الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا أرحم الراحمين.
باب النهي عن صمت يوم إلى الليل
روينا في سنن أبي داود بإسناد حسن عن عليٍّ رضي الله عنه قال: حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يُتْمَ بعدَ احْتِلامٍ ولا صُماتَ يَوْمٍ إلى اللَّيلِ".
وروينا في "معالم السنن" للإمام أبي سليمان الخطابي رضي الله عنه قال في تفسير هذا الحديث: كان أهل الجاهلية من نُسكهم الصُّماتُ، وكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة فيصمُت ولا ينطِق، فنهوا: يعني في الإسلام عن ذلك، وأمروا بالذكر والحديث بالخير.
وروينا في "صحيحي البخاري" عن قيس بن أبي حازم رحمه الله قال: دخل أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه على امرأة من أحمسَ يقال لها: زينب، فرآها لا تتكلَّم، فقال: ما لها لا
ــ
يا نفس لا تقنطي من زلة عظمت
…
إن الكبائر في الغفران كاللمم
وفي ختم الدعاء بقوله (يا أرحم الراحمين) إيماء إلى أن العفو عن العباد وبذل الفضل عليهم والإمداد من محض الرحمة التي غلبت على سواها كما ورد "سبقت رحمتي غضبي" أي غلبته وزادت عليه والله أعلم.
باب النهي عن صمت يوم إلى الليل
أي عن التعبد بذلك وأما قوله تعالى حكاية عن مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} أي صمتاً وسكوتاً عن الكلام فذاك شرع لمن قبلنا منسوخ في شرعنا. قوله: (لا يتم بعد احتلام) أي فيرتفع به أحكام الصبي من اليتم والحجر عليه في المال وعدم الاعتداد بأقواله ومثله في ذلك استكماله خمسة عشر عاماً وإن لم يحتلم وأقل ما يحتمل الاحتلام استكمال تسع سنين تقريباً. قوله: (ولا صمات)
بضم الصاد المهملة في المغرب يقال صمت صمتاً وصموتاً إذا سكت طويلاً أي لا يتعبد بذلك شرعاً. قوله: (على امرأة من أحمس يقال لها زينب) في أسد الغابة زينب بنت جابر الأحمسية كانت في زمن
تتكلَّم؟ فقالوا: حجَّتْ مُصْمِتَةً، فقال لها: تكلَّمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية، فتكلَّمت.
فصل: فهذا آخر ما قصدتُه من هذا الكتاب، وقد رأيت أن أضمَّ إليه أحاديث تتمُّ محاسنُ الكتاب بها إن شاء الله تعالى، وهي الأحاديث التي عليها مدار الإسلام، وقد اختلف
العلماء فيها اختلافاً منتشراً،
ــ
النبي صلى الله عليه وسلم وحدثت عن أبي بكر روى عنها جابر بن عبد الله الأحمسي وهي عمته كذا قاله ابن منده في التاريخ وقيل هي بنت المهاجر بن جابر ويشبه أن تكون بنت نبيط بن جابر امرأة أنس بن مالك لأنها من أحمس أخرجها أبو موسى كذا في مختصر وذكر في زينب بنت نبيط بن جابر خلافاً في كونها أنصارية أو أحمسية وقال بعد كلام طويل نسبها أبو موسى إلى جدها فقال زينب بنت جابر الأحمسية ومثل هذا كثير في كتبهم ينسب أحدهم الشخص إلى أبيه وينسبه الآخر إلى جده أو من فوق جده وهما واحد والله أعلم. قوله: (مصمتة) أي ساكتة لا تتكلم. قوله: (فإن هذا لا يحل) أي التعبد بالصمت عن كل شيء حتى عن الذكر طول النهار لا يحل نعم الصمت عما لا ينبغي مطلوب والكلام في محله محبوب كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإتيان بالذكر المندوب وتتمة القصة كما في البخاري فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين فقالت: من أي المهاجرين؟ قال: من قريش قال: إنك لسؤول قال: أنا أبو بكر قالت: ما بقاؤنا على هذا الأمر الصالح الذي جاء الله به بعد الجاهلية قال: بقاؤكم ما استقامت أئمتكم قالت: وما الأئمة قال: أما كان لقومك رؤوس وأشراف يأمرونهم فيطيعونهم قالت بلى قال فهم أولئك اهـ. وفي ختم الكتاب بهذا الباب إشارة إلى النهي عن الغفلة عن الإقبال على المولى والصمت عن الذكر له سبحانه بلسانه وقلبه في زمن من الأزمان بل ينبغي أن يكون مقبلاً على مولاه ذاكراً له بلسانه وقلبه.
فصل
قوله: (وهي الأحاديث التي عليها مدار الإسلام) المدار بفتح الميم اسم مكان من الدوران وهي لغة الحركة في السكك واصطلاحاً ترتب الشيء على
وقد اجتمع مِن تَداخُل أقوالهم مع ما ضممته إليها ثلاثون حديثاً.
الحديث الأول: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "إنَّمَا الأعْمال بالنِّيَّاتِ"
ــ
الشيء الذي له صلاحية العلية وجوداً أو عدماً أو معاً والأول يسمى الدائر والثاني المدار كترتب الملك على الهبة الشرعية فإن الملك يوجد عندها ولا يعدم عند عدمها لاحتمال سبب آخر من إرث أو غيره وقد اختلف العلماء فيها اختلافاً منتشراً قال الفاكهاني قد صح عن جماعة من العلماء أن مدار الإسلام على أربعة أحاديث حديث الأعمال بالنيات وحديث الحلال بين والحرام بين وحديث ازهد في الدنيا يحبك الله وحديث من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه وقال الإِمام أحمد بن حنبل الإسلام يدور على ثلاثة أحاديث أو قال أصول الإسلام ثلاثة أحاديث الأعمال بالنية والحلال بين والحرام بين ومن أحدث في ديننا هذا ما
ليس منه فهو رد وقال أبو داود الفقه يدور على خمسة أحاديث الأعمال بالنيات والحلال بين وما نهيتكم عنه فانتهوا وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ولا ضرر ولا ضرار وروي عن أبي داود السجستاني قال: كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث الثابت منها أربعة آلاف حديث وهي ترجع إلى أربعة أحاديث إنما الأعمال بالنيات ومن حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه ولا يكون المؤمن مؤمناً حتى يرضى لأخيه ما يرضاه لنفسه والحلال بين. قوله: (وقد اجتمع من تداخل أقوالهم مع ما ضممته إليها ثلاثون حديثاً) اعلم أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح ذكر أقوال الأئمة في تعيين الأحاديث التي عليها مدار الإسلام واختلافهم في أعيانها فبلغت سبعة وعشرين حديثاً منها عشرون حديثاً صحيحاً وسبعة حسنة وبلغ بها المصنف هنا إلى الثلاثين وزاد على ما هنا في الأربعين اثني عشر حديثاً وسنذكر إن شاء الله تعالى في الكلام على الأحاديث ما يتبين به كون كل منها قاعدة عظيمة من قواعد الدين قيل ومما ينضم في هذا السلك الحديث المتفق على صحته ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر لأنه جامع لقواعد الفرائض التي هي نصف العلم وحديث يحرم من الرضاع
وقد سبق بيانه في أول هذا الكتاب.
الحديث الثاني: عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحْدَثَ في أمْرِنا هَذَا ما لَيسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"
ــ
ما يحرم من النسب وحديث إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه وحديث كل مسكر حرام وحديث ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه وحديث أربع من كن فيه كان منافقاً وحديث لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم الله كما يرزق الطير وحديث لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله اهـ. قوله: (وسبق بيانه في أول الكتاب) وكذا سبق الكلام ثمة على ما يتعلق بمتنه وإسناده وبيان أنه قاعدة من قواعد الدين. قوله: (من أحدث) أي أنشأ واخترع من قبل نفسه (في أمرنا) أي شأننا الذي نحن عليه وهو ما شرعه الله ورسوله واستمر العمل به ومن ثم جاء في رواية ديننا أي والروايات يفسر بعضها بعضاً لكن لفظ الأمر أعم إذ ورد بمعنى القول والشيء والصفة والطريق والشأن والدين وقد يطلق لفظ أمر ويراد به مصدر أمر لكن هذا يجمع على أوامر وبمعنى الشأن على أمور. قوله: (هذا) بدل أو صفة لقوله أمرنا لإفادة التعظيم وإشارة إلى تميز الدين أكمل تميز كقوله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} وإن اختلفا في أداة الإشارة إذ تلك أدل على ذلك من هذا. وقوله: (ما ليس منه) أي مما ينافيه ولا يشهد له شيء من قواعد الشرع وأدلته العامة ومن أحدث شرط جوابه قوله (فهو رد) أي فذلك المحدث أو الشخص المحدث رد أي مردود غير مقبول لبطلانه وعدم الاعتداد به سواء كانت منافاته لما ذكر لعدم مشروعيته بالكلية كنذر القيام وعدم الاستظلال ومن ثم أبطل صلى الله عليه وسلم نذر ذلك أو للإخلال بشرطه أو ركنه عبادة كانت أو عقداً فلا ينقل الملك مطلقاً على الأصح من خلاف طويل فيه للعلماء أو للزيادة على المشروع فيه في نحو الصلاة دون نحو الوضوء أو لارتكابه منهياً عنه يرجع النهي لذات المنهي عنه
كذبح المحرم للصيد أما إذا كان النهي لمعنى خارج فيصح مع الحرمة كالوضوء بماء مغصوب وخرج بقولنا مما ينافيه الخ ما لا ينافي ذلك بأن يشهد
رويناه في "صحيحي البخاري ومسلم".
الثالث: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ــ
له شيء من أدلة الشرع أو قواعده فليس برد على فاعله بل هو مقبول منه كالبدع الواجبة من الرد على نحو المبتدعة، والمسنونة من بناء نحو الربط والسبل وسائر أنواع البر التي لم تعهد في الصدر الأول فهذا كله مقبول من فاعله مثاب ممدوح عليه قال الشافعي: ما أحدث وخالف كتاباً أو سنة أو إجماعاً أو أثراً فهو البدعة الضالة وما أحدث من الخير ولم يخالف ذلك فهو البدعة المحمودة.
والحاصل
أن البدعة الحسنة متفق على ندبها وهي ما وافق شيئاً مما مر ولم يلزم من فعله محذور شرعي ومنها ما هو فرض كفاية كتصنيف العلوم النافعة الشرعية وتقرير قواعدها مما يعين على معرفة كتاب الله وفهم معاني القرآن والسنة النبوية وإن البدعة السيئة وهي ما خالف شيئاً من ذلك صريحاً أو التزاماً قد تنتهي إلى التحريم تارة والكراهة أخرى وإلى ما يظن أنه طاعة وقربة فمن الأول الانتماء إلى جماعة يزعمون التصوف ويخالفون ما كان عليه مشايخ الطريق من الزهد والورع وسائر الكمالات المشهورة فيهم بل كثير من أولئك المتشبهين إباحية لا يحرمون حراماً لتلبيس إبليس عليهم أحوالهم القبيحة فهم باسم الفسق أو الكفر أحق منهم باسم التصوف أو الفقر ومنه ما عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق حائط أو عمود أو تعظيم نحو شجر أو حجر رجاء شفاء أو قضاء حاجة وقد صح أن الصحابة مروا بشجرة سدر قبل حنين كان يعظمها المشركون وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها بها فقالوا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم: "الله أكبر" هذا كما قال قوم موسى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} قال: ({قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} الحديث ومن الثاني ومنشؤه أن الشرع يخص عبادة بزمن أو مكان أو شخص أو حال فيعملونها جهلاً وظناً أنها طاعة مطلقاً نحو صوم يوم الشك أو التشريق أو الوصال وغيرها. قوله: (رويناه في صحيحي البخاري ومسلم) وكذا رواه أبو داود وابن ماجه قال المصنف في الأربعين وفي رواية لمسلم: من
يقول: "إنَّ الحَلالَ بَيِّنٌ،
ــ
عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد قال المصنف: وهذه زيادة حسنة فإنه قد يعاند بعض الفاعلين بدعة سبق عليها إذا احتج عليه بحديث الباب فيقول: أنا ما أحدثت هذه البدعة فيحتج عليه بقوله بهذه الرواية: من عمل عملاً الخ فهو صريح في رد كل محدث مما تقدم أحدثه هو أو سبق إليه.
