المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل: في نهي المرأة أن تخبر زوجها أو غيره بحسن بدن امرأة أخرى إذا لم تدع إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية - جـ ٧

[ابن علان]

فهرس الكتاب

- ‌باب بيان ما يباح من الغيبة

- ‌باب أمر من سمع غيبة شيخه أو صاحبه أو غيرهما بردها وإبطالها

- ‌باب الغيبة بالقلب

- ‌باب كفارة الغيبة والتوبة منها

- ‌باب في النميمة

- ‌باب النهي عن نقل الحديث إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه ضرورة لخوف مفسدة ونحوها

- ‌باب النهي عن الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع

- ‌باب النهي عن الافتخار

- ‌باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم

- ‌باب تحريم احتقار المسلمين والسخرية منهم

- ‌باب غلظ تحريم شهادة الزور

- ‌باب النهي عن المنِّ بالعطيَّة ونحوها

- ‌باب النهي عن اللعن

- ‌فصل في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين والمعروفين

- ‌باب النهي عن انتهار الفقراء والضعفاء واليتيم والسائل ونحوهم، وإلانة القول لهم والتواضع معهم

- ‌باب في ألفاظ يكره استعمالها

- ‌فصل: في النهي عن سبِّ الريح

- ‌فصل: يكره سب الحمى

- ‌فصل: في النهي عن سب الديك

- ‌فصل: في النهي عن الدعاء بدعوى الجاهلية وذمّ استعمال ألفاظهم

- ‌فصل: يحرم سبُّ المسلم من غير سبب شرعي يجوِّز ذلك

- ‌فصل: في النهي أن يتناجى الرجلان إذا كان معهما ثالث وحده

- ‌فصل: في نهي المرأة أن تُخبر زوجها أو غيره بحسن بدن امرأة أخرى إذا لم تَدْعُ إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك

- ‌تتمة

- ‌باب النهي عن الكذب وبيان أقسامه

- ‌باب الحث على التثبت فيما يحكيه الإنسان والنهي عن التحديث بكل ما سمع إذا لم يظن صحته

- ‌باب التعريض والتورية

- ‌باب ما يقوله ويفعله من تكلم بكلام قبيح

- ‌باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

- ‌كتاب جامع الدعوات

- ‌باب في آداب الدعاء

- ‌باب دعاء الإنسان وتوسله بصالح عمله إلى الله تعالى

- ‌باب رفع اليدين في الدعاء ثم مسح الوجه بهما

- ‌باب استحباب تكرير الدعاء

- ‌باب الحث على حضور القلب في الدعاء

- ‌باب فضل الدعاء بظهر الغيب

- ‌باب استحباب الدعاء لمن أحسن إليه وصفة دعائه

- ‌باب استحباب طلب الدعاء من أهل الفضل وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه، والدعاء في المواضع الشريفة

- ‌باب نهي المكلف عن دعائه على نفسه وولده وخادمه وماله ونحوها

- ‌باب الدليل على أن دعاء المسلم يجاب بمطلوبه أو غيره وأنه لا يستعجل بالإجابة

- ‌كتاب الاستغفار

- ‌باب النهي عن صمت يوم إلى الليل

الفصل: ‌فصل: في نهي المرأة أن تخبر زوجها أو غيره بحسن بدن امرأة أخرى إذا لم تدع إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك

بالناسِ مِنْ أجْلِ أنَّ ذلك يُحْزِنُه".

وروينا في "صحيحيهما" عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا كُنْتُمْ ثَلاثةَ فَلا يَتَنَاجى اثنانِ دُونَ الثالِثِ" ورويناه في سنن أبي داود، وزاد قال أبو صالح الراوي عن ابن عمر: قلت لابن عمر: فأربعة؟ قال: لا يضرُّك.

‌فصل: في نهي المرأة أن تُخبر زوجها أو غيره بحسن بدن امرأة أخرى إذا لم تَدْعُ إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك

روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال:

ــ

تناجى اثنين دون الثالث يحرم الثلاثة أو الأربعة دون واحد منفرد منهم فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يأذن ومذهب جماهير العلماء أن النهي عام في كل وقت حضراً وسفراً وقال بعضهم: إنما ينهى عنها في السفر لأنه مظنة الخوف وادعى بعضهم أن الحديث منسوخ وأنه كان أول الإسلام فلما فشا وأمن النّاس سقط قاله المصنف وهذا البعض كما قال الحافظ هو القاضي عياض وتعقبه القرطبي بأنه تحكم وتخصيص لا دليل عليه وقال ابن العربي الخبر عام اللفظ والمعنى والعلة الحزن وهو موجود حضراً وسفراً فوجب أن يعمهما النهي جميعاً اهـ. قال الحافظ واختلف فيما إذا انفرد جماعة بالتناجي دون جماعة قال ابن التين حديث عائشة في قصة فاطمة دال على الجواز وحديث ابن مسعود فأتيته وهو في ملأ فساررته ففي ذلك دليل على أن المنع

يرتفع إذا بقي جماعة لا يتأذون بالسرار والله أعلم. قوله: (وروينا في صحيحيهما) وكذا رواه مالك. قوله: (إذا كانوا ثلاثة) الأكثر بالنصب على أنه خبر كان وفي رواية بالرفع على لغة أكلوني البراغيث وكان تامة ولمسلم وإذا كان ثلاثة بالرفع كذا في شرح الجامع للعلقمي. قوله: (قال لا يضرك) أي إذا تساررت مع واحد من الثلاثة إما إذا تسار ثلاثة دون واحد فدخل تحت النهي لوجود المعنى فيه وهو الحزن كما تقدم.

قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) قال السخاوي في ختم كتاب

ص: 107

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تُباشِرِ المَرأةُ المَرأةَ

ــ

مسلم وقع لأبي منصور الديلمي في مسنده عزو هذا الحديث إلى صحيح مسلم ولم أره فيه وأما عزو البيهقي بعد أن أخرجه بزيادة جملة النهي عن تناجي الاثنين دون الثالث فأراد أصل الحديث فإن جملة التناجي خاصة فيه اهـ. وقد أخرج هذا الحديث الذي ذكره المصنف عن الصحيحين أحمد وأبو داود والترمذي كما في الجامع الصغير. قوله: (لا تباشر المرأة الخ) قال ابن النحوي في شرح البخاري قال أبو الحسن القابسي هذا الحديث. من أبين ما يحمي به الذرائع نهى صلى الله عليه وسلم أن تباشر المرأة المرأة وبين لما نهاها عن ذلك وأخبر أن ذلك قد ينتهي بها إلى أن تصف لزوجها ما رأت منها صفة تقوم مقام نظره إليها فلعل ذلك يدخل في قلب زوجها من الموصوفة فتنة فيكون ذلك سبباً لطلاق زوجته ونكاحها إن كانت أيماً وإن كانت ذات بعل كان ذلك سبباً لبغضه زوجته ونقصان منزلتها عنده وإن وصفتها بقبيح كان ذلك غيبة، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن مباشرة الرجل الرجل مثل نهيه المرأة وقد أخرجه الطبري من حديث ابن عباس قال الطبري: فيه -أي حديث ابن عباس- من البيان أن مباشرة الرجل الرجل والمرأة المرأة مفضياً كل واحد منهما بجسده إلى جسد صاحبه غير جائزة قال ابن النحوي وقد جاء مصرحاً به في حديث جابر مرفوعاً نهى أن يباشر الرجل الرجل في ثوب واحد والمرأة المرأة في ثوب واحد أخرجه أحمد وفي رواية الإسماعيلي في الأول إلا أن يكون بينهما ثوب، وهذه الأخبار على العموم فيما عنيت به وعلى الخصوص فيما يحتمله ظاهرها فإن الحجة قامت بالمصافحة في الرجال والنساء وذلك مباشرة من كل واحد منهما لصاحبه ببعض جسده فكان معلوماً بذلك إذا لم يكن في النهي عن المباشرة استثناء وكانت المصافحة مباشرة وهي من الأمور التي ندب إليها -ثم ساق بإسناده عن الحسن عن البراء مرفوعاً أن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما وعن عبد الله بن زحر عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة مرفوعاً تمام تحيتكم بينكم المصافحة ونحو

ذلك من الأخبار الدالة على أن المسلمين مندوب إلى مباشرة بعضهم بعضاً بالأكف

ص: 108

فَتَصِفُها لِزَوْجِها كأنهُ يَنْظُرُ إلَيها".

فصل: يكره أن يقال للمتزوِّج: بالرِّفاء والبنين، وإنما يقال له: بارك الله لك، وبارك عليك، كما ذكرناه في "كتاب النكاح".

فصل: روى النحاس عن أبي بكر محمد بن يحيى -وكان أحد الفقهاء العلماء الأدباء- أنه قال: يكره أن يقال لأحد عند الغضب: اذكر الله تعالى خوفاً من أن يحمله الغضب على الكفر، قال: وكذا لا

ــ

مصافحة عند الالتقاء- وكان محالاً اجتماع الأمر بفعل الشيء والنهي عنه في حال واحد علم أن الذي ندب العبد إلى المباشرة به جسم أخيه غير الذي نهى عنه من مباشرته ولا يحتاج إلى ما ذكره اهـ. قوله: (فتصفها) بالنصب جواب النهي. قوله: (لزوجها) أي زوج الناعتة.

قوله: (كما ذكرناه في النكاح) وتقدم ما فيه ثمة.

قوله: (يكره أن يقال لأحد الخ) وكذا يكره أن يقال صل على النبي صلى الله عليه وسلم خوفاً مما ذكر. قوله: (خوفاً من أن يحمله الغضب الخ) وقد تقدم في باب ما يقول إذا غضب من حديث سليمان بن صردانة لما استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم واحمر وجه أحدهما فقال صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد لو قال أعوذ باللهِ من الشيطان الرجيم ذهب عنه ما يجد فقالوا له إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال: وهل بي من جنون، لم يضبط نفسه من ثورة الغضب حتى صدر عنه ذلك اللفظ الذي لا يصدر من كامل المعرفة بقدر المصطفى صلى الله عليه وسلم كما تقدم تحقيقه وفي تنبيه الأخيار لابن حجر وكره أن يقال للغضبان اذكر الله خوفاً من كفره وما صح من أمره صلى الله عليه وسلم أن يقال له تعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا ينافيه لأن سورة الغضب إن حملت على نحو سب إنما تقع هنا للشيطان على أن في سماعه أعظم زاجر وأبلغ راشد إلى أن غضبه من الشيطان فيكف عنه ومن ثم يبعد أخذ ندب هذا من

ص: 109

يقال له: صلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم، خوفاً من هذا.

فصل: من أقبح الألفاظ المذمومة، ما يعتاده كثيرون من النّاس إذا أراد أن يحلف على شيء فيتورَّع عن قوله: والله، كراهية الحنث أو إجلالاً لله تعالى وتَصوُّناً عن الحلف، ثم يقول: الله يعلم ما كان كذا، أو لقد كان كذا ونحوه، وهذا العبارة فيها خطر، فإن كان صاحبها متيقناً أن الأمر كما قال فلا بأس بها، وإن تَشَكَّكَ في ذلك فهو من أقبح القبائح، لأنه تعرَّض للكذب على الله تعالى، فإنه أخبر أن الله تعالى يعلم شيئاً لا يتيقن كيف هو، وفيه دقيقة أخرى أقبح من هذا، وهو أنه تعرَّض

ــ

هذا الحديث.

قوله: (من أقبح الألفاظ المذمومة الخ) أخذ منه السيوطي كراهة ذلك فقال: وكره عند التورع عن الحلف الله يعلمه وتعقبه ابن حجر الهيتمي في تنبيه الأخيار بأنه ليس بصحيح بإطلاقه ولا مطابق لأصله يعني الأذكار بل المستفاد منه انها إما كفر بأن تيقن عدم وقوع شيء ونسب علم وقوعه إلى الله تعالى أو عكسه كأن قال الله يعلم أني ما فعلت كذا وهو عالم بأنه فعله لأنه ينسب إلى الله تعالى الجهل بنسبته إليه العلم بخلاف ما في الواقع أو مباحة بأن نسب لعلمه ما هو واقع يقيناً كالله يعلم أني فعلت كذا وقد فعله بل لا يبعد ندبه إذا علم من منكر فعله أنه لا يصدقه في حلفه لظنه تورية أو غيرها ويصدقه إذا قال ذلك ويؤيد الندب هنا استحبابهم اليمين لنحو تأكيد خبر وإما حرام بأن شك هل فعل كذا ثم قال: الله يعلم أني فعلته والحرمة في هذه ظاهرة يدل لها جعل الأذكار من أقبح الألفاظ المذمومة تارة ومن أقبح القبائح أخرى والمكروه لا يطلق فيه واحد من هذين إلا على تجوز بعيد وأيضاً فيبعد في محل يحتمل الكفر والكذب على السواء أن يعد من حيز المكروه وعلى كل فإطلاق

الجلال الكراهة ليس في محله إذ لا نزاع في الحكمين الأولين والحرمة في الثالث أقرب من الكراهة اهـ. قوله: (متيقناً أن الأمر كما قال) أي من نفى الفعل إن قصد النافية أو ثبوته إن قصد بها -ما-.

