المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة - الفتوحات الربانية على الأذكار النواوية - جـ ٧

[ابن علان]

فهرس الكتاب

- ‌باب بيان ما يباح من الغيبة

- ‌باب أمر من سمع غيبة شيخه أو صاحبه أو غيرهما بردها وإبطالها

- ‌باب الغيبة بالقلب

- ‌باب كفارة الغيبة والتوبة منها

- ‌باب في النميمة

- ‌باب النهي عن نقل الحديث إلى ولاة الأمور إذا لم تدع إليه ضرورة لخوف مفسدة ونحوها

- ‌باب النهي عن الطعن في الأنساب الثابتة في ظاهر الشرع

- ‌باب النهي عن الافتخار

- ‌باب النهي عن إظهار الشماتة بالمسلم

- ‌باب تحريم احتقار المسلمين والسخرية منهم

- ‌باب غلظ تحريم شهادة الزور

- ‌باب النهي عن المنِّ بالعطيَّة ونحوها

- ‌باب النهي عن اللعن

- ‌فصل في جواز لعن أصحاب المعاصي غير المعينين والمعروفين

- ‌باب النهي عن انتهار الفقراء والضعفاء واليتيم والسائل ونحوهم، وإلانة القول لهم والتواضع معهم

- ‌باب في ألفاظ يكره استعمالها

- ‌فصل: في النهي عن سبِّ الريح

- ‌فصل: يكره سب الحمى

- ‌فصل: في النهي عن سب الديك

- ‌فصل: في النهي عن الدعاء بدعوى الجاهلية وذمّ استعمال ألفاظهم

- ‌فصل: يحرم سبُّ المسلم من غير سبب شرعي يجوِّز ذلك

- ‌فصل: في النهي أن يتناجى الرجلان إذا كان معهما ثالث وحده

- ‌فصل: في نهي المرأة أن تُخبر زوجها أو غيره بحسن بدن امرأة أخرى إذا لم تَدْعُ إليه حاجة شرعية من رغبة في زواجها ونحو ذلك

- ‌تتمة

- ‌باب النهي عن الكذب وبيان أقسامه

- ‌باب الحث على التثبت فيما يحكيه الإنسان والنهي عن التحديث بكل ما سمع إذا لم يظن صحته

- ‌باب التعريض والتورية

- ‌باب ما يقوله ويفعله من تكلم بكلام قبيح

- ‌باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

- ‌كتاب جامع الدعوات

- ‌باب في آداب الدعاء

- ‌باب دعاء الإنسان وتوسله بصالح عمله إلى الله تعالى

- ‌باب رفع اليدين في الدعاء ثم مسح الوجه بهما

- ‌باب استحباب تكرير الدعاء

- ‌باب الحث على حضور القلب في الدعاء

- ‌باب فضل الدعاء بظهر الغيب

- ‌باب استحباب الدعاء لمن أحسن إليه وصفة دعائه

- ‌باب استحباب طلب الدعاء من أهل الفضل وإن كان الطالب أفضل من المطلوب منه، والدعاء في المواضع الشريفة

- ‌باب نهي المكلف عن دعائه على نفسه وولده وخادمه وماله ونحوها

- ‌باب الدليل على أن دعاء المسلم يجاب بمطلوبه أو غيره وأنه لا يستعجل بالإجابة

- ‌كتاب الاستغفار

- ‌باب النهي عن صمت يوم إلى الليل

الفصل: ‌باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

‌باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

اعلم أن هذا الباب مما تدعو الحاجة إليه لئلا يُغتَرَّ بقول

ــ

أن يكون الندم على ذلك البعض الذي يتحقق معه الترجيح لا لقبحه إذ لا يخرج الداعي بهذا الترجيح عن الاشتراك في كونه داعياً إلى الندم على القبيح لقبحه وقال بعضهم هذا الذي ذكره المعتزلة خروج عن المعقول ومناب الشرع فإن من بدرت منه بوادر وصدرت منه عظائم يصح في مجرى العادة التنصل من جماهيرها والاعتذار عنها مع الإصرار على شيء منها وقال غيره وما قاله المعتزلة مبني على أصلهم في التقبيح والتحسين العقلي ويرد عليهم قوله تعالى: {خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} وآيات أخر في معنى ذلك، وفصل بعض أصحابنا في ذلك فقال الحليمي تصح التوبة من كبيرة دون أخرى من غير جنسها ومقتضاه عدم الصحة إذا كانت من جنسها وبه صرح الأستاذ أبو بكر لكن قال الأستاذ أبو إسحاق يصح حتى لو تاب عن الزنى بامرأة مع الإقامة على الزنى بمثلها صح قال ابن القشيري وأباه الأصحاب قال وقال الإِمام: إن كان يعتقد أن العقوبة على إحداهما صحت التوبة من إحداهما دون الأخرى ثم قال الصوفية لا تكون توبة السالك مفتاحاً للمقامات حتى يتوب عن جميع الذنوب لأن كدورة بعض القلب واسوداده يمنع من السير إلى الله تعالى وقال في المقاصد التوبة الصحيحة عبادة لا يبطل ثوابها بمعاودة الذنب والتوبة ثانياً عبادة أخرى ولم يتعرض في الشرح لخلاف المعتزلة في هذه المسألة وسيأتي بسط لهذه المسألة في أوائل كتاب الاستغفار والخلاف في هذه المسألة لبعض أهل السنة نقل عن القاضي أبي بكر أنه ينقض توبته بواحد من الذنب الذي تاب منه وبهذا يعلم أن قول المصنف هذا مذهب أهل السنة مراده مذهب جمهورهم المعتمد عليه والله أعلم.