قال بعض الأئمة هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين بل من أعظمها وأعمها نفعاً من جهة منطوقه لأنه مقدمة كلية في كل دليل يستنتج منه حكم شرعي كما يقال في الوضوء بنجس والصلاة بغير ساتر عورة مع القدرة ونكاح نحو الشغار هذا أمر ليس من الشرع وليس عليه أمره وكل ما كان كذلك فهو رد وباطل فهذا العمل مردود باطل أما الكبرى فلا نزاع فيها وأما الصغرى فدليلها ما نحن فيه، ومن جهة مفهومه إذ مفهومه أن كل عمل غير محدث صحيح مقبول فيقال في نحو الوضوء بدون مضمضة هذا عمل عليه أمر الشرع وكل ما كان كذلك فهو صحيح فهذا العمل صحيح أما
الكبرى فثابتة بمفهوم هذا الحديث وأما الصغرى فيثبتها المستدل بدليلها، قال بعض العلماء الأئمة وهو ثلث الإسلام ووجه بأن أحكام الشرع إما منصوصة نصاً لا يحتمل التأويل أو يحتمله أو مستنبطة ومآل الأحكام إليه منطوقاً ومفهوماً كما تقرر، قال بعضهم إن هذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته فإنه أصل عظيم في إبطال جميع المنكرات وحوادث الضلالات وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم واستمداده من قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} ومن قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} الآية، قال مجاهد: السبل البدع والشبهات وروى الدارمي أنه صلى الله عليه وسلم خط خطاً ثم قال: هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله ثم قال: وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا الآية ومن قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} قال الشافعي في الرسالة إلى ما قال الله والرسول ويوافقه قول ميمون بن مهران من فقهاء التابعين الرد إلى الله إلى كتابه وإلى رسوله إذا قبض إلى سنته. قوله: (الحلال) هو الحل ضد الحرام لغة وشرعاً ويأتي حل بمعنى مقيم كما في {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} على أحد القولين. وقوله: (بين)
وإنَّ الحَرامَ بَيِّنٌ، وبَينَهُما أُمُورٌ مُشْتبِهاتٌ
ــ
أي ظاهر وهو ما نص الله تعالى أو رسوله أو أجمع المسلمون على تحليله بعينه أو جنسه ومنه أيضاً ما لم يعلم فيه منع على أسهل القولين كما قال الفاكهاني والإتيان بأن في صدر الجملة وما بعدها لتنزيل السامع منزلة المتردد في أن الحلال والحرام بينان أم لا فأتى بهذا ليزول ذلك التردد عنه ويتحقق بيانهما بمعنى ظهورهما وانكشافهما. قوله: (وإن الحرام بين) وهو ما نص أو أجمع على تحريمه بعينه أو جنسه أو أن فيه حداً أو تعزيراً أو وعيداً، ثم التحريم إما لمفسدة أو مضرة خفية كالزنى أو لمفسدة أو مضرة جلية كالسم والخمر والحشيش والبنج، أو لأمر خارج لازم كما في الغصب والضرب وذلك اللازم هو الإيذاء. قوله:(وبينهما مشتبهات) أي بين البين من الحلال والحرام أمور أي شؤون وأحوال مشتبهات جمع مشتبه وهو كل ما ليس بواضح الحل والحرمة مما تنازعته الأدلة وتجاذبته المعاني والأسباب فبعضها يعضده دليل الحرام وبعضها يعضده دليل الحلال ومن ثم فسر أحمد وإسحاق وغيرهما المشتبه بما اختلف في حل أكله كالخيل أو شربه كالنبيذ أو لبسه كجلود السباع أو كسبه كبيع العينة وفسره أحمد مرة باختلاط الحلال والحرام وحكم هذا أنه يخرج قدر الحرام ويأكل الباقي عند كثيرين من العلماء سواء كثر الحرام أم قل ومن المشتبه معاملة من في ماله حرام فالورع تركها مطلقاً ثم الحصر في الثلاثة صحيح لأنه إن نص أو أجمع على الفعل فالحلال أو على المنع فالحرام أو سكت عنه أو تعارض فيه نصان ولم يعلم المتأخر منهما فالمشتبه وهذا أشكل الأنواع الثلاثة فلهذا بسط العلماء الكلام في بيانه وإيضاحه، وقد لخصه ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين بما حاصله أن الحلال المطلق ما انتفى عن ذاته الصفات المحرمة وعن أسبابه ما يجر إلى خلل فيه ومنه صيد احتمل أنه صيد وانفلت من صائده فليس هذا مشتبهاً فلا ورع في العمل بذلك الاحتمال لأنه هوس إذ لم يعتضد بشيء مع أن الأصل عدمه وإنما المشتبه الذي يتجاذبه سببان متعارضان يؤديان إلى وقوع
لا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ،
ــ
التردد في حله وحرمته كما مر وإن الحرام ما في ذاته صفة محرمة كالإسكار أو في سببه ما يجر إليه خللاً كالبيع الفاسد، ومنه ما تحققت حرمته واحتمل حله كمغصوب احتمل إباحة مالكه فهو حرام صرف وليس من المشتبه كما تقرر في نظيره والذي فيهما احتمال محض لا سبب له في الخارج إلا مجرد التجويز العقلي وهو لا عبرة به فليسا من المشكوك فيه، والمشتبه أربعة أنواع: الأول: الشك في المحلل والمحرم فإن تعادلا استصحب السابق وإن كان أحدهما أقوى لصدوره عن دلالة معتبرة في العين فالحكم له، الثاني: الشك في طرو محرم على الحل المتيقن فالأصل الحل الثالث: أن يكون الأصل التحريم ثم يطرأ ما يقتضي الحل بظن غالب فإن اعتبر سبب الظن شرعاً حل وألغى النظر لذلك الأصل وإلا فلا الرابع: أن يعلم الحل ويغلب على الظن طرو محرم فإن لم تستند غلبته لعلامة تتعلق بعينه لم يعتبر وذكر أمثلة ذلك بما فيه بسط وهي لا تخفى على الفقيه النبيه. قوله: (لا يعلمهن كثير من النّاس) أي من حيث الحل والحرمة أي لا يعلم حكمهن منهما لخفاء النص فيه لكونه لم ينقله إلا القليل أو لتعارض نصين فيه من غير معرفة المتأخر أو لعدم نص صريح فيه وإنما يؤخذ من عموم أو مفهوم أو قياس وهذا يكثر اختلاف العلماء فيه أو لاحتمال الأمر فيه للوجوب والندب والنهي للكراهة والحرمة ومع هذا فلا بد في الأمة من عالم يوافق الحق قوله فيكون هو العالم بهذا الحكم وغيره يكون الأمر مشتبهاً عليه وخرج بالحيثية المذكورة علمهن من حيث أشكالهن لترددهن بين أمور محتملة لأن علم كونهن مشتبهات يستلزم علمهن من هذه الحيثية، أما النادر من النّاس وهم الراسخون في العلم فلا يشتبه عليهم ذلك لعلمهم من أي القسمين هو بنص أو إجماع أو قياس أو استصحاب أو غير ذلك فإن لم يظهر لهم شيء فهو باق بالنسبة للعلماء وغيرهم وكذا ما لم يتنازعه شيء مما مر لكن لم يتيقن سبب حله ولا حرمته كشيء وجده في منزله ولم يدر هل هو له أم لغيره وتقوى الشبهة بأن يكون يتيقن هناك محظور من جنسه وشك هل هو من غيره وحينئذٍ اختلفوا فيما يأخذ به فقيل بحله لقوله في الحديث كالراعي الخ دل على أنه حلال والورع تركه لأن الورع عند ابن عمر ومن تبعه ترك شيء من الحلال خوف الوقوع في الحرام وقيل بحرمته لأنه يوقع في الحرام ولقوله الآتي: فمن اتقى الشبهات
فمَنِ اتَّقَى الشُّبُهاتِ
ــ
الخ وقيل لا يقال فيه واحد منهما لأنه صلى الله عليه وسلم جعله قسيماً لهما قال القرطبي والصواب الأول وقال المصنف والظاهر أن هذا الخلاف مخرج على الخلاف المعروف في الأشياء قبل ورود الشرع وفيه أربعة أقوال أصحها ألا يحكم فيها بحل ولا غيره لأن التكليف عند أهل الحق إنما يثبت بالشرع قال القرطبي دليل الحل أن الشرع أخرجها من قسم الحرام وأشار إلى أن الورع تركها بقوله دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ومن عبر بأنها حلال يتورع عنها أراد بالحلال مطلق الجائز الشامل للمكروه بدليل قوله يتورع عنها إذ المباح المستوي الطرفين لا يتصور فيه ورع ما داما مستويين بخلاف ما إذا ترجح أحدهما فإنه إن كان الراجح الترك كره كله أو الفعل ندب والصحابة لم يزهدوا في مباح مستوي الطرفين وزهدهم في التنعم في الدنيا زهد في مترجح الترك شرعاً وهذه حقيقة المكروه لكنه تارة يكرهه الشرع لذاته كأكل متروك التسمية عندنا وتارة لخوف مفسدة تترتب عليه كالقبلة لصائم لم تحرك شهوته وترك التنعم من هذا القبيل لأنه يترتب عليه مفاسد حالية كالركون إلى الدنيا ومآلية كالحساب عليه في الآخرة وعدم القيام بشكره والدليل
على أن ترك الشبهة ورع قوله صلى الله عليه وسلم لمن تزوج امرأة فقالت سوداء أنا قد أرضعتكما: أليس وقد قيل. دعها عنك، فهذا الإفتاء تحرز من الشبهة وحث على الأحوط خوفاً من الوقوع في فرج محرم بتقدير صدق المرضعة لا تحريم صرف للإجماع على عدم كفاية شهادة امرأة واحدة في مثل ذلك ويؤخذ من هذا أنه ينبغي للمفتي أن يجيب بالاحتياط في النوازل المحتملة للحل والحرمة لاشتباه أسبابهما عليه وإن علم حكمها يقيناً باعتبار ظاهر الشرع وفي هذه الجملة أي قوله لا يعلمهن الخ التنويه بشأن علماء الإسلام المتشرفين بحوز هذا المقام حشرنا الله في زمرتهم. قوله:(فمن اتقى الشبهات) اتقى بمعنى ترك من التقوى وهي لغة جعل النفس في وقاية مما يخاف وشرعاً حفظ النفس عن الآثام وما يجر إليها وهي في عرف الصوفية التبري مما سوى الله تعالى بالمعنى المعروف المقرر عندهم وعدل إلى "اتقي" عن "ترك" المرادف
اسْتَبْرأ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ،
ــ
هنا ليفيد أن تركها إنما يعتد به في استبراء ما يأتي إن خلا عن نحو رياء وإن صحبه قصد براءة أحدهما فقط وفي التعبير بالشبهات إيقاع الظاهر موقع المضمر تفخيماً لشأن اجتناب الشبهات إذ هي المشتبهات بعينها والشبهة ما يخيل للناظر أنه حجة وليس كذلك وأريد بها هنا ما مر في تعريف المشتبه. قوله: (فقد استبرأ) بالهمز وقد تخفف أي طلب البراءة (لدينه) من الذم الشرعي وحصلها له كاستبرأ من البول حصل البراءة منه (وعرضه) بصونه عن كلام النّاس فيه بما يشينه ويعيبه فهو هنا كالحسب ما يعده الإنسان من مفاخره ومفاخر آبائه وصونه عن الشين والعيب من أهم ما يعتني به ذوو المروءات والهمم وقيل النفس لأنها التي يتوجه إليها الذم والمدح من الإنسان وفسره بعضهم بما يعمهما فقال هو موضع السب والذم والمدح من الإنسان وذلك إما في نفسه أو سلفه أو أهله وحينئذٍ يسلم من العذاب والذم والعيب على كل تقدير ويدخل في زمرة المتقين الفائزين بثناء الله وثوابه وثناء رسوله وخلقه وروى الترمذي لا يبلغ أحد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس وجاء في الأثر من عرض نفسه للتهم فلا يلومن من أساء به الظن وورد مرفوعاً من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم وفي عطف العرض على الدين دليل على أن طلب براءته مطلوب وممدوح كطلب براءة الدين ومن ثم ورد ما وقى به العرض فهو صدقة له وعلى طلب نزاهته مما يظنه النّاس شبهة ولو ممن علم عدمها في نفس الأمر قال بعض السلف إياك وما يعتذر منه وإن كنت أعددت له جواباً ولاستحالة اتقاء ما لا يعرف كان اتقاء الشبهات يستدعي تفاصيلها بذكر جمل منها وهي أن الشيء إن لم يتنازعه دليلان فهو حلال بين أو حرام بين وإن تنازعه سبباهما فإن كان سبب التحريم مجرد توهم وتقدير لا مستند له كمسألة الصيد السابقة لذلك الاحتمال وترك استعمال ماء بمجرد احتمال وقوع نجاسة فيه ألغى ولم يلتفت إليه بحال لأن ذلك التجويز هوس فالورع فيه وسوسة شيطانية إذ ليس فيه من معنى الشبهة شيء وليس من هذا ما ورد أنه صلى الله عليه وسلم-
وَمَنْ وَقَعَ في الشُّبُهاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أنْ يَرْتَعَ فِيهِ،
ــ
تنزه عن تمرة ساقطة في بيته وقال: "لولا أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها" لأن احتمال كونها من الصدقة غير بعيد لإتيانهم بالصدقات التمر للمسجد وحجرته ملتصقة به فخشي انتثار تمرة منه إلى حجرته أو إن نحو صبي دخل بها فهو احتمال قريب فتورع نظراً له وإن كان لسببه نوع قوة فالورع مراعاته كما في قصة المرضعة وإن تكافأ السببان تأكد الورع ولم يجب التوقف فيه إلى الترجيح خلافاً لبعضهم
لأن الأصل الحل فاندفع قوله الإقدام على أحد الأمرين من غير رجحان حكم بغير دليل فيحرم إذ لا دليل مع التعارض ولعل من حرم مواقعة الشبهة أراد هذا النوع ومن كرهها أراد الذي قبله اهـ. قوله: (ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام) أي كان بصدد الوقوع فيه لأن من أكثر تعاطيها ربما صادف الحرام المحض وإن لم يتعمده وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى تقصير ولأن من سهل على نفسه ارتكاب الشبهات أوصله الحال تدرجاً إلى ارتكاب المحرمات المقطوع بحرمتها ومن ثم قيل الصغيرة تجر إلى الكبيرة وهي تجر للكفر وهو معنى قول السلف -وقيل هو حديث- المعاصي بريد الكفر، ويؤيد ذلك بقوله تعالى:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} ورواية الصحيحين في هذا الحديث ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم أوشك أن يواقع ما استبان أي الحرام الذي ظهر وبرواية غيرهما ومن يخالط الريبة يوشك أن يجسر على الحرام المحض والجسور المقدام الذي لا يهاب شيئاً ولا يراقب أحداً وفي بعض المراسيل من يرعى بجانب الحرام يوشك أن يخالطه ومن تهاون بالمحقرات يوشك أن يخالط الكبائر. قوله: (كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه) هذا منه صلى الله عليه وسلم ضرب مثل للتنفير عن الشبهات حذراً من محارم الله وفيه أحسن التنبيه وآكد التحذير وأصله إن ملوك العرب كانوا يحمون لمواشيهم ويتوعدون من دخلها بالعقوبة فكان يبعد عنها النّاس خوفاً من تلك العقوبة والراعي في الأصل الحافظ لغيره ومن ثم
ألا وَإنَّ لِكُل مَلِكٍ حِمًى، ألا وَإنَّ حِمَى اللهِ تَعالى مَحَارِمُهُ،
ــ
قيل للوالي راع وللعامة رعية ثم خص عرفاً بحافظ الحيوان كما هنا، والحمى بكسر الحاء والقصر مصدر واقع موقع اسم المفعول أي المحمي وحمى الملك محميه أي ما يحجره لماشية ونحوها، ويوشك بضم التحتية مضارع أوشك من أفعال المقاربة ومعناه أسرع وعملها عمل كان والغالب اقتران خبرها بإن كما في الحديث وقال الشاعر:
أبا مالك لا تسأل النّاس والتمس
…
يكفيك فضل الله فالفضل أوسع
ولو سئل النّاس التراب لأوشكوا
…
إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا
والمعنى بقوله يوشك أن يرتع فيه يسرع أن يصل ماشيته إلى الحمى فيرتع فيه فيعاقب ويرتع بفتح الفوقية فيه وفي الماضي من الرتع وأصله الإقامة والتبسط في الأكل والشرب فكما أن الراعي الخائف من عقوبة الملك يبعد لأنه يلزم من القرب غلبة الوقوع وإن كثر حذره فيعاقب كذلك حمى الله تعالى أي محارمه التي حظرها لا ينبغي أن يقرب حماها فضلاً عنها لغلبة الوقوع فيها حينئذ فيستحق العقوبة إنما ينبغي له تحري البعد عنها وعما يجر إليها من الشبهات ما أمكن حتى يسلم من ورطتها قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} نهى عن المقاربة حذراً من المواقعة ويؤخذ من الحديث الحث على التباعد عما يحذر منه أن يجر إلى مفسدة ولو كان فيه مصلحة تقديماً لدرء المفاسد على جلب المصالح. قوله: (ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه) أتى في هاتين الجملتين وفي الجملة التي بعدهما بحرف الاستفتاح لتنبيه السامع وإيقاظه لفهم ما بعدها وإنه مما ينبغي أن يصغي إليه ويفهمه ويعمل به لعظم موقعه وأكد أيضاً كل جملة منها بحرف التأكيد الذي هو إن المكسورة الهمزة المشددة النون تأكيداً للإشارة إلى أن اللائق بالسامع الإصغاء إلى هذا الكلام والعمل بما تضمنه والواو التي بعد حرف الاستفتاح في هذه الجمل عاطفة على مقدر والأصل في