قوله: (فلا بأس بها)

ص: 110

لوصف الله تعالى بأنه يعلم الأمر على خلاف ما هو، وذلك لو تحقق كان كفراً، فينبغي للإنسان اجتناب هذه العبارة.

فصل: ويكره أن يقول في الدُّعاء: اللهُم اغفر لي إن شئت، أو إن أردت، بل يجزم بالمسألة.

روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يَقُولَنَّ أحَدُكُمْ: اللهُم

ــ

أي هي مباحة.

قوله: (ويكره أن يقال في الدعاء) أي على سبيل التنزيه. قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) وكذا رواه. قوله: (لا يقولن أحدكم) أي على سبيل الكراهة التنزيهية وبه صرح المصنف في شرح مسلم وقال ابن عبد البر في التمهيد لا يجوز لأحد أن يقول اللهم أعطني إن شئت من أمور الدين والدنيا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه كلام مستحيل لا وجه له لأنه لا يفعل إلا ما يشاء لا شريك له اهـ. وظاهره التحريم وقد يؤول على نفي الجواز المستوي الطرفين وهو بعيد من كلامه قال العلماء سبب كراهته أنه لا يتحقق استعمال المشيئة إلا في حق من يتوجه عليه الإكراه والله تعالى منزه عن ذلك وهو معنى قوله في الحديث الثاني فإنه لا مستكره له وقيل سبب الكراهة إن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه وكان هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل وإلا استغنى عنه ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء وكان ذلك دليلاً على قلة اكتراثه بذنوبه وبرحمة ربه وأيضاً فإنه لا يكون موقناً بالإجابة وقد قال عليه الصلاة والسلام ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاه ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتف بالنهي عن ذلك حتى أمر بنقيضه فقال ليعزم المسألة في الدعاء أي ليجزم في طلبه وليحقق رغبته ويتيقن الإجابة فإنه إذا فعل ذلك دل على علمه بعظم قدر ما يطلب من المغفرة والرحمة وعلى أنه مفتقر لما يطلب مضطر إليه وقد وعد الله المضطر بالإجابة

ص: 111

اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، اللهُم ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، لِيَعْزِمِ المسألة، فإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ".

وفي رواية لمسلم: "وَلَكِنْ لِيَعْزِم المسألة وَلْيُعظِم الرَّغْبَةَ، فإن اللهَ لا يَتَعَاظَمُهُ شَيءٌ أعْطاهُ".

وروينا في "صحيحيهما" عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا دَعا أحَدُكُمْ فَلْيَعْزِمِ المَسألَةَ، ولا يَقُولَنَّ: اللَّهُمَّ إنْ شِئْتَ فأعْطِني، فإنَّهُ لا مُسْتكْرِهَ لهُ".

ــ

بقوله {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} كذا في المفهم للقرطبي وقال العراقي بعد أن ذكر الكراهة إن في هذا اللفظ صورة الاستغناء عن المطلوب والمطلوب منه ما لفظه والمعتمد ما ذكر في الحديث. قوله: (ليعزم المسألة) عزم المسألة الشدة في طلبها والجزم به من غير ضعف في الطلب ولا تعليق

على المشيئة ونحوها وقيل هو حسن الظن في الإجابة. قوله: (فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه) أي لا يعجزه شيء. قوله: (وروينا في صحيحهما) ورواه أحمد والنسائي كلهم من حديث أنس كما في الجامع الصغير قال السخاوي ورواه أبو عوانة. قوله: (فإنه لا مستكره له) قال القرطبي هذا إظهار لعدم فائدة تقييد الاستغفار والرحمة بالمشيئة لأن الله تعالى لا يضطره إلى فعل شيء دعاء ولا غيره بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء ولذا قيد الإجابة بالمشيئة في قوله تعالى {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ} فلا معنى لاشتراط مشيئته فيما هذا سبيله اهـ. وتقدم عن بعضهم في باب الأذان أن هذه الآية مقيدة للآيات التي فيها إجابة الدعاء مطلقة عن ذلك القيد، فإن قلت قد ورد التقييد في قوله عليه السلام أحيني ما علمت الحياة خيراً لي وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي، قلت إنما قيد هناك طلب الحياة بكونها خيرة له وطلب الوفاة بكونها خيرة له مع أنه قد يقدر له الحياة مع كون الخيرة في قرب وفاته لما يكون في تلك الحياة من الغيبة وقد يقدر له الوفاة مع كون الخيرة له في طول الحياة لما فيها من اكتساب الخير وهذا مثل الاستخارة في الأمور المشتبهة وقد ورد بها الحديث الصحيح أما مشيئة الله تعالى

ص: 112

فصل: ويكره الحلف بغير أسماء الله تعالى وصفاته، سواء في ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، والكعبةُ، والملائكةُ، والأمانةُ، والحياةُ، والروحُ، وغير ذلك. ومن أشدها كراهة: الحلف بالأمانة.

وروينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ

صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يَنْهَاكُمْ أنْ تَحْلِفُوا بآبائِكُمْ، فمَنْ كانَ حالِفاً فَلْيَحْلِفْ باللهِ، أو لِيَصْمُتْ" وفي رواية في الصحيح: "فمَن كانَ حالِفاً فلَا يَحْلِفْ إلا بالله أوْ لِيَسْكُتْ".

وروينا في النهي عن

ــ

فلا تقع ذرة في الوجود إلا بها فلا معنى لتعلق الطلب بها.

قوله: (يكره الحلف بغير أسماء الله وصفاته) أي لخبر الصحيحين إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم الخ ولخبر لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا تحلفوا إلا بالله رواه النسائي وابن حبان وصححه قال الإِمام وقول الشافعي أخشى أن يكون الحلف بغير الله معصية محمول على المبالغة في التنفير من ذلك نعم إن اعتقد في المحلوف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى كفر وعليه يحمل خبر الحاكم من حلف بغير الله فقد كفر، ثم الكراهة في الأول إذا حلف بالقصد وخلا عن ذلك التعظيم فإن سبق لسانه بلا قصد فلا كراهة بل هو لغو يمين وعليه حمل خبر الصحيحين في قصة الأعرابي الذي قال لا أزيد على هذا ولا أنقص أفلح وأبيه. قوله:(وروينا في صحيحي البخاري ومسلم الخ) ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة من حديث ابن عمر، قال السخاوي واختلف فيه على رواية الزهري، والبخاري عن ابن عيينة ومعمر وعن أولهما أخرجه مسلم كلاهما عن الزهري عن سالم عن ابن عمر واتفقا عليه من غير جهتهما عن الزهري لكن بقيد كونه من حديث ابن عمر عن أبيه وهو صحيح من هذا الوجه أيضاً وإلى الاختلاف عن الزهري أشار البخاري في كتاب الإيمان

والنذور من صحيحه اهـ. قوله: (أو ليصمت) بضم الميم تخيير بين الحلف بالله وترك الحلف رأساً. قوله: (وفي رواية في الصحيح) قال السخاوي بعد تخريجها وزاد في آخر الحديث وكانت قريش تحلف بآبائها: فقال -يعني النبي صلى الله عليه وسلم- لا تحلفوا بآبائكم

ص: 113

الحلف بالأمانة تشديداً كثيراً.

فمن ذلك ما رويناه في سنن أبي داود بإسناد صحيح عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مَنْ حَلَفَ بالأمانَةِ فَلَيسَ مِنَّا".

فصل: يكره إكثار الحلف في البيع ونحوه وإن كان صادقاً.

ــ

أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والنسائي. قوله: (فمن ذلك ما رويناه في سنن أبي داود) قال في الترغيب ورواه أحمد وإسناده صحيح والنسائي والبزار وابن حبان في صحيحه وهو أول حديث تتمته ومن خبب على امرئ زوجه أو مملوكه فليس منا وقال السخاوي بعد تخريجه بجملته هذا حديث حسن رواه أبو يعلى في مسنده والحاكم في مستدركه وقال إنه صحيح الإسناد وأورده الضياء في المختارة اهـ. قوله: (فليس منا) أي على هدينا وطريقتنا أو ليس على ملتنا إن اعتقد في الأمانة من التعظيم ما يعتقده في الله سبحانه وتعالى كما تقدم قال الخطابي وسبب ذلك أنه إنما أمر أن يحلف بالله وصفاته وليس الأمانة من صفاته وإنما هي أمر من أمره وفرض من فروضه فنهوا عنه لما في ذلك من التسوية بينها وبين أسماء الله وصفاته اهـ.

فائدة

بحث الجلال البلقيني في حرمة الحلف بحياة مخلوق أو برأسه لأن ذلك خص الله به نبيه تكرمة له بقوله لعمرك إنهم الآية قال ابن حجر الهيتمي في تنبيه الأخيار ويرد بأنه مع مخالفته لصريح كلام الأئمة لا يتم إلا لو أذن الله للناس في الحلف بحياة نبيه دون غيره ولم يقع ذلك وإنما الذي وقع تخصيصه تعالى بحلفه بحياته مع التأكيد باللام وغيرها ولم يفعل ذلك لغيره وهي الكرامة العظمى ولا يؤخذ منها ما ذكر الحلال بوجه وقد نهى صلى الله عليه وسلم النّاس عن الحلف به وبغيره من الخلق فتحريم بعض الصور فقط تحكم اهـ.

قوله: (يكره إكثار الحلف في البيع ونحوه) قال تعالى: {وَلَا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} أي لا تكثروا منها لتصدقوا ولخبر إنما الحلف حنث أو ندم رواه ابن حبان في صحيحه. قوله: (وإن كان صادقاً) إن قيل العبارة صريحة في كراهة الإكثار من الإيمان في حال الكذب أيضاً مع أنها حرام حينئذٍ

ص: 114

روينا في "صحيح مسلم" في أبي قتادة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إياكُمْ وَكَثْرَةَ الحَلفِ في البَيعِ، فإنَّهُ يُنْفقُ ثم يَمْحَقُ".

فصل: يكره أن يقال: قوس قزح لهذه التي في السماء.

روينا في "حلية الأولياء" لأبي نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَقولُوا: قَوْسَ قُزَحَ، فإنَّ قُزَحَ شَيطانٌ،

ــ

ولذا حذف الجلال السيوطي هذه الغاية في اختصاره قلت هو صحيح يفيد تحقيقاً حسناً غفل عنه الجلال السيوطي إذ معناه أن الإكثار من حيث هو إكثار مكروه في حالتي الصدق والكذب والحرمة في الكذب لأمر آخر فعلم أنه لا يلزم من الحرمة العرضية خروج الإكثار عن حكمه وهو الكراهة من حيث هو إكثار ونظيره قولهم يسن للصائم صون لسانه عن الكذب والغيبة أي أن إمساكه عن ذلك من

حيث إنه صوم سنة وإن كان في ذاته واجباً ذكره ابن حجر في تنبيه الأخيار. قوله: (روينا في صحيح مسلم) وكذا رواه أحمد والنسائي وابن ماجه كلهم من حديث أبي قتادة كما في الجامع الصغير. قوله: (ينفق) بضم التحتية وفتح النون وكسر الفاء وبالقاف من النفاق ضد الكساد. قوله: (ثم يمحق) في الصحاح محقه الله ذهب ببركته.

قوله: (روينا في حلية الأولياء الخ) قال الحافظ السخاوي بعد تخريجه حديث ضعيف لضعف رواية زكريا يعني ابن حكيم الخبطي ذكره العقيلي في ترجمته من كتاب الضعفاء ولفظ حديثه فإن قزح هو الشيطان ولبعضه شاهد عند الطبراني في معجمه الكبير والأوسط بسند لين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمان لأهل الأرض من الغرق القوس الحديث وعند البخاري في الأدب المفرد من حديث يوسف بن مهران عن ابن عباس قال القوس أمان لأهل الأرض من الغرق والمجرة باب السماء الذي تنشق منه ومن حديث أبي الطفيل قال: سأل ابن الكوا علياً رضي الله عنه عن المجرة فقال: هي شرج السماء ومنها فتحت السماء بماء منهمر اهـ. قوله: (فإن قزح شيطان) قال في

ص: 115

ولَكِنْ قُولُوا: قَوسُ الله عز وجل، فَهُوَ أمانٌ لأهْلِ الأرْضِ".

قلت: قزح بضم القاف وفتح الزاي، قال الجوهري وغيره: هي غير مصروفة، وتقوله العوام: قدح، بالدال، وهو تصحيف.