باب في ألفاظ حكي عن جماعة من العلماء كراهتها وليست مكروهة

أي في نفس الأمر ما استدلوا به للكراهة تارة وبطلانه أخرى. قوله: (يغتر بقول

ص: 174

باطل ويعوَّل عليه.

واعلم أن أحكام الشرع الخمسة، وهي: الإيجاب، والندب، والتحريم، والكراهة، والإباحة لا يثبت شيء منها إلا بدليل، وأدلة الشرع معروفة، فما لا دليل عليه لا يلتفت إليه، ولا يحتاج إلى جواب، لأنه ليس بحجة، ولا يُشْتَغَلُ بجوابه، ومع هذا فقد تبرع العلماء في مثل هذا بذِكر دليل على إبطاله. ومقصودي بهذه المقدِّمة أن ما ذكرتُ أن قائلاً كرهه

ــ

باطل ويعول عليه) يصح في كل من الفعلين أن يقرأ بصيغة المعلوم ومرجع الضمير ما دل عليه السياق وهو المكلف وأن يقرأ بصيغة المجهول والظرف فيهما نائب الفاعل. قوله: (واعلم أن أحكام الشرع الخمسة) إن قلت بقي من الأحكام خلاف الأولى والصحيح والباطل والفاسد قلت لعل المصنف جرى على مذهب المتقدمين من عدم الفرق في الإطلاق بين المكروه وخلاف الأولى فإن أول من ذكر الفرق كما قال السبكي هو إمام الحرمين ومن قبله كانوا يقولون فيما النهي فيه مقصود ومخصوص مكروه كراهة شديدة وفي غيره مكروه، أو يقال خلاف الأولى داخل في كلامه بأن يراد من الكراهة ما يشمله بأن يفسر بالخطاب المقتضي لترك الفعل اقتضاء غير جازم سواء كان بنهي مخصوص وهو المكروه أو لا وهو خلاف الأولى وأما الصحيح والفاسد والباطل فمن خطاب الوضع والكلام في أقسام خطاب التكليف. قوله:(وهي الإيجاب الخ) وجه الحصر في الأحكام الخمسة أن الخطاب إن اقتضى الفعل اقتضاء جازماً فإيجاب أو اقتضاء غير جازم فندب أو الترك اقتضاء جازماً فتحريم أو غير جازم بنهي مخصوص أو لا فكراهة وإن لم يقتض فعلاً ولا تركاً فإباحة وقوله لا يثبت شيء منها إلا بدليل خبر لأن. قوله: (وأدلة الشرع معروفة) هي الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستصحاب. قوله: (فما لا دليل عليه) أي من الأدلة الشرعية. قوله: (فقد تبرع العلماء) أي تكلموا في رده على وجه التبرع بالكلام إذ لم يحتاجوا إلى الكلام فيه لبطلانه لعدم دليله

ص: 175

ثم قلتُ: ليس مكروهاً، أو هذا باطل أو نحو ذلك، فلا حاجة إلى دليل على إبطاله، وإن ذكرته كنت متبرعاً به، وإنما عقدت هذا الباب لأبيِّن الخطأ فيه من الصواب لئلا يُغترَّ بجلالة من يضاف إليه هذا القول الباطل.

اعلم أني لا أسمي القائلين بكراهة هذه الألفالظ لئلا تَسْقُطَ جلالتهم ويُساءَ الظنُّ بهم،

وليس الغرض القدح فيهم، وإنما المطلوب التحذير من أقوال باطلة نقلت عنهم، سواء أصحت عنهم أم لم تصح، فإن صحت لم تقدح في جلالتهم كما عرف، وقد أضيفُ بعضَها لغرض صحيح، بأن يكون ما قاله محتَملاً فينظر غيري فيه، فلعل نظره يخالف نظري فيعتضده نظره بقول هذا الإِمام السابق إلى هذا الحكم، وبالله التوفيق.

فمن ذلك ما حكاه الإِمام أبو جعفر النحاس في كتابه "شرح أسماء الله سبحانه وتعالى"

ــ

الشرعي. قوله: (أو هذا) أي ما ذكره ذلك القائل. قوله: (لأبين الخطأ فيه من الصواب) أي أميزه منه. قوله: (لئلا يغتر بجلالة من يضاف إليه هذا القول الباطل) قال المصنف والرد على العالم بعض ما قاله لا ينافي جلالته فكل واحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب الشرع وكذا لا يمنع جلالة العالم من التكلم معه ومطالبته بإثبات دليل ما ذكره وإلا لبطل الاحتجاج مع الإجلاء. قوله: (لا أسمي القائلين) أي غالباً أو إذا كان غلط القول المنقول عنه أو ضعفه كالمتحقق بدليل قوله بعد وقد أضيف بعضها إلى

القائل بها واسميه لاحتمال قوله للصواب. قوله: (لئلا تسقط جلالتهم) أي سند الجهال. قوله: (لم تقدح في جلالتهم) أي في الحقيقة ولذا السيف ينبو والجواد يكبو ولا يخل ذلك من شرفها فالكريم من عدت سقطاته وحسبت هفواته.

ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها

كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

قوله: (وقد أضيف بعضها) أي الأقوال المردودة لقائلها. قوله: (محتملاً) بفتح الميم أي

ص: 176

عن بعض العلماء أنه كره أن يقال: تَصدَّق الله عليك، قال: لأن المتصدِّق يرجو الثواب.

قلت: هذا الحكم خطأ صريح وجهل قبيح، والاستدلال أشدُّ فساداً.

وقد ثبت في "صحيح مسلم" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في قصر الصلاة: "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِها عَلَيكُمْ فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ".

فصل: ومن ذلك ما حكاه النحاس أيضاً عن هذا القائل المتقدِّم

ــ

محمولاً على وجه صحيح على طريق الاحتمال. قوله: (لأن المتصدق) أي من المكلفين (يرجو الثواب) على صدقته فكره ذلك القائل إطلاق هذا اللفظ في حقه تعالى لئلا يتوهم في حقه لازم التصدق من المكلف وهو رجاء الثواب. قوله: (والاستدلال أشد فساداً) أي وما استدل به أشد فساداً وذلك لأن الألفاظ تختلف ملزوماتها بل ومعانيها بحسب ما تطلق فيه مثلاً الاستواء أي في حق المخلوق التمكن من الحيز وفي حقه سبحانه الاستيلاء على الشيء على وجه القهر والغلبة وهو القاهر فوق عباده، فدعوى أن لفظ تصدق يكره أن يقال في حقه تعالى -لأنه يوهم رجاء الثواب له تعالى لكونه إذا وقع من المخلوق يكون لرجاء الثواب- ظاهر الفساد لما ذكر من اختلاف معاني الكلمات ولوازمها بحسب مواردها ومواقعها، فليس المراد من التصدق في حقه تعالى هذا المعنى بل التفضل والإحسان والله أعلم وإنما كان الحكم خطأ صريحاً لمصادمته النص الصحيح الصريح بإطلاق هذا اللفظ في حقه تعالى ولعل القائل بذلك لم يستحضر الخبر وقت بحثه ذلك والله أعلم.

قوله: (وقد ثبت في صحيح مسلم) وكذا رواه أبو داود والترمذي والنسائي كما في التيسير والحديث عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا فقد آمن النّاس فقال عجبت وما عجبت منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.

ص: 177

ذكْره أنه كره أن يقال: اللهُم أعتقني من النار، قال: لأنه لا يُعتق إلا من يطلب الثواب.

قلت: وهذه الدعوى والاستدلال من أقبح الخطأ وأرذل الجهالة بأحكام الشرع، ولو ذهبتُ أتتبَّع الأحاديث الصحيحة المصرِّحة بإعتاق الله تعالى من شاء من خلقه لطال الكتاب طولاً مُمِلاً.

وذلك كحديث: "مَنْ أعْتَقَ رَقَبَةً أعْتَقَ الله تَعالى بِكُل عُضْوٍ مِنْها عُضْواً مِنْهُ مِنَ النارِ".

وحديث: "ما مِنْ يَوْمٍ أكْثَرُ أنْ يُعْتِقَ الله تَعالى فِيهِ عَبْداً مِنَ النارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ".

فصل: ومن ذلك قول بعضهم: يكره أن يقول: افعل كذا على

ــ

قوله: (لأنه لا يعتق) بضم التحتية وكسر الفوقية ودليله هذا نظير ما تقدم فيما قبله. قوله:

(كحديث من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار) رواه البخاري ومسلم وابن ماجه من حديث أبي هريرة وتتمته حتى فرجه قال المصنف في الحديث بيان فضل العتق وأنه من أفضل الأعمال ومما يحصل به العتق من النار ودخول الجنة وفيه استحباب عتق كامل الأعضاء فلا يكون خصياً ولا فاقد غيره من الأعضاء وفي الخصي أيضاً وغيره الفضل لكن الكامل أولى وأفضله أغلاه ثمناً وأنفسه، وظاهر إطلاق الحديث حصول الإعتاق بعتق الكافر لكن جاء في حديث أي امرئ أعتق امرأ مسلماً كان فكاكه من النار يجزى كل عضو منه عضواً منه رواه أبو داود والترمذي والنسائي ففيه التقييد يكون الرقبة مؤمنة قال المصنف فيدل على أن هذا الفضل الخاص إنما هو في عتق المؤمنة أما غير المؤمنة ففيه أيضاً فضل بلا خلاف لكن دون فضل المؤمنة ولذا أجمعوا على اشتراط الإيمان في عتق كفارة القتل وحكى القاضي عياض عن مالك أن الأغلى ثمناً أفضل وإن كان كافراً قال وخالفه غير واحد من أصحابه وغيرهم قال وهذا أصح اهـ. قوله:(وحديث ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة) رواه مسلم والنسائي وابن خزيمة من حديث عائشة قال المصنف في الحديث دلالة

ص: 178

اسم الله، لأن اسمه سبحانه على كل شيء. قال القاضي عياض وغيره: هذا القول غلط.

فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في الأضحية: "اذْبَحُوا على اسْم اللهِ" أي قائلين: باسم الله.

فصل: ومن ذلك ما رواه النحاس عن أبي بكر محمد بن يحيى قال: وكان من الفقهاء الأدباء العلماء، قال: لا تقل: جمع الله بيننا في مستقر رحمته، فرحمة الله أوسع من أن يكون لها قرار، قال: ولا تقل:

ــ

ظاهرة في فضل يوم عرفة وهو كذلك ولو قال امرأتي طالق في أفضل الأيام فللأصحاب فيه وجهان أحدهما تطلق يوم الجمعة لحديث خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة رواه مسلم وأصحهما يوم عرفة للحديث المذكور ويتأول حديث الجمعة على أنه أفضل أيام الأسبوع. قوله: (هذا القول غلط) أي لورود النص بخلافه وفارق ما تقدم من كراهة اجلس على اسم الله بأن في اللفظ إيهام استعلاء على اسم الله بالجلوس عليه وإن كان مراده منها معنى الباء لأن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض إلا أن اللفظ بشع وذلك مفقود فيما نحن فيه. قوله: (فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في الأضحية اذبحوا على اسم الله) رواه مسلم قال المصنف قوله فليذبح على اسم الله هو بمعنى رواية فليذبح باسم الله هذا هو الصحيح في معناه وقال القاضي يحتمل أربعة أوجه أحدها أن يكون معناه فليذبح لله والباء بمعنى اللام والثاني فليذبح بسنة الله والثالث بتسمية الله على ذبيحته إظهاراً للإسلام ومخالفة لمن يذبح لغيره وقمعاً للشيطان والرابع تبركاً

باسمه وتيمناً بذكره كما يقال سر على بركة الله وسر باسم الله وكره بعض العلماء أن يقال افعل كذا على اسم الله الخ قال القاضي ليس هذا بشيء وهذا الحديث يرد عليه والحاصل أن ما توهمه ذلك القائل مبني على بقاء على معناها من الاستعلاء واسم الله تعالى عال على كل شيء وليس كما توهم بل على فيه إما بمعنى الباء أو بمعنى اللام. قوله: (عن أبي بكر محمد بن يحيى) قال في شرح العباب ومنعه أحمد أيضاً. قوله: (قال لا تقل جمع الله بيننا في مستقر رحمته) قال ابن القيم في بديع الفوائد

ص: 179

ارحمنا برحمتك.

قلت: لا نعلم لما قاله في اللفظين حجة، ولا دليل له فيما ذكره، فإن مراد القائل بمستقر الرحمة: الجنة، ومعناه: جمع بيننا في الجنة التي هي

ــ

لا يمتنع الدعاء المشهور بين النّاس قديماً وحديثاً اللهم اجمعنا في مستقر رحمتك وذكره البخاري في كتاب الأدب المفرد عن بعض السلف وحكي فيه الكراهة قال: لأن مستقر رحمته ذاته وهذا بناء على أن الرحمة هنا صفة وليس مراد الداعي ذلك بل مراده الرحمة المخلوقة التي هي الجنة ولكن الذين كرهوا ذلك لهم نظر دقيق جداً وهو أنه إذا كان المراد بالرحمة الجنة نفسها لم يحسن إضافة المستقر إليها ولذا لا يحسن أجمعنا في مستقر رحمتك فإن الجنة نفسها هي دار القرار وهي المستقر نفسه كما قال تعالى: {حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا} فكيف يضاف المستقر إليها والمستقر هو المكان الذي يستقر فيه الجنة فتأمله ولذا قال مستقر رحمته ذاته والصواب أن هذا لا يمتنع وحتى لو صرح بقوله أجمعنا في مستقر رحمتك لم يمتنع وذلك أن المستقر أعم من أن يكون رحمة أو عذاباً فإذا أضيف إلى أحد أنواعه أضيف إلى مناسبه وغيره من غيره كأنه قيل في المستقر الذي هو رحمتك لا في المستقر الآخر ونظير هذا أن يقال اجلس في مستقر المسجد أي المستقر الذي هو المسجد والإضافة في مثل ذلك غير ممتنعة ومستكرهة وأيضاً فإن الجنة وإن سميت رحمة لا يمتنع أن يسمى ما فيها من أنواع النعيم رحمة ولا ريب أن مستقر ذلك النعيم هو الجنة فالداعي يطلب أن يجمعه الله ومن يحب في المكان الذي تستقر فيه تلك الرحمة المخلوقة في الجنة والله أعلم وحاصله أن الإضافة على الأول بيانية وعلى الأخير لامية وقال بعضهم موجها للقول بالكراهة لعله أراد أن الاستقرار يشعر بالانتهاء ورحمة الله لا انتهاء لها اهـ. قوله: (ارحمنا برحمتك) المراد من الرحمة هنا صفته تبارك وتعالى وهي المتوسل بها والباء للقسم الاستعطافي وهو من باب سؤال الفضل بالفضل على أحد الوجوه التي ذكرت في قوله صل على سيدنا محمد كما صليت على إبراهيم ولعل وجه الكراهة توهم كون الباء تكون للاستعانة والظرف حال من فاعل ارحمنا أي حال كونك مستعيناً برحمتك وهو عز وجل غني عن كل شيء لكن هذا الإيهام لا عبرة به فقد

ص: 180

دار القرار ودار المقامة ومحل الاستقرار، وإنما يدخلها الداخلون برحمة الله تعالى، ثم من دخلها استقر فيها أبداً، وأمن الحوادث والأكدار، وإنما حصل له ذلك برحمة الله تعالى، فكأنه يقول: اجمع بيننا في مستقر نناله برحمتك.