الأولى: هكذا إلا أن الأمر كما ذكر من سرعة وقوع من وقع في الشبهات في المحرم ومن رعى حول الحمى قارب الرتع فيه وإن لكل ملك الخ وفي الثانية: إلا أن الأمر كما ذكر من أن
ألا وَإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذَا صَلَحَتْ صَلَح الجَسَدُ كلُّهُ، وإذَا فَسدَت فسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وَهي القَلْبُ"
ــ
لكل ملك حمى وإن الله محارمه وفي الثالثة: إلا أن الأمر كذلك أي من أن حمى الله محارمه وإن في الجسد الخ وقال الكازروني يحتمل أن يكون العطف على ألا لأنها في معنى انته ويحتمل أن الواو في المواضع الثلاثة هي للاستئناف قال وهو أولى والحاصل أن كل ملك من ملوك العرب له حمى يحميه عن النّاس ولتوعد من دخل فيه بالعقوبة الشديدة وقد حمى صلى الله عليه وسلم حرم المدينة عن أن يقطع شجره أو يصاد صيده وحمى عمر رضي الله عنه لإبل الصدقة أرضاً ترعى فيها وحمى الله محارمه أي المعاصي التي حرمها وهي الجناية على النفس والعرض والمال كالقتل والزنى والسرقة وتطلق المحارم على المنهيات مطابقة وعلى ترك المأمورات استلزاماً وإطلاق الأول أشهر وعلى كل تقدير فكل هذه حمى الله تعالى من دخلها بارتكابه شيئاً من المعاصي استحق العقوبة ومن قاربه يوشك أن يقع فيه فمن احتاط لنفسه لم يقاربه ولم يتعلق بشيء يقربه من المعصية ولا يدخل في شيء من الشبهات وفي هذا السياق منه صلى الله عليه وسلم إقامة برهان عظيم على اجتناب الشبهات إذ حاصله أن الله عز وجل ملك وكل ملك له حمى يخشى من قربانه لإيقاعه في أليم عذابه من قرب منه فالله له حمى يخشى منه كذلك وهذا قطعي المقدمتين والنتيجة فلا مساغ للتشكك فيه وفي ذلك أيضاً ضرب المثل بالمحسوس ليكون أشد تصوراً للنفس فيحملها على أن تتأدب مع الله تعالى كما تتأدب الرعايا مع ملوكهم. قوله: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب) وجه مناسبة هذه الجملة لما قبلها قد يخفى وإظهارها أنه لما أفادت ما قبلها بطريق الإشارة التحذير من مواقعة المحرمات أرشد صلى الله عليه وسلم في هذه إلى أن القلب هو العمدة فمن عالج إصلاحه حتى صلح بحيث لم يبق فيه داعية إلى المعاصي نجا وتباعد عن المحارم ومن لم يعالجه وأهمله حتى فسد تراكمت فيه دواعي المعاصي وأوقعته في المحارم ولا بد فهلك إلا أن يتداركه
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الله برحمته والجسد والبدن والمضغة قطعة من اللحم وصلح بفتح اللام وضمها والفتح أشهر كذا أطلقه كثير وظاهره أنه لا فرق بين أن يصير سجية وإن لا، لكن قيد جمع الضم بما إذا صار سجية وكذا يقال في فسد وصلاحها بصلاح المعنى القائم بها الذي هو ملحظ التكليف ومن ثم كان الذي عليه الجمهور أن العقل في القلب كما يصرح به ترتب صلاح البدن ومن جملته الدماغ وفساده على صلاح القلب وفساده وقد عبر بالقلب عن العقل من تسمية الحال باسم المحل ومنه {إِنَّ في ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} ووجه ترتب صلاح البدن على صلاحه وضده أنه مبدأ الحركات البدنية والإرادات النفسانية فإن صدرت عنه إرادة صالحة تحرك البدن حركة صالحة وإن صدرت عنه إرادة فاسدة تحرك البدن حركة فاسدة وصلاح القلب سلامته من الأمراض الباطنة كالشح والحرص والكبر والحسد والغل والرياء والطمع والكفر وفساده بعروض تلك الأمراض له وتمكنها فيه حتى تصير له سجية، وبالجملة القلب كالملك والأعضاء كالرعية ولا شك أن الرعية تصلح بصلاح ملكها ومن ثم قيل النّاس على دين ملوكهم وأفاد بعض علماء الباطن كما
تقدم أن صلاح القلب في خمسة أشياء قراءة القرآن بالتدبر وخلو الباطن وقيام الليل والتضرع عند السحر ومجالسة الصالحين ولا بد مع ذلك من أكل الحلال بل هو رأس هذه الأمور والأصل توفيق الله سبحانه الذي هو كما تقدم أول الكتاب خلق قدرة الطاعة وسيأتي له مزيد وقيل القلب كعين والبدن كمزرعة فإن عذب ماؤها عذب الزرع وإن ملح ملح وقيل هو كأرض والأعضاء كنبات والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً، والحاصل أن القلب محل الاعتقادات والعلوم والأفعال الاختيارية فلكونه محلاً لهذه الخصوصية الإلهية التي يدرك بها الكليات والجزئيات ويفرق بها بين الواجب والجائز والمستحيل امتاز به الإنسان عن بقية الحيوان لأنه وإن وجد لها شكله وقام بها ما تدرك به مصالحها ومنافعها وتميز به بين مفاسدها ومضارها إلا أن هذا إدراك جزئي طبيعي وشتان ما بينه وبين الإدراك الكلي العملي الاختياري ولهذا المعنى امتاز أيضاً عن بقية الأعضاء بكونه أشرفها ومن ثم كانت مسخرة مطيعة له فما استقر فيه ظهر عليها وعملت به إن خيراً فخير وإن شراً فشر فكان صلاحها بصلاحه وفسادها بفساده قال بعض أئمة التحقيق
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
البدن كالمدينة والقلب كالملك والقوى الباطنة كصناع المدينة القائمين بما يحتاج إليه أهل المدينة والعقل كالوزير الناصح والأعضاء كالرعية والشهوة كطالب أرزاقها والغضب كصاحب الشرطة مكار خداع يتمثل في صورة ناصح ونصحه قاتل وشأنه دائماً منازعة الوزير واللسان كالترجمان والحواس الخمس كالجواسيس كل واحد منها قد وكل بعالم من العوالم فالبصر بعالم الألوان والسمع بعالم الأصوات والشم بعالم الروائح وكذا باقيها فهي أصحاب أخبار ومن ثم قيل هي كالحجاب توصل إليها ما تدركه وتعلمه لتحكم عليه وتتصرف فيه فهي آلات وخدم له وهي كما من معه كملك مع رعيته إن صلح صلحوا وإن فسد فسدوا ثم يعود صلاحهم وفسادهم إليه بزيادة المصالح أو المضار الراجعة منها ومن ثم لم يكن بين تبعيتها له أو تأثره بأعمالها تناف لما بينهما من تمام الملازمة وشدة الارتباط وقيل إن الحواس طاقات والنفس كملك في بيت له خمس طاقات يشاهد من كل طاقة ما لا يشاهده من الأخرى ورجح القول الأول قال بعضهم إذا كان صلاح القلب أعظم المصالح وفساده أشد المفاسد فلا بد من معرفة ما به صلاحه ليطلب وما به فساده ليتجنب فالذي به صلاحه علوم هي العلم بالله تعالى وأسمائه وصفاته وتصديق رسله فيما جاؤوا مع العلم بأحكامه ومراده منها والعلم بمساعي القلوب من خواطرها وهمومها ومحمود أوصافها ومذمومها وأعمال هي تحليه بمحمود تلك الأوصاف وتخليه عن مذمومها ومنازلته للمقامات وترقيه عن مفضول المنازلات إلى أسنى الحالات وأحوال هي مراقبة الله في السر والعلن وشهوده بحسب تهيئه واستعداده المشار إليه بقوله أن تعبد الله كأنك تراه الخ وتفصيل ذلك في تصانيف محققي الصوفية كالقوت والإحياء والرعاية فاطلبه فإنه مهم وتقدم قول بعض العارفين صلاح القلب في خمسة أشياء وإن لهذه الخمسة سادساً وهو أسها وأجلها وهو أكل الحلال إذ هو ينوره ويصلحه فتزكو به الجوارح فتندريء المفاسد وتنجلب المصالح وأكل الحرام والشبهات يظلمه ويصدئه ويقسيه فالاعتناء بالقوت من أعظم ما يعتني به طالب صلاح القلب وسنى الأحوال ومن لا فلا قال بعضهم وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: "ألا وإن في الجسد مضغة الخ" بعد قوله الحلال بين
إشعاراً بأن أكل
رويناه في "صحيحيهما".
الرابع: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: حدَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق:
ــ
الحلال بنوره ويصلحه وأكل الشبهة والحرام يصدئه ويقسيه ويظلمه وقد وجد ذلك أهل الورع حتى قال بعضهم شربت من ركوة جندي شربة فعادت قسوتها على قلبي أربعين صباحاً، ثم القلب لغة مشترك بين كوكب معروف والخالص واللب ومنه قلب النخلة بتثليث أوله ومصدر قلبت الشيء رددته على بدئه والإناء قلبته على وجهه والرجل عن رأيه صرفته عنه ثم نقل وسمي به تلك المضغة السابقة لسرعة الخواطر فيه وترددها عليه كما قيل:
وما سمي الإنسان إلا لنسيه
…
ولا القلب إلا أنه يتقلب
وفي الحديث إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح لكنهم التزموا فتح قافه فرقاً بينه وبين أصله ومن ثم قيل ينبغي للعاقل أن يحذر من سرعة انقلاب قلبه فإنه ليس بين القلب والقلب إلا التفخيم. قوله: (رويناه في صحيحيهما) قال في مسند الفردوس بعد أن أورده بهذا اللفظ إلا أنه لم يذكر "إن" في أوله: رواه البخاري في الإيمان ومسلم في البيوع ورواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وأبو يعلى الموصلي وهذا الحديث أصل عظيم من أصول الشريعة وقد تقدم قول أبي داود كتبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسمائة ألف حديث الخ وجعل غيره بدل حديث لا يؤمن أحدكم الخ حديث أزهد في الدنيا الخ وقال بعضهم هذا الذي قاله هؤلاء الأئمة حسن غير أنهم لو أمعنوا النظر في هذا الحديث كله من أوله إلى آخره لوجدوه متضمناً لعلوم الشريعة كلها ظاهرها وباطنها وإن أردت الوقوف على ذلك فأعد النظر فيما عقدنا من الجمل في الحلال والحرام والمتشابه وما يصلح القلب وما يفسده وتعلق أعمال الجوارح به والورع الذي هو أساس الخير ومنبع سائر الكمالات وحينئذٍ يستلزم ذلك الحديث معرفة تفاصيل أحكام الشريعة كلها أصولها وفروعها والله الموفق. قوله: (وهو الصادق المصدوق) الصادق أي في جميع ما يقوله إذ هو الحق الصدق المطابق للواقع المصدوق فيما يوحى إليه
"إنَّ أحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْنِ أُمِّهِ أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ
ــ
لأن الملك يأتيه بالصدق والله يصدقه فيما وعده والجمع بينهما تأكيد إذ يلزم من أحدهما الآخر وعكس ذلك نحو ابن صياد فهو كاذب مكذوب ومن ثم لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم يأتيني صادق وكاذب وأرى عرشاً على الماء قال له خلط عليك. قوله: (إن أحدكم) بكسر الهمزة من إن حكاية للفظه صلى الله عليه وسلم وأحد هنا بمعنى واحد أي فرد لا بمعنى أحد الذي للعموم لأن ذلك لا يستعمل إلا في نفي نحو لا أحد في الدار وأصله وحد قلبت واوه المفتوحة همزة على غير قياس. قوله: (يجمع خلقه) أي يضم ويحفظ مادة خلقه وهو الماء الذي يخلق منه الكائن أو حال كونه كائناً (في بطن) أي رحم (أمه أربعين يوماً) حال كونه (نطفة) وأربعين ظرف لنطفة والنطفة في الأصل الماء القليل سمي به المني لأنه ينطف نطفاً أي يسيل ومعنى جمعه في هذه المدة مكثه في الرحم قدر ذلك يتخمر حتى يتهيأ للخلق وقيل معناه ضم متفرقه فإن المني يقع في الرحم حين انزعاجه بالقوى الشهوانية الدافعة متفرقاً فيجمعه الله في محل الولادة من الرحم في هذه المدة واستدل لذلك بأنه جاء في بعض طرق هذا الحديث عن ابن مسعود كما خرجه ابن أبي حاتم وغيره تفسير ذلك الجمع بأن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر
ثم تمكث أربعين ليلة كذلك ثم تصير دماً في الرحم فذلك جمعها وذلك وقت كونها علقة وجاء تفسير الجمع بمعنى آخر عند الطبراني وابن منده بسند على شرط الترمذي والنسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله إذا أراد خلق عبد فجامع الرجل امرأة طار ماؤه في كل عرق وعضو منها فإذا كان يوم السابع جمعه الله تعالى ثم أحضر كل عرق له دون آدم في أي صورة ما شاء ركبك" قيل ويشهد لهذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم لمن قال له: "ولدت امرأتي غلاماً أسود لعله نزعه عرق وبعد تمام هذه الأربعين التي يجمع فيها أو في آخرها على ما تقرر من الخلاف يذر على النطفة من تربة ذلك المولود" كما قاله ابن العز الحجازي في شرح الأربعين
عَلَقَةً مِثْلَ دْلِكَ، ثمّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسِلُ المَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ،
ــ
فيثخن ويصير (علقة) وهي قطعة دم لم تيبس. قوله: (مثل ذلك) منصوب صفة علقة والمشار إليه هنا وفيما يأتي بعده الزمن الذي هو أربعون يوماً (ثم) عقب هذه الأربعين الثانية ييبس ذلك الدم فيصير (مضغة) أي قطعة لحم قدر ما يمضغ (مثل ذلك) أي أربعين يوماً صفة مضغة قال ابن العز وفي هذه الأربعين يصورها المولى سبحانه بالصورة التي تريدها ويجعل لها محل السمع والبصر والشم من الأذن والعين والأنف وغيرها من الأعضاء كاليدين والرجلين وباقي أجزاء البدن قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} (ثم) بعد تمام الأربعين الثالثة (يرسل الملك) بالبناء للمجهول وفي نسخة يرسل الله الملك أي الموكل بالرحم فمعنى إرساله أمره بما يأتي ويحتمل أنه غير الملك الموكل بحفظ الرحم، وظاهر "ثم" هنا أن إرسال الملك إنما يكون بعد الأربعين الثالثة لكن في رواية في الصحيح يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر بالرحم أربعين يوماً وفي أخرى أو خمساً وأربعين فيقول: يا رب أشقي أم سعيد؟ وفي أخرى إذا من بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها وفي أخرى لمسلم أن النطفة تقع في الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك وفي أخرى لمسلم أن ملكاً موكل بالرحم إذا أراد الله تعالى أن يخلق شيئاً لسبع وأربعين ليلة وذكر الحديث وعند الشيخين إن الله قد وكل بالرحم ملكاً فيقول أي رب نطفة أي رب علقة أي رب مضغة وجمع العلماء بينها بأن للملك ملازمة ومراعاة لحال النطفة فيقول وقت النطفة رب هذه نطفة الخ وكذا يقول في كل من الأمرين ما صارت بأمر الله وهو سبحانه أعلم وأول علم الملك أنها ولد إذا صارت علقة وهو عقب الأربعين الأولى وحينئذٍ يكتب الأربعة على ما يأتي فيه ثم له تصرف آخر بالتصوير المتكرر أو المختلف باختلاف النّاس على ما يأتي أيضاً وظاهر الحديث كما قاله القاضي عياض وأقره المصنف وغيره أن الملك ينفخ الروح في المضغة وليس مراداً بل إنما ينفخ فيها بعد أن تتشكل بشكل ابن آدم وتتصور بصورته قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
آخَرَ} أي بنفخ الروح فيه، ونوقش بأنه ليس ظاهر الحديث ذلك إنما ظاهره أن الإرسال بعد الأربعين الثالثة المنقضي اسم المضغة بانقضائها وتلك البعدية لم تحدد فيحتمل أنه بعد الأربعين الثالثة يصور في زمن يسير وبعد التصوير يرسل الملك لنفخ الروح وقد صرح القرطبي في المفهم بأن التصوير في الأربعين الرابعة ثم كون التصوير في الأربعين الثالثة أو بعدها على ما تقرر ينافيه روايات أخر تقتضي أنه عقب الأربعين الأولى (وأجاب القاضي عياض بأن هذه الروايات ليست على ظاهرها بل المراد أنه يكتب ذلك ويفعله في وقت آخر لأن التصوير عقب