فصل: يكره للإنسان إذا ابتلي بمعصية أو نحوها أن يخبرَ غيره بذلك، بل ينبغي أن

يتوبَ إلى الله تعالى، فيقلع عنها في الحال، ويندم على ما فعل، ويعزم أن لا يعود إلى مثلها أبداً، فهذه الثلاثة هي أركان التوبة، لا تصح إلا باجتماعها، فإن أخبر بمعصيته شيخه أو شبهه ممن يرجو بإخباره أن يعلِّمه مخرجاً

ــ

النهاية أي من أسماء الشيطان قيل سمي به لتسويله للناس وتحسينه إليهم المعاصي من التقزيح وهو التحسين وقيل من القزح وهو الطرائق والألوان التي في النفوس الواحدة قزحة أو من قزح الشيء إذا ارتفع قال ابن حجر في تنبيه الأخيار وبالحديث يرد زعم أنه قوس قزع لأن القزع السحاب. قوله: (ولكن قولوا قوس الله) كأنه كره ما كانوا عليه من عادات الجاهلية وأمر أن يقال قوس الله ليرفع قدرها كما يقال بيت الله وقالوا قوس الله أمان من الغرق. قوله: (غير مصروفة) أي للعلمية والعدل التقديري.

فائدة

قال السيوطي في جمع الجوامع في علم النحو له ما جاء علماً وهو معدول تقديراً محصور بحسب السماع في أربعة عشر اسماً عمر وزفر ومضر وقثم وزحل وجشم وجمح وقزح وعصم وجحى ودلف وهبل وبلع وثعل وعدل الجميع عن فاعل إلا الأخير فعن أفعل.

قوله: (ونحوها) الظاهر أن مراده بها ما يعد هتكاً للمروءة كذكر جماع الحليلة من غير تفاصيله

وإلا كان كبيرة. قوله: (أن يخبر بذلك غيره) أي إذا لم يكن على وجه التفكه والتذكر لحلاوتها وإلا فيحرم لأنه يبعث على العودة إليها. قوله: (فهذه الثلاثة أركان التوبة) تقدم الكلام على ما يتعلق بالتوبة في باب تحريم الغيبة والنميمة. قوله: (فإن أخبر بمعصيته شيخه الخ) هذا هو الصحيح وإطلاق السيوطي كراهة الإخبار بالمعصية ليس في محله كما

ص: 116

من معصيته، أو ليعلِّمه ما يَسْلم به من الوقوع في مثلها، أو يعرِّفه السبب الذي أوقعه فيها، أو يدعوَ له، أو نحو ذلك، فلا بأس به، بل هو حسن، وإنما يُكره إذا انتفت هذه المصلحة.

روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كلُّ أمَّتي معافىً إلا المُجاهِرينَ، وإنَّ مِنَ المُجاهَرَةِ أنْ يعمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلاً ثم يُصْبِحُ وقَدْ سَتَرَهُ اللهُ تعالى علَيهِ، فيَقُولُ: يا فُلانُ عَمِلْتُ البارِحَةَ كَذَا وكَذَا، وقَدْ باتَ يَسْتُرُهُ ربَّهُ، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللهِ عَليهِ".

فصل: يحرم على المكلِّفَ أن يحدِّث عبدَ الإنسان، أو زوجتَه، أو ابنَه، أو غلامَه، ونحوهم بما يفسدهم عليه إذا لم يكن ما يحدِّثهم به أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر. قال الله تعالى:

ــ

قال ابن حجر في التنبيه.

قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) قال السخاوي ورواه أبو عوانة والبيهقي في الشعب والخرائطي في مساوي الأخلاق كلهم من حديث أبي هريرة اهـ. ورواه الطبراني في الأوسط لكن من حديث أبي قتادة وفي معنى الحديث من الآثار ما رواه الخرائطي عن مريم ابنة طارق أن امرأة قالت لعائشة إن كريباً أخذ بساقي وأنا محرمة فقال حجري حجري حجري وأعرضت بوجهها وقالت بكفها وقالت: يا نساء المؤمنين إذا أذنبت إحداكن ذنباً فلا تخبرن به النّاس ولتستغفر الله ولتتب إليه فإن العباد يغيرون ولا يغيرون والله يغير ولا يغير. قوله: (معافى) أي معفو عن ذنبه. قوله: (إلا المجاهرين) كذا هو في نسخة من البخاري بالياء على الأصل وفي نسخة منه إلا المجاهرون بالواو وقال الشيخ زكريا ووجهه أن العفو متضمن معنى الترك فكان الاستثناء من منفي أو أن إلا بمعنى لكن وما بعدها مبتدأ حذف خبره أي لا يعافون

ص: 117

{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18].

وروينا في كتابي أبي داود والنسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَبَّبَ زوجَةَ امرئٍ أو مَمْلوكَهُ فليسَ مِنَّا".

قلت: خبب بخاء معجمة ثم باء موحدة مكررة، ومعناه: أفسده وخدَعه.

فصل: ينبغي أن يقال في المال المُخرَج في طاعة الله تعالى: أنفقتُ وشبهه، فيقال: أنفقتُ في حجتي ألفاً، وأنفقتُ في غزوتي ألفين، وكذا أنفقتُ في ضيافة ضيفاني، وفي ختان أولادي، وفي نكاحي، وشبه ذلك، ولا يقول ما يقوله كثيرون من العوام: غرمت في ضيافتي، وخسرت في حجتي، وضيَّعت في سفري. وحاصله أنَّ أنفقتُ وشبهه يكون في

ــ

والمجاهر هو الذي جاهر بمعصيته وأظهرها. قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} قال في النهر قال ابن عباس البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه. {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ} المعاصي {وَالْعُدْوَانِ} التعدي في حدود الله اهـ. قوله: (رقيب) في مفردات الراغب رقبته احفظه والرقيب الحافظ وذلك إما لمراعاته رقبة المحفوظ وإما لرفعه رقبته والعتيد الحاضر المهيأ وتقدم الكلام على الآية في أول كتاب حفظ اللسان.

قوله: (وروينا في كتابي أبي داود والنسائي) هذا أحد ألفاظ أبي داود وفي لفظ له ليس منا من خبب امرأة على زوجها أو عبداً على سيده ورواه النسائي وابن حبان في صحيحه ولفظه من خبب عبداً على أهله ومن أفسد امرأة على زوجها فليس منا ورواه الطبراني في الصغير والأوسط من حديث ابن عمر ورواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط من حديث ابن عباس ورواة أبي يعلى كلهم ثقات وقال السخاوي بعد تخريجه بلفظ رواية ابن حبان المذكورة إلا أنه قال من خبب خادماً والباقي سواء حديث حسن أخرجه أحمد وهو عند البيهقي والحاكم

ص: 118

الطاعات. وخسرتُ وغرمتُ وضيعتُ ونحوها يكون في المعاصي والمكروهات، ولا تستعمل في الطاعات.

فصل: مما ينهى عنه ما يقوله كثيرون من النّاس في الصلاة إذا قال الإِمام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فيقول المأموم: إياك نعبد وإياك نستعين، فهذا مما ينبغي تركه والتحذير منه، فقد قال صاحب "البيان" من أصحابنا: إن هذا يبطل الصلاة، إلا أن يقصد به التلاوة، وهذا الذي قاله وإن كان فيه نظر والظاهر أنه لا يوافَق عليه، فينبغي أن يجتَنب، فإنه وإن لم يبطل الصلاة فهو مكروه في هذا الموضع، والله أعلم.

فصل: مما يتأكد النهي عنه والتحذير منه ما يقوله العوام وأشباههم

ــ

في صحيحه اهـ. وسبق في النهي عن الحلف بغير أسماء الله تخريج الحديث من حديث بريدة. قوله: (وغرمت الخ) أي فالتعبير بها في الخير خلاف الأولى وخلاف الأدب في التعبير وهو مراد الجلال السيوطي من ذكره ذلك في حيز المكروه قاله ابن حجر في تنبيه الأخيار.

قوله: (فقد قال صاحب البيان الخ) وتبعه عليه المصنف في التحقيق والفتاوى وقال ابن حجر في شرح المنهاج اعتمده أكثر المتأخرين وإن نازع فيه في المجموع وغيره ولا ينافيه اللهم إنا نستعينك إياك نعبد في قنوت الوتر إذ لا قرينة تصرفه إليها بخلافه هناك فاندفع ما للأسنوي هنا ومثل قصد التلاوة قصد الدعاء وقضية ما تقرر أنه لا أثر لقصد الثناء وقد يوجه بأنه خلاف موضوع اللفظ وفيه نظر لأنه بتسليم ذلك لا لموضوعه فإنه مثل كم أحسنت إلي وأسأت فإنه غير مبطل لإفادته ما يستلزم الثناء أو الدعاء اهـ. وعلى هذا فيحرم قول المأموم ذلك ومثله قوله استعنا بالله إن لم يقصد ما ذكر إن كان في صلاة فرض أو نفل لم يقصد قطعه وفي شرح المنهاج للرملي وكذا يبطل بقوله استعنا به قاصداً به الثناء والذكر على ما يؤخذ من التحقيق والمجموع وغيرهما إذ لا عبرة بقصد ما لم يفده اللفظ. قوله: (والظاهر أنه لا يوافق عليه الخ) ومثله

ص: 119

في هذه المكوس التي تؤخذ مما يبيع أو يشترى ونحوهما، فإنهم يقولون: هذا حق السلطان، أو عليك حق السلطان، ونحو ذلك من العبارات المشتملة على تسميته حقاً أو لازماً ونحو ذلك، وهذا من أشد المنكرات، وأشنع المستحْدثات، حتى في قال بعض العلماء: من سمى هذا حقاً فهو كافر خارج عن ملة الإسلام، والصحيح أنه لا يكفر إلا إذا اعتقده حقاً مع علمه بأنه ظلم، فالصواب أن يقال فيه: المكس، أو ضريبة السلطان، أو نحو ذلك من العبارات، وبالله التوفيق.

فصل: يكره أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة.

روينا في سنن أبي داود عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُسألُ بِوَجْهِ الله إلَاّ الجَنَّةُ".

ــ

في المجموع وظاهر كلام شرح الروض ترجيحه وفيه أن

المحب الطبري بحث في الصحة وجرى عليه الأسنوي وفي التجريد للمزجد قال المحب الطبري بعد ذكره كلام البيان الظاهر الصحة لأنه ثناء علي الله تعالى اهـ. والحاصل أن قول المأموم ما ذكر بعد قراءة الإِمام بدعة مبطلة عند الأكثرين إن لم يقصد تلاوة أو دعاء نهى عنها كما صرح به في المجموع وغير مبطلة مطلقاً على ما في المجموع وجرى عليه هنا.

قوله: (وهذا من أشد المنكرات الخ) صرح السيوطي بأن هذا القول مكروه -أي عند عدم قصد حقيقة ذلك- قال ابن حجر وهو من تصرفه الغير الحسن والذي دل عليه قول المصنف إنه من أشد المنكرات ويتأكد النهي عنه والتحذير منه أنه حرام وذلك لأنه كذب قبيح جداً.

قوله: (يكره أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة) وألحق بها كل خير. قوله: (المكس) في الصحاح المكس الخيانة والمكاس العشار وفي النهاية حديث لا يدخل الجنة صاحب مكس المكس الضريبة التي يأخذها الماكس وهو العشار. قوله: (روينا في سنن أبي داود) ورمز السيوطي إلى علامة الصحة بجانبه وقال ورواه الضياء المقدسي كلاهما عن جابر قال السخاوي وهو عند الديلمي في مسنده من وجهين عن جابر مرفوعاً

ص: 120

فصل: يكره منع من سأل بالله تعالى وتشفَّع به.

روينا في سنن أبي داود والنسائي بأسانيد صحيحة عن ابن عمر رضي الله عنهما قال:

ــ

وقال في تكملة أمالي شيخه بعد تخريج الحديث باللفظ المذكور حديث غريب رواه أبو داود عن القلوري قال ابن شاهين إنه تفرد به قال ولا أعلم أحداً حدث به إلا القلوري وهو حديث غريب اهـ. قال السخاوي رواه غير القلوري ثم بين ذلك وذكر الاختلاف في اسم القلوري وهو بكسر القاف وتشديد اللام وسكون الواو ثم راء مهملة قال وفي روينا في الجزء الثامن من حديث عبد الله الخراساني أن كلاًّ من عطاء وابن جريج قال بلغنا أنه يكره أن يسأل الله شيئاً من الدنيا بوجهه اهـ. فهي شواهد لحديث الباب.