فصل: روى النحاس عن أبي بكر المتقدِّم قال: لا يقل: اللهم أجرنا من النار ولا يقل: اللهم ارزقنا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنما يَشْفَعُ لمن استوجب النار.

قلت: هذا خطأ فاحش، وجهالة بيِّنة، ولولا خوف الاغترار بهذا الغلط وكونه قد ذكر في كتب مصنَّفة لما تجاسرت على حكايته، فكم من حديث في الصحيح جاء في ترغيب المؤمنين الكاملين بوعدهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم:

"مَنْ قالَ مِثْلَ ما يَقُولُ المُؤَذِّنُ حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي"

ــ

جاء النص الصحيح الصريح بجوازه فقد تقدم في أدعية الكرب يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ولعل له ملحظاً آخر والله أعلم. قوله: (وإنما يدخلها الداخلون) إيماء إلى أن الإضافة لامية وأنها لأدنى ملابسة.

قوله: (لا تقل اللهم أجرنا من النار) هذا يرده حديث مسلم عن أبي هريرة قال قال صلى الله عليه وسلم ما استجار عبد من النار سبع مرات إلا قالت النار يا رب إن عبدك فلاناً استجار مني فأجره الحديث فإن الاستجارة طلب الإجارة ومن ألفاظها اللهم أجرني من النار وتقدم في باب ما يقال بعد صلاة المغرب اللهم أجرني من النار. قوله: (فإنما يشفع لمن استوجب النار) أي إن عذبه الله تعالى على ذنبه وإلا فالنار لا تجب البتة إلا لمن مات على الكفر ولذا قال بعضهم في رد هذا القول وزعم أن الشفاعة لا تكون إلا للمذنبين فسؤالها سؤال للذنب خطأ صريح لأنها تكون في رفع الدرجات وقد أجمعوا على طلب سؤال المغفرة وإن استدعت وقوع الذنب وطلب العفو عنه اهـ. قوله: (كقوله صلى الله عليه وسلم من قال مثل ما يقول المؤذن حلت له شفاعتي) صريحة وجوب الشفاعة للمجيب وإن لم يسأل بعده

ص: 181

وغير ذلك.

ولقد أحسن الإِمام الحافظ الفقيه أبو الفضل عياض رحمه الله في قوله: قد عُرِف بالنقل المستفيض سؤالُ السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها قال: وعلى هذا لا يلتفت إلى كراهة من كره ذلك لكونها لا تكون إلا للمذنبين، لأنه ثبت في الأحاديث في "صحيح مسلم" وغيره إثبات الشفاعة لأقوام في دخولهم الجنة بغير حساب، ولقوم في زيادة درجاتهم في الجنة، قال: ثم كل عاقل معترِفٌ بالتقصير، محتاجٌ إلى العفو، مشفقٌ من كونه من الهالكين، ويلزم هذا القائل أن لا يدعوَ بالمغفرة والرحمة، لأنهما لأصحاب الذنوب، وكل هذا خلاف ما عُرف من دعاء السلف والخلف.

فصل: ومن ذلك ما حكاه النحاس عن هذا المذكور، قال: لا تقل: توكلت على ربي الرب الكريم، وقيل: توكلت على ربي الكريم. قلت: لا أصل لما قال.

ــ

الوسيلة وفي تقدم في باب إجابة المؤذن نقل ذلك عن بعضهم ولعل هذا من مستنده. قوله: [لأنه في ثبت في صحيح مسلم الخ) كحديث عكاشة لما سأل من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو له بأن يكون من السبعين ألفاً الذين يدخلون الجمعة بلا حساب فقال: أنت منهم وهذا منع لقوله إن الشفاعة لا تكون إلا للمذنبين. وقوله: (ثم قال كل عاقل الخ) ثم هذا تنزل على تسليم أن الشفاعة لا تكون إلا للمذنبين: فمن ذا الذي ما ساء قط، ومن له الحسنى فقط، والكامل كلما علت مرتبته وعظمت معرفته بربه كان أشد في الخوف من ربه والإعظام في الاتهام لنفسه وعدم الرضى بما يصدر عنها كما روي عن بعض العارفين أنه كان يصلي في كل يوم ألف ركعة ثم يقبل على نفسه ويقول يا مأوى كل سوء والله ما أرضاك له ساعة واحدة.

قوله: (لا تقل توكلت على ربي الرب الكريم) حذراً من توهم إضافة رب إلى الرب لأن الياء

تحذف في اللفظ

ص: 182

فصل: ومن ذلك ما حكي عن جماعة من العلماء أنهم كرهوا أن يسمى الطواف بالبيت شوطاً أو دوراً، قالوا: بل يقال للمرَّة الواحدة: طوفة، وللمرتين: طوفتان، وللثلاث: طَوْفَات، وللسبع: طَوَافٌ.