الأربعين الأولى) غير موجود عادة وإنما يقع في الأربعين الثالثة مدة المضغة كما نصت عليه الآية فخلقنا المضغة عظاماً، ونظر فيه بأن مجرد التصوير لا يستدعي خلق العظام فلا دليل في الآية لما ذكره وحينئذٍ يمكن الجمع بأنه عقب الأربعين الأولى يرسل الملك لتصوير العلقة تصويراً خفياً ثم يرسل في مدة المضغة أو بعدها على ما من فيصورها تصويراً ظاهراً مقارناً لخلق عظمها ونحوه أو بأن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص فمنهم من يصور بعد الأربعين الأولى ومنهم من لا يصور إلا في الثالثة أو بعدها، وتعقب ما جمع به القاضي عياض بأن في رواية لمسلم إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث إليها ملكاً فصورها وخلق سمعها وبصرها ولحمها وعظامها ثم يقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ فيقضي ربك بما يشاء ويكتب الملك، الحديث، ففيه التصريح بأن خلق العظام يكون عقب الأربعين الأولى فإن حملها خلقها هنا على ابتداء الخلق وبعد الأربعين الثالثة على تمامه أمكن الجمع الثاني وإلا تعين الثالث وذكر بعضهم ما يؤيد الجمعين الأخيرين قال بعد رواية مسلم المذكورة تأولها بعضهم على الملك يقسم النطفة إذا صارت علقة إلى أجزاء فيجعل بعضها للجلد وبعضها للحم وبعضها للعظم فيقدر ذلك كله قبل وجوده وهذا خلاف
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ظاهر الحديث بل ظاهره أنه يصورها ويخلق هذه الأجزاء كلها وقد يكون ذلك بتصويره وتقسيمه قبل وجود اللحم والعظام وقد يكون هذا في بعض الأجنة دون بعض وسبق في تفسير الجمع رواية تقتضي أن التصوير يكون يوم السابع وهو مذهب الأطباء، وظاهر الحديث أن نفخ الروح عقب الأربعين الثالثة وصح في حديث آخر أنه بعد اثنين وأربعين يوماً وجمع بينهما باختلاف الأجنة فينفخ في بعضها بعد اثنين وأربعين وفي بعضها بعد مائة وأربعين قال ابن العز وفيه نظر لا يخفى إذ لفظ أحد شائع في المخاطبين والمراد جنسهم فمن أين هذا التخصيص ببعض دون بعض اهـ، وظاهر جريانه في الجمع الثالث المذكور قبله ولك أن تقول ضرورة الجمع بين الأخبار دليل للتخصيص المذكور وإن أحدكم في الخبر غير باق على عمومه والله أعلم، ومعنى نفخ الملك الروح في الصورة أنه سبب لخلق الحياة عنده لأنه عرفا إخراج ريح من النافخ تتصل بالمنفوخ فيه وهذا غير مؤثر شيئاً وما يحدث عنده ليس به بل بإحداث الله تعالى فهو معرف عادي لا موجب عقلي وكذا القول في سائر الأسباب المعتادة ونسبة التخليق والتصوير إلى الملك مجازية لأنه آلة فيهما بإقدار الله تعالى بالأفعال قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} والإيجاد على هذا الترتيب العجيب مع قدرته تعالى على إيجاده كاملاً كسائر المخلوقات في أسرع من لحظة قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وهذا كناية عن مزيد السرعة وإلا فلا قول لأنه بمجرد تعلق الإرادة به يوجد في أقل من زمن كن لو تصور يمكن أن تكون حكمته ما قيل به في خلق السموات والأرض وما بينهما وما فيهما في ستة أيام من تعليمه لعباده التأني في الأمور أو يقال حكمة ذلك أنه لو خلق دفعة لشق على الأم لأنها لم تكن معتادة لذلك وربما تظن علة فجعلت أولاً نطفة لتعتاد بها مدة ثم علقة وهكذا إلى آخر الولادة أو يقال حكمته إشعار النّاس إلى كمال قدرة الله على الحشر والنشر لأن من قدر على خلق الإنسان من نطفة ثم علقة ثم مضغة قادر على صيرورته ونفخ الروح فيه وحشره للحشر للحساب والجزاء أو يقال حكمة ذلك هنا إعلام
الإنسان بأن حصول الكمال المعنوي له إنما يكون بطريق التدريج نظير حصول الكمال
وَيُؤْمَرُ بأرْبَعِ كَلِماتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وأجَلِهِ، وَعَمَلِهِ،
ــ
الظاهري له بتدرجه في مراتب الخلق وانتقاله من طور إلى طور إلى أن يبلغ أشده وكذا ينبغي له في مراتب السلوك أن يكون على نظير هذا المنوال والله أعلم وفي الحديث دليل على حدوث الروح وهو ما يحيا به الإنسان وهو من أمر الله تعالى كما أخبر والخلاف في تحقيقه طويل ولفظه مشترك بين عدة معان. قوله: (ويؤمر) أي الملك عطف على ينفخ فظاهره أن هذا الأمر والكتابة بعد الأربعين الثالثة ورواية البخاري أن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ثم يكون علقة مثله ثم يكون مضغة مثله ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح كالصريحة في ذلك لكن في روايات أخر لمسلم وغيره أن كتابة تلك الأمور عقب الأربعين الأولى وبها أخذ جماعة من الصحابة وجمع بعضهم بأن ذلك يختلف باختلاف النّاس فمنهم من يكتب له عقب الأربعين الأولى ومنهم من يكتب له عقب الثالثة قال بعضهم ولعل الجمع بهذا أولى من قول القاضي عياض وإن أقره المصنف أن قوله ثم يبعث وما بعده معطوف على يجمع ومتعلقاته لا على ثم يكون مضغة مثله بل هو وثم يكون علقة مثله معترضان بين المعطوف والمعطوف عليه ومن قول غيره إنها تكون مرتين مرة في السماء وأخرى في بطن الأم وظاهر رواية البخاري أن النفخ بعد الكتابة وفي رواية للبيهقي عكسه قيل فإما أن يكون من تصرف الرواة أو المراد ترتيب الأخبار لا ترتيب ما أخبر به والأولى تقديم رواية البخاري لأنها أصح وأثبت. قوله: (بأربع كلمات) أي يؤمر بكتابة الأحكام المقدرة له على جبهته أو في بطن كفه أو في رق يعلق بعنقه قاله مجاهد واعلم أن الكتابة في أم الكتاب تعم جميع الأشياء وهذا يختص به كل إنسان إذ لكل كتابة سابقة هي ما في اللوح ولاحقة هي ما يكتب ليلة القدر أو ليلة النصف من شعبان ومتوسطة أشير إليها في هذا الحديث قوله: (بكتب) بالموحدة فيكون بدلاً من أربع بإعادة العامل وفي رواية يكتب بالتحتية على الاستئناف والمراد بأمر الملك بذلك إظهار ذلك بإنفاذه وكتابته وإلا فقضاء الله وإرادته وعلمه لكل ذلك سابق في الأزل لقدمه وظاهر هذا الحديث الأمر بكتابة الأربع ابتداء وليس مراداً إنما المراد كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة أنه يؤمر بذلك بعد أن
وَشقِيٌ أوْ سَعِيدٌ، فَوالَّذي لا إله غَيرُهُ إن أحَدَكُمْ
ــ
يسأل عنها فيقول: يا رب ما الرزق؟ ما الأجل؟ ما العمل؟ وهل هو شقي أو سعيد؟ فمن تلك الأحاديث أن النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها الملك في كفه فقال: أي رب ذكر أم أنثى؟ شقي أم سعيد؟ ما الأجل؟ ما الأثر؟ بأي أرض يموت؟ فيقال له: انطلق إلى أم الكتاب أي اللوح المحفوظ، وقد تطلق على العلم القديم وليس مراداً هنا لأن ذلك لا يطلع عليه غير الله فإنك تجد (قصة هذه النطفة فينطلق فيجد) قصتها في أم الكتاب تخلق فتأكل رزقها وتطأ أثرها فإذا جاء أجلها قبضت فدفنت في المكان الذي قدر لها، ثم الرزق ما يتناول إقامة البدن وانتفاعه ولو حراماً خلافاً للمعتزلة، والأجل يطلق ويراد به مدة الحياة ويطلق ويراد به آخرها الذي هو آن الموت ولا مانع من أن يكون المراد الأجل بمعنييه لأن الملك يكتب الأجل بكلا هذين المعنيين فيكون من باب استعمال المشترك في معنييه أو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه والمراد من عمله الذي يكتب ما سيعمله وهذا يدل على أن هذا الملك غير الملكين اللذين هما الحفظة فإن وظيفتهما كتب ما عمل
العبد لا ما سيعمل وإنما يباشران الكتابة لعمله بعد تكليفه لا في هذا الوقت والظاهر أن هذا يكتب جميع أعماله التي ستقع منه قبل التكليف وبعده اختيارية أو اضطرارية بخلافهما إنما يكتبان الأفعال الاختيارية التي يثاب عليها العبد أو يعاقب والله أعلم. قوله: (وشقي أو سعيد) مرفوع بتقدير هو وعدل إليه عن قوله وشقاوته أو سعادته لأنها حكاية لصورة ما يكتب الملك والتقدير أنه شقي أو سعيد فعدل عنه لأن التفصيل ورد عليهما ذكره الطيبي، والسعادة معاونة الأمور الإلهية للإنسان على نيل الخيرات ويقابلها الشقاوة وقدم الشقاوة ليعلم أن الشر كالخير من عند الله تعالى. قوله:(فوالذي لا إله غيره) قال الخطيب في كتاب الفصل والوصل من هنا الخ مدرج من كلام ابن مسعود وبين دليل ذلك ورد عليه ذلك ووروده عنه مدرجاً من قوله في رواية لا تقاوم روايته في الصحيحين الصريحة في رفعه وعلى التنزل وأنه مدرج من قوله فلا ينسب إليه إلا اللفظ أما المعنى فهو صحيح عنه صلى الله عليه وسلم من طرق صحيحة منها للبخاري إنما الأعمال بالخواتيم ومنها
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجنة، حتى ما يكونُ بينهُ وبينَها إلا ذِرَاعٌ،
ــ
لابن حبان في صحيحه إنما الأعمال بخواتيمها كالوعاء فإذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله ومنها لمسلم إن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمان الطويل بعمل أهل النار ثم يختم له بعمل أهل الجنة، ومنها لا حمد لا عليكم أن تعجبوا بأحدكم حتى تنظروا بما يختم له الحديث، وفي البخاري ومسلم في الرجل الذي قاتل المشركين أبلغ قتال فقال صلى الله عليه وسلم:"أنه من أهل النار" فجرح فلم يصبر فقتل نفسه فلما بلغ ذلك صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"، والفاء داخلة على المقسم به وهي فصيحة أي إذا كان الشقاء والسعادة مكتوبين فوالله الذي الخ وجيء بالقسم والتأكيد بأن واللام للرد على المنكر في الجملة والتنبيه على تحقق وقوع ما بعده وهو إن أحدكم الخ وهذا المحلوف عليه مأخوذ من آيات القدر نحو {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وأحاديثه: كحديث محاجة آدم موسى وحديث: اعملوا فكل ميسر لما خلق له وحديث: اعملوا على مواقع القدر. قوله: (ليعمل بعمل أهل الجنة) أي فيما يبدو للناس كما تقدم في الصحيحين ففيه إشارة إلى أن باطن الأمر قد يكون بخلاف ظاهره وإن خاتمة السوء تكون والعياذ بالله بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها النّاس وكذا قد يعمل الرجل بعمل أهل النار وفي باطنه خصلة خير خفية تغلب عليه آخر عمره فتوجب له حسن الخاتمة وسيأتي لهذا المقام مزيد. قوله: (حتى ما يكون) بالرفع لأن ما ألغت حتى، قال ما هنا لمجرد النفي منسلخ عن معنى الحالية ليجامع أن التي للاستقبال أي التي بعد حتى الناصبة كما أن اللام في قوله ولسوف يعطيك لمجرد التأكيد معرى عن معنى الحالية لكن في النسخ المصححة من البخاري ومن هذا الكتاب ضبطه بالضم اهـ. وقوله:"حتى ما يكون بينه وبينها" أي الجنة "إلا ذراع" هو من باب التمثيل المقرر في علم البيان وهو تمثيل القرب من موته ودخوله عقبه الجنة هنا وفي نظيره الآتي ضدها أي ما بقي بينه وبينها إلا كمن
فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النارِ فيدخلها وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النَّارِ حتَّى ما يَكُونُ بَينَهُ وبَينَها إلَاّ ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيهِ الكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجنَّةِ فَيَدْخُلُها"
ــ
بقي بينه وبين مقصده ذراع. قوله: (فيسبق) أي يغلب (عليه الكتاب) أي المكتوب في بطن أمه مستنداً إلى
سابق العلم الأزلي فيه ويصح بقاؤه على مصدريته وهذه الجملة وما بعدها تفريع على ما مهده صلى الله عليه وسلم من كتابة السعادة أو الشقاوة عند نفخ الروح مطابقين لما في العلم الأزلي لبيان أن الخاتمة إنما هي على وفق تلك الكتابة ولا عبرة بظواهر الأعمال قبلها بالنسبة لحقيقة الأمر وإن اعتبر بها من حيث كونها علامة ثم دخوله النار إما لكفره والعياذ بالله فيكون دخول خلود أو لمعصيته فيكون دخول تطهير قال القاضي وغيره وهذا نادر جداً لخبر "إن رحمتى سبقت غضبي" وفي رواية تغلب غضبي بخلاف ما بعده فإنه كثير فالله الحمد والمنة على ذلك. قوله: (وبينها) أي النار. قوله: (بعمل أهل الجنة) أي بأن يؤمن بعد كفره أو يتوب من ذنبه فيخرج من تبعته وإصره (فيدخلها) أي الجنة بحكم القدر البخاري عليه في هذا وفيما قبله المستند إلى خلق الدواعي والصوارف في قلبه إلى ما يصدر عنه من أفعال الخير فمن سبقت له السعادة صرف الله قلبه إلى خير يختم له به وضده بضده وفي بعض روايات هذا الحديث وإنما الأعمال بالخواتيم والأعمال بخواتيمها، وقد اختلف أهل التحقيق فمنهم من راعى حكم السابقة وجعلها نصب عينيه ومنهم من راعى حكم الخاتمة والأول أولى لأنه سبق في علمه الأزلي سعيد العالم وشقيه ثم رتب على هذا السبق الخاتمة عند الموت بحسب صلاح العمل عندها وفساده وعلى الخاتمة سعادة الآخرة وشقاوتها والمبني على المبني على الشيء مبني على ذلك الشيء فحقيقة السعادة أو الشقاوة مبنية على سابقة العلم بها فهي إذا أولى بالخوف منها والمراعاة لها وأفاد الحديث أن التوبة تهدم ما قبلها من الذنوب وأن من
رويناه في "صحيحيهما".
ــ
مات على خير أو شر أديرت عليه أحكامه نعم الميت فاسقاً تحت المشيئة خلافاً للمعتزلة وإن عمل من سبق في علم الله موته على الكفر يكون صحيحاً مقرباً إلى الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع وإن عمل من سبق في علم الله موته على الإيمان يكون باطلاً مقرباً إلى النار لكن لا مطلقاً في هذين بل باعتبار ما يظهر لنا كما دل عليه خبر مسلم السابق إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار الحديث، أما باعتبار ما في نفس الأمر فالأول لم يصح له عمل قط فلم يقرب من الجنة مطلقاً لأنه كافر في الباطن وأما الثاني فعمله الذي لا يحتاج إلى نية صحيح وما يحتاج إليها باطل من حيث عدم وجودها هذا فيما صورته صورة خير وأما ما عداه فلا يؤثر فيه الكفر لخبر أسلمت على ما سلف لك من خير فالعبرة بسابق القضاء إذ هو الذي لا تغيير ولا تبديل فيه وفي الحديث الشقي من شقي في بطن أمه أي يظهر من حاله للملائكة أو لمن شاء الله من خلقه ما سبق في علم الله الأزلي وقضائه الإلهي الذي لا يقبل تغييراً من سعادته أو شقاوته ومن رزقه وأجله وعمله إلى آخر ما سبق بيانه، ولا ينافي ذلك خبراً إنما الأعمال بالخواتيم لأن ربطها بها إنما هو لكون السابقة مستورة عنا والخاتمة ظاهرة لنا فكانت الأعمال بها بالنسبة إلى ما عندنا وإطلاعنا في بعض الأشخاص والأحوال وفي الحديث إنه لا يقطع لأحد معين بدخول الجنة إلا من أخبر صلى الله عليه وسلم أنه من أهلها وفيه الإيماء إلى ترك الإعجاب بالعمل والالتفات والركون إليه بل يعول على فضل مولاه ورحمته وجوده ومنته وفي الحديث لن ينجي أحداً منكم عمله الحديث لكن مع ذلك لا بد من
الإتيان بالعمل أداء لمقام العبودية وقد جاءت الأحاديث بالنهي عن ترك العمل والاتكال على ما سبق به القدر قال صلى الله عليه وسلم: "اعملوا فكل ميسر لما خلق له". قوله: (رويناه في صحيحيهما) وكذا رواه أصحاب السنن الأربعة كلهم عن ابن مسعود كما في الجامع الصغير وهو حديث عظيم جليل يتعلق بمبدأ الخلق ونهايته وأحكام القدر في المبدأ والمعاد وإنكار عمرو بن عبيد من زهاد القدرية له من ضلالاته وخرافاته
الخامس: عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: حَفِظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبكَ"
ــ
وحماقته وجهالته.