قوله: (يكره منع من سأل بوجه الله تعالى) قال ابن حجر لا دليل في الحديث للكراهة إلا إن أريد بها خلاف الأولى اهـ. وفيه أن الأمر بالشيء نهي عن ضده والمكروه ما نهى عنه نهياً غير جازم وهذا منه وقد أخذ الفقهاء كراهة أشياء من ورود الأمر بضدها لما ذكرناه والله أعلم. قوله:

(روينا في سنن أبي داود والنسائي) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم في المستدرك كلهم من حديث ابن عمر وقال السخاوي بعد تخريجه باللفظ المذكور إلا أنه قال فأثنوا عليه بدل قوله فادعوا له والباقي سواء حديث حسن أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود في الأدب والزكاة من سننه والنسائي في الزكاة والسراج وعبد بن حميد في مسنديهما والبيهقي والضياء في المختارة وابن حبان والحاكم في صحيحيهما وقال الحاكم في الزكاة والبيوع إنه على شرط الشيخين زاد في البيوع ولم يخرجاه للخلاف الذي بين أصحاب الأعمش أي فإن جمهور الرواة عنه أخرجوه عنه عن مجاهد عن ابن عمر وأخرجه محمد بن أبي عبيدة من ذرية عبد الله بن مسعود عن أبيه عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن مجاهد رواه من طريقه ابن حبان في صحيحه هكذا وإلى هذه الطريق أشار الحاكم بقوله بعد روايته ورواه أبو بكر بن عياش عن

ص: 121

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اسْتعَاذَ باللهِ فأعِيذُوهُ، وَمَنْ سألَ باللهِ تَعالى فَأعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فأجِيبُوهُ، ومَنْ صَنَعَ إلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فكافِئُوهُ فإنْ لَمْ تَجِدُوا ما تُكافِئُونَهُ فادْعُوا لَهُ حتَّى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كافأتُمُوهُ".

فصل: الأشهر أنه يكره أن يقال: أطال الله بقاءَك. قال أبو جعفر النحاس

ــ

الأعمش فقال عن أبي حازم عن أبي هريرة أخرجه الحاكم في صحيحه وعند البيهقي في الشعب وصحح الحاكم إسناده ورواه إسماعيل بن زكريا عن الأعمش فقال عن مجاهد عن ابن عباس ورواه وضاح بن يحيى النهشلي عن مندل عن الأعمش فقال عن نافع عن ابن عمر ورواه شريك عن الأعمش فقال عن مجاهد مرسلاً لم يذكر ابن عمر ولا غيره أشار إليها الدارقطني وقد رواه أحمد من حديث ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن ابن عمر وكذا رواية العوام عن مجاهد وأصحها الأول كما قاله الدارقطني وكذا صحح حديث ليث ومن جهتهما أخرجه الضياء في المختارة وله شاهد أخرجه أبو داود عن ابن عباس رفعه بلفظ من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سألكم بوجه الله فأعطوه وهو عند أحمد في مسنده وابن خزيمة في التوحيد وأفادت هذه الرواية استحباب الإعطاء لمن سأل بذلك مع كونه ارتكب منهياً وقد قال البيهقي في الشعب ينبغي للسائل أن يعظم أسماء الله تعالى فلا يسأل بشيء منها من عرض الدنيا شيئاً وينبغي للمسؤول إذا سئل باللهِ ألا يمنع ما استطاع وجاء عن ابن عباس حديث مرفوع في الترهيب من تركه ولفظه ألا أنبئكم بشر النّاس منزلة الذي يسأل بوجه الله أخرجه البيهقي وكذا أخرجه النسائي والترمذي وقال الترمذي حسن غريب وعند البيهقي من حديث يعقوب بن عاصم عن عبد الله بن عمر ولا أعلمه إلا رفعه قال من سئل بوجه الله فأعطى كتب له سبعون حسنة اهـ. قوله: (من استعاذ بالله) أي من مكروه تقدرون على رفعه عنه. قوله: (ومن دعاكم فأجيبوه) أي وجوباً في وليمة النكاح ندباً في باقي الولائم. قوله: (فكافئوه) أي بمعروف من جنسه أو من غير جنسه. قوله: (فادعوا له) وتقدم من قال لأخيه جزاك الله خيراً فقد أبلغ في الثناء.

قوله: (الأشهر أنه يكره أن يقال أطال الله بقاءك) نازع الأذرعي في إطلاق الكراهة

ص: 122

في كتابه "صناعة الكتَّاب" كره بعض العلماء قولهم: أطال الله بقاءك، ورخص فيه بعضهم. قال إسماعيل بن إسحاق: أول من كتب "أطال الله بقاءك" الزنادقة. وروي عن حماد بن سلمة رضي الله عنه أن مكاتبة المسلمين كانت: من فلان إلى فلان: أما بعد، سلام عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، وأسأله أن يصلي على محمد وعلى آل محمد، ثم أحدثت الزنادقة هذه المكاتبات التي أولها: أطال الله بقاءك.

فصل: المذهب الصحيح المختار أنه لا يكره قول الإنسان لغيره: فداك أبي وأمي، أو جعلني الله فداك، وقد تظاهرت على جواز ذلك الأحاديث المشهورة في "الصحيحين" وغيرهما، وسواء كان الأبوان مسلمَين أو كافِرَين، وكره ذلك بعض العلماء إذا كانا مسلمَين. قال النحاس: وكره مالك بن أنس: جعلني الله فداك، وأجازه بعضهم. قال القاضي عياض: ذهب جمهور العلماء إلى جواز ذلك، سواء كان المفدَّى به مسلماً أو كافراً.

قلت: وقد جاء من الأحاديث الصحيحة في جواز ذلك ما لا يحصى، وقد نبَّهتُ على جمل منها في "شرح صحيح مسلم".

فصل: ومما يذمُّ من الألفاظ: المِرَاءُ، والجِدال، والخُصومة. قال

ــ

واختار أن الدعاء بذلك لأهل الدين والعلم وولاة العدل قربة ولغيرهم مكروه بل حرام.

قوله: (المذهب الصحيح المختار أنه لا يكره قول الإنسان لغيره فداك أبي وأمي) وقد تقدم في ترجمة سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له وقال للزبير أيضاً فداك أبي وأمي ولا يحصى تقريره الصحابة على قولهم ذلك له صلى الله عليه وسلم. قوله: (وسواء كان الأبوان مسلمين أو كافرين) أي لأنه ليس القصد به ظاهره وحقيقته بل التواد والملاطفة مع المخاطب. قوله: (من الأحاديث الصحيحة) بيان لما في قوله ما لا يحصى.

قوله:

ص: 123

الإِمام أبو حامد الغزالي: المِراء: طَعْنُكَ في كلام الغير لإظهار خلل فيه لغير غرض سوى تحقير قائله، وإظهار مزيتك عليه، قال: وأما الجِدال، فعبارةٌ عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها، قال: وأما الخصومة، فَلَجاج في الكلام ليستوفيَ به مقصودَه من مال أو غيره، وتارة يكون ابتداءً، وتارة يكون اعتراضاً، والمراء لا يكون إلا اعتراضاً، هذا كلام الغزالي.

واعلم أن الجدال قد يكون بحق وقد يكون بباطل، قال الله تعالى:{وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وقال تعالى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] فإن كان الجدال الوقوف على الحق وتقريره كان محموداً، وإن كان في مدافعة الحقِّ، أو

ــ

(لإظهار خلل فيه) علة للطعن وكذا قوله لغير غرض. قوله: (تحقير قائله) أي بإظهار الخلل في كلامه. قوله: (مزيتك) بفتح الميم وكسر الزاي وتشديد التحتية أي ارتفاعك عليه. قوله: (وأما الجدال الخ) فهو أخص من المراء وفي التهذيب الجدل والجدال والمجادلة مقابلة الحجة بالحجة قال وأصله الخصومة الشديدة سمي جدلاً لأن كل واحد يحكم خصومته وحجته إحكاماً بليغاً على قدر طاقته تشبيهاً بجدل الحيل وهو إحكام فتله. قوله: (واعلم أن الجدال قد يكون بحق) أي في يكون قصده إقامة الحق وإظهاره لا تحقير غيره وحينئذٍ فإطلاق الجدال عليه مجاز لأنه صورته. قوله: (وقد يكون بباطل) بأن يكون قصده تحقير غيره أو إقامة باطل. قوله: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ

الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي من الملاطفة في الدعاء إلى الله والتنبيه على آياته. قوله: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} . قوله: (فإن كان الجدال للوقوف على الحق الخ) وعليه ينزل ما جاء من مدح الجدال وعلامة ذلك أن لا يغضب من ظهور الحق على لسان خصمه ولذا قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه ما ناظرت أحداً

ص: 124

كان جدالاً بغير علم كان مذموماً، وعلى هذا التفصيل تُنَزَّلُ النصوص الواردة في إباحته وذمه، والمجادلة والجدال بمعنى، وقد أوضحتُ ذلك مبسوطاً في "تهذيب الأسماء واللغات".

قال بعضهم: ما رأيت شيئاً أذهب للدِّين، ولا أنقص للمروءة، ولا أضيع للذة، ولا أشغل للقلب من الخصومة.

فإن قلت: لا بد للإنسان من الخصومة لاستبقاء حقوقه.

فالجواب ما أجاب به الإِمام الغزالي: أن الذمَّ المتأكِّد إنما هو لمن خاصم بالباطل أو بغير علم، كوكيل القاضي، فإنه يتوكل في الخصومة قبلَ أن يَعْرِفَ أن الحقَّ في أي جانب هو فيخاصم بغير علم.

ويدخل في الذمِّ أيضاً مَنْ يطلب حقه، لكنه لا يقتصر على قدر الحاجة، بل يظهر اللَّدَد والكذب للإيذاء والتسليط على خصمه، وكذلك من خلط بالخصومة كلمات تؤذي، وليس له إليها حاجة في تحصيل حقه، وكذلك من يحمله على الخصومة محضُ العِناد لقهر الخصم وكسره، فهذا هو المذموم، وأما المظلوم الذي ينصُرُ حجَّتَه بطريق الشرع من

ــ

إلا ورجوت أن يظهر الحق على يده. قوله: (وعلى هذا التفصيل الخ) قال في التهذيب وقد ذكر الخطيب في كتابه كتاب الفقيه والمتفقه جميع ما جاء في الجدل ونزله على هذا التفصيل وكذا ذكر غيره. قوله: (ما رأيت أذهب للدين الخ) وجه الخصومة مذهبة له أنه قل من يضبط من محرمات نحو الخصام من غيبة وسعاية وحقد ونحو ذلك عند الخصام إلا من حفظه الله تعالى. قوله: (الذم المتأكد إنما هو لمن خاصم بالباطل) أي فهو حرام حينئذ لما فيه من تقوية الباطل والخصومة في إقامته. قوله: (وليس له إليها حاجة) أما عند الحاجة فظاهر كلامه جواز الإيذاء عند الحاجة إليه بأن عرف من عادة الخصم أنه لا يقر بالحق إلا بردعه ببعض الكلمات المؤذية له فلا بأس بها حينئذٍ. قوله: (فهذا هو المذموم) أي فيحرم كما يفهم من قوله الآتي ففعله هذا أي الجامع لتلك الشرط ليس حراماً. قوله: (أما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف

ص: 125

غير لَدَدٍ وإسرافٍ وزيادة لجَاج على الحاجة، من غير قصد عناد ولا إيذاءٍ، ففعله هذا ليس حراماً، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً، لأن ضبط اللسان في الخصومة على حدِّ الاعتدال متعذِّر، والخصومة تُوغِر الصدور، وتهيِّج الغضب، وإذا هاج الغضب حصل الحِقد بينهما، حتى يفرح كل واحد بمساءَة الآخر، ويحزن بمسرَّته، ويطلق اللسان في عرضه، فمن خاصم فقد تعرَّض لهذه الآفات، وأقلُّ ما فيه اشتغال القلب حتى أنه يكون

ــ

وزيادة لجاج على الحاجة من غير قصد عناد ولا إيذاء) أي غير محتاج إليه وإلا كإرسال رسول القاضي ليحضره لا حرج فيه وإن تأذى به (ففعله ليس حراماً)، أفهم

أنه متى وجد شيء مما نفاه حرمت الخصومة أما حرمتها في نصرة حجته بغير طريق الشرع فواضحة جلية وأما حرمتها فيما إذا نصرها بالشرع لكن مع إلداد وإسراف أو عناد أو زيادة لجاج على قدر الحاجة للإيذاء. وقوله: (لغير حاجة) ظاهره يجوز اللجاج للحاجة وكذا ما قبله لكن إن أدى اللدد وما بعده إلى نحو كذب أو تمويه باطل ضمه لحجته حرم ذكره ابن حجر في تنبيه الأخيار ثم قوله: "ففعله ليس حراماً" صريح في تحريم ما قبله من المراء والجدال بغير الحق وتحريم الخصومة إذا وجد فيها شيء مما نفاه، وقد وقع للجلال السيوطي في أذكار الأذكار أنه أطلق القول بكراهة المراء والجدال والخصومة ولم يقيدها بما ذكره المصنف وتعقبه ابن حجر بقوله كيف ساغ له الجزم بكراهة المراء مع تفسيره له بأنه ليس القصد منه إلا تحقير الغير الذي هو محرم إجماعاً فالصواب أنه حرام غليظ التحريم وبكراهة الجدال بغير حجة مع تفسير النووي له بأنه الجدال في مدافعة الحق والجدال بغير الحق في كل من هذين تحريمه ظاهر جلي فمن أظهر مذهبه بما يعلم بطلانه فقد جادل بغير حجة وارتكب عظيم الإثم لنصرته الباطل أو ترويجه على السامع وبكراهة الخصومة من غير قيد مع اشتراط النووي لعدم تحريمها أن ينصر حجته بطريق الشرع الخ. قوله:(ولكن الأولى تركه) فكثرة الخصومات عدها صاحب العدة من الصغائر وإن كان الشخص

ص: 126

في صلاته وخاطره معلَّق بالمحاجة والخصومة، فلا يبقى حاله على الاستقامة. والخصومةُ مبدأُ الشرِّ، وكذا الجدالُ والمراء، فينبغي أن لا يفتحَ عليه باب الخصومة إلا لضرورة لا بد منها، وعند ذلك يحفظ لسانه وقلبه عن آفات الخصومة.