قلت: وهذا الذي قالوه لا نعلم له أصلاً، ولعلهم كرهوه لكونه من ألفاظ الجاهلية، والصواب المختار أنه لا كراهة فيه.

فقد روينا في "صحيحي البخاري ومسلم" عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يَرْمِلوا ثلاثة أشواط ولم يمنعه أن يأمرَهم أن يُرْمِلوا الأشواط كلَّها إلا الإبقاءُ عليهم".

فصل: ومن ذلك: صمنا رمضان، وجاء رمضان، وما أشبه ذلك إذا

ــ

لالتقاء الساكنين لكن على هذا الإيهام لا يلتفت إليه ولا يعول عليه وأنه بعينه متأت فيما قاله من قوله وقيل توكلت على ربي الكريم إلا أن يقال لفظ الرب مختص بالله تعالى ولا كذلك لفظ الكريم فالإيهام في ذلك أتم والله أعلم. قوله: (ما حكي عن جماعة من العلماء) قال المصنف في إيضاح المناسك كره الشافعي أن يسمى الطواف شوطاً ودوراً وروي كراهته عن مجاهد قال ابن حجر في حاشية الإيضاح تبع الشافعي على ذلك الأصحاب وروى كراهته عن مجاهد أي حيث قال وأكره ما كره مجاهد لأن الله سماه طوافاً فقال {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} . قوله: (والصواب المختار أنه لا كراهة فيه) يوافقه قوله في المجموع وهذا استعمله ابن عباس تقدم في قول مجاهد ثم إن الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت في تسميته شوطاً نهي فالمختار أنه لا يكره واعترض بأن قول ابن عباس أمرهم صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط من قوله فلا حجة فيه بل قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما في العتمة الحديث لا يدل على عدم كراهة تسمية العشاء بذلك لأنه لبيان الجواز ويرد بان الأصل عدم الكراهة إلا لدليل ولم يرد، والمصنف إنما ذكر ذلك استئناساً وكون الشوط الهلاك لا يقتضي

ص: 183

أريد به الشهر، واختلف في كراهته، فقال جماعة من المتقدمين: يكره أن يقال: رمضان من غير إضافة إلى الشهر، روي ذلك عن الحسن البصري ومجاهد. قال البيهقي: الطريق إليهما ضعيف، ومذهب

أصحابنا أنه يكره أن يقال: جاء رمضان، ودخل رمضان، وحضر رمضان، وما أشبه ذلك مما لا قرينة تدل على أن المراد الشهر، ولا يكره إذا ذكر معه قرينه تدل على الشهر، كقوله: صمت رمضان، وقمت رمضان، ويجب صوم رمضان، وحضر رمضان الشهر المبارك، وشبه ذلك، هكذا قاله أصحابنا، ونقله الإمامان: أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي في كتابه "الحاوي" وأبو نصر بن الصباغ في كتابه "الشامل" عن أصحابنا، وكذا

ــ

بمجرده كراهة والظاهر أن الشافعي لم يقصد بالكراهة إلا أنه يبغي التنزه عن التلفظ بذلك لإشعاره بما لا ينبغي ونظيره كراهتهم تسمية المذبوح عن المولود عقيقة ويؤيد ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب الفال الحسن ويكره ضده. قوله: (فقال جماعة من المتقدمين) قال المصنف في شرح مسلم وهذا قول أصحاب مالك زعم هؤلاء أن رمضان من أسماء الله تعالى فلا يطلق على غيره إلا بقيد اهـ. ونازع الحطاب المالكي في شرح المختصر في ثبوت ذلك عندهم قال والعجب من الأبي في شرح مسلم والفاكهاني في شرح العمدة كيف أقرأ النووي على ذلك مع كثرة تعقبهما له في أقل من هذا. قوله: (ومجاهد) قال القرطبي قال مجاهد رمضان اسم من أسماء الله تعالى وكان يكره أن يجمع ويقول بلغني أنه اسم من أسماء الله عز وجل وعن مجاهد أيضاً قال: لا آمن أن يكون من أسماء الله تعالى ثم قال القرطبي بعد كلام طويل وهذا أي حديث البخاري ينفي أن يكون رمضان من أسماء الله تعالى وهو الصحيح إذ

قد استقرت القلوب أنه اسم واقع على الشهر فارتفع بذلك الإشكال وأما إن رمضان اسم له تعالى فلم يستقر إذ ليس من الأسماء الواردة ولا في أثر مقطوع بصحته اهـ. قوله: (ومذهب أصحابنا) أي أكثر أصحابنا كما عبر به في شرح مسلم.

ص: 184

نقله غيرهما من أصحابنا عن الأصحاب مطلقاً.

واحتجوا بحديث رويناه في سنن البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَقُولُوا: رَمَضَانَ، فإن رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْماءِ اللهِ تَعالى، وَلكِنْ قولوا: شَهْرُ رَمَضَان) وهذا الحديث ضعيف ضعفه البيهقي، والضعف عليه ظاهر، ولم يذكر أحد رمضان في أسماء الله تعالى، مع كثرة من صنَّف فيها. والصواب -والله أعلم- ما ذهب إليه الإِمام أبو عبد الله البخاري في "صحيحه" وغير واحد من العلماء المحققين أنه لا كراهة مطلقاً كيفما قال، لأن الكراهة لا تثبت إلا بالشرع، ولم يثبت في كراهته شيء، بل ثبت في الأحاديث جواز ذلك، والأحاديث فيه في "الصحيحين" وغيرهما أكثر من أن تحصر.