فائدة
قال العلماء: كتاب الله تعالى ولوحه وقلمه والصحف المذكورة كل ذلك مما يجب الإيمان به وكيفية ذلك وصفته يعلمه الله سبحانه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء والله أعلم. قوله: (حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم) دليل على أن شرط الشهادة من البلوغ والإسلام إنما تعتبر حال الأداء دون التحمل فإن النبي صلى الله عليه وسلم توفي والحسن دون البلوغ وأخباره كلها مقبولة والله أعلم. قوله: (دع ما يريبك) أمر ندب أي دع ما تشك فيه من الأقوال والأفعال إنه منهي عنه أولاً أو سنة أو بدعة واعدل عنه (إلى ما لا يريبك) أي ما لا تشك فيه من الحلال البين والمقصود أن يبني المكلف أمره على اليقين البحت والتحقيق الصرف ويكون على بصيرة في دينه قيل حاصل الحديث يرجع إلى ما مر في الحديث السابق أن من اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه إذ حاصلهما النهي التنزيهي عن الوقوع في الشبهات ومن ثم قيل إنه يجب اجتنابها وفصل آخرون فقالوا تلحق الشبهة المحتملة الفاحشة بالحرام بخلاف غيرها فبيع نحو العينة مشتبه لأنه حيلة للربا وهي فيه نافعة عند قوم وغير نافعة عند آخرين فإن الله لا تخفى عليه خافية والأعمال بالنيات وعليه قال بعضهم إن اطلع الله على نية فاعل ذلك إنها بريئة من الحيلة وإن قلبه لم ينطو على الحرام لم يعاقب لكنه لم يستبريء لدينه ولا لعرضه لأنه يظن به الربا وتسوء به الظنون فطلب منه دفع هذا المريب إلى ما لا يريب وورد لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس وقال بعض أرباب الإشارات معناه إذا كنت صحيح الخاطر طاهر الباطن مراقباً للغيب وتعرف لمة الملك من لمة الشيطان والإلهام من حديث النفس وكنت مميزاً بين الحق والباطل بنور الفراسة وصفاء القلب فدع ما يريبك من الأغلوطات والشبهات النفسانية والشيطانية إلى ما لا يريبك مما ينزل بقلبك وعقلك وروحك من الإلهام الإلهي والعلم اللدني
رويناه في الترمذي والنسائي،
ــ
وكما أن ترك ما يريبك مأمور به فكذا ترك ما يريب الغير مما يصعب على أفهام العامة أولى كما قال بعض العارفين:
إني لأكتم من علمي جواهره
…
كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
يا رب جوهر علم لو أبوح به
…
لقيل لي أنت مما يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي
…
يرون أقبح ما يأتونه حسنا
قوله: (رويناه في كتاب الترمذي والنسائي) ورواه أيضاً ابن حبان في صحيحه والحاكم
والخطيب كلهم عن الحسن وهذا قطعة من حديث طويل فيه ذكر قنوت الوتر وعند الترمذي وغيره زيادة فيه وهي فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة ولفظ ابن حبان فإن الخير طمأنينة وإن الشر ريبة وقد أخرجه أحمد من حديث أنس أي بدون هذه الزيادة كما يقتضيه كلام الجامع الصغير قال وكذا أخرجه الطبراني عن وابصة بن معبد وأخرجه الطبراني عن ابن عمر مرفوعاً قال في الجامع الصغير وأخرجه أبو نعيم في الحلية والخطيب عن ابن عمر وزاد في آخره فإنك لن تجد فقد شيء تركته الله وبه يرد قول الدارقطني إنما يروي هذا من قول ابن عمر وفي الجامع الصغير أخرجه ابن قانع عن الحسن وزاد في آخره فإن الصدق نجي وروي بإسناد ضعيف عن أبي هريرة مرفوعاً ما يريبك إلى ما لا يريبك قال وكيف لي بالعلم بذلك قال إذا أردت أمراً فضع يدك على صدرك فإن القلب يضطرب للحرام ويسكن للحلال وإن المسلم الورع يدع الصغيرة مخافة الكبيرة زاد الطبراني فقيل له فمن الورع قال الذي يقف عند الشبهة، ثم هذا الحديث قاعدة عظيمة من قواعد الدين وأصل في الورع الذي عليه مدار المتقين ومنح من ظلم الشكوك والأوهام المانعة لنور اليقين قال الفضيل يزعم النّاس أن الورع شديد وما ورد على أمران إلا أخذت بأشدهما فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك وقال حسان بن سنان ما شيء أهون من الورع إذا رابك شيء فدعه وهذا إنما يسهل على مثله رضي الله عنه وسئلت عائشة رضي الله عنها عن أكل الصيد للمحرم فقالت: إنما هي أيام قلائل فما رابك دعه يعني
قال الترمذي: حديث حسن صحيح. قلت: يريبك بفتح الياء وضمها لغتان، والفتح أشهر.
السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ ما لا يَعْنِيهِ" رويناه في كتاب الترمذي وابن ماجه، وهو حسن.
السابع: عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ــ
ما اشتبه عليك أحلال هو أم حرام؟ فاتركه فإن العلماء اختلفوا في إباحة الصيد للمحرم إذا لم يصده هو ومن ثم كان الخروج من الخلاف أفضل لأنه أبعد عن الشبهة نعم قال المحققون ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم فيه رخصة ليس لها معارض فاتباعها أولى من اجتنابها وإن منعها من لم تبلغه أو لتأويل بعيد مثاله من تيقن الطهارة وشك في الحدث فإنه صح أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تنصرف حتى تسمع صوتاً أو تجد ريحاً لا سيما إن كان شكه وهو في الصلاة المفروضة فيحرم عليه قطعها وإن أوجبه بعضهم نعم قيل ينبغي أن التدقيق في التوقف عن الشبه إنما يصلح لمن استقامت حاله كلها وتشابهت أعماله في التقوى والورع بخلاف المنهمك في المحرمات ومن ثم ورد أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما سأله أهل العراق عن دم البعوض يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين رضي الله عنه قال: وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هما ريحانتاي من الدنيا. قوله: (وقال حسن صحيح) قال بعضهم لا يضر توقف الإِمام أحمد في أبي الجوزاء راويه عن الحسن فقد وثقه النسائي وابن حبان وبه يندفع قول بعضهم إنه مجهول لا يعرف. قوله: (الفتح أشهر) أي وأفصح وراب بمعنى شك وقيل راب لما تتيقن فيه الريبة وأراب لما يتوهم منه وفي النهاية الريب الشك أوشك مع تهمة قال في الكشاف الريب مصدر رابني إذا حصل فيك الريبة وحقيقته قلق النفس واضطرابها ومنه دع ما يريبك إلى ما لا يريبك فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة أي كون الأمر مشكوكاً فيه مما تقلق منه النفس وكونه صحيحاً صادقاً مما تطمئن له ومنه ريب الزمان لنوائبه المقلقة اهـ.
قوله: (الحديث السادس) تقدم الكلام
"لا يُؤْمِنُ أحَدُكُمْ حتى يُحِبَّ لأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِه"
ــ
عليه متناً وتخريجاً في كتاب حفظ اللسان. قوله: (لا يؤمن أحدكم الخ) أي لا يؤمن الإيمان الكامل (حتى يحب لأخيه) المسلم من الخير كما جاء التقييد بذلك في رواية أحمد والنسائي وبه يندفع ما قيل هذا عام مخصوص إذ الإنسان يحب لنفسه وطء حليلته ولا يجوز أن يحبه لأخيه حال كونها في عصمته لحرمة ذلك عليه وليس له أن يحب لأخيه فعل محرم اهـ. وما قيل لا بد أن يكون المعنى فيما يباح وإلا فقد يكون غيره ممنوعاً منه وهو مباح له اهـ. وكلاهما غفلة عن رواية النسائي والظاهر كما قيل: إن التعبير بالأخ المراد به المسلم جرى على الغالب إذ ينبغي لكل مسلم أن يحب (للكفار) الإسلام وما يتفرع عليه من الكمال. وقوله: (ما يحب لنفسه) أي مثله؛ المراد بالمثلية هنا مطلق المشاركة المستلزمة لكف الأذى والمكروه عن النّاس وكما أنه يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته فينبغي له إذا كان لأخيه عنده حق أو مظلمة أن يبادر إلى إنصافه من نفسه وإيثار الحق وإن شق عليه ذلك. وفي الحديث انظر إلى ما تحب أن يؤاتيه النّاس إليك فآتيه إليهم وإذا حصل ذلك كان مع أخيه كالنفس الواحدة وقد حث صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله في الحديث الصحيح أيضاً: "المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر" قال ابن الصلاح وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك إذ القيام به يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئاً من النعمة عليه وذلك سهل على القلب السليم إنما يعسر على القلب الدغل اهـ، وبه يندفع قول غيره (يشبه أن هذه المحبة إنما هي من جهة العقل أي يحب له ذلك ويؤثره) من هذه الجهة أما التكليف بذلك من جهة الطبع فصعب إذ الإنسان مطبوع على حب الاستئثار على غيره بالمصالح بل على الغبطة والحسد لإخوانه فلو كلف أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه بطبعه لأفضى إلى أن لا يكمل إيمان أحد إلا نادراً اهـ، ويؤيد ما قاله ابن الصلاح خبر الترمذي وابن ماجه أحب للناس ما تحب لنفسك
رويناه في "صحيحيهما".
الثامن: عن أبي هريرة رضي الله عنه
ــ
تكن مسلماً وخبر أحمد أفضل الإيمان أن تحب للناس ما تحب لنفسك وتكره لهم ما تكره لنفسك وخبره أيضاً أتحب الجنة قلت نعم قال فأحب لأخيك ما تحب لنفسك، وإذا انتفت هذه المحبة لنحو غش أو حسد فلم يحب لأخيه مثل ما يحب لنفسه فهو غير مؤمن الإيمان الكامل ومن ثم قيل من أفحش الأحوال أن يرى ضاناً على أخيه بأعمال الخير إن لم يوفق هو لها كما جرى لابن آدم فإنه قتل أخاه من أجل أن الله تقبل قربانه دونه وقال بعض أرباب الإشارات في الكلام على الحديث تحقيق ذلك أن المؤمنين متحدون بحسب الأرواح والحقائق متعددون من حيث الأجسام والصور فهم كنور واحد في مظاهر مختلفة أو كنفس واحدة في أبدان متفرقة بحيث لو تألم الواحد تأثر الجميع بل من تمكن فيه صح ذلك له بالنسبة إلى جميع الأشياء كما روي عن بعضهم أنه ضرب عنده حمار فتألم الشيخ بحيث رؤيت علامة الضرب في عضوه الذي بإزاء العضو المضروب للحمار، وذلك لأن إيمانهم من أثر نور
الهداية شرعاً ومن نور الله حقيقة وهو نور الوحدانية من عكس نور الفردانية من نور الذات فأرواحهم اتحدت بذلك النور المقتضي للألفة والرحمة فإن هم واحد هموا وإن فرح فرحوا وهذا مقام الجمع بالروح وهو أنه يجتمع عند تجلي الروح الأعظم عن تفرقة الطبيعة وتتحد الأرواح وهناك مقام أعلى يقال له: جمع الجمع وهو أن يجتمع عند تجلي الحق تعالى له عن تفرقة الغير روحانياً ونفسياً ملكياً وملكوتياً ولا يرى غير الله سبحانه لاختفاء جميع الأشياء في نور التوحيد كاختفاء النجوم عند إشراق الشمس اهـ. قوله: (رويناه في صحيحيهما) لكن رواية مسلم فيها شك إذ قال لأخيه أو جاره بخلاف رواية البخاري فإنه لا شك فيها ولفظ مسلم والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه ولفظ رواية أحمد لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحب للناس ما يحب لنفسه من الخير وهو مبين لمعنى حديث الصحيحين وإن المراد بنفي الإيمان نفي بلوغ حقيقته ونهايته فإنه كثيراً ما ينفي لانتفاء بعض أركانه وواجباته كنفيه عن الزاني والسارق وشارب الخمر في الحديث المشهور وذهب جمع من السلف إلى أن مرتكب الكبيرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن اللهَ تَعالى طَيِّبٌ
ــ
يسمى مؤمناً ناقص الإيمان وآخرون إلى أنه يقال له: مسلم لا مؤمن قيل وهو المختار ومقصود الحديث كما علم مما قررناه في معناه ائتلاف قلوب المؤمنين وانتظام أحوالهم وهذا هو قاعدة الإسلام الكبرى التي أوصى الله تعالى بها بقوله: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وإيضاحه أن كل أحد إذا أحب لباقيهم أن يكونوا مثله في الخير أحسن إليهم وأمسك أذاه عنهم فيحبونه فنسري بذلك المحبة بين النّاس فيسري الخير بينهم ويرتفع الشر فتنتظم أمور معاشهم ومعادهم وتكون أحوالهم على غاية السداد ونهاية الاستقامة وهذا هو غاية المقصود من التكاليف الشرعية والأعمال البدنية والقلبية وهذا كله مما يتولد من سلامة الصدر من الغل والغش والحسد فإن الحسد يقتضي أن يكره الحاسد أن يفوقه أحد في خير أو يساويه فيه لأنه يحب أن يمتاز على النّاس بفضائله والإيمان يقتضي أن يشركوه كلهم فيما أعطي من الخير من غير أن ينقص عليه منه شيء، نعم ورد أنه لا حرج على من كره الامتياز بالجمال كما صح به الحديث عند الحاكم وغيره عن مالك بن مرارة يا رسول الله قد قسم لي من الجمال ما ترى فما أحب أحداً من النّاس فضلني بشراكين فما فوقهما أليس ذلك هو البغي فقال: لا ليس ذلك بالبغي ولكن البغي من بطر -أو قال سفه- الحق، ومن كمال الإيمان تمني مثل الفضائل الأخروية التي فاقه فيها غيره كما دلت عليه الأحاديث الشهيرة وأما قوله تعالى:{وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} فهو نهي عن الحسد عن تمني انتقال نعمة الغير إليه وما جاء عن الفضيل مما يقتضي أن الأكمل محبة أن تكون النّاس فوقه إنما هو من جهة أن هذا هو الأكمل في الدرجات للنصيحة وإلا فالمأمور به شرعاً إنما هو محبة أن يكونوا مثله ومع هذا فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية اجتهد في لحاقه وحزن على تقصيره لا حسداً بل منافسة وغبطة ليزداد بذلك الاجتهاد في طلب الفضائل والازدياد منها والنظر لنفسه بعين النقص وينشأ من هذا أن يحب للمؤمنين أن يكونوا خيراً منه فإنه لا يرضى لهم أن يكونوا على مثل حاله. قوله: (إن الله تعالى طيب) أي طاهر منزه عن النقائص وكل وصف خلا عن الكمال المطلق أو طيب الثناء أو مستلذ الأسماء عند العارفين بها وعلى كل حال فهو
لا يَقْبَلُ إلَاّ طَيِّباً،
ــ
من أسمائه الحسنى
لصحة الحديث به كالجميل قيل ومثلهما النظيف لحديث إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة جواد يحب الجود أخرجه الترمذي ورد بأن الحديث لم يصح إذ في إسناده مقال والطيب في الأصل الحسن الجيد مأخوذ من الطيب وهو اسم لما يتطيب به يطلق على طيب الرائحة والحال والظاهر. قوله: (لا يقبل إلا طيباً) أي لا يثيب إلا على ما علمه من الأعمال والأموال طيباً خالصاً من المفسدات كالرياء والعجب أو حلالاً سواء كان بالنسبة لعلمنا أم مشتبهاً أما الحرام عنده فلا يثيب عليه وإن كان حلالاً عندنا نعم القياس أن من تصدق بما يظنه حلالاً وهو حرام باطناً أنه يثاب عليه وإنما لم يقبل الصدقة بالمال الحرام لأنه تصرف وهو ممنوع من التصرف فيه لكونه ملكاً للغير فلو قبل منه لزم أن يكون مأموراً به منهياً عنه من جهة واحدة وهو محال وهذا معنى ما فهم من فحوى الحديث أن بين الطيب لذاته المقتضي للقبول والخبيث لذاته المقتضي لعدم القبول تضاداً يستحيل اجتماعهما ثم الصدقة بالمال الحرام إما أن تكون من نحو الغاصب عن نفسه فهذا هو المراد من الأحاديث الكثيرة في ذلك المصرحة بأنه لا يقبل منه ولا يؤجر عليه بل يأثم به ولا يحصل للمالك بذلك أجر على ما قاله جمع أو يكون على المالك إذا عجز عن رده إليه وإلى ورثته فهذا جائز عند أكثر العلماء فيكون نفعه له في الآخرة حيث تعذر عليه الانتفاع به في الدنيا.