روينا في كتاب الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفَى بِكَ إثْماً أنْ لا تَزَالَ مُخاصِماً".

وجاء عن عليٍّ رضي الله عنه قال: إن للخصومات قُحَماً.

قلت: القحم بضم القاف وفتح الحاء المهملة: هي المهالك.

فصل: يكره التقعير في الكلام بالتَّشَدُّق وتكلَّفِ السَّجْع والفَصَاحة والتصنَّع بالمقدمات التي يعتادها المتفاصحون وزخارف القول، فكل ذلك من التَكلُّف المذموم، وكذلك تكلُّف السجع، وكذلك التحرِّي في دقائق

ــ

محقاً كما نقله عنه الشيخان ثم بعضهم قال أراد بالصغيرة ما يقابل الكبيرة فيأثم بذلك واستشكل بأنه يبعد تأثيم المحق في خصومته إلا أن يقال من أكثر الخصومات وقع في الإثم وبعضهم قال أراد بالصغيرة ما يشبهها في رد الشهادة وإن لم يكن فيه إثم واعترض بأن إطلاق الصغيرة على ذلك خارج عن اصطلاح الفقهاء. قوله: (وكذا الجدال) أي المذموم. قوله: (روينا في كتاب الترمذي) وقال الترمذي إنه حديث غريب. قوله: (وجاء عن علي الخ) في كتاب الأم للشافعي عن علي أنه وكل في خصومة وهو حاضر وكان يقول إن الخصومة لها قحماً. قوله: (القحم بضم القاف وفتح الحاء هي المهالك) في النهاية القحم هي الأمور العظيمة الشاقة واحدتها قحمة اهـ. وعد المطرزي في المغرب فتح الحاء خطأ.

قوله: (وتكلف السجع والفصاحة) أي وأما البلاغة ما لم تصل إلى حد الإسهاب فمحمودة عند العلماء فإن وصلت إليه فمذمومة وكذا إذا كان ممن يجادل بها لتزيين الباطل وتحسينه بلفظه ويريد إقامته

ص: 127

الإعراب ووحشيِّ اللغة في حال مخاطبة العوام، بل ينبغي أن يقصدَ في مخاطبته لفظاً يفهمه صاحبه فهماً جلياً ولا يستثقله.

روينا في كتابي أبي داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله

عنهما أن رسول الله

ــ

في صورة الحق فهذا هو المذموم الذي ورد فيه التغليط الشديد، وفي كتاب معيد النعم للقاضي تاج الدين السبكي في ذكر طوائف العلماء ومنهم طائفة استغرق حب النحو واللغة عليها وملأ فكرها فأداها إلى التقعر في الألفاظ وملازمة وحشي اللغة بحيث خاطبت به من لا يفهمه وحن لا ننكر أن الفصاحة فن مطلوب واستعمال غريب اللغة عزيز حسن لكن مع أهله ومع من يفهمه كما حكي أن أبا عمرو بن العلاء قصده طالب ليقرأ عليه فصادفه بكلام البصرة وهو مع العامة يتكلم بكلامهم لا يفرق بينه وبينهم فنقص من عينه ثم لما نجز شغل أبي عمرو مما هو فيه تبعه الرجل إلى أن دخل الجامع فأخذ يخاطب الفقهاء بغير ذلك اللسان فعظم في عينه وعلم أنه كلم كل طائفة بما يناسبها من الألفاظ فهذا هو الصواب فإن كل واحد يكلم على قدر فهمه ومن اجتنب اللحن وارتكب العالي من اللغة والغريب منها وتحدث بذلك مع كل واحد فهو ناقص العقل وربما أتى بعض هذه الطائفة من ملازمته هذا الفن بحيث اختلط بلحمهم ودمهم فسبق لسانهم إليه وإن كانوا يخاطبون من لا يفهمه ثم أخرج عن أبي العباس أحمد بن إبراهيم الوراق أنه قال ازدحم النّاس على عيسى بن عمرو النحوي وقد سقط عن حماره وغشي عليه فلما أفاق وأخذ في الاستواء للجلوس قال: ما بالكم تكأكأتم علي ولا تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني، وافرنقعوا بلغة أهل اليمن تنحوا فهذا الرجل كان إماماً في اللغة وكانت هذه الحالة منه لا تقتضي أن يقصد هذه الألفاظ بل هي دأبه فسبق إليها لسانه، ثم أخرج حكايات عديدة من هذا القبيل قال ولا ينكر أنهم يأتون بالألفاظ الكثرة استعمالهم لها وغلبتها على ألسنتهم ظناً منهم أن كل أحد يعرفها وإلا فكيف يذكرونها في وقت لا يظهر فيه لاستعمالها سبب غير ذلك ووحشي اللغة هي الكلمة الغريبة في الاستعمال وذلك مخل بالفصاحة. قوله:(بل ينبغي أن يقصد في مخاطبته الخ) أي فيخاطب كلاً بما يليق به كما تقدم عن أبي عمرو بن العلاء.

قوله: (روينا في كتابي أبي داود والترمذي) وكذا رواه الإِمام أحمد كما في الجامع الصغير وأورد

ص: 128

-صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله يُبْغِضُ البليغَ مِنَ الرجالِ الذي يتَخَلَّلُ بلسانِهِ كما تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ" قال الترمذي: حديث حسن.

وروينا في "صحيح مسلم" عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ" قالها ثلاثاً. قال العلماء: يعني بالمتنطعين: المبالغين في الأمور.

وروينا في كتاب الترمذي عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن مِنْ أحبَّكُمْ إليَّ، وأقْرَبِكُمْ منِّي مَجْلِساً

ــ

في النهاية وقال في آخر كلما تتخلل الباقرة الكلأ بلسانها قال العاقولي ضرب المثل بالبقرة لأنها تأخذ نبات الأرض والعلف بألسنتها دون سائر الدواب فإنها تأخذ ذلك بأسنانها فنبه بذلك على أن أولئك لا يهتدون إلى مأكل إلا بهذه الطريق كما أن البقرة لا تتمكن أن تأكل إلا بهذه الطريق وأنهم في فعلهم هذا لا يفرقون بين قول الحق والباطل بل أنهم بصدد تحصيل شيء سواء كان بقول باطل أو

بحق والباقرة جمع البقر واستعماله بالتاء قليل. قوله: (يتخلل بلسانه) هو الذي يتشدق بالكلام ويقحم به لسانه ويلفه كما تلف البقرة الكلأ بلسانها لفاً. قوله: (وروينا في صحيح مسلم) ورواه أحمد وأبو داود كلهم من حديث ابن مسعود. قوله: (هلك المتنطعون) بتقديم المثناة الفوقية على النون هم المتعمقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى طرقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً قال العاقولي ويدخل في هذا الذم ما يكون القصد فيه مقصوراً على مراعاة اللفظ ومجيء المعنى تابعاً للفظ أما إذا كان بالعكس فهو الممدوح وهو أن يدع الرجل نفسه تجري على سجيتها فيما يروم التعبير عنه من المعاني كما قال:

أرسلت نفسي على سجيتها

وقلت مما قلت غير محتشم

قوله: (المبالغين في الأمور) ودخل فيها المبالغة في الكلام والتكلف في الفصاحة وهذا وجه إيراده هنا. قوله: (وروينا في كتاب الترمذي). قوله: (إن من أحبكم الخ) مبني على قاعدة وهي أن المؤمنين من حيث الإيمان محبوبون ثم قد

ص: 129

يَوْمَ القِيامَةِ، أحاسِنُكُمْ أخْلاقاً، وإنَّ أبْغَضَكُمْ إليّ، وأبعدَكُمْ مِنِّي يَومَ القِيامَةِ، الثَّرثَارُونَ والمتَشَدِّقُونَ والمُتَفَيهِقُونَ"، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارون والْمتشدِّقون، فما المتفيهقون؟ قال: "المُتَكَبِّرُون) قال الترمذي: هذا حديث حسن.

قال: والثرثار: هو الكثير الكلام. والمتشدِّق: من يتطاول على النّاس في الكلام ويبذو عليهم.

واعلم أنه لا يدخل في الذم تحسين ألفاظ الخُطَب والمواعظ إذا لم يكن فيها إفراط وإغراب، لأن المقصود منها تهييج القلوب إلى طاعة الله عز وجل، ولحسن اللفظ في هذا أثر ظاهر.

ــ

يتفاضلون في صفات الخير وشعب الإيمان فيتميز الفاضل بزائد محبة وقد تفاوتون في الرذائل فيصيرون مبغوضين من حيث هم كذلك ويصير بعضهم أبغض من بعض وقد يكون الشخص الواحد محبوباً من وجه مبغوضاً من وجه آخر وعلى هذه القاعدة فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحب المؤمنين كافة من حيث هم مؤمنون وأحسنهم أخلاقاً من اشدهم حباً عنده ويبغض العصاة من حيث هم عصاة وأسوءهم أخلاقاً من أشدهم بغضاً عنده. قوله: (فما المتفيهقون قال المتكبرون) أي ومن كبرهم ينشأ تشدقهم بالكلام إذ المتفيهق الذي يتوسع في الكلام ويفتح به فاه مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع يقال أفهقت الإناء ففهق فهقاً والثرثار هو الكثير الكلام قال العاقولي الثرثار هو الذي يكثر الكلام تكلفاً وخروجاً عن الحق والثرثرة كثرة الكلام وترديده. قوله: (والمتشدق

في الكلام الخ) وقال آخرون المتشدق المتوسع في الكلام من غير احتياط واحتراز وقيل المتشدق المستهزيء بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم. قوله: (إفراط) أي مجاوزة الحد الذي

ينبغي. قوله: (وإغراب) أي إتيان باللفظ الغريب الوحشي. قوله: (ولحسن اللفظ في هذا) أي تهييج القلوب إلى الطاعة (أثر ظاهر) ولذا استحب كونها بليغة أي في غاية من

ص: 130

فصل: ويكره لمن صلى العشاء الآخرة أن يتحدث بالحديث المباح في غير هذا الوقت، وأعني بالمباح الذي استوى فِعْله وتَرْكُه، فأما الحديث المحرَّم في غير هذا الوقت أو المكروه، فهو في هذا الوقت أشد تحريماً وكراهة، وأما الحديث في الخير، كمذاكرة العلم، وحكايات الصالحين، ومكارم الأخلاق، والحديث مع الضيف، فلا كراهة فيه، بل هو مستحب، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة به، وكذلك الحديث للعذر والأمور العارضة لا بأس به، وقد

ــ

الفصاحة ورصانة السبك وجزالة اللفظ وعللوا ذلك بأنها حينئذٍ تكون أوقع في النفس بخلاف المبتذلة الركيكة كالمشتملة على الألفاظ المألوفة أي في كلام العوام أو نحوهم فلا ينافي قولهم فيها مفهومة أي قريبة اللهم لأكثر الحاضرين خالية عن الغريب لأن الغريب الوحشي لا ينتفع به.