ولو تفرَّغتُ لجمع ذلك رَجَوْتُ أن تبلغَ أحاديثُه مئين، لكن الغرض يحصل بحديث واحد.

ويكفي من ذلك كله ما رويناه في "صحيحي البخاري ومسلم" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذَا جاءَ

ــ

قوله: (رويناه في سنن البيهقي الخ) قال القرطبي في شرح أسماء الله الحسنى رواه ابن عدي من حديث أبي معشر نجيح عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره إلى قوله من أسماء الله، أبو معشر هذا من ضعفه أكثر ممن وثقه ومع ضعفه يكتب حديثه هذا اهـ. قوله:(لا تقولوا رمضان الخ) ذكره في شرح مسلم مستنداً للقول الأول وهنا مستنداً لهذا القول والأول ظاهر وأما هنا فوجهه أن القرينة قامت مقام ذكر الشهر فأغنت عنه. قوله: (وهذا الحديث ضعيف) أي وأسماء الله توقيفية لا تثبت إلا بالكتاب أو المقبول من الصحيح أو الحسن من الحديث وهل يعتبر في ذلك التواتر أو لا الأصح الثاني كما تقدم قريباً قال المصنف ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة أي لأنه لا بد في الكراهة من ثبوت النهي عن ذلك الشيء. قوله: (ما رويناه في صحيحي البخاري ومسلم) قال المنذري في الترغيب وفي رواية لمسلم

ص: 185

رَمَضَانُ فُتحَتْ أبوَابُ الجنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبوَابُ النارِ، وَصُفِّدَتِ الشياطِينُ"

ــ

فتحت أبواب الرحمة وغلقت أبواب جهنم وسلسلت الشياطين ورواه الترمذي وابن ماجه وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي كلهم من رواية أبي بكر بن عياش عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ولفظهم قال: إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن وقال ابن خزيمة الشياطين مردة الجن بغير واو وغلقت أبواب النار فلم يفتح

منها باب وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب وينادي منادياً باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة قال الترمذي وهو حديث غريب ورواه النسائي والحاكم بنحو هذا اللفظ وقال الحاكم صحيح على شرطهما اهـ. زاد السخاوي في تكملته تخريج شيخه وكذا أخرجه أحمد والدارمي في مسنديهما وكذا رويناه في رابع المخلصيات وفي رواية للشيخين إذا دخل رمضان وعند مسلم وحده بلفظ إذا كان رمضان ورواه كذلك الإِمام مالك لكن وقفه وأخرج الحديث أبو عوانة في صحيحه مرفوعاً. قوله: (فتحت أبواب الجنة الخ) قال القاضي عياض يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول شهر رمضان وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم قال ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم فيصيرون كالمصفدين ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء وناس دون ناس قال المصنف ويؤيد هذا قوله في الرواية الثانية فتحت أبواب الرحمة قال القاضي ويحتمل أن يكون فتح الجنة عبارة عما يفتحه الله تعالى لعباده من الطاعات في هذا الشهر التي لا تقع في غيره عموماً كالصيام والقيام وفعل الخيرات والانكفاف عن كثير من المخالفات وهذه أسباب لدخول الجنة وأبواب لها وكذا تغليق أبواب النار وتصفيد الشياطين عبارة عما ينكفون عنه من المخالفات قال ابن المنير والأول أوجه إذ لا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره وأما الرواية التي فيها أبواب الرحمة فالمراد به الجنة بدليل ما يقابله اهـ. ومعنى صفدت غللت والصفد

ص: 186

وفي بعض روايات "الصحيحين" في هذا الحديث: "إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ" وفي رواية لمسلم: "إذَا كانَ رَمَضَانُ" وفي الصحيح: "لا تقدموا رَمَضَانَ"

ــ

بفتحتين الغل بضم الغين اهـ. قال الحليمي يحتمل أن يكون المراد أن الشياطين مسترقو السمع منهم وقد منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من إفساد المؤمنين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوة وبقراءة القرآن والذكر وقال غيره المراد بالشياطين بعضهم وهم المردة بدليل ما جاء عند النسائي ويغل فيه مردة الشياطين وقال القرطبي بعد أن رجح حمل الحديث على ظاهره من منع الشياطين من الوسوسة فيه فإن قلت فكيف نرى بعض الشرور المعاصي واقعة في رمضان كثيراً فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك فالجواب أنها إنما تغل عن الصائمين الذين حافظوا على شروطه وراعوا آدابه قال والمصفد بعضهم أي المردة لا كلهم أو التصفيد تقليل الشرور فيه وهذا أمر محسوس فإنها فيه أقل منها في غيره أو يقال لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية اهـ. قوله: (وفي رواية للصحيحين) وهكذا هي عند النسائي في الصغرى. قوله: (وفي الصحيح) رواه الشافعي وأحمد والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والإسماعيلي وأبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي وغيرهم قاله القلقشندي في شرح العمدة زاد السخاوي فقال في تكملته ورواه أبو داود السجستاني والدارمي في مسنديهما ورواه عبد الله ابن الإِمام

أحمد والدارقطني من طريق آخر عن أبي هريرة. قوله: (لا تقدموا رمضان) تمام الحديث بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه وتقدموا أصله تتقدموا بتاءين حذفت إحداهما تخفيفاً لتماثل الحركتين فيهما ومنه ولا تيمموا الخبيث قال البرماوي ويروى لا تقدموا بضم الفوقية مضارع قدم

ص: 187

وفي الصحيح: "بُنِيَ الإسْلامُ على خَمْسٍ" منها صوم رمضان، وأشباه هذا كثيرة معروفة.