فائدة
نفي القبول قد يؤذن بانتفاء الصحة كما في حديث لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ ويفسر القبول حينئذٍ بأنه ترتب الغرض المطلوب من الشيء على الشيء وقد لا كما في الآبق ومن سخط عليها زوجها ويميز بين الاستعمالين بحسب الأدلة الخارجية أما القبول من حيث ذاته فلا يلزم من نفيه نفي الصحة وإن لزم من إثباته إثباتها وقال أهل الإشارات لا يقبل إلا طيباً أي لا ينبغي أن يتقرب إليه إلا بما يكون طاهراً حلالاً من خيار المال ولا يقبل إلا عبداً متحلياً بفضيلتي العلم والعمل نقياً من الشبهات نقياً من النجاسات سليماً قلبه من الآفات، ثم هذه الجملة توطئة وتأسيس لما هو المقصود بالذات من سياق هذا الحديث وهو
وَإنَّ الله تَعالى أمَرَ المُؤمِنِينَ بِما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ تَعالى:{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]
ــ
طيب المطعم والمشرب المستلزم لحيازة الكمال المستلزم لإجابة الدعاء غالباً المشار إليه في قوله (وإن الله أمر المؤمنين الخ) أي سوى بينهم في الخطاب بوجوب أكل الحلال وفيه أن الأصل استواؤهم مع أممهم في الأحكام إلا ما قام الدليل على أنه مختص بهم. قوله: (يا أيها الرسل) هذا الخطاب والنداء ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة فالمراد الإعلام بأن كل رسول نودي ووصي في زمانه ليعتقد السامع أن ما نودوا به جميعاً حقيق بالأخذ والعمل به كذا في الكشاف لا يقال هذا فيه نفحة اعتزالية لأنهم لما لم يثبتوا قدم الكلام حملوا على ذلك لكن الحق أنه سبحانه متكلم في الأزل وإن لم يكن ثم مخاطب فالخطاب على ظاهره، لأنا نقول التعلق التنجيزي في حال القدم بأن يطلب من المكلف الفعل والفهم في حال القدم محال بالاتفاق والمراد بخطاب المعدوم التعلق العقلي وهو أن المعدوم الذي علم الله أنه سيوجد بشرائط التكليف يوجه إليه حكم في الأزل بما يفهمه ويعقله فيما لا يزال. قوله: {كُلُوا مِنْ
الطَيِّبَاتِ} قدمه على ما بعده ليكون إشارة إلى أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقاً بأكل الحلال وهو ما يقرب العبد إلى الله. قوله: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي ملكناكم وقد أتي في بعض المواضع بمعنى نفعناكم وأسند الرزق إليه تحريضاً لهم على غاية احتياطهم حتى لا يأكلوا إلا الحلال المطلق الذي يستأهل أن يضاف إليه وأتى بمن المفيدة للتبعيض صيانة لهم وكفاً عن الإسراف، والطيبات جمع طيب وهو الحلال الخالص من الشبهة لأن الشرع طيبه لآكله وإن لم يستلذه وعن الشافعي أنه المستلذ أي شرعاً إلا فلذيذ الطعم غير المباح وبال وخسار فيكون طعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً فهو بمعنى ما قبله خلافاً لمن فهم تغايراً بين التفسيرين نعم قد يراد بالطيب أخص من الحلال وهو المستلذ طبعاً ونحو ذلك {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
ثُمَّ ذَكرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أْغْبَرَ يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ: يا رب يا رب،
ــ
حَلَالًا طَيِّبًا} على أنه كما يحتمل ذلك يحتمل التأكيد لكن التأسيس خير منه وقد تشير هذه الآية إلى أن الحرام رزق على ما عليه أهل السنة خلافاً للمعتزلة ثم الأمر في الآية للإباحة أو للوجوب كما لو أشرف على الهلاك مجاعة أو للندب لموافقة المضيف قال سهل بن عبد الله أدب الأكل أن يكون حلالاً وهو ما لا يعصى الله فيه وصافياً وهو ما لا ينسى الله فيه وقواماً وهو ما يمسك النفس والعقل وأن يؤدى شكر النعم. قوله: (ثم ذكر الرجل) أي بعد ما سبق ذكره استطرد الكلام حتى ذكر الرجل الموصوف بأنه يطيل السفر. قوله: (يطيل) صفة الرجل لأن أل فيه جنسية وفيه إشارة إلى أن السفر بمجرده يقتضي إجابة الدعاء وقد تقدم في أذكار المسافر ما يشهد له ومنه حديث أبي داود والترمذي وابن ماجه ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن دعوة المظلوم ودعوة المسافر ودعوة الوالد لولده، وإنما كان دعاؤه أقرب إلى الإجابة لأنه مظنة حصول انكسار النفس بطول الغربة عن الأوطان وتحتمل المشاق والانكسار من أعظم أسباب الإجابة. قوله:(أشعث أغبر) حالان مترادفان من فاعل يطيل أي متفرق الشعر مغبر الوجه من طول سفره في الطاعات ومع ذلك فلا يستجاب له لما يأتي فكيف بمن هو منهمك مع ذلك في الغفلة والعصيان وفيه إشارة إلى أن رثاثة الهيئة من أسباب الإجابة قال صلى الله عليه وسلم: "رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب" لو أقسم على الله لأبره ولأجل هذا ندب ذلك في الاستسقاء. قوله: (يمد يديه إلى السماء) حال من ضمير أشعث أي يرفعهما قائلاً (يا رب) أعطني كذا ففيه رفع اليدين في الدعاء وهو سنة في غير الصلاة والطواف وفي القنوت في الصلاة اتباعاً له صلى الله عليه وسلم ولأن في رفعهما إظهار شعار الذل والانكسار والإقرار بسيمة العجز والافتقار فإن عادة العرب رفعهما عند الخضوع في المسألة والمذلة بين يدي المسؤول قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حي كريم يستحي من عبده أن يرفع إليه كفيه ثم يردهما صفراً خائبين" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وجاء أنه صلى الله عليه وسلم كان عند الرفع تارة يجعل بطون يديه إلى السماء وتارة يجعل ظهورهما إليه وحملوا الأول على الدعاء بحصول المطلوب أو دفع ما قد يقع من البلاء والثاني على
وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وملبسه حرامٌ وَغُذِيَ بالحَرَام، فأنَّى يُسْتَجابَ لِذلِكَ"
ــ
الدعاء برفع ما قد وقع به من البلاء وجاء أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه وجعل ظهورهما إلى جهة القبلة وهو مستقبلها وجعل بطونهما مما يلي وجهه وورد عكس هذه في الاستسقاء من فعله صلى الله عليه وسلم وحكمة رفعهما إلى السماء أنها قبلة الدعاء ومخزن الأرزاق ومعدن أسرار الخلائق
ومصعد الأعمال ومعبد العمال ومحل الضياء والصفاء وفيه أيضاً الإشارة إلى عظمة جلال الله تعالى وكبريائه وأنه فوق كل موجود مكانة واستيلاء لا مكاناً وجهة، وفي قوله: يا رب إشارة إلى أن الدعاء بهذا اللفظ مؤثر في الإجابة لإيذانه بالاعتراف بأن وجوده فائض عن تربيته وإحسانه وجوده وامتنانه ولذا كان غالب أدعية القرآن مفتتحاً بذكر الرب وفي تكرير ذلك إشارة إلى أن من أسباب الإجابة بل من أعظمها الإلحاح على الله تعالى بثناء حسن وذكر فضل كرمه وعظيم ربوبيته أخرج البزار مرفوعاً إذا قال العبد: يا رب أربعاً قال الله تعالى: "لبيك عبدي سل تعطه" وأخرج الطبراني وغيره أن قوماً شكوا إليه صلى الله عليه وسلم قحوط المطر فقال: "اجثوا على الركب وقولوا يا رب يا رب" ففعلوا فسقوا وعن جعفر الصادق من حزبه أمر فقال خمس مرات ربنا نجاه الله مما يخاف وأعطاه ما أراد لأن الله تعالى حكى عنهم في آخر آل عمران أنهم قالوا خمساً ثم قال: فاستجاب لهم. قوله: (ومطعمه حرام) جملة حالية من فاعل قائلاً ومطعم ومشرب وملبس مصادر ميمية بمعنى المفعول. قوله: (وغذي) بضم أوله المعجم وكسر ثانيه المعجم المخفف. قوله: (فأنَّى يستجاب لذلك) أي فكيف أو من أين يستجاب لمن هذه صفته فهو استبعاد لإجابة دعائه مع قبيح ما هو متلبس به لأنه ليس أهلاً حينئذ لاتصافه بقبيح المخالفات وليس إحالة لإمكانها تفضلاً وإنعاماً فعلم أن اجتناب الحرام في كل ذلك شرط إجابة الدعاء وتناوله مانع لها غالباً وسره أن مبدأ إرادة الدعاء القلب ثم تفيض تلك الإرادة على اللسان فينطق به وتناول الحرام مفسد للقلب كما هو مدرك بالوجدان فيحرم الرقة والإخلاص ويصير عمله شبحاً بلا روح وبفساده يفسد البدن كله كما مر فيفسد الدعاء لأنه نتيجة فاسد أخرج الطبراني بسند فيه نظر أن سعد بن أبي وقاص
رويناه في "صحيح مسلم".
التاسع: حديث "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ"
ــ
قال: يا رسول الله ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة" والذي نفس محمد بيده إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً وأيما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به، ومن ثم قيل له: لم تستجاب دعوتك من بين الصحابة قال: ما رفعت إلى فمي لقمة إلا وأنا أعلم من أين مجيئها ومن أين خرجت. قوله: (رواه مسلم) أي من رواية فضيل بن مرزوق وهو ثقة وسط وإن لم يخرج له البخاري ولا يقدح فيه قول الترمذي بعد تخريج الحديث حسن غريب وقد ذكر الذهبي فضيلاً هذا في جزئه فيمن تكلم فيه وهو موثق، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها قواعد الإسلام ومباني الأحكام وعليه العمدة وفي تناول الحلال وتجنب الحرام وما أعم نفعه وأعظمه ومما تضمنه بيان حكم الدعاء وشرطه الأهم ومانعه والدعاء كما ورد مخ العبادة لأن الداعي إنما يدعو الله عند انقطاع أمله مما سواه وهذا حقيقة التوحيد والإخلاص ولا عبادة فوقها فكان مخ العبادة من هذه الحيثية واستفيد من الحديث أن من أراد الدعاء أو عبادة أخرى لزمه الاعتناء بالحلال في جميع الأحوال من المأكل والملبس والمشرب وغير ذلك حتى يقبل دعاؤه وعبادته وإن المؤمن إنما يقبل منه إنفاق الطيب فيزكو وينمو ويبارك فيه. قوله:(لا ضرر ولا ضرار) بكسر أوله من ضره وضاره بمعنى وهو خلاف النفع كذا قاله الجوهري فالجمع بينهما هنا للتوكيد والمشهور أن بينهما فرقاً فقيل: الأول: إلحاق مفسدة
بالغير مطلقاً والثاني: إلحاقها به على وجه المقابلة أي كل منهما يقصد ضرر صاحبه على جهة الاعتداء بالمثل والانتصار بالحق فالانتصار بالحق ليس بالاعتداء وتسميته بذلك في آية: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} من باب المشاركة والمقابلة وقيل: الضرر من واحد كالقتل والضرار من اثنين كالقتال وقال ابن حبيب عند أهل العربية: الضرر الاسم والضرار الفعل فمعنى الأول: لا تدخل على أخيك ضرراً لم تدخله على نفسك ومعنى الآخر: لا يضار أحد بأحد وهذا أقرب مما قبله وقيل الضرر أن يدخل على غيره ضرراً بما ينتفع هو به والضرار أن يدخل على غيره
رويناه في الموطأ مرسلاً، وفي سنن الدارقطني وغيره من طرق متصلاً،
ــ
ضرراً بما لا منفعة له به كمن منع ما لا يضره ويتضرر به الممنوع ورجح هذا طائفة منهم ابن عبد البر وابن الصلاح وقيل معنى الأول: ما لك فيه منفعة وعلى جارك فيه مضرة والثاني: ما لا منفعة لك وعلى جارك فيه مضرة وهذا مجرد تحكم بلا دليل وإن قال غير واحد إن هذا وجه حسن المعنى في الحديث وفي رواية ولا إضرار من أضر به إذا ألحق ضرراً وهو في معنى الضرر قال ابن الصلاح وهي على ألسنة كثير من الفقهاء والمحدثين ولا صحة لها ولذا أنكرها آخرون وانتصر لها بعضهم بأنها جاءت في بعض روايات ابن ماجه والدارقطني وفي بعض نسخ الموطأ قال وقد أثبتها بعضهم يقال: ضر وأضر بمعنى، وخبر لا محذوف أي في ديننا أو شريعتنا، وظاهر الحديث تحريم سائر أنواع الضرر إلا بدليل لأن النكرة في سياق النفي تعم فقصد الحكم بسلب الضرر من كل فرد فرد من أفراد الضرر عن كل مخلوق وفيه حذف ثان إذ أصله لا لحوق أو لا إلحاق أو لا فعل ضرر أو ضرار في ديننا أي لا لحوق له شرعاً إلا لموجب خاص لمخصص وقيدنا النفي بالشرع لأنه بحكم القدر الإلهي لا ينتفي واستثناء ما ذكر لأن الحدود والعقوبات ضرر وهو مشروع إجماعاً وإنما انتفى الضرر فيما عدا ما استثنى لقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} ونحو ذلك من النصوص المصرحة بوضع الدين على تحصيل النفع والمصلحة فلو لم يكن الضرر والإضرار منفيين شرعاً لزم وقوع الخلف في الأخبار الشرعية المذكورة وهو محال فكل ما جاء من النصوص من الآيات والأحاديث في تحريم الظلم دليل على تحريم الضرر لأنه نوع من الظلم فمعنى الحديث ما مر من نفي سائر أنواع المضار والمفاسد شرعاً إلا ما خصه الدليل وإن المصالح تراعى إثباتاً والمفاسد تراعى نفياً لأن الضرر هو المفسدة فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لأنهما نقيضان لا واسطة بينهما ولو فرض أن بعض الأدلة تضمن ضرراً فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملاً بالدليلين وإلا كان تعطيلاً لهذا الحديث والجمع بين الأدلة في العمل بها أولى من تعطيل بعضها فلذا نقول باستثناء العقوبة على الجناية رعاية للمصلحة وعملاً بالدليلين. قوله: (رويناه في الموطأ مرسلاً الخ) قال المصنف في الأربعين
وهو حسن.