قوله: (ويكره لمن صلى العشاء الآخرة) أي إن دخل وقتها وفعلها فيه أو قدره إن جمعها تقديماً لا قبل ذلك على الأوجه وإنما كره لأنه ربما فوت صلاة الليل وأول وقت الصبح أو جميعه وليختم عمله بأفضل الأعمال ومقتضى الأول كراهته قبلها أيضاً لكن فرق الأسنوي بأن إباحة الكلام قبلها ينتهي بالأمر بإيقاعها في وقت الاختيار وأما بعدها فلا ضابط له فكان خوف الفوات فيه أكثر وحينئذٍ فيكره الكلام قبلها إن فوت وقت الاختيار أي أنه خلاف الأولي وإلا فلا ووصف العشاء بالآخرة بمد الهمزة وكسر المعجمة للتأكيد أو احترازاً من المغرب فإن العرب كانت تسميه العشاء ولذا جاء النهي عن تسمية بذلك ولا كراهة في وصفها بذلك خلافاً للأصمعي. قوله: (الحديث المحرم) أي كالغيبة ونحوها. قوله: (والمكروه) كالمباح الذي لا يعني ويخشى منه أن يجر إلى المكروه. قوله: (فلا كراهة) بل هو مستحب لما صح فيه من فعله صلى الله عليه وسلم ذلك ولأن هذا خير ناجز

ص: 131

اشتهرت الأحاديث بكل ما ذكرتُه، وأنا أشير إلى بعضها مختصراً، وأرمز إلى كثير منها.

روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي برزة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل العشاء والحديث بعدها.

وأما

ــ

فلا يترك لمفسدة متوهمة. قوله: (بكل ما ذكرته) أي من الكراهة تارة وعدمها أخرى.

قوله: (روينا في صحيحي البخاري ومسلم) أي من جملة حديث وقد أخرج الحديث بجملته أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة وابن خزيمة والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والدارقطني والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم كذا في شرح العمدة للقلقشندي وزاد السخاوي وأخرجه الدارمي قال وأخرج الدارقطني في الأفراد هذا الحديث عن ابن عباس قال نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها يعني العشاء وقال إنه غريب من هذا الوجه اهـ. قوله: (كان يكره النوم قبل

العشاء) أي قبل صلاتها لأنه قد يكون سبباً لفوات وقتها وتأخيرها عن وقتها المختار ولئلا يتساهل النّاس في ذلك فينامون عن صلاتها جماعة وقد اختلف العلماء في ذلك فمنهم من كرهه ونقل عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وقال به مالك والشافعي ومنهم من رخص فيه ونقل عن علي وابن مسعود وأبي موسى وذهب إليه بعض الكوفيين ومنهم من قيد الرخصة برمضان ومنهم من قيدها بالذي له من يوقظه أو عرف من عادته أنه لا يستغرق وقت الاختيار بالنوم وقال ابن الصلاح هذا الحكم ليس خاصاً بالعشاء بل جميع الصلوات كذلك وقال الأسنوي في المهمات سياق كلامهم يشعر بأن الكراهة بعد دخول الوقت ويحتمل قبل دخوله بعد فعل المغرب لخوف فوات الوقت وإن كان غير مخاطب بها وتبعه بعض من تأخر عنه ومحل جواز النوم بعد دخول الوقت إن غلبه بحيث صار لا تمييز له ولم يمكنه دفعه أو غلب على ظنه أنه يستيقظ وقد بقي من الوقت ما يسعها وطهرها وإلا حرم قال كثيرون ولو قبل دخول الوقت إلا أنه كما قال أبو زرعة خلاف المنقول. قوله: (والحديث بعدها) لما تقدم ولأن الله جعل الليل سكناً وهذا يخرجه عن ذلك ولأن السهر في الليل سبب للكسل في النهار عما يتوجه من الطاعات والمصالح

ص: 132

الأحاديث بالترخيص في الكلام للأمور التي قدَّمتها فكثيرة.

فمن ذلك حديث ابن عمر في "الصحيحين" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العشاء في آخر حياته، فلما سلم قال:"أرَأيْتَكُمْ لَيلَتَكُمْ هذِهِ، فَإنَّ عَلى رَأسِ مائَةِ سَنَةٍ لا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ اليَوْمَ أحدٌ".

ومنها حديث أبي موسى الأشعري في "صحيحيهما": "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتم بالصلاة حتى ابهارّ الليل، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بهم، فلما قضى صلاته قال لمن حضره: عَلى رِسْلِكُمْ أعْلِمُكُمْ، وأبشِرُوا أنَّ مِنْ نعمَةِ الله علَيكُمْ أنَّهُ ليسَ مِنَ النّاسِ أحدُّ يصلِّي

ــ

الدنيوية وقد يقع فيه من اللغط والفحش ما لا يليق ختم اليقظة به وكان عمر رضي الله عنه يضرب النّاس على الحديث بعد العشاء أسمراً أول الليل ونوماً آخره أريحوا كتابكم وهذا محمول على الحديث المباح الذي لا مصلحة فيه.

قوله: (فمن ذلك حديث ابن عمر الخ) قال السخاوي بعد تخريجه بهذا اللفظ حديث صحيح أخرجه أحمد والشيخان وأبو عوانة والترمذي والنسائي. قوله: (صلى العشاء في آخر حياته) في رواية جابر أنه كان قبل موته بشهر. قوله: (أرأيتكم) بفتح التاء ضمير المخاطب والكاف كذلك ولا محل لها من الإعراب والهمزة للاستفهام والرؤية بمعنى العلم أو البصر والجواب محذوف أي قالوا: نعم قال: احفظوها واحفظوا تاريخها. قوله: (على رأس) أي عند رأس. قوله: (لا يبقى ممن هو على وجه الأرض اليوم أحد) أي بعد المائة.

قوله: (ومنها حديث أبي موسى الأشعري الخ) وكذا رواه أبو عوانة وأبو نعيم في المستخرج قاله السخاوي. قوله: (أعتم بالعشاء) أي أخرها حتى اشتدت عتمة الليل أي ظلمته. قوله: (إبهار الليل) بإسكان الموحدة وتشديد الراء أي انتصف. قوله: (على رسلكم) بكسر الراء وفتحها لغتان

الكسر أفصح أي تأنوا. قوله: (أن من نعمة الله الخ) بفتح الهمزة معمول لقوله أعلمكم وكذا قوله إنه بفتح الهمزة هي ومعمولاها في تأويل مصدر اسم أن الأولى وفي الحديث جواز الكلام بعد

ص: 133

هذ الساعَةَ غَيرُكُمْ" أو قال: "ما صَلَّى أحدٌ هَذِهِ السَّاعَةَ غيرُكُمْ".

ومنها حديث أنس في "صحيح البخاري": "أنهم انتظروا النبي صلى الله عليه وسلم فجاءَهم قريباً من شطر الليل، فصلى بهم: يعني العشاء، قال: ثم خطبَنا فقال: ألا إنَّ الناسَ قَدْ صَلوْا ثُم رَقَدُوا، وإنَكُمْ لَنْ تَزَالُوا في صَلاةٍ ما انْتَظَرْتُمُ الصَّلاةَ".

ومنها حديث ابن عباس رضي الله عنهما في مبيته في بيت خالته ميمونة قوله: "إن النبي صلى الله عليه وسلم

ــ

صلاة العشاء إذا كان في خير.

قوله: (ومنها حديث أنس في صحيح البخاري قال السخاوي بعد تخريج الحديث بهذا اللفظ -إلا أنه قال محل انتظرتم: ما انتظرتم زاد في آخره: فكأني أنظر إلى وبيص خاتمه في يده- حديث صحيح رواه أحمد والبخاري موصولاً ومعلقاً وأخرجه مسلم من طريق حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس نحوه والحديث عند الطحاوي من حديث أنس بن عياض وعبد الله بن بكر السهمي وعبد الله بن عمر وعند المخلص في الأول من حديثه من حديث حميد عن أنس اهـ. قوله: (لا) حرف استفتاح. قوله: (إن النّاس) أي المعهودين. قوله: (وما انتظرتم الصلاة) أي مدة انتظاركم إياها. قوله: (ومنها حديث ابن عباس الخ) رواه البخاري في باب السمر من كتاب العلم وغيره وقال السخاوي بعد أن أخرجه بتمامه ولفظه عن ابن عباس قال بن في بيت ميمونة ليلة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ليعلم كيف صلاته صلى الله عليه وسلم بالليل فتحدث أهله ساعة ثم رقد فلما بقي ثلث الليل الآخر أو نصفه قعد فنظر في السماء فقال {إِنَّ في خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} حتى قرأ هذه الآيات ثم قام فتوضأ واستن ثم صلى إحدى عشرة ركعة ثم أذن بلال بالصبح فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح أخرجه البخاري في تفسير سورة آل عمران والتوحيد بتمامه وفي الأدب ورواه مسلم وأبو عوانة والطحاوي وترجم البخاري لهذا الحديث في العلم بالسمر في العلم وأورده من طريق الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس بلفظ بت في بيت خالتي ميمونة وكان صلى الله عليه وسلم-

ص: 134

صلى العشاء، ثم دخل فحدَّث أهله، وقوله: نام الغُلَيم".

ومنها حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما في قصة أضيافه واحتباسه عنهم حتى صلى العشاء، ثم جاء وكلَّمهم، وكلَّم امرأته وابنه وتكرر كلامهم، وهذان الحديثان في "الصحيحين"، ونظائر هذا كثيرة لا تنحصر، وفيما ذكرناه أبلغ كفاية، ولله الحمد.

فصل: يكره أن تسمَّى العشاءُ الآخِرةُ العتمةَ، للأحاديث الصحيحة المشهورة

ــ

عندها في ليلتها فصلى العشاء ثم جاء إلى منزله فصلى أربع ركعات ثم نام ثم قام ثم قال: نام الغليم أو كلمة تشبهها ثم قام فقمت عن يساره وذكر الحديث فتكلف غير واحد من الأئمة لمطابقته للترجمة غافلين عن كونه كما أفاده شيخي أشار بإيراده إلى ما في الرواية التي أوردتها وهو قوله فتحدث مع أهله ساعة.

فائدة

روى الطبراني في الدعاء هذا الحديث من وجه آخر وفيه أنه صلى الله عليه وسلم لما دخل منزله قال يا ميمونة قالت لبيك يا رسول الله قال ما أتاك ابن أختك قالت بلى هو هذا قال: أفلا عشيتيه إن كان عندك شيء قالت: قد فعلت قال: فوطأت له قالت: نعم فمال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فراشه، يحتمل أن يفسر به ما أبهمه في قوله فتحدث مع أهله ساعة في روايتنا ولكن الظاهر أنه إنما اراد أخص من ذلك اهـ. قوله:(نام الغليم) بضم المعجمة تصغير غلام وفي بعض نسخ البخاري يا أم الغليم قال

الحافظ ابن حجر هو تصحيف لم يثبت به رواية. قوله: (ومنها حديث عبد الرحمن) رواه الشيخان وتقدم الكلام عليه في كتاب الأسماء.

قوله: (يكره أن تسمى العشاء الآخرة عتمة) أي بفتح المهملة والفوقية والميم وهي شدة الظلمة. قوله: (للأحاديث الصحيحة المشهورة) منها حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل رواه مسلم ورواه الشافعي وزاد في روايته وكان ابن عمر إذا سمعهم يقولون العتمة صاح وغضب وجاء من حديث أبي هريرة مرفوعاً نحوه أخرجه ابن ماجه بسند حسن وجاء من حديث عبد الرحمن بن عوف مرفوعاً لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإنها في كتاب الله العشاء وإنما سمتها الأعراب العتمة من أجل إبلها لحلابها

ص: 135

في ذلك ويكره أيضاً أن تسمَّى المغربُ عشاءً.

روينا في "صحيح البخاري" عن عبد الله بن مغفَّل المزني رضي الله عنه -وهو بالغين المعجمة- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: طلا تَغْلِبنَّكُمُ الأعْرَابُ على اسْم صَلَاتكُمُ المَغْرِب" قال: ويقول الأعراب [هي]: العشاءُ.

وأما الأحاديث الورادة بتسمية العِشاءِ عتمةً، كحديث:"لو يَعْلَمُونَ مَا لي الصُّبْح وَالْعَتَمَةِ لأتوْهُمَا وَلَوْ حَبْواً".

فالجواب عنها من وجهين: أحدهما:

ــ

أخرجه أبو يعلى وأبو نعيم والبيهقي وآخرون وفي سند الحديث رجل مبهم.

قوله: (روينا في صحيح البخاري الخ) قال السخاوي بعد تخريجه هذا حديث صحيح أخرجه أحمد والبخاري والإسماعيلي في مستخرجه ومن طريقه أخرجه البيهقي في السنن لكن قال لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم فإن الأعراب تسميها عتمة وهو بهذا اللفظ عند الطبراني وعند أبي نعيم في مستخرجه رواه من حديث علي بن عبد العزيز البغوي عن أبي معمر شيخ البخاري فيه وقال الإسماعيلي عقبه إنه يدل على أنه في صلاة عشاء الآخرة ولذا روي عن ابن عمر أي شيخ أبي معمر عن عبد الوارث بن عبد الصمد عن أبيه قال البيهقي إلا أن الذين رووه عن عبد الصمد على اللفظ الأول وكذا قال السخاوي وصدق فيما قال فقد رواه عنه الأكثر كذلك فلذلك كانت روايتهم أرجح لكن الذي جنح إليه شيخنا يعني الحافظ كونهما حديثين أحدهما في المغرب والآخر في العشاء وكانا جميعاً عند عبد الوارث بسند واحد اهـ. قوله: (لا يغلبنكم) بالتحتية وفي نسخة بالفوقية و (الأعراب) كما تقدم في باب أذكار المساجد سكان البوادي. قوله: (صلاتكم المغرب) بجر المغرب صفة لصلاة وبالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالنصب بأعني والمعنى لا تتبعوا الأعراب في تسميتهم المغرب عشاء لأن الله تعالى سماها مغرباً وتسمية الله أولى من تسميتهم والسر في النهي خوف الاشتباه على غيرهم من المسلمين كذا في تحفة القارئ والنهي فيه للتنزيه لا للتحريم لما سيأتي

عقبه في الفصل. قوله: (كحديث لو تعلمون الخ) رواه أحمد والشيخان والنسائي وابن خزيمة وغيرهم. قوله: (ولو حبواً) أي كان مجيئهم حبواً. قوله: (وإنما

ص: 136

أنها وقعت بياناً لكون النهي ليس للتحريم، بل للتنزيه. والثاني: أنه خوطب بها من يخاف أنه يلتبس عليه المراد لو سماها عشاءً.

وأما تسمية الصبح غداةً، فلا كراهة فيه على المذهب الصحيح، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في استعمال غداةٍ، وذكر جماعة من أصحابنا كراهة ذلك، وليس بشيء،

ــ

وقعت بياناً الخ) ومثل ذلك واجب عليه صلى الله عليه وسلم يثاب عليه ثواب الواجب. قوله: (الثاني أنه خوطب بها الخ) أي فيكون على طبق حديث حدثوا النّاس بما يفهمون وذلك أنه لو ذكر العشاء بلفظه لما فهم ذلك المخاطب إلا أن المراد بها المغرب إذ هو المسمى بالعشاء عندهم فلدفع ذلك عبر بلفظ العتمة عنها قال المصنف وقواعد الشرع متظاهرة على احتمال أخف المفسدتين لدفع أعظمهما وذكر بعضهم أنه يحتمل كون ذلك قبل النهي عنه وقال ابن القيم في الهدي قال صلى الله عليه وسلم: لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم إلا وأنها العشاء وأنهم يسمونها العتمة وصح عنه أنه قال لو يعلمون ما في العتمة الخ فقيل هذا ناسخ للمنع وقيل بالعكس والصواب خلاف القولين فإن العلم بالتاريخ متعذر ولا تعارض بين الحديثين فإنه لم ينه عن إطلاق اسم العتمة بالكلية إنما نهى عن هجران اسم العشاء وهو الاسم الذي سماها الله به في كتابه ويغلب عليها اسم العتمة فإذا سميت العشاء وأطلق عليها العتمة أحياناً فلا بأس وهذا محافظة منه صلى الله عليه وسلم على الأسماء التي سمى الله تعالى بها العبادات فلا تهجر ويؤثر غيرها كما فعله المتأخرون في هجران ألفاظ النصوص وإيثار المصطلحة الحادثة عليها ونشأ بسبب ذلك من الفساد ما الله به عليم وهذا كما يحافظ على تقديم ما قدمه الله تعالى وتأخير ما آخره كما بدأ بالصفا وقال: ابدؤوا بما بدأ الله به وبدأ في العيد بالصلاة ثم نحو بعدها وأخبر أن من ذبح قبلها فلا نسك له تقديماً لما بدأ الله به في قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ونظائره كثيرة اهـ. ثم ما جزم به هنا وفي المنهاج والروضة من الكراهة خالفه في المجموع فقال نص الشافعي على أنه يستحب أن لا يسمى بذلك وذهب إليه المحققون من أصحابنا وقالت طائفة قليلة يكره اهـ. قوله: (وقد كثرت الأحاديث في استعمال الغداة) أي كحديث أبي قتادة الطويل

ص: 137

ولا بأس بتسمية المغرب والعشاءِ عشاءَين، ولا بأس بقول: العشاءِ الآخِرةِ. وما نقل عن الأصمعي أنه قال: لا يقال: العشاء الآخرةُ، فغلط ظاهر.

فقد ثبت في "صحيح مسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيُّمَا امْرأةٍ أصَابَتْ بَخُوراً فَلَا تَشْهَدْ مَعَنَا العِشَاءَ الآخِرَةَ". وثبت من ذلك كلام خلائق لا يحصون من الصحابة في "الصحيحين"

ــ

في نومهم عن الصبح حتى طلعت الشمس ففيه فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين ثم صلى الغداة وكحديث عمران بن حصين في ذلك أيضاً ففيه فصلى بنا الغداة وكلاهما في مسلم وكحديث أبي برزة كان صلى الله عليه وسلم ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه متفق عليه. قوله: (ولا بأس بتسمية المغرب والعشاء عشاءين) أي على سبيل التغليب كما قال في الظهر والعصر الظهرين

والعصرين. قوله: (فقد ثبت في صحيح مسلم) ورواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان كلهم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة أصابت بخوراً الخ قال السخاوي بعد أن ذكر أن مدار الحديث عند هؤلاء على أبي علقمة قال: حدثني يزيد بن خصيفة عن بشر بن سعيد عن أبي هريرة فذكره قال النسائي: لا نعلم أحداً تابع ابن خصيفة على قوله عن أبي هريرة وقد خالفه يعقوب ابن عبد الله بن الأشج فرواه عن بشر بن سعيد فقال عن زينب الثقفية يعني بدل أبي هريرة وكذا رواه بكير بن عبد الله بن الأشج أخو يعقوب والزهري لكنه غير محفوظ من حديثه خاصة كلاهما عن بشر ورواية بكير في صحيح مسلم أيضاً واختلف على كل من الأخوين فيه أما يعقوب فقد روي عنه كرواية ابن خصيفة أخرجه المحاملي في الثاني عشر من فوائده ولفظه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لزينب امرأة عبد الله إذا خرجت إلى المسجد لصلاة المغرب فلا تطيبين، وأما بكير فقد روي عنه أيضاً عن بشر عن زيد بن خالد الجهني رفعه لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات أي تاركات للطيب اهـ. والبخور بفتح الموحدة وتخفيف المعجمة ففي الحديث نهي من إرادات شهود المسجد من الطيب ومنع المتطيبة من حضوره وفيه دليل على جواز قول النّاس العشاء الآخرة وأما ما نقل عن الأصمعي أنه قال من المحال قول العامة

ص: 138

وغيرهما، وقد أوضحتُ ذلك كلَّه بشواهده في "تهذيب الأسماء واللغات" وبالله التوفيق.

فصل: ومما يُنهى عنه إفشاءُ السرِّ، والأحاديث فيه كثيرة، وهو

ــ

العشاء الآخرة لأنه ليس لنا إلا عشاء واحدة فلا توصف بالآخرة فهذا القول غلط لهذا الحديث قال في شرح مسلم فقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة وأنس والبراء وجماعة آخرين اهـ. وحديث أنس عند البخاري أخر صلى الله عليه وسلم العشاء الآخرة. قوله: (وقد أوضحت ذلك الخ) لم أجده في نسختي من التهذيب ولعله سقط من الكاتب. قوله: (ومما ينهى عنه إفشاء السر) أي إذاعة وإشاعة ما يسر به إليك إنسان ويستره عندك يترتب على إفشائه مضرة عليه أولاً. قوله: (والأحاديث فيه كثيرة) أي فمنها ما أخرجه البيهقي بسند حسن عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مرسلاً إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة فلا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره وأخرجه ابن لال في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود ومنها ما أخرجه الديلمي في مسنده عن أسامة مرفوعاً المجالس أمانة فلا يحل لمؤمن أن يرفع على مؤمن قبيحاً ومنها ما أخرجه أبو داود من حديث ابن أبي ذؤيب عن ابن أخي جابر عن عمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس سفك دم حرام أو فرج حرام أو اقتطاع مال بغير حق وأوله عند العسكري والديلمي عن علي، ومنها ما أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: يا أنس اكتم سري تكن مؤمناً، ومنها ما أخرجه مسلم عن أنس قال بعد: ولقد سألتني عنه أم سليم فما أخبرتها وأخرجه مسلم عن أنس أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في حاجة فقالت له ما حاجتك فقلت إنها سر قالت لا تحدثني

بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس والله لو حدثت به أحداً لحدثتك يا ثابت وأخرج هذا الحديث البخاري في الأدب المفرد كما سبقت الإشارة إليه في كتاب السلام ومنها ما أخرجه مسلم وأبو داود عن أبي سعيد مرفوعاً إن من أعظم

ص: 139

حرام إذا كان فيه ضرر أو إيذاء.

روينا في سنن أبي داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذَا حَدَّثَ الرجُلُ بالحَدِيثِ ثُمَّ التَفَتَ فَهِيَ أمانَةٌ" قال الترمذي: حديث حسن.

فصل: يكره أن يُسأَلَ الرَّجُلُ فيم ضرب امرأته من غير حاجة.

قد روينا في أول هذا الكتاب في "حفظ اللسان" الأحاديث الصحيحة في السكوت عما لا تظهر فيه المصلحة.

وذكرنا الحديث الصحيح "مِن حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ".

وروينا في سنن أبي داود والنسائي وابن ماجه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يُسألُ الرجُلَ

ــ

الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها ذكر ذلك السخاوي. قوله: (ضرر) أي في النفس أو المال أو غيرهما. قوله: (أو إيذاء) أي يتأذى بإشاعة ذلك وإن لم يحصل منه ضرر فإن لم يترتب عليه أذى ولا ضرر كره.

قوله: (روينا في سنن أبي داود والترمذي) وكذا رواه أحمد والضياء كلهم من حديث جابر ورواه أبو يعلى في مسنده من حديث أنس كذا في الجامع الصغير. قوله: (إذا حدث الرجل بالحديث ثم التفت فهي أمانة) قال المظهري أي إذا حدث أحد عندك حديثاً ثم غاب عنك صار حديثه أمانة عندك ولا يجوز إضاعتها قال الطيبي والظاهر أن اللفت هنا عبارة عن التفات خاطره إلى ما تكلم به فالتفت يميناً وشمالاً احتياطاً وكذا قال العاقولي المراد من الالتفات الالتفات بوجهه والمعنى أن حديثه عندك أمانة إذا التفت بوجهه فلا تضيع أمانته فكيف إذا غاب. قوله: (فهو) أي الحديث وفي نسخة فهي وأنثه مع عوده إلى الحديث لأنه بمعنى الحكاية.

قوله: (قد روينا في أول هذا الكتاب حفظ اللسان) بالجر بدل من أول أو نعت له ويصح فيه الرفع على أنه خبر عن مبتدأ محذوف والنصب بتقدير أعني.

قوله: (وروينا في سنن أبي داود الخ) وكذا رواه الإِمام أحمد كما في تسديد القوس والحديث صحيح كما قاله ابن حجر في تنبيه الأخيار. قوله: (لا يسأل الرجل) أي لاحتمال أن يكون سبب ذلك مما يستحي من ذكره

ص: 140

فيمَ ضَرَبَ امرأتَهُ".

فصل: أما الشِّعْر فقد روينا في مسند "أبي يعلى الموصلي" بإسناد حسن عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشِّعْر فقال: "هُوَ كلامٌ حَسَنُهُ كحسن الكلام، وقَبِيحُهُ كقَبِيحِ الكلامِ".

قال العلماء: معناه: أن الشعر كالنثر، لكن التجرُّد له والاقتصار عليه

ــ

كالامتناع من المطاوعة والتمكين. قوله: (أما الشعر الخ) الشعر كلام موزون قصداً بوزن عربي وحرج بقيد المقصد أي قصد كونه شعراً ما جاء موزوناً من الآيات والأحاديث نحو قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} ونحو قوله صلى الله عليه وسلم: أنا النبي لا كذب أنا عبد المطلب وبقولنا بوزن عربي أي وهو ما كان على وزان أحد البحور الخمسة عشر أو الستة

عشر ما كان على غيرها من باقي الأبحر المولدة فلا يقال فيه شعر بل نظم فالنظم أعم عن الشعر.

قوله: (فقد روينا الخ) قال في الإمتاع أخرجه البيهقي في السنن الكبير مرفوعاً من عدة طرق وقال الصحيح إنه مرسل اهـ. ورواه في الجامع الصغير بلفظ الشعر بمنزلة الكلام فحسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام وقال رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني في الأوسط عن ابن عمر وعبد الرزاق في الجامع عن عائشة مرفوعاً وروي عن الشافعي عن عروة مرسلاً أي والمرسل حجة عند الشافعي إذا اعتضد وهو هنا كذلك للمسند قبله قال ابن عبد البر وجاء موقوفاً عن ابن سيرين والشعبي وروي عن الشافعي. قوله: (حسنه) أي كالمشتمل على التوحيد والزهديات في الدنيا والترغيب في الآخرة ومدح النبي صلى الله عليه وسلم ومدح الإسلام وذم الكفر وهجاء الكفرة وعلى جمع فوائد علمية أو نحو ذلك مما يعود نفعه فهذا حسن لحسن عائدته وجميل فائدته. قوله: (وقبيحه) كهجاء المسلمين والتشبيب بامرأة أو أمرد معين أو مدح الخمرة أو مدح ظالم أو نحوه أو المغالاة في المدح أو نحو ذلك قال الفقهاء المميز للشعر الجائز من غيره أن ما جاز في النثر جاز في الشعر. قوله: (أن الشعر كالنثر) أي والمدح والذم إنما يدوران مع المعنى ولا عبرة باللفظ موزوناً كان أو لا. قوله: (لكن التجرد له والاقتصار عليه) أي

ص: 141

مذموم.

وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الشعر، وأمر حسان بن ثابت بهجاء الكفار.

ــ

بحيث يكون الشعر مستولياً عليه بحيث يشغله عن القرآن وغيره من العلوم الشرعية وذكر الله تعالى قال المصنف في شرح مسلم فهذا مذموم في أي شيء كان فأما إذا كان القرآن والحديث وغيرهما من العلوم الشرعية هو الغالب عليه فلا يضره حفظ اليسير من الشعر أي الخالي عن الفحش والقبح مع هذا لأن جوفه ليس ممتلئاً شعراً.

قوله: (وقد ثبتت الأحاديث بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع الشعر) أخرج أحمد من رواية جابر بن سمرة قال شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية فربما تبسم صلى الله عليه وسلم وأخرجه الترمذي وصححه وأخرجه الطبراني في معجمه الكبير والأحاديث في ذلك كثيرة منتشرة قال ابن عبد البر وما استنشده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنشد بين يديه أكثر من أن يحفظ. قوله: (وأمر حسان بن ثابت بهجاء الكفار) في رواية هاجهم وفي رواية صحيحة أهجهم وجبريل معك رواه البخاري في الصحيح عن سليمان بن حرب ورواه مسلم من أوجه عن شعبة وتقدم في باب أذكار المساجد حديث أبي هريرة عند البخاري لما استشهده حسان هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا حسان أجب عن رسول صلى الله عليه وسلم اللهم أيده بروح القدس فقال أبو هريرة نعم وكان يوضع لحسان بن ثابت منبر في المسجد يهجو الكفار عليه وقال له صلى الله عليه وسلم لما استأذنه في هجو المشركين كيف تعمل بحسبي ونسبي فقال لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين وأنشد حسان في ذلك قصيدته المشهورة التي فيها:

هجوت محمداً فأجبت عنه

وعند الله في ذاك الجزاء

فإن أبي ووالدتي وعرضي

لعرض محمد منكم وقاء

أتهجوه ولست له بكفء

فشركما لخيركما الفداء

وذلك ثابت في الصحيح ثم اعلم أن هجو الكافر إن كان بصيغة عامة فلا خلاف في جوازه كما يجوز لعن الكافرين على العموم وإن كان في معين فإن كان حربياً أو مشركاً جاز وإن كان ذمياً فالمتجه المنقول الحرمة قياساً على غيبته. وحسان بن ثابت هو أحد شعراء النبي

ص: 142

وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَة".

ــ

صلى الله عليه وسلم كما تقدم في باب الحداء وهو أبو عبد الرحمن ويقال أبو الوليد ويقال أبو الحسام لمناضلته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقطيعه الكفار بشعره وتمزيق أعراضهم حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بالراء ابن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري النجاري المدني وأمه الفريعة بنت خالد روينا عن محمد بن إسحاق وآخرين بأسانيد قالوا عاش حسان بن ثابت وأبوه ثابت وأبوه المنذر وأبوه حرام كل واحد من الأربعة مائة وعشرين سنة وهذه طرفة عجيبة لا تعرف في غيرهم كذا قاله أبو نعيم وجماعة من الأئمة وعاش حسان ستين سنة في الجاهلية وستين سنة في الإسلام وتوفي بالمدينة سنة أربع وخمسين وشاركه في هذا حكيم بن حزام فإنه أيضاً عاش ستين في الجاهلية وستين في الإسلام وتوفي سنة أربع وخمسين ولا يعرف لها ثالث في هذا والمراد بالإسلام من حيث انتشر وشاع في النّاس وذلك قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم بنحو ست سنين روى عنه ابنه عبد الرحمن وسعيد بن جبير قال العلماء كان المشركون يهجون الصحابة والإسلام فانتدب لهجوهم ثلاثة من الأنصار حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة يعيرونهم بالكفر وبعبادة الأوثان فكان قوله أهون عليهم من قول صاحبيه فلما أسلموا وفقهوا كان قول عبد الله أشد عليهم وقال أبو عبيد اجتمعت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وعلى أن أشعر أهل المدر حسان وهب له النبي صلى الله عليه وسلم جارية اسمها سيرين وهي أخت مارية القبطية كذا في التهذيب للمصنف.

قوله: (وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال إن من الشعر لحكمة) رواه مالك وأحمد وأبو داود من حديث ابن عباس مرفوعاً وقال حكماً أي بصيغة الجمع وضبطه في المرقاة بضم فسكون قال أي حكمة قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} أي الحكمة ورواه أبو داود أيضاً من حديث بريدة كذا في الجامع الصغير وهو عند البخاري في الصحيح من حديث ابن كعب بلفظ إن من الشعر لحكمة قال الجوهري الحكمة الكلام المحكم لفظه الواقع معناه قال شارح الأنوار

ص: 143

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

السنية ولنذكر شيئاً من الشعر الذي فيه حكمة على جهة الأمثلة للحديث فمن ذلك ما أنشد القرطبي قال أبو العباس الحماني فأحسن:

ليس في كل ساعة وأوان

تتهيا صنائع الإحسان

فإذا أمكنت فبادر إليها

حذراً من تعذر الإمكان

وأنشد الباجي في الصبر:

إن الأمور إذا انسدت مسالكها

فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا

لا تيأسن وإن طالت مطالبة

إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

وأنشد بعضهم في الشكر:

إن لله علينا أنعما

عجز الوصف عن الحصر لها

فله الحمد على إنعامه

وله الشكر على الشكر لها

وفي العمل الصالح:

وإذا افتقرت إلى الذخائر لم تجد

ذخراً يكون كصالح الأعمال

وفي التفويض لله عز وجل:

فوض إلى الله لا تركن إلى أحد

فهو الذي يرتجى للضر والبوس

دعها سماوية تجري على قدر

لا تفسدنها برأي منك منكوس

وفي التوكل على الله عز وجل:

توكل على الرحمن في كل حاجة

ولا ؤثرن العجز يوماً على الطلب

ألم تر أن الله قال لمريم

وهزي إليك الجذع يساقط الرطب

ولو شاء أدنى الجذع من غير هزها

إليها ولكن كل شيء له سبب

وفي التقوى لأبي الدرداء:

يريد المرء أن يعطى مناه

ويأبى الله إلا ما أرادا

يقول المرء فائدتي ومالي

وتقوى الله أولى ما استفادا

وفي الافتقار إلى الله سبحانه:

ص: 144

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

إلهي لك الحمد العظيم حقيقة

وما للورى مهما منعت نقير

وقالوا فقير وهو عندي حاله

نعم صدقوا إني إليك فقير

وفي التوبة قال ابن عبد البر في التمهيد أحسن محمود الوراق حيث يقول:

قدم لنفسك توبة مرجوة

قبل الممات وقبل قبض الألسن

بادر بها غلق النفوس فإنها

أجر وغنم للمنيب المحسن

وفي التحدث بالنعم:

الحمد لله حمداً دائماً أبداً

الله حسبي كفى بالله لي سندا

كم نعمة سبقت من فضل رحمته

منه إلي فلا أحصي لها عددا

وفي المبادرة إلى الخير:

سابق إلى الخير وبادر به

فإنما خلفك ما تعلم

وقدم الخير فكل امريء

على الذي قدمه يقدم

وفي ترك الظلم:

لا تظلمن إذا ما كنت مقتدراً

فالظلم مصدره يفضي إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم أعينه

تدعو عليك وعين الله لم تنم

وفي ذم البغي:

يا صاحب البغي إن البغي مصرعة

فاعدل فخير فعال المرء أعدله

فلو بغى جبل يوماً على جبل

لاندك منه أعاليه وأسفله

وفي اليأس من روح الله:

توقع صنع ربك كيف يأتي

بما تهواه من فرج قريب

ولا تيأس إذا ما ناب خطب

فكم في الغيب من عجب عجيب

وأنشد بعضهم في التحذير من الدنيا:

هي الدنيا تقول بملء فيها

حذار حذار من بطشي وفتكي

فلا يغرركمو حسن ابتسامي

فقولي مضحك والفعل مبكي

وفي فضل العلم قال سابق:

ص: 145

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

العلم يحيي قلوب العالمين كما

تحيا البلاد إذا ما مسها المطر

والعلم يجلي العمي عن قلب صاحبه

كما يجلي سواد الظلمة القمر

وللفقيه الزاهد إبراهيم بن مسعود التبوكي:

إن أولى العلم بما في الفتن

تهيبوها من قديم الزمن

واستعصموا الله فكان التقى

أوقى لهم فيها من أقوى الجنن

واجتمعوا في حسن توفيقه

وافترقوا في كل معنى حسن

فعالم مستبحر عامل

يسلك بالناس سواء السنن

وبهمة مخترط سيفه

يغمده في هام أهل الوثن

وحابس في بيته نفسه

معتزل مستمسك بالسنن

وهارب شحاً على دينه

إلى البراري ورؤوس القنن

وتائب من ذنبه مشفق

يبكي بكاء الواكفات الهنن

وصامت في قلبه مقول

بالذكر لله طويل اللسن

تراه كالأبله في ظاهر

وهو من أذكى النّاس فيما بطن

فهم خصوص الله في أرضه

حقاً بهم تدرأ عنا المحن

فليتني كنت لهم خادماً

وليتني إذ لم أكن لم أكن

ومن سواهم فرجال رجوا

أن يعبروا البحر بغير السفن

انتهى ملخصاً، وفي البحر للروياني الشعر ينقسم إلى محرم ومباح ومستحب والمستحب على قسمين الأول ما حذر من الآخرة كقول علي رضي الله عنه:

ولو أنا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كل حي

ولكنا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعد ذا عن كل شي

وكقول الحسن بن علي رضي الله عنهما:

الموت خير من ركوب العار

والعار خير من دخول النار

ص: 146

وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لأنْ يَمتَلِئَ جَوْفُ أحَدِكُمْ قَيحاً خَيرٌ لَهُ مِنْ أنْ يَمْتَلِئَ شِعْراً" وكل ذلك على حسب ما ذكرناه.

فصل: ومما ينهى عنه، الفحش وبذاءة اللسان، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة معروفة، ومعناه: التعبير عن الأمور المستقبَحة بعبارة صريحة، وإن كانت صحيحة والمتكلِّم بها صادق، ويقع ذلك كثيراً في ألفاظ الوِقاع ونحوها. وينبغي أن يستعمل في ذلك الكنايات، ويعبِّر عنها بعبارة جميلة يفهم بها الغرض، وبهذا جاء القرآن العزيز والسنن الصحيحة المكرَّمة، قال الله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187]. وقال الله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]. وقال تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ

ــ

فالله من هذا وهذا جاري

والقسم الثاني ما حث على مكارم الأخلاق كما حكي عن مالك أنه من بباب قوم فسمع رجلاً ينشد:

أنت أخي وأنت حرمة جاري

وحقيق على حفظ الجوار

إن للجار أن تغيب عنا

حافظاً للمغيب في الأسرار

ما أبالي أكان بالباب ستر

مسبل أم بقي بغير ستار

فدق مالك الباب وقال علموا صبيانكم مثل هذا الشعر اهـ. ومن المستحب مدح النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وأهل العلم والتقوى كما لا يخفى والقسمان الأخيران ستأتي أمثلتهما. قوله: (وثبت أنه صلى الله عليه وسلم قال لأن يمتليء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتليء شعراً) رواه البخاري من حديث ابن عمر هكذا ورواه أحمد والشيخان والأربعة من حديث أبي هريرة وقالوا لأن يمتليء جوف أحدكم حتى يريه الخ ويريه بفتح التحتية وكسر المهملة من الورى داء يفسد الجوف وقيل أن يصل إلى الرئة ويفسدها ورد بأن المشهور في الرواية الهمز قال المصنف الصواب أن هذا محمول على من يكون الشعر غالباً عليه حتى يشغله عن القرآن وغيره من العلوم

ص: 147