فصل: ومن ذلك ما نقل عن بعض المتقدمين أنه يكره أن يقول: سورة البقرة، وسورة الدخان، والعنكبوت، والروم، والأحزاب، وشبه ذلك، قالوا: وإنما يقال: السورة التي يذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها النساء، وشبه ذلك.

قلت: وهذا خطأ مخالف للسنَّة، فقد ثبت في الأحاديث استعمال ذلك فيما لا يحصى من المواضع.

ــ

إما بمعنى تقدم فيكون كالأول وإما لأن المعنى لا تقدموا صوماً قبله والمفعول محذوف ويكون قوله بصوم يوم أو يومين كالتفسير لذلك الصوم المنهي عن تقديمه أي تقدموا صوماً على رمضان بأن تصوموا يوماً أو يومين ورمضان منصوب على أنه مفعول به وسمي رمضان لأنه يحرق الذنوب كما جاء ذلك في خبر عن أنس مرفوع بسند ضعيف والاعتراض عليه بأن التسمية به ثابتة قبل الشرع وحرق الذنوب به إنما ثبت بعد الشرع ضعيف فإنه من الجائز أن يكون حرقه للذنوب سابقاً على بعثه صلى الله عليه وسلم في علمه تعالى غايته أن ظهور ذلك كان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم نظير ما ذكروه في الجمع بين ما ورد من حديث تحريم إبراهيم لمكة وحديث أن مكة حرام يوم خلق الله السموات والأرض الحديث والله أعلم. قوله: (وفي الصحيح) رواه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن خزيمة وأبو عوانة من حديث ابن عمر ورواه جرير بن عبد الله البجلي وغيره من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (وأشباه هذا كثيرة) أي كحديث أبي هريرة رضي الله عنه من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه أخرجه الشيخان وعندهما في رواية أخرى من صام رمضان الخ.

قوله: (ومن ذلك ما نقل عن بعض المتقدمين الخ) نقله في التبيان عن بعض السلف وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بذلك في كتاب أدب التلاوة وبيان ذكر وجه القائل بالكراهة. قوله: (فيما لا يحصى من المواضع) قال الحافظ ابن حجر الذي ثبت من ذلك صريحاً ومقدار لا يبلغ المرفوع منه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم خمسين

ص: 188

كقوله صلى الله عليه وسلم: "الآيَتانِ مِنْ آخِرِ سورَةِ البَقَرَةِ مَنْ قَرَأهُما في لَيلَةٍ كَفَتَاه" وهذا الحديث في "الصحيحين" وأشباهه كثيرة لا تنحصر.

فصل: ومن ذلك ما جاء عن مطرِّف رحمه الله أنه كره أن يقول: إن الله تعالى يقول في

كتابه، قال: وإنما يقال: إن الله تعالى قال، كأنه كره ذلك لكونه لفظاً مضارعاً، ومقتضاه الحال أو الاستقبال، وقول الله تعالى هو كلامه، وهو قديم.

قلت: وهذا ليس بمقبول، وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة استعمال ذلك من جهات كثيرة، وقد نبَّهت على ذلك في "شرح صحيح مسلم" وفي كتاب "آداب القراء" قال الله تعالى:{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4].

وفي "صحيح مسلم" عن أبي ذرّ قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ عز وجل: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ".

وفي "صحيح البخاري"

ــ

حديثاً وقد تقدم ثمة بيان جملة منها قال وأما عن الصحابة ومن بعدهم فكثير جداً اهـ. قوله: (كقوله صلى الله عليه وسلم) تقدم الكلام على الحديث سنداً ومتناً في أذكار المساء والصباح.

قوله: (ما جاء عن مطرف) بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء المهملتين وهو ابن عبد الله بن الشخير التابعي المشهور.

قوله: (وهذا ليس بمقبول) قال في التبيان هذا الذي أنكره مطرف خلاف ما جاء به القرآن والسنة ونقلته الصحابة ومن بعدهم اهـ. وما استدل به من أن المضارع الخ يجاب عنه أن هذا أصل وضعه وحقيقته وقد يراد به الاستمرار نحو فلان يقري الضيف أي مستمر على ذلك ومنه ما نحن فيه إذ قوله تعالى كلامه القديم الذي لا يحد بزمن ولا يحد بحرف ولا صوت. قوله: (وفي صحيح مسلم الخ) رواه عن أبي كرب عن أبي معاوية عن الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر وقد رواه عن الأعمش وكيع كما عند مسلم ورواه أحمد والحاكم من حديث همام عن عاصم ومن حديث منصور عن ربعي كلاهما عن المعرور به نحوه ذكره السخاوي. قوله: (وفي صحيح البخاري) وكذا

ص: 189