ــ
التي خرجها بعد تخريجه من حديث أبي سعيد الخدري: حديث حسن رواه ابن ماجه والدارقطني وغيرهما مسنداً ورواه مالك بن أنس في الموطأ مرسلاً عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فأسقط أبا سعيد وله طرق يقوي بعضها ببعض قال بعض الشراح رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس وعبادة بن الصامت وفي إسنادهما ضعف وانقطاع قلت ورواه أحمد عن ابن عباس كما في الجامع الصغير. ورواه الدارقطني من طريق ضعيفة عن ابن
عباس وأخرى كذلك عن عائشة وأخرى عن أبي هريرة رضي الله عنهم لكن مع شك فيهما ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه عليه الزين العراقي والبيهقي من حديث أبي سعيد والطبراني مرسلاً وابن عبد البر من طريق كثير بن عبد الله وكثير هذا يصحح حديثه الترمذي ويقول البخاري في بعض أحاديثه إنه أصح حديث في الباب وحسن حديثه الخزامي وقال هو خير مراسيل ابن المسيب وكذلك حسنه ابن أبي عاصم ورواه الإِمام مالك في الموطأ مرسلاً فأسقط أبا سعيد قال ابن عبد البر لم يختلف عن مالك في إرساله ولا يسند له من وجه صحيح أي عنه لما مر عن الحاكم ولما يأتي فعلم أن المرسل ما حذف من إسناده الصحابي وهذا عند المحدثين وأما عند الأصوليين فهو ما حذف منه أي راوٍ كان والمتصل ويقال فيه المسند الذي لم يحذف من إسناده أحد. قوله: (وهو حسن) أي لغيره قال المصنف في الأربعين كما تقدم وله طرق ضعيفة لكنه يقوي بعضها ببعض كما صرح به ابن الصلاح حيث قال: أسنده الدارقطني من وجوه متصلاً وقال حديث حسن وقال مرة أسنده من وجوه ومجموعها يقويه ويحسنه وقد نقله جماهير أهل العلم واحتجوا به فقد قال أبو داود الفقه يدور على خمسة أحاديث وعد هذا منها فهو عنده غير ضعيف اهـ. ملخصاً وممن استدل به أحمد وقال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" وقال البيهقي في بعض أحاديث كثير السابق إذا انضمت إلى غيرها من التي فيها ضعف قويت وبذلك علم أنه حسن لغيره لأن
العاشر: عن تميم الداري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الدِّين النَّصيحةُ"، قلنا: لمن؟ قال: "لِلهِ وَلِكِتَابِهِ، ولِرَسُولِهِ، ولأئمة المُسْلِمِينَ، وعَامَّتِهِمْ" رويناه في "صحيح مسلم".
الحادي عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نَهَيتُكُمْ عَنْهُ فاجْتَنِبُوهُ، وَما أمَرْتُكُمْ بِهِ
ــ
ما في بعض طرقه يجبر بغيره ويقوى فهو مرجح وعاضد إذ الحديث اللين أو الضعيف من جهة الضبط قد يقوى بالشواهد المنفصلة حتى يبلغ درجة ما يجب العمل به كالمجهول إذا وجد مزكياً صار عدلاً تقبل شهادته وروايته ثم ذلك الشاهد قد يكون قرآناً كأن يضعف الحديث فيوافقه ظاهر آية أو عموم فيقوى بها ويتعاضدان على صيرورتهما دليلاً وقد يكون سنة عن راوي ذلك الحديث أو غيره ومن الأمثال ضعيفان يغلبان قوياً، وكذا الأسانيد اللينة إذا اجتمعت حصل منها إسناد قوي، وتضعيف ابن حزم له وقوله فيه إنه واه مردود عليه لما علمت من مخالفته لاصطلاح أئمة الحديث واحتجاج العلماء به وجاء في بعض طرقه المسندة من طريق عمرو بن يحيى بعد لا ضرر ولا ضرار من ضار ضار الله به ومن شاق شاق الله عليه وفي رواية من ضار ضره الله ومن شاق شق الله عليه. قوله:(العاشر الخ) تقدم الكلام على ما يتعلق به متنا وتخريحاً في باب الحث على المشاورة. قوله: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه) أي دائماً على كل تقدير ما دام منهياً عنه حتماً في الحرام وندباً في المكروه إذ لا يمتثل مقتضى النهي لا يترك جميع جزئياته وإلا صدق عليه أنه عاص أو مخالف وأيضاً فترك المنهي عنه استصحاب حال عدمه أو الاستمرار على عدمه وليس في ذلك ما لا يستطاع الكف عنه وإن اتفق وجود صورة لا يستطاع الكف عنها فنادر لا يعول عليه وخرج بقولنا ما دام منهياً عنه نحو أكل الميتة للاضطرار وشرب
الخمر لإساغة اللقمة أو لإكراه والتلفظ بكلمة الكفر لإكراه لعدم النهي عنها حينئذٍ والخطاب ليس بمختص بالمخاطبين إذ لم يقم دليل على التخصيص بل يعم الكل لحديث حكمي على الواحد حكمي على الجماعة والنهي طلب كف عن الفعل استعلاء واجتنب مطاوعٍ جنبه الشر إذا أبعده عنه وحقيقته جعله في جانب فيتعدى إلى
فافْعَلُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنما أهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مسائِلِهِمْ وَاخْتِلافُهُمْ عَلَى أنْبِيَائِهِمْ"
ــ
مفعولين لكن تنقص المطاوعة مفعولاً كذا في الكشاف. قوله: (ما استطعتم) أي أطقتم لأن فعله إخراج من العدم وذلك متوقف على شرط وأسباب كالقدرة على الفعل ونحو ذلك وبعض ذلك لا يستطاع فلا جرم سقط التكليف بما لا يستطاع منه قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وتقدم بسط الكلام على هذه الجملة في الفصول أول الكتاب وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم ومن قواعد الإسلام المهمة، وبه أو بقوله تعالى:{فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} يخص عموم قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} فإذا عجز عن ركن أو شرط لنحو وضوء أو صلاة أتى بالباقي أو عن غسل بعض العضو أو عن إزالة بعض المنكر أتى بالممكن وصحت عبادته مع وجوب القضاء تارة وعدمه أخرى كما هو مقرر في الفروع ويؤخذ من هذا القاعدة المشهورة أن درء المفاسد أولى من جلب المصالح فإذا تعارضت مصلحة ومفسدة قدم دفعها لأن اعتناء الشارع بالمنهيات أشد منه بالمأمورات كما علم مما تقرر ومن ثم سومح في ترك الواجب بأدنى مشقة كالقيام في فرض الصلاة ولم يسامح في الإقدام على منهي خصوصاً في الكبائر إلا إذا احتفت الضرورة وقد تراعي المصلحة لغلبتها على المفسدة ومنه الكذب للاصلاح إذ مصلحته حينئذٍ تزيد على مفسدته وهذا في الحقيقة يرجع إلى ارتكاب أخف المفسدتين. قوله: (فإنما أهلك الذين من قبلكم الخ) وجه تفرعه على ما قبله أن الأمر والنهي الصادرين منه صلى الله عليه وسلم لما كانا مظنة لكثرة السؤال عنهما هل يقتضيان التكرار مثلاً وكان في كثرته كثرة الجواب فضاهى ذلك قضية بني إسرائيل التي أمروا فيها بذبح بقرة فلم يبادروا إلى مقتضى اللفظ من ذبح أي بقرة كانت بل تعنتوا وشددوا على أنفسهم بكثرة السؤال فشدد الله عليهم بزيادة الأوصاف حتى لم يجدوا متصفاً بها إلا بقرة واحدة فشروها بملء جلدها ذهباً فخشي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك فلذا قال: "إنما أهلك الذين من قبلكم" أي أوجب لهم العقوبة في الدنيا والآخرة. قوله: (كثرة مسائلهم واختلافهم) هو بالرفع لأنه أبلغ في ذم الاختلاف إذ لا يتقيد حينئذٍ بكثرة بخلافه
رويناه في "صحيحيهما".
الثاني عشر: عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملتُه أحبني الله وأحبني النّاس؟ فقال: "ازْهَدْ في الدنيا
ــ
لو جر وقيل قوله: فإنما الخ علة لمحذوف تقدير الكلام لا تكثروا السؤال تعنتاً وتختلفوا علي فتهلكوا فإنما أهلك الخ واستفيد من الحديث تحريم الاختلاف وكثرة المسائل من غير ضرورة لأنه توعد عليه بالهلاك والوعيد علي الشيء دليل على تحريمه بل كونه كبيرة على الخلاف ووجهه في الاختلاف أنه سبب تفرق القلوب ووهن الدين كما جرى للخوارج حتى تبرأ بعضهم من بعض ووهن أمرهم وذلك حرام فسببه المؤدي إليه حرام وفي كثرة السؤال أنه من غير ضرورة مشعر بالتعنت ومفض إليه وهو حرام وقد نهى الشارع عن قيل وقال وكثرة السؤال أما من سأل لحاجة فهو مثاب قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} سيما إذا كان المسؤول من بحار الحقائق وينابيع العلوم الدقائق:
وإن كنت لا بد مستشرباً
…
فمن أعظم البحر تستشرب
ومن هذا القبيل ما فعله فقهاء الحديث العالمون به من البحث عن معاني الكتاب والسنة وكلام الصحابة والتابعين ومسائل الحلال والحرام والزهد والدقائق مما فيه شفاء القلوب فالكلام في ذلك والسؤال عما هنالك لعموم الحاجة إليه وجزيل المنفعة فيه محمود جعلنا الله منهم بمنه فالحديث إشارة إلى اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الأحكام من غير معارضة ولا مدافعة إذ لم يغادر شيئاً يقرب إلى الله سبحانه إلا أمر به ولا شيئاً يبعد عنه إلا نهى عنه وهي أمور لا يرشد إليها العقل بمجرده إذ العقل لإقامة رسم العبودية لا لإدراك الربوبية بل تلك أسرار يكاشف بها من حضرة القدس الأصفى للنبي المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنه اتصف بصفات الحق وتخلق بأخلاقه كما قيل: فذو العرش محمود وهذا محمد. قوله: (رويناه في صحيحيهما) وتقدم في كلام الحافظ في الفصول أول الكتاب أن الحديث أخرجه ابن حبان أيضاً بنحوه. قوله: (جاء رجل) لم أر تسمية
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
هذا المبهم عند أحد من المتكلمين على هذا الحديث قاله ابن العز الحجازي وفي شرح الأربعين الرجل السائل لم يسم لكنه سأل الدلالة على عمل يكون له هاتان الخاصتان العظيمتان اللتان هما محبة الخالق الرازق ومحبة النّاس فأرشده إلى ذلك العمل معلم الخير صلى الله عليه وسلم بقوله: "أزهد في الدنيا الخ" فقوله دلني أمر من الدلالة وهو الإرشاد أي ارشدني وتقدم في أول الكتاب معنى محبة الله وإنها ترجع إما لمعنى الإرادة أو لمعنى الكلام أو إلى صفة الفعل أي الإحسان والتفضل والجملة الشرطية صفة عمل ومحبة النّاس إرادة النفع، والزهد في الشيء لغة الإعراض عنه استقلالاً له واحتقاراً لشأنه ورفعاً للهم عنه وشرعاً ترك ما عدا الضروريات أي التي لا بد منها في قوام البدن من المباحات خوفاً من النار أو طمعاً في الجنة أو ترفعاً عن الالتفات إلى ما سوى الحق وهذا زهد الخواص العارفين بالله تعالى وهو المراد في الحديث على ما يظهر قال الشافعي:
أيا نفس يكفيك طول الحيا
…
ة إذا ما قنعت ورب الفلق
رغيف بفوذنج يابس
…
وماء روى ولباس خلق
وحفش يكنك جدرانه
…
فماذا العناء وماذا القلق
ولا يكون ذلك إلا بعد انشراح الصدر بنور اليقين ويطلق الزهد على ترك الحرام وهذا زهد العوام وهو واجب دون ما قبله ويطلق على ترك الشبهات وتقدم الخلاف في وجوبه، ويطلق الزهد على معنى أدق من هذا وهو الإعراض عما سوى الله تعالى من دنيا وآخرة وجنة ونار وحال ومقام، ومقصد صاحبه هذا الوصول إلى الرب عز وجل والتقرب منه فليس مراده إلا وجه الله تعالى وهذا زهد المقربين وحكى الحارث المحاسبي فيما يزهد فيه من الدنيا خلافاً فقيل الدينار والدرهم وقيل المطعم والمشرب والملبس والمسكن وقيل الحياة، والوجه أنه كل لذة وشهوة ملائمة للنفس مما ذكر وغيره حتى الكلام بين مستمعين له ما لم يقصد به وجه الله تعالى وحاصل ما أرشد إليه صلى الله عليه وسلم الحث على التقليل من الدنيا وما فيها والترغيب في تركها ووعده على ذلك بحب الله
يُحِبَّكَ اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النّاسِ يُحِبَّكَ الناسُ"
ــ
فكأنه قال: أعرض عما سوى ما لا بد لك منه من المباحات احتقاراً له وباعد نفسك بغضاً للدنيا لأن حبها رأس كل خطيئة
ولأنها لهو ولعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد والله لا يحب ذلك ولأن الله تعالى يحب من أطاعه ومحبته مع محبة الدنيا مما لا يجتمع كما دلت عليه النصوص والتجربة والتواتر ومن ثم ورد مرفوعاً حب الدنيا رأس كل خطيئة، ولأن القلب بيت الرب لا شريك له فلا يحب أن يشركه في بيته حب الدنيا ولا غيرها، ومحبتها الممنوعة هي إيثارها لنيل الشهوات واللذات لأن ذلك يشغل عن الله أما محبتها لفعل الخير والتقرب به إلى الله تعالى فمحمود كما يدل عليه الأحاديث كحديث نعم المال الصالح مع الرجل الصالح يصل به رحماً ويصنع به معروفاً ولذا عد عثمان وابن عوف من خزان الله في أرضه ينفقان المال في طاعته ومعاملتهما الله معلومة فاقتناء المال لذلك وإمساكه للتقرب به إلى الله تعالى مطلوب ومنهم من لا يمسكه اختياراً أو مع مجاهدة للنفس وفضل ابن السماك والجنيد الأول لتحقق يقينه بمقام السخاء والزهد وابن عطاء الثاني لأن له عملاً ومجاهدة ومنهم من لا يحصل له شيء من الفضول وهو زاهد في تحصيله مع القدرة أو بدونها والأول أفضل ولذا قال كثير من السلف إن عمر بن عبد العزيز كان أزهد من أويس واختلف العلماء أي أفضل طلبها لفعل الخير أو تركها فرجحت طائفة الأول والأخرى الثاني، ثم إن رفضت الدنيا على هذا الوجه المطلوب رفضها عليه (يحبك الله) وهو بفتح آخره لأنه لما كان مجزوماً جواباً لأزهد وأريد إدغامه سكنت باؤه الأولى بنقل حركتها إلى الساكن قبلها فاجتمع ساكنان فحركت الثانية بالفتح تخفيفاً وقيل إنه مرفوع على الاستئناف وفيه إشارة إلى أن الزهد من المقامات العلية لأنه جعل سبباً لمحبة الله تعالى ومفهومه أن محبة الدنيا سبب لبغضه والورع أعلى منه لأنه تطهير القلب عن دنس التعلق بالحرام في الشريعة أو الطريقة أو الحقيقة. قوله:(وازهد فيما عند النّاس) أي من المال والجاه (يحبك النّاس) لأن قلوب غالبهم مجبولة مطبوعة على حبهما ومن نازع إنساناً في محبوبه كرهه وقلاه ومن لم
حديث حسن رويناه في كتاب ابن ماجه.
ــ
يعارضه أحبه واصطفاه ومن ثم قال إمامنا الشافعي رضي الله عنه:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها
…
وسيق إلينا عذبها وعذابها
وما هي إلا جيفة مستحيلة
…
عليها كلاب همهن اجتذابها
فإن تجتنبها كنت سلماً لأهلها
…
وإن تجتذبها نازعتك كلابها
قال الفضيل بن عياض جعل الشركاء في بيت وجعل مفتاحه حب الدنيا وجعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد فيها، قال بعضهم لا يبعد عندي أن الزاهد يحبه الإنس والجن المؤمن أخذاً بعموم لفظ النّاس فإنه يطلق على الإنس والجن أي على أحد القولين في ذلك وسأل ابن سلام كعباً بحضرة عمر بن الخطاب ما يذهب العلم من قلوب العلماء بعد أن حفظوه وعقلوه قال يذهبه الطمع وشره النفوس وتطلب الحاجات إلى النّاس قال: صدقت قال الشاعر:
أنت ما استغنيت عن صا
…
حبك الدهر أخوه
وإذا احتجت إليه
…
ساعة مجك فوه
فمن سأل النّاس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه لأن المال محبوب لنفوسهم بل لا أحب إليها منه ومن طلب محبوبك منك كرهته وأما من زهد فيما في أيديهم فإنه يحبونه ويكرمونه ويسوودونه كما قال أعرابي لأهل البصرة من سيدكم قالوا: الحسن قال: بم سادكم قالوا: احتاج النّاس إلى علمه واستغنى عن دنياهم فقال: ما أحسن هذا. قوله: (حديث حسن) أي لغيره كما يعلم مما يأتي (رواه ابن ماجه) وقال السخاوي في تخريجه للأربعين الحديث بعد تخريجه حديث حسن غريب أخرجه الطبراني في معجمه الكبير ورواه ابن ماجه وابن حبان في روضة العقلاء له والحاكم في الرقائق من مستدركه وأخرجه العقيلي في الضعفاء عن البغوي ومن طريق البغوي أخرجه البيهقي في شعب الإيمان والقضاعي في مسند الشهاب وقال الحاكم إنه صحيح الإسناد ومدار الحديث عندهم على خالد بن عمرو القرشي وأخرجه السخاوي من طريق محمد بن كثير المصيصي أيضاً كلاهما واعترض تصحيح الحاكم بأن خالداً مجمع على تركه ضعفه أحمد وابن معين والبخاري وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو داود والنسائي
الثالث عشر: عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ــ
وآخرون بل نسبه أحمد وابن عدي إلى وضع الحديث وقال السخاوي بعد كلام نقله عن شيخه الحافظ الظاهر أن الحديث الذي أوردناه يعني حديث سهل لا يصح ولا يطلق على إسناده أنه حسن وكأنه أشار بذلك إلى صنيع شيخه الحافظ العراقي فإنه حسنه في أماليه بل وحسنه من قبله الشيخ ويساعد الحافظ قول أبي جعفر العقيلي ليس للحديث من حديث سفيان الثوري أصل ولعل ابن كثير المصيصي أخذه عن خالد ودلسه لأن المشهور به خالد كذا قال وقد خالفه الخطيب فإنه قال وتابعه أبو قتادة ومهران بن أبي عمر الرازي يعني المضعفين أيضاً فروياه عن الثوري قال: وأشهرها ابن كثير لكن وافقه ابن عدي على أنه منكر من حديث الثوري قال: وقد رواه زافر يعني ابن سليمان عن محمد بن عيينة أخي سفيان عن أبي حازم فقال: عن ابن عمر بدل سهل وكل من زافر وشيخه ضعيف، ورواه أبو نعيم في الحلية من حديث أنس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: دلني على عمل إذا أنا عملته أحبني الله عز وجل وأحبني النّاس عليه فقال صلى الله عليه وسلم: "ازهد في الدنيا يحبك الله" وأما النّاس فانبذ إليهم هذا يحبونك ورجاله ثقات لكن في سماع مجاهد من أنس نظر وقد قال أبو نعيم عقبيه ذكر أنس فيه وهم من أحد راويه وذكرهما قال: وقد رواه الأثبات من طريق آخر عن الحسن بن الربيع أحد رواته فلم يجاوزوا مجاهداً ورواه أيضاً عن ربعي بن خراش عن الربيع بن خيثم قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر مثله وكذا رواه ابن زبر في مسند إبراهيم بن أدهم له من طريق إبراهيم عن ربعي بن خراش ولم يذكر الربيع بن خيثم ولفظه وأما العمل الذي يحبك النّاس عليه فانظر هذا الحطام فانبذه إليهم ورواه أبو نعيم في الحلية أيضاً من طريق آخر وقال فيها عن أرطاة بن المنذر قال جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر بنحوه وأخرجه ابن أبي الدنيا في ذم الدنيا له من طريق آخر ولم يذكر فيه أرطاة وقال بعد ذكر طرق أخرى
"لا يَحِلُّ دَمُ امْرِيءٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلَاّ الله وأنِّي رَسُولُ الله إلَاّ بإحْدَى ثَلاث: الثَّيِّبُ الزَّاني،
ــ
في بعضها انظر ما في يدك من هذا الحطام فانبذه إليهم فإنهم يحبونك وقد أشار إلى هذه أبو نعيم قال وهو من حديث منصور أي عن ربعي وعن مجاهد أي الراوي عن أنس عزيز ومشهوره ما رواه الثوري عن أبي حازم عن سهل يعني الأول اهـ. وحاصل ما يوميء إليه كلامه أن الحديث ليس أحد نوعي المقبول لضعف راويه المذكور وقال ابن حجر الهيتمي يجاب بأن ذلك
الراوي يعني خالداً ذكره ابن حبان في كتاب الثقات ولو سلم أنه ضعيف فلم ينفرد به بل رواه آخرون غيره فالتحسين إنما جاء من ذلك وإن قيل إن هؤلاء كلهم ضعفاء إذ غاية الأمر أنه حسن لغيره لا لذاته وكلاهما يحتج به بل بعض رواته هؤلاء وثقه كثيرون من الحفاظ اهـ. ثم هذا الحديث أحد الأربعة التي عليها مدار الإسلام وقد مر مستوفى. قوله: (لا يحل دم امرئ مسلم) أي لا يجوز فلا ينافي وجوب القتل بإحدى الثلاثة المذكورة في الخبر لأن الجائز يصدق بالواجب أو يقال الإباحة فيما ذكر بالنسبة لتحريم قتل غيرهم وإن كان قتل من ذكر واجباً في الحكم ودم أصله دمي وهو على تقدير مضاف أي لا يحل إراقته وهذا المعنى متضح عرفاً فلا إجمال فيه وهو كناية عن قتله وإن لم يرق دمه وقد جاء عند النسائي لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال الخ وامرؤ يقال فيه بحذف الهمزة وهو للذكر وخص بالذكر هنا وفي نظائره لشرفه وأصالته وغلبة دوران الأحكام عليه وإلا فالأنثى كذلك من حيث الحكم بعد قوله مسلم. وقوله: (يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) صفة كاشفة وخرج به الكافر الحربي فيحل دمه مطلقاً لكن إن كان بالغاً عاقلاً لأنه لا شيء يخرجه عما اقتضاه هذا المفهوم بخلاف الذمي. وقوله: (إلا بإحدى ثلاث) أي بإحدى خصال ثلاث فيجب على الإِمام القتل بها لما فيه من المصلحة العامة وهي حفظ النفوس والأنساب والأديان ووقع عند مسلم في رواية لا ثلاثة. قوله: (الثيب الزاني) أي خصلته المفهومة من السياق
والنَّفْسُ بالنَّفْسِ، والتَّارِكُ لِدِينِهِ المُفارِقُ لِلجَماعَةِ"
ــ
وهي زناه لتعذر إبداله مما قبله بدون هذا التقدير وكذا يقدر فيما بعده قال الكازروني يجوز في هذه الكلمات الرفع على الخبر لمبتدأ محذوف والنصب على المفعولية لفعل محذوف والخفض على أنه عطف بيان لكن الرواية على الأول اهـ. والمراد من الثيب المحصن وهو المكلف الحر البالغ العاقل الواطئ (أو) الموطوءة في القبل في نكاح صحيح وإن حرم لنحو عدة شبهة فإذا زنى أي أولج (أو أولج) فيه حشفة آدمي أو قدرها في قبل حرام لعينه مشتهى طبعاً خال عن شبهة الفاعل والمحل والطريق ووطء الدبر كالقبل بل أغلظ لكن حد المفعول به غير حليلة الفاعل الجلد والتغريب ولو محصناً لأنه لا يتصور الإحصان المشترط في الرجم في الدبر المفعول به والمراد من حل دم المحصن الزاني أنه يجب رجمه بالحجارة حتى يموت ولا يجوز قتله بغير ذلك إجماعاً ثم الزاني بإثبات الياء ووقع عند مسلم في نسخة بحذفها قال المصنف وهي لغة صحيحة قريء بها في السبع وإن كان الأشهر في اللغة الياء. قوله: (والنفس بالنفس) أي قتل النفس قصاصاً بالنفس أي قتلها عمداً عدواناً بشرطه المقرر في الحرية عند مالك والشافعي وأحمد وذهب أهل الرأي إلى أن المسلم يقتل بالذمي وأن الحر يقتل بالعبد وقد يستدلون بهذا الحديث والجمهور على خلاف ذلك وهذا مخصوص بولي الدم فلو قتله غيره لزمه القصاص والنفس تذكر وتؤنث. قوله: (والتارك لدينه) أي الإسلام -لأن الكلام في المسلم على أن في رواية لمسلم التارك للإسلام- بالردة قولاً له كان أو فعلاً أو اعتقاداً فيجب قتله إن لم يتب والخبر غير متناول لانتقال الكافر من ملة إلى أخرى لأن الكلام في المسلم ومن ثم كان الأصح عندنا أنه لا يقتل
بذلك بل يبلغ مأمنه ثم يصير كحربي إن ظفر نابه قتلناه إن لم يسلم أو يبذل جزية وافهم الخبر قتل المرتدة كالمرتد وهو مذهب الشافعي وكثيرين ويصرح به خبر من بدل دينه فاقتلوه ودعوى تخصيصه بغيرها لا دليل عليها ولا تقبل. وقوله: (المفارق للجماعة) أي المعهودين أي جماعة المسلمين وفراقه إما بنحو بدعة كالخوارج المتعرضين لنا (أو) الممتنعين من إقامة الحق عليهم المقاتلين عليه وإما بنحو بغي أو حرابة أو صيال أو عدم ظهور شعار الجماعة في الفرائض فكل هؤلاء تحل دماؤهم بمقاتلتهم من
رويناه في "صحيحيهما".
الرابع عشر: عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله
ــ
أجل أنهم تركوا دينهم كالمرتد لكن يفارقونه بأنه بدل كل الدين وهؤلاء بدلوا بعضه وإن كان كل منه ومنهم مفارقاً للجماعة فعلم أن بين ترك الدين من أصله ومفارقة الجماعة عموماً وخصوصاً مطلقاً إذ يلزم من الأول الثاني ولا عكس وبين تركه لا من أصله ومفارقة الجماعة التساوي لأنه يلزم من أحدهما الآخر وإن هذا القسم الثالث أعني التارك لدينه المفارق للجماعة باعتبار ما قررناه فيه شامل لما عدا القسمين الأولين من كل من جاز قتله كتارك الصلاة أو قتاله شرعاً وأن الحصر في الحديث حقيقي إذ لا يشذ منه شيء بملاحظة ما قررناه فاستفده وبه رد على من زعم أن الحصر غير حقيقي، ثم قوله التارك لدينه المفارق للجماعة لفظ مسلم ووقع عند أبي داود أحد رواة صحيح البخاري المفارق لدينه التارك للجماعة وعندنا في رواية الآتي ذكرهم والمارق لدينه قال الطيبي هو التارك له من المروق وهو الخروج ووقع في بعض رواياته المارق من الدين وثم قوله المفارق للجماعة صفة للتارك ولو جعلت صفة مستقلة لصارت الخصال أربعاً كما قاله الحافظ في الفتح، ثم لام لدينه وما بعده مزيدة للتأكيد والتقوية لتعدي ترك وفارق ونحو اسم فاعلهما إلى المفعول بلا واسطة واستثناء الأولين من المسلم ظاهر لأنهما حيث لم يستحلا لا ينافيان الإسلام واستثناء الثالث المزيل للإسلام منه إنما هو باعتبار أنه كان مسلماً قبل ففيه الجمع بين حقيقة ومجاز وهو جائز وقبلت توبته خلافاً لجمع دونهما لأن قتلهما لجريمة مضت فلا يمكن تلافيها بخلافه فإنه لوصف قائم به حالاً وهو تركه لدينه فبعوده إليه انتفى ذلك الوصف. قوله:(رواه البخاري ومسلم) قال القلقشندي في شرح العمدة وأخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والطبراني والإسماعيلي وأبو عوانة والبرقاني وأبو نعيم والبيهقي والبغوي وغيرهم ولفظ النسائي لا يحل قتل مسلم إلا في إحدى ثلاث خصال رجل محصن ورجل يقتل مسلماً متعمداً ورجل يخرج من الإسلام فيحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض اهـ.
والحديث من القواعد الخطيرة
-صلى الله عليه وسلم قال: "أمِرْتُ أنْ أُقاتِلَ النَّاسَ حتى يَشْهَدُوا أنْ لا إلهَ إلَاّ اللهُ
ــ
لتعلقه بأخطر الأشياء وهو الدماء وبيان ما يحل منها وما لا يحل وأن الأصل فيها العصمة وهو كذلك عقلاً لأنه مجبول على محبة بقاء الصور الإنسانية المخلوقة في أحسن تقويم وشرعاً وهو ظاهر ولو لم يكن من وعيد القاتل إلا قوله صلى الله عليه وسلم من أعان على قتل مسلم (ولو بشطر) كلمة لقي الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله وقد أجمع المسلمون على القتل بكل واحدة من هذه الخصال الثلاث وسيأتي في شرح الحديث بعد أن هذا الحديث مبين لحق الإسلام المذكور فيه وأن العصمة الثابتة فيه إنما تراعى ما دامت لم تهتك وهتكها إنما يتحقق بأحد هذه الثلاثة المذكورة في هذا الحديث. قوله: (أمرت) أي أمرني الله عز وجل إذ ليس فوق رتبته صلى الله عليه وسلم من يأمره
سوى الله عز وجل ومن ثم لم يأت فيه الاحتمال في قول الصحابي أمرنا أو نهينا لأن فوقه من يمكن إضافة الأمر إليه غير النبي صلى الله عليه وسلم من نحو خليفة ومعلم ووالد ورئيس لكن لما بعد هذا وكان الظاهر من حال الصحابي أنه لا يطلق ذلك إلا إذا كان الآمر أو الناهي هو النبي صلى الله عليه وسلم كان الاصح أن له حكم المرفوع وحذف الفاعل هنا تعظيماً من قولهم أمرنا بكذا ولا يذكرون الآمر تعظيماً. قوله: (أن أقاتل النّاس) أي بأن، لأن الأصل في أمر أن يتعدى للثاني بحرف الجر وتعديه إليه بنفسه كقوله أمرتك الخير قليل والمراد بالناس هنا عبدة الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إله إلا الله، ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف حتى يقروا بالشهادتين قاله الخطابي لكنه إنما يجيء على رواية أبي هريرة لاقتصارها على لا إله إلا الله أما على رواية ابن عمر فالمراد بهم جميع الكفار وتاركو الصلاة أو الزكاة وإن كانوا مسلمين كما دل عليه الحديث ويأتي موضحاً في شرحه فتخصيص جمع النّاس هنا بما قاله الخطابي وهم لما عرفت وإنما لم يدخل الجن مع أن لفظ النّاس قد يشملهم كما قاله الجوهري ورسالته صلى الله عليه وسلم عامة لهم إجماعاً لأنه لم يرد أنه صلى الله عليه وسلم قاتل نوعاَ منهم داعياً لهم للتوحيد كما فعل ذلك بالإنس وإنما الذي جاء أن جماعة منهم كجن نصيبين وغيرهم أسلموا على يديه صلى الله عليه وسلم من غير قتال. قوله:(حتى يشهدوا الخ) صريحه أن الآتي بالشهادتين مؤمن حقاً وإن كان عن تقليد قال المصنف وهو مذهب المحققين والجماهير من
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
السلف والخلف واشتراط تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله بها وإلا لم يكن من أهل القبلة خطأ ظاهر فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل ولأنه صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به ولم يشترط المعرفة بالدليل وقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيح فحصل بمجموعها التواتر والعلم القطعي اهـ. وظاهر الحديث أنه لا بد في الإسلام من لفظ أشهد بأن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فلو قال أعلم بدل أشهد أو أسقطهما فقال: لا إله إلا الله الخ لم يكن مسلماً وهو ما اعتمده بعض المتأخرين منا ويؤيده أن الشارع تعبد بلفظ أشهد في أداء الشهادة فلا يكفي أعلم ونحوها وإن رادفت أشهد أي في إفادة مطلق العلم لا مطلقاً لأن الشهادة أخص منه فكل شهادة علم ولا عكس واستدل له بكلام الروضة في الكفارة لكن رواية حتى يقولوا الخ ظاهرة في عدم اشتراط لفظ أشهد وأن المراد به في أحاديثه يقول ولم يعكس لأن حمل أشهد على يقول فيه قرينة خارجية هي أن هذه الكلمة تسمى كلمة الشهادة وإن أسقط منها لفظ أشهد وحمل يقول على أشهد لا قرينة عليه خارجة وأيضاً فالاحتياط للمشهود به المبني على المشاحة غالباً ثم اقتضى تضييق طرفه والاقتصار به على الوارد والاحتياط للدخول في الإسلام والعصمة المتشوف إليها الشارع اقتضى توسعة طرