلم في صحيحه رقم (4/ 151) وأبو داود رقم (3376) والترمذي رقم (1230) وابن ماجه رقم (2194) والنسائي (7/ 262رقم 4518) من أبي هريرة قال: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر ".
الغرر إلا ما صححه الشارع، ويكون ذلك مخصصا للنهى العام الدال بحقيقته على التحريم، أو يحمل النهي على ما لا يقتضى البطلان لتصحيح الشارع لبعض أنواعه كما سيأتي.
على أن اعتبار غالب مسالك العلة العشرة (1) هاهنا ممكن، فإنه لو سلك المعتبرة مسلك السبر والتقسيم في بيع المصراة (2)، وبيع السلع قبل ورودها إلى الأسواق، ونحوها لما كانت العلة إلا الغرر، وهكذا لو سلك مسلك تخريج المناط (3)، وإذا كان هذا ظاهرا في بعض أنواع الغرر فقد أوضحنا وجود أصل الغرر في كل نوع من أنواع المبيعات التي ثبت فيها الخيار، إما بمسلك تنقيح المناط، أو بما هو دونه أو فوقه، وليس المعتبر إلا وجود ما يصدق عليه مسمى الغرر العام أما دعوى أنه حكمه مجرد فلعله مترتب على تقرير عدم الانضباط، نظرا إلى الاختلاف الواقع في تفسير الغرر مع أنه لا خلاف كما قدمنا.
قال - كثر الله فوائده -: فإن المشهور أن العلة والسبب في هذا الخيار. ثم قال: وصرح بأنه العلة والسبب النجري
…
إلخ.
أقول: هذا لا يصلح للرد على من يبني بحثه على الاجتهاد، فإنه لا يلزمه العمل على المشهور إذا كان الراجح لديه غيره، ولا يتعرض عليه بقول عالم معين، ولا بمذهب الجمهور، وهذا لا يخفى على المعترض - عافاه الله -.
إذا عرفت هذا فاعلم أنا قد أوضحنا معنى الغرر وفقد الصفة التي يعتقدها المشتري يدخل في ذلك أوليا، فإنه قد كان لهذا المبيع عند فقد الصفة باطن مكروه وباطن مجهول لا يحيط بكنهه المشتري، وهذا هو الغرر اللغوي، فهل ورد في اللغة أو الشرع ما يوجب تخصيص هذا المعني أو تقييده بالشرط؟ حتى يلزم المجتهد المصير إليه؟
(1) تقدم ذكرها في الرسالة رقم (110).
(2)
تقدم التعريف في الرسالة (110).
(3)
تقدم التعريف في الرسالة (110).
إن قلتم: ورد فما هو؟، وإن قلتم: لم يرد ولكنه قال به فلان، أو اشتهر عند الطائفة الفلانية فليس. بمثل هذا يعترض على أبحاث العلم. وأما ما ألزمتم به من أنه يكون ذريعة لكل مشتر إلى ادعاء الفسخ باعتقاده لصفة لم توجد فجوابه أنا قد قيدنا ذلك في تلك الرسالة (1) بقولنا: لكنه قد حصل العلم بأن المشترى كان عند العقد معتقدا لوجودها، فهذا القيد المصرح به يدفع ذلك الإلزام دفعا واضحا لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: فإن هذا الخيار فعل صاحب المعيار العلة، والسبب فيه هي الجهالة، ولعلة التبس بالغرر.
أقول: قد قررنا أن المعنى اللغوي يقتضي أن يكون الجهل غررا، بل صرح بذلك صاحب النهاية (2)، والأزهري (3)؛فلا التباس. وكلام صاحب المعيار اجتهاد لا نقل عن أئمة اللغة، فليس بحجة على أحد وكذلك من وافقه، بل الحجة الدليل المفسر بلغة العرب.
قال- كثر الله فوائده -: قال البغوي (4):إن الغبن هو فوت الحظ.
أقول: هذا هو المعنى الذي أردناه، فإن فوت الحظ كما يكون بعناية من أحد البائعين كالخداع، ويكون أيضًا بغير عناية منهما، أو من أحدهما، لأنه قد وجد فوت الحظ، ويؤيد هذا الاعتبار ما ورد في البائع لسلعته قبل وصوله إلى السوق، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال فيه:" فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت بالسوق "(5)، ولم يقيد هذا الخيار بكونه كان البيع بسبب الخداع ولا بغير ذلك.
قال - كثر الله فوائده - فإن هذا مما اختلط فيه الغرر بالجهل.
(1) الرسالة رقم (110). وانظر: "المغني "(6/ 34 - 35).
(2)
(3/ 355).
(3)
في " تهذيب اللغة "(16/ 83 - 84).
(4)
انظر " شرح السنة "(8/ 123).
(5)
أخرجه مسلم في صحيحه رقم (17/ 1519) وقد تقدم.
أقول: قد قدمنا على أئمة اللغة أن الجهل غرر فلا يرد ما أورده.
قال - كثر الله فوائده -: فقد أناطه الشارع بنحو المصراة (1) فقط.
أقول: ليس المطلوب إلا ذلك، ونحو المصراة هو ما كان مشتملا على نوع غرر؛ إذ ليس المراد بقولنا نحو كذا إلا ما كان مماثلا له في الوصف الذي ذكر لأجله، أو مقاربا له فيه.
قال - كثر الله فوائده -: فإن التكلف في هذا غني عن البيان
…
إلخ.
أقول: إذا كان الشراء من فضولي، والمشتري لا يعلم بأنه فضولي، فلا شك ولا ريب أنه قد كان للمبيع ظاهر محبوب، وباطن مكروه كما قال القاضي عياض (2): نقلا هن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا للمبيع ظاهر يغري المشتري، وباطن مجهول كما نقل صاحب النهاية (3) عن أهل اللغة في معنى الغرر، وهكذا لم تحصل الإحاطة بكنه المبيع كما نقله الأزهري (4) وقد تقدم جميع هذا، وليس المراد بتكراره هنا إلا التعريف بأن الغرر موجود في مثل هذا الخيار فلا تكلف.
وأما ما يقوله العلامة الشرفي - حماه الله - في هذا الموطن، وما قبله، وما بعده من التصريح بأن العلة كذا جزما أو ترجيحا من دون ربط بدليل معقول، أو منقول، فلا يخفى أن ذلك دعوى مجردة، ومصادرة على المطلوب في الغالب.
قال - كثر الله فوائده -: فقد يقال: نعم هذا غرر على ما حققه العراقي، لا على ما قاله القاضي العلامة - عافاه الله -.
أقول: إن أراد بالقاضي هنا راقم هذه الأحرف فهو قد صرح بأن هذا غرر في تلك الرسالة، ونقله العلامة الشرفي - حماه الله - في رسالته، ولفظ ما نقله في رسالته من
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2)
ذكر الحافظ في " الفتح"(4/ 356).
(3)
(3/ 355).
(4)
في " تهذيب اللغة "(16/ 83 - 84).
رسالتي هكذا: " وذلك غرر فله التخلص بالفسخ ".انتهى.
فهذا تصريح لا يبقى بعده ريب لمرتاب، ولا ينافي ذلك إثبات الخيار مع العلم بالتعذر كما لا يخفى، وإن أراد بالقاضي القاضي عياض فكلامه الذي نقله ونقلناه يشتمل على خيار تعذر تسليم المبيع، كما يشتمل على غيره من الخيارات حسبما أوضحناه، فينبغي تحرير هذا المقام بما هو مقبول من الكلام.
قال - كثر الله فوائده -: فما ذكره القاضي في غاية التكلف، وبمحل من عدم القبول.
إن كان سبب التكلف، وعدم القبول هو كون كلام النجري يخالفه فهذا الاعتراض في غاية الاعتساف، وبمحل من عدم الإنصاف، وأما دعوى أنه صالح للعلية فمجرد الصلاحية لا يستلزم أن يكون الصالح هو العلة دون غيره مما هو أصلح منه، أو مماثلا في الصلاحية. وأما دعوى أن الشارع جعله مناطا في غيره فلا يستلزم أن يكون مناطا فيه لا عقلا ولا شرعا.
قال - كثر الله فوائده -: بل فيه ما يدل على قصر السببية على التصرية من مخالفها للقياس بإرجاع صاع من التمر.
أقول: هذا منه - عافاه الله - جمود وحنين إلى الوطن الذي حبب إلى الرجال، وهو التقليد الذي نشأ كل فرد من أفراد العالم عليه وإن اختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص، ومن كان عالما بما ورد من في الشريعة الغراء ضمن الأعيان لأربابها وجد فيها ضمان الشيء بمماثل له، وإن لم يكن مثليا في عرف الفقهاء كما في تضمينه صلى الله عليه وآله وسلم ولعائشة رضي الله عنها قصعة مثل القصعة التي كسرتها على بعض أمهات المؤمنين (1)، وضمان الشيء بغير مماثل له كصاع التمر عن لبن المصراة،
(1) أخرج البخاري في صحيحه رقم (2481) وأبو داود رقم (3567) والترمذي رقم (1359) وابن ماجه رقم (2334) والنسائي (7/ 70رقم 3955) من حديث أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند بعض نسائه فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم لها بقصعة فيها طعام فضربت بيدها فكسرت القصعة فضمها وجعل فيها الطعام وقال: وقال: كلوا .. ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة.
ولفظ الترمذي قال: "أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إليه طعاما في قصعة فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: طعام بطعام وإناء بإناء ".
ولم يرد في الشريعة قاعدة كلية تدل على أن المثلي مضمون بمثله، ولا يعدل إلى قيمته إلا عند عدمه، بل هو مجرد رأي مبني على اصطلاح حادث وهو قولهم: هذا مثلي، وهذا قيمي (1)، والعرب لا تعرف ذلك، ولا هو موافق لما كانت عليه لغتها، فإنهم يقولون: هذا السيف مثل هذا السيف، وهذا البعير مثل هذا البعير، وهذا الثوب مثل هذا الثوب، ونحو ذلك. ويقولون في المثليات باصطلاح الفقهاء أن بعضها قيمة للبعض الآخر، وهذا معروف في لسانهم، مشهور، فعرفت بهذا أن كون المثلي هو ما تساوت أجزاؤه (2)، وكان له مثل في الصورة، وقل التفاوت فيه، والقيمي هو ما لم
(1) قال ابن قدامه في " المغني "(7/ 326): وما تتماثل أجزاءه / وتتقارب صفاته، كالدراهم والدنانير والحبوب والأدهان، ضمن بمثله، بغير خلاف.
قال ابن عبد البر: كل مطعوم، من مأكول أو مشروب، فمجمع على أنه يجب على مستهلكيه مثله لا قيمته. وأما سائر المكيل والموزون، فظاهر كلام أحمد أنه يضمن بمثله أيضا، فإنه قال: في رواية حرب وإبراهيم بن هانئ، ما كان من الدراهم والدنانير، وما يكال ويوزن، فعليه مثله دون القيمة، فظاهر هذا وجوب المثل في كل مكيل وموزون، إلا أن يكون مما فيه صناعة كمعمول الحديد والنحاس والرصاص من الأواني والآلات ونحوها، والحلي من الذهب والفضة وشبهه.
والمنسوج من الحديد والكتان والقطن والصوف والشعر، والمغزول من ذلك، فإنه يضمن بقيمته، لأن الصناعة تؤثر في قيمته، وهي مختلفة فالقيمة فيها أحصر.
انظر: " فتح الباري "(5/ 126).
(2)
انظر " لسان العرب "(13/ 21): مثل: كلمة تسوية يقال هذا مثله ومثله كما يقال شبهه وشبهه بمعنى قال ابن بري: الفرق بين المماثلة والمساواة أن المساواة تكون بين المختلفين في الجنس والمتفقين لأن التساوي هو التكافؤ في المقدار لا يزيد ولا ينقص، أما المماثلة قلا تكون إلا بالمتفقين تقول: نحوه كنحوه، وفقهه كفقهه ولونه كلونه وطعمه كطعمه، فإذا قيل هو مثله على الإطلاق فمعناه أنه يسد مسده.
يجمع القيود الثلاثة (1) ليس إلا مجرد اصطلاح حادث (2)، فكيف يجعل ما ترتب عليه، وهو كون المثلي مضمونا بمثله ولا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند عدمه قاعدة شرعية يدفع بها ما صح عن الشارع بلا خلاف بين المسلمين في صحته وثبوته! هل هذا إلا من أعظم مفاسد الرأي، وأطم معايب التقليد، وأشد أنواع الغفلة، وأبعد مسافات الإنصاف! فما بال العلامة الحسن أطلق لقلمه في هذه الحلبة الرسن، وهو من الإنصاف
(1) القيمة: واحد القيم. وأصله الواو لأنه يقوم مقام الشيء والقيمة: ثمن الشيء بالتقويم.
" لسان العرب "(11/ 357)، " القاموس"(ص1487).
(2)
قال الشوكاني في " السيل الجرار "(3/ 98 - 99): إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلي وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم، ثم وقوع القطع والبت منهم بأن المثلي يضمن بمثله والقيمي بقيمته هو أيضًا مجرد رأي عملوا عليه وإلا فقد ثبت عن الشارع أنه ضمن المثلي بقيمته، كما في قوله في حديث المصراة:" ردها وصاعا من تمر " - تقدم تخريجه -.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم تضمين القيمي بمثله كما ثبت في صحيح البخاري رقم (2225) من حديث أنس قال " ...... طعام بطعام وإناء بإناء " هذا لفظ الترمذي - رقم (1359) وللبخاري - رقم (2481) - في هذا الحديث ألفاظا منها "
.. فضمها وجعل فيها الطعام وقال: كلوا ودفع القصعة الصحيحة للرسول وحبس المكسورة " وأخرج أحمد (6/ 148) وأبو داود رقم (3568) والنسائي رقم (3957) من حديث عائشة أنها قالت: " ما رأيت صانعة طعام مثل صفية أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم إناء من طعام فما ملكت نفسي أن كسرته فقلت يا رسول الله ما كفارته؟ فقال: إناء كإناء وطعام كطعام ".
وقال الحافظ في " الفتح"(5/ 135) إسناده حسن.
ثم قال الشوكاني في " السيل "(3/ 99 - 100): فاعلم أن الواجب رد العين المغصوبة مثلية كانت أو قيمية فإن تلفت كان المالك مخيرا بين أخذ مثلها أو قيمتها على وجه يرضى به غير فرق بين مثلي وقيمي، ولكن إرجاع مثل المثلي من أعلى أنواع ذلك الجنس وقيمة القيمي على هذا الاصطلاح أقرب إلى دفع التشاجر. وأقطع لمادة النزاع.
بمكان مكين، ومن الكمال بأعلى منازل العلم والدين!
قال - كثر الله فوائده -: على أنه مهجور الظاهر كما تقدم، والظاهر فيه الخصوص.
أقول: دعوى هجر الظاهر، ودعوى الخصوص لا تصلحان لرد دليل المستدل حتى يربط بدليل مقبول يوجب دفع الاستدلال بدليل يخالفهما على أي صفة كان، وأين هذا ومن يصنع مثل هذا الصنيع فيتكل على الاعتراض على كلام أهل العلم بمجرد الدعاوى، مع أنه بما تقرر في الأصول من خطاب الواحد، فإنه وإن كان لا يعم بالصيغة فهو يعم بدليل آخر كحديث:" إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة "(1)، وهو يفيد مفاد ما يروونه من حديث:" حكمي على الواحد حكمي على الجماعة "(2).والبحث
(1) حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية.
وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي "(رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه.
وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر "(1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ".
قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ".
أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ "(2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير"(جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476). والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم.
(2)
حكمي على الواحد حكمي على الجماعة: قال ابن كثير في " تحفة الطالب " رقم (180): لم أر بهذا اللفظ سندا، وسألت عنه شيخنا الحافظ " جمال الدين أبا الحجاج المزي " وشيخنا الحافظ أبا عبد الله الذهبي مرارا فلم يعرفاه بالكلية.
وقال العراقي في " تخريج الأحاديث الواقعة في منهاج البيضاوي "(رقم 25) ليس له أصل، وسئل عنه المزي والذهبي فأنكراه.
وقال ابن حجر في " موافقة الخبر الخبر "(1/ 527): " هذا قد اشتهر في كلام الفقهاء والأصوليين ولم نره في كتب الحديث ".
قلت: وجاء ما يؤدي معناه في حديث أميمة بنت رقيقة أنها قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة يبايعنه فقلن: نبايعك يا رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فيما استطعتن وأطقتن " قالت: فقلت الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا هلم نبايعك يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إني لا أصافح النساء. إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة، أو مثل قولي، لامرأة واحدة ".
أخرجه أحمد (6/ 357) والنسائي (7/ 149) والترمذي رقم (1597)، وابن ماجه رقم (2874) والحميدي رقم (341) والطيالسي رقم (1621) وابن حبان رقم (14 - موارد) ومالك في " الموطأ "(2/ 982 - 983) والطبراني في " الكبير"(جـ24 رقم 470، 471، 472، 473، 475، 476).
والبيهقي في " السنن الكبرى (8/ 146) والحاكم في " المستدرك " (4/ 71) من طرق.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وخلاصة القول: أن حديث أميمة بنت رقيقة صحيح والله أعلم.
مدون في الأصول (1)
(1) قال الشوكاني في " إرشاد الفحول "(ص444):
الخطاب الخاص بواحد من الأمة إن صرح بالاختصاص به كما في قوله صلى الله عليه وسلم " تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدي " - تقدم تخريجه - فلا شك في اختصاصه بذل المخاطب وإن لم يصرح فيه بالاختصاص بذلك المخاطب مذهب الجمهور إلى أنه مختص بذلك المخاطب ولا يتناول غيره إلا بدليل من خارج.
وقال بعض الحنابلة وبعض الشافعية أنه يعم بدليل ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " وما روى عنه صلى الله عليه وسلم: " إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة ".
ولا يخفى أن الاستدلال بهذا خارج محل النزاع فإنه لا خلاف أنه إذا دل دليل من خارج على أن حكم غير ذلك المخاطب كحكمه كان له حكمه بذلك الدليل. وإنما النزاع في نفس تلك الصيغة الخاصة هل تعم بمجردها أم لا.
فمن قال أنها تعم بلفظها فقد جاء بما لا تفيده لغة العرب ولا تقتضيه وبجه من الوجوه. قال القاضي أبو بكر هو عام بالشرع لا بوضع اللغة للقطع باختصاصه به لغة. قال إمام الحرمين الجويني - في البرهان (1/ 370) -: لا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف إذا لا شك أن الخطاب خاص لغة بذلك الواحد، ولا خلاف أنه عام بحسب العرف الشرعي وقيل بل الخلاف معنوي لا لفظي لأنا نقول الأصل ما هو؟ هل هو مورد الشرع أو مقتضي اللغة؟ قال الصفي الهندي: لا نسلم أن الخطاب عام في العرف الشرعي.
قال الزركشي في " البحر المحيط "(3/ 191): " والحق أن التعميم منتف لغة ثابت شرعا والخلاف في أن العادة هل تقتضي بالاشتراك بحيث يتبادر فهم أهل العرف إليها أولا، فأصحابنا - يعني الشافعية - يقولون لا قضاء للعادة في ذلك كما لا قضاء للغة. والخصم يقول إنها تقضي بذلك " اهـ.
قال الشوكاني بعد ذلك: والحاصل في هذه المسألة على ما يقتضيه والحق يوجبه بالإنصاف - عدم التناول لغير المخاطب من حيث الصيغة، بل بالدليل الخارجي. وقد ثبت عن الصحابة فمن بعدهم الاستدلال بأقضيته صلى الله عليه وسلم الخاصة بالواحد أو الجماعة المخصوصة على ثبوت مثل ذلك لسائر الأمة، فكان هذا مع الأدلة الدالة على عموم الرسالة وعلى استواء أقدام هذه الأمة في الأحكام الشرعية مفيدا لإلحاق غير ذلك المخاطب بذلك. فعرفت بهذا أن الراجح التعميم حتى يقوم دليل التخصيص، لا كما قيل أن أراجح التخصيص حتى يقوم دليل التعميم لأنه قد قام كما ذكرناه.
وقد حكى بعض أهل الأصول الإجماع على ذلك (1).
قال - كثر الله فوائده - ولم يكتف بمجرد الغرر لكونه حكمة مجردة كما مر.
أقول: هذه دعوى مجردة كما مر.
قال - كثر الله فوائده -: ففي هذا أنه على ما قرره - عافاه الله - يكون بالجهل أشبه لا بالغرر.
هذا لا ينفعه ولا يضرنا؛ فقد بينا سابقا أن الجهل (2) غرر بنقل أئمة اللغة المعتبرين، وأما الرد بمخالفة بعض أهل العلم فليس من دأب المنصفين، وكونه أنيط بالمجلس، لأنه القدر الذي يتمكن فيه المغرور من الاطلاع على الغرر وأما ذات المجلس فطردي كما صرح به أئمة الأصول في عموم الأمكنة.
قال - كثر الله فوائده -: ففي هذين الخيارين به صرح المجيب بالجهل فيهما، وقد عرفت أنه ليس بغرر.
أقول: وعرفت أيضًا أن الجهل غرر لغة (3)، وأما دعوى أن ذلك حكمة مجردة بدليل كونه قد أنيط بالرؤية والعيب، وهما العلة والسبب، فلا يخفاك أن المتنازع استحق المشترى للمعيب أن يفسخه عند الاطلاع على العيب، والمشتري لما هو غائب عنه أن يفسخه عند الرؤية لعله كذا، فالعيب والرؤية سببان للفسخ، لا علتان له، ومثل هذا لا يخفى على من هو دون المجيب
(1) انظر " تيسير التحرير "(2/ 252)، " مختصر ابن الحاجب "(2/ 123).
(2)
انظر الرسالة رقم (110).
(3)
انظر " إرشاد الفحول "(ص 391)، و" البحر المحيط "(36 - 7)، " المخول "(ص138).
- عافاه الله -؛ فإن الفرق بين العلل والأسباب أوضح من الشمس (1).
(1) العلة تقدم تعريفها في الرسالة رقم (110):
أما السبب: فهم متميز عن العلة من جهة:
1) اللغة: فالسبب ما يتوصل به إلى غيره. ولو بوسائط - ومنه سمي الحبل سببا، وذكروا للعلة معاني يدور القدر المشترك فيها على أنها تكون أمرا مستمدا من أمر آخر. وقال أكثر النحاة: اللام للتعليل ولم يقولوا للسببية، وقالوا الباء للسببية ولم يقولوا للتعليل، وصرح ابن مالك بأن الباء للسببية والتعليل وهذا تصريح بأنهما غيران.
2) أما من جهة الاصطلاح الكلامي: فإنهما يشتركان في توقف المسبب عليهما ويفترقان من وجهين:
أحدهما: أن السبب يحصل الشيء عند لا به، والعلة ما يحصل به.
والثاني: أن المعلوم متأخر عن العلة بلا واسطة ولا شرط يتوقف الحكم على وجوده. والسبب إنما يقتضي الحكم بواسطة أم بوسائط، ولذلك يتراخى الحكم عنها حتى توجد الشرائط وتنتفي الموانع. وأما العلة فلا يتراخى الحكم عنها إذا اشترط لها، بل أوجبت معلولا بالاتفاق.
3) أما من جهة الاصطلاح أصولي: العلة في لسان الفقهاء تطلق على المظنة أي الوصف المتضمن لحكمة الحكم، كما في القتل العمد العدوان، فإنه يصح أن يقال: قتل لعلة القتل، وتارة يطلقونها على حكمة الحكم، كالزجر الذي هو حكمة القصاص. فإنه يصح أن يقال: العلة الزجر.
وأما السبب: فلا يطلق على إلا على مظنة المشقة دون الحكمة إذ بالمظنة يتوصل إلى الحكم لأجل الحكمة.
4) أما من جهة الاصطلاح الفقهي: السبب يطلق في اصطلاح الفقهاء على أربعة أمور:
أ ـ السبب الذي يقال أنه مثل العلة كالرمي، فإنه سبب حقيقة إلا أنه في حكم العلة، لأن عين الرمي لا أثر له في الحكم حيث لا فعل منه، ومنه الزنى.
ب ـ ما يكون الطارئ مؤثرا ولكن تأثيره مستند إلى ما قبله، فهو سبب من حيث استناد الحكم إلى الأول لا استناد الوصف الأخر إلى الأصل.
ج ـ ما ليس سببا بنفسه ولكن بصير سببا غيره، كقولهم: القصاص وجب ردعا وزجرا، ثم قالوا: وجب لسبب القتل، إذ القتل علة القصاص، فقطعوا الحكم عن العلة، وجعلوه متعلقا بالعلة. والعلة غير الحكم.
د ـ ما يسمى سببا مجازا من حيث أنه سبب لما يجب، كقولهم الإمساك سبب القتل وليس سبب القتل حقيقة، فإنه ليس يفضي إلى القتل، بل القتل باختيار القاتل. لكنه سبب المتمكن من القتل بإلحاق، وقيل: سبب القتل، فالأسباب لا تدعوا هذه الوجوه.
الفقهاء يقولون: العلة هي التي يتبعها الحكم.
السبب ما تراخى عنه الحكم ووقف على شرط أو شيء بعده.
انظر " البحر المحيط "(5/ 115 - 116)، " الكوكب المنير "(4/ 8 - 12)، "إرشاد الفحول "(ص702).
قال - كثر الله فوائده -: قد كررت أن الغرر لمجرده حكمه مجرد
…
إلخ.
أقول: وكررت أنا أن هذه الدعوى مجردة كما كررت أن رد كلام بعض أهل العلم بمخالفتهم لبعض منهم ليس دأب أهل الإنصاف.
قال - كثر الله فوائده -: ثم ما المراد بتقرير كونها موجودة في جميع الخيارات؟
…
إلخ.
أقول: هذا بحث قوي، وسؤال سوي، والذي نريده أن الغرر إذا وجد في أنواع المبيعات التي لم ينص عليها الشارع كان له حكم ما نص عليه، وهكذا إذا وجد في نوع من أنواع المبيعات غير الأنواع التي ذكرها أهل الفقه فله حكمه، فتارة يكون ذلك الإلحاق بلحن الخطاب (1)، وتارة يكون بفحواه (2).
وأما ما ذكره - عافاه الله - من أن النهى عن بيع الغرر يقتضي بطلانه فهكذا معناه الحقيقي، لكنه لما أثبت الشارع الفسخ في بعض بيوع الغرر كالمصراة (3)، وتلقي الجلب، ومن يخدع في البيوع، والعيب، والرؤية، كان ذلك دليلا على أن بعض أنواع الغرر ينعقد معه البيع، ويثبت الفسخ، أو يكون ذلك دليلا على أن النهي عن بيع الغرر وإن كان مفيدا للتحريم لكنه لا يستلزم الفساد المرادف للبطلان، بل يصح العقد،
(1) تقدم تعريفه.
(2)
تقدم تعريفه.
(3)
انظر" المغني "(6/ 23 - 33).
ويثبت الفسخ وتكون هذه الأدلة الواردة في هذه المواضع قرينة صارفة عن اقتضاء الفساد، أو عن المعنى الحقيقي، وهو التحريم من أصله، وأما ما ألزم به -عافاه الله - من اختلاط أحكام تلك الخيارات ومصيرها شيئا واحدا (1)، واختلافها معلوم، فإن كان هذا العلم بالدليل فممنوع، وقد أوضحنا ما يقتضيه الدليل، وإن كان ذلك لكونه قد قال به بعض أهل العلم فليس ذلك بحجة تمنع من المخالفة، وهذا واضح لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده - مما لا طائل تحته ولا يفيد المستمع لمعلوميته.
أقول: ليس هذا جواب من قال: لا أدري بأي مسلك ثبت ذلك، بل جوابه أن يقال: ثبت بمسلك كذا، والبرهان على الأصلية والفرعية والحكم العلية كذا، هذا هو الذي ينبغي أن يجاب به، فإن أجيب بما لا يفيد ذلك فهو الجواب الذي لا طائل تحته، ولا يفيد المستمع لعدم ربطه بالبرهان المقبول. وأما دعوى أن خيار الإجازة (2) فرد من أفراد خيار المغابنة فهذا من أغرب ما يطرق سمع من يسمع، وكيف يقبل العاقل فضلا عن العالم أن فسخ العقد لمبيع باعه غير مالكه بغير ولاية شرعية (3) فرد من أفراد عقد باعه من له ولاية شرعية!.
وأما ما ذكره - عافاه الله - من قوله: فها هنا أصل
…
إلخ. فيجاب عنه الذي طلب بيان الأصلية والفرعية والعلية والحكم له بطلب البيان بأي وجه كان، وعلى أي صفة وقع بل طلب شأن ذلك بالبرهان، فهذا يفيد أن العلامة الشرفي - حماه الله - لم يلم بمراد السؤال، ولا جس فيه بنص علمه الإشكال، ولا أسرف على ما في تلك الرسالة بحال كما قال في جوابات السؤال.
قال - كثر الله فوائده -: وسلم صلاحيته في المصراة فقط فهو فيها بمعنى
(1) انظر الرسالة رقم (110).
(2)
انظر أحكامها في " المغني "(8/ 10 - 11).
(3)
انظر " فتح الباري "(4/ 349 - 325).
التغرير، وليس الغرر في أكثر الخيارات بهذا المعنى.
أقول: لكن أهل اللغة (1) لم يفرقوا بين الغرر والتغرير كما أوضحناه سابقا، والمدلول اللغوي (2) عند عدم وجود الحقيقة الشرعية. فما عول عليه - عافاه الله - من الفرق بين الغرر والتغرير إن كان لبيان أصل الفرق بينهما فمسلم، ولا ينفعه ولا يضرنا، وإن كان لبيان كون ذلك الفرق يخرج أحدهما عن معنى الغرر لغة الذي هو محل النزاع فممنوع، والسند ما تقدم به من النقل، واختلاف أمرين في بعض الذاتيات أو العرضيات لا يمنع من اندراجهما تحت أمر يعمهما كالإنسان، والفرس؛ فإن اخل افهما في الناطقية والصاهلية، واستقامة القامة، وظهور البشرة، والضحك لا يمنع من كونه يقال على كل واحد منهما أنه حيوان في جواب ما هو؟ وأما ما ذكره - عافاه الله - من مخالفة حيث المصراة للقياس فقد تقدم جوابه (3).
قال - كثر الله فوائده -: أحدهما أن خيار العيب أصل برأسه.
أقول لكن العلة الغرر كما بيناه، وذلك لا ينافى تسميته خيار عيب فإنه سمي بذلك لسببية العيب للخيار لا لعليته له.
وأما ما ذكره من تخلف الحكم في العيب، وأنه نقض قادح. فنقول: تخلف الحكم للدليل الخاص فكان ذلك من بناء العام على الخاص، فليس بنقض (4) ولا كسر (5).
(1) تقدم في بداية الرسالة.
(2)
تقدم في بداية الرسالة.
(3)
في الرسالة رقم (110).
(4)
النقض هو تخلف الحكم مع وجود العلة ولو في صورة واحدة فإن اعترف المستدل بذلك كان نقضا صحيحا عن من يراه قادحا، وأما من لم يره قادحا فلا يسميه نقضا بل يجعله من باب تخصيص العلة.
وانظر مزيد تفصيل " تيسير التحرير "(4/ 138)، و" البحر المحيط "(5/ 261).
(5)
الكسر: هو إسقاط وصف من أوصاف العلة المركبة وإخراجه عن الاعتبار بشرط أن يكون المحذوف مما لا يمكن أخذه في حد العلة.
ومنهم من فسره: بأنه وجود المعنى في صورة مع عدم الحكم فيه، والمراد وجود معنى تلك العلة في موضع آخر ولا يوجد معها ذلك الحكم وعلى هذا التفسير يكون كالنقص ولهذا قال ابن الحاجب في " المختصر " (2/ 269): هو نقض المعنى والكلام فيه كالنقض. ومثاله أن يعلل المستدل على القصر في السفر بالمشقة فيقول المعترض: ما ذكرته من المشقة أرباب الصنائع في الحضر.
وقد ذهب الأكثرون إلى أن الكسر غير مبطل وأما الفخر الرازي والبيضاوي وجماعة من الأصوليين فجعلوه من القوادح.
انظر "المنهاج "(2/ 398 - شرح الأصفهاني)، " البحر المحيط " للزركشي (5/ 279).
وأما ما ذكره من العارضة ففيه قوة لو ربطه بدليل حتى يخلص من شوب المصادرة.
قال - كثر الله فوائده -: وعرفت أن العموم من عوارض (1) الألفاظ
…
إلخ.
أقول: لم يذكر إلا عموم العلة، وأوردنا حديث المصراة (2) للاستدلال به على أنه ثبت فيه الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع كون العلة الغرر، وكذلك حديث تلقي الجلب (3)، وحديث حبان (4)، فإنه إيراد هذه الأدلة ليس إلا لثبوت الخيار فيها للمكلف البائع عن نفسه، مع كونه العلة الغرر على ما قررناه فثبتت الخيار للمكلف البائع عن نفسه، مع وجود العلة التي هي الغرر في بيعه.
قال - كثر الله فوائده -: فإن الترتيب الخيار على قوله: هذا القول: دون مجرد الخداع أمر مكشوف
…
إلخ.
أقول: لكن هذا الكشف مجرد دعوى، فلا يتم حتى يربط بدليل، وهو اتفاق أهل الفهم على ذلك، وهو ممنوع، فقد وقع الاختلاف، أو أن المدلول اللغوي لا يحتمل إلا ذلك فهو مدفوع، فإن الكل من الاحتمالين يحتمله الكلام اللغوي، ويتناوله المقصد الشرعي فإن كل واحد منهما مقصد من مقاصد الشارع، أو أنه قد ورد دليل الشرع فأوجب المصير إلى ذلك، فأين هذا الدليل؟
(1) ذهب الجمهور إلى أن العموم من عوارض الألفاظ، فإذا قيل هذا لفظ عام صدق على حسب الحقيقة.
انظر " جمع الجوامع "(1/ 398)، " المنخول "(ص138).
(2)
تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).
(3)
تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).
(4)
تقدم تخريجه في الرسالة رقم (110).
قال - كثر الله فوائده -: فإنه دفع في وجه التعليل النبوي
…
إلخ.
أقول: بل هو جمع بين الأدلة الشرعية؛ إذ لا معارضة عند التحقيق، فإن رزق البعض (1) من البعض لا ينافيه ثبوت الخيار عند وجود مسمى الغرر، لا عقلا، ولا شرعا، ولا عرفا، لأن غاية ما علل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما قاله من النهي عن بيع الحاضر للبادي أنه يرزق الله بعض العباد من بعض إذا باع البادي لنفسه بنفسه، وذلك إما لكون الغالب على أهل البادية السماحة، فلا يكثرون المماكسة، ولا يطيلون المماحكة مع كونهم يعلمون أنهم لو صنعوا في بيوعاتهم ما يصنعه الحاضر من كثرة التحسين والتزيين والانتظار إلى وقت الغلاء، والتربص لوقت النفاق لباعوا بثمن مثل الثمن الذي يبيعه الحاضر به، ولكنهم يتسامحون وتطيب أنفسهم بدون ذلك ولا غرر عليهم، ولا مخادعة لهم.
وقد أشرنا إلى هذا المعنى في تلك الرسالة (2)، وهو ما يستلزم ما فهمه - عافاه الله - من أن الحديث دليل على ما استدل به عليه، لأنه لا غرر أصلا، فكيف يجزم بأن مثل هذا الوجه دفع في وجه التعليل النبوي! وهو عنه أجنبي. ثم قلنا في تلك الرسالة: وعلى تقدير أنهم باعوا جاهلين
إلخ.، وهذا أيضًا لم يدفع في وجه التعليل النبوي ولا معارض له، بل هو جمع حسن، وترجيح مقبول.
قال - كثر الله فوائده - فإن هذه الاجتهادات لا تسوغ
…
إلخ.
أقول: قد أطال -أطال الله بقاءه - الكلام هاهنا في غير طائل، فإنه لا يخفى عليه ولا على ذي فهم وعلم أن حكم الحاكم إثباتا ونفيا إذا تعلق بالاطلاع على قيمة العين المتنازع فيها في غبن أو غيره أنه لا يتمكن الحاكم من الحكم، ولا يرتفع النزاع بين الخصمين إلا بالرجوع إلى تقويم العدول؛ إذ لم يرد في هذه الشريعة المطهرة أن قيمة تلك
(1) تقدم في الرسالة رقم (110) وانظر الرسالة رقم (112).
(2)
رقم (110).
العين كذا، وانقطع الوحي بعد عصر النبوة، فلم يبق إلا الرجوع إلى التقويم العدول، وليس هذا بمستنكر عند المتشرعين، فقد شرع الله الرجوع إلى حكم العدول في جزاء الصيد فقال:[يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ](1)، وقال في الخصومة العارضة بين الزوجين:[فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا](2) فالحاكم الذي لا يجد سبيلا إلى الخصومة بين الخصمين إلا بتقويم العدول لا يكون أمره بالتقويم من الاجتهاد الذي لا يسوغ، بل من الإقتداء بما شرعه الله في كتابه العزيز، هؤلاء العدول لا يكون لم يتعين عليهم القيام بذلك التقويم، ولا هو فرض عين عليهما، ولا كلفهما الله سبحانه به، وفى الدنيا من يحسن هذا التقويم غيرهما، بل في كل قرية جماعة، فهما إذا طلبا الأجرة أو امتنعا من التقويم إلا بها لم يكن تعيين الحاكم لها مخالفة للشريعة بل المخالف للشريعة المبنية على العدل هو إتعاب النفوس قسرا أو قهرا بلا أجر، ومطل العاملين بلا وجه شرعي، ولا حجة نيره فالحاكم إذا ألزم الخصمين (3) أو أحدهما بتسليم أجرة العدول المقومين موزعا ذلك على حسب ما حصل للغريمين من جلب النفع، ودفع الضر ليس يجتهد اجتهادا لا يسوغ، والمفروض أنه لم يطلب التقويم أحد الخصمين بل طلبه الحاكم لرفع الخصومة، ودفع الشجار إقتداء بتحكيم الحكمين في جزاء الصيد. وقد حلت أجرة الشهود الذين يشهدون بما قد وجب عليهم تأديته إذا احتاجوا إلى قطع مسافة، أو مزاولة، فكيف لا يحل الأجرة لعمل المقومين مع كونه لم يجب عليهم ذلك التقويم، ولا تقدم لهم ما يوجبه عليهم! والأمر في هذا واضح.
وإلى هنا انتهى الكلام على اعتراضات العلامة الشرفي - كثر الله فوائده - التي كتبها
(1)[المائدة:95].
(2)
[النساء: 35].
(3)
انظر " المغني "(14/ 9 - 12).
على رسالتي (1) المسماة: إيضاح الدلالات على أحكام الخيارات.
(1) قال ابن قدامة في " المغني "(14/ 137 - 138) ومن له كفاية، فليس له أخذ الجعل على الشهادة، لأنه أداء فرض، فإن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا.
وإن لم تكن له كفاية، ولا تعنيت عليه، حل له أخذه، لأن النفقة على عياله فرض عين، فلا يشتغل عنه بفرض الكفاية، فإذا أخذ الرزق جمع بين الأمرين، وإن تعينت له الشهادة، احتمل ذلك أيضا، واحتمل أن لا يجوز، لئلا يأخذ العوض عن أداء فروض الأعيان قال أصحاب الشافعي: لا يجوز أخذ الأجرة لمن تعينت له.
ولنذكر الآن الكلام على ما اعترض به المولى العلامة ضياء الإسلام، نبراس الآل الكرام إسماعيل بن أحمد ابن محمد الكبسي (1) - كثر الله فوائده -.
وسنقتصر على أوجز عبارة، لأن الكلام قد طال، وقد دخل في الجواب (2) على العلامة الشرفي - حماه الله - غالب جوابات اعتراضات الضياء -عافاه الله -.
قال - كثر الله فوائده -: الأول أنه أراد أن يجمع الخيارات
…
إلخ.
أقول: ربط الشارع النسخ بالرؤية والعيب والشرط ونحوها لا يستلزم أنها العلل، بل هي الأسباب، ولها علل آخرة، ولا تلازم بين الأسباب والعلل كما لا يخفى.
قال - كثر الله فوائده -: الثاني أن الغرر الذي جعله علة لجميعها لم يضبطه
إلخ.
أقول: قد أوضحناه في الرسالة إجمالا، وأوضحناه في أوائل هذه الورقات بما يستفاد منه أنه منضبط مبين، غير مناف لما ذكره أهل العلم في ذلك.
قال - كثر الله فوائده - فلا استقر عقد
…
إلخ.
أقول قد أوضحنا في الرسالة أنه لا بد أن يعلم أنه يعتقد وجود ما لم يوجد حال العقد، فلا يلزم قبول قوله مطلقا، ولا استقرار العقد.
أقول - كثر الله فوائده -: وأقر بأنه مغرور إلخ.
أما إذا أقر بأنه غير مغرور فلا خيار، وليعلم- عافاه الله - أن مجرد عدم رؤية المبيع محتملة لوجود الغرر (3)، لأنه إذا رآه يمكن أن يجده على صفة غير ما ظنه، أو تخيله، فليس الخير كالمعاينة (4)، لكنه إذا أقر بأنه غير مغرور فقد أبطل ما أثبته له الشارع، فيكون ذلك كإسقاط الخيار الثابت، فالإلزام ملتزم، ولا يرد ما أورده من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: فله الخيار إذا رآه، لأن ذلك ثابت مع عدم الإسقاط، وأما مع
(1) تقدمت ترجمته.
(2)
انظر الرسالة رقم (111).
(3)
انظر " المغني "(6/ 30 - 34).
(4)
أخرجه أحمد في مسنده (1/ 215) من حديث ابن عباس بسند صحيح.
الإسقاط أو الإقرار بما يوجب سقوط الخيار، وعدم الغرر فلا يخالف الحديث، وإلا لزم المخالفة للحديث إذا أسقط خيار الرؤية، فإنه يقال عليه: إن هذا الإسقاط يوجب بطلان الخيار، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:" فله الخيار إذا رآه "(1) وما هو جوابه عن الإسقاط للخيار، فهو جوابنا عن الإقرار بعدم الغرر.
قال - كثر الله فوائده -: الرابع أنا قد وجدنا الخيارات
…
إلخ.
أقول: قد تقدم الجواز عن هذا الوجه في جوابات اعتراضات العلامة الشرفي - حماه الله - فليرجع إليها. وقد قدمنا أن المقرر في الأصول أن خطاب الواحد وإن لم يعم باعتبار الصيغة فهو يعم باعتبار أمور خارجة (2) كما تقدم بيانه، وهو إجماع كما حكاه بعض أهل الأصول.
قال - كثر الله فوائده - وهكذا من وهم أن فكرته تستدرك حكما حادثا إلخ.
أقول تقدم بيان الوجه بما لا يبقى معه ريب لمرتاب، ونزيد ذلك هاهنا بيانا فنقول: إن قلتم أنه لا يجوز الحكم إلا بأسباب معلومة محضورة، وهي الشهادة واليمين والإقرار، وأنه لا يجوز للحاكم أن يحكم بغيرها، وإن أفاد مفادها، أو زاد عليها طلبنا منكم الدليل الذي يدل على أسباب انحصار الحكم في هذه الأسباب، فأوضحوا لنا ما هو؟ فإن مجرد جعله أسبابا كقوله: شاهداك أو يمينه (3)، ونحو ذلك لا يفيد أنه لا أسباب إلا هي، لا بمطابقة، ولا بتضمن ولا التزام. ومن زعم أن النص على سبب أو أسباب لشيء يستلزم أنه لا سبب إلا ما وقع النص عليه، مع أنه لم يكن فيه صيغة من صيغ
(1) أخرجه الدارقطني في " السنن"(3/ 4رقم10) وقال:" عمر بن إبراهيم يقال له الكردي يضع الأحاديث وهذا باطل لا يصح، لم يروها غيره، وإنما يروي عن ابن سيرين موقوفا من قوله ".
والبيهقي في " السنن الكبرى "(5/ 268). وقد تقدم الحديث في الرسالة رقم (110).
(2)
انظر " إرشاد الفحول "(ص444 - 445).
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه رقم (2669و2670) ومسلم في صحيحه رقم (220/ 138) من حديث الأشعث بن قيس.
الحصر، ولا لفظ من الألفاظ الدالة على سببية الغير، فقد غلط على اللغة غلطا بينا، وأيضا يلزمكم إن علم الحاكم (1)، والنكول (2)، ورد اليمين ليست (3) بأسباب لعدم النص عليها، مع أن شهادة الشاهدين لا يفيد إلا لمجرد الظن على أنهم لم يعتبروا حصول الظن للحاكم بل قالوا: يكفي أن لا يظن الكذب، وكذلك إقرار المقر لا يفيد الحاكم العلم بأنه مطابق للواقع لجواز أن يكون كاذبا في إقراره، فغاية ما يستفاد من إقرار المقر على نفسه هو مجرد ظن الصدق، وأما يمين المدعي فهي أضعف من هذين السببين في تحصيل الظن للحاكم، وإذا كان غاية ما يفيده هذه الأسباب للحاكم هو مجرد الظن، فكيف لا يجوز له أن يحكم بما يفيد مفادها! أو يزيد عليها كعلم الحاكم مع عدم ورود ما ينفي العمل بذلك عن الشارع، لما قدمنا من أن مجرد النص على سبب لا ينفي غيره مما يحلق به بفحوى الخطاب أو لحنه.
فإن قلتم: الدليل على حكم الحاكم بعلمه أدلة إطلاع بالعلم. قلنا: وهكذا كل ما يفيد العلم. وإن قلتم: الدليل على أن النكول ورد اليمين سببا أدلة العمل بالظن. وهكذا كل ما يفيد الظن كائنا ما كان، والفرق تحكم. ومع هذا فلست ممن
(1) انظر الرسالة رقم (63).
(2)
قال الشوكاني في " السيل "(3/ 322 - 323): الأسباب التي ورد بها الشرع هي الإقرار أو البينة أو اليمين، فإذا حصل واحد من هذه وجه الصحة فقد وجب به في حكم الشرع. ووجب عنده إلزام الخصم.
* وأما النكول فهو وإن كان أقوى القرائن على صدق دعوى المدعي ولكنه لما كان الحامل عليه قد يكون الترفع عن اليمين كما يفعله كثير من المتكبرين، وقد يكون الحامل عليه مزيد الغباوة ممن توجهت عليه اليمين وعدم علمه بأن اليمين واجبة عليه، وقد يكون الحامل عليه ما يعتقده كثير من العامة أن مجرد الحلف ولو على حق لا يجوز وأنه الفاعل له، فلما كان الأمر هكذا لم يكن مجرد النكول سببا شرعيا للحكم.
(3)
قال الشوكاني في " السيل الجرار "(3/ 325) لم يصح شيء في يمين الرد قط، وما روى في ذلك فلا يقوم به حجة، ولا ينتهض للدلالة على المطلوب، والأسباب الشرعية لا تثبت إلا بالشرع.
يعمل في الحكم بكل ظن، ويكتفي فيه بأي سبب، لكنه اقتضى هذا الكلام زيادة إيضاح لنا.
وإذا تقرر هذا علمت أن رد ما ذكرناه في تلك الرسالة من تقدير العدول، واعتماد الحاكم عليهم، وتحليل الأجرة لهم، بمثل حديث: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه، ليس على ما ينبغي، على أن نقول: إن البينة المذكورة في هذا الحديث وغيره هي ما يتبين به الحق، ولا ينحصر ذلك في شهادة الشهود فهو عليكم لا لكم.
وفي هذا المقدار كفاية. وقد اقتصرنا في هذه الورقات على الكلام على ما اعترض به العلامتان على تلك الرسالة، وتركنا الكلام على ما قرراه لأنفسهما، لأن البحث في ذلك يطول جدا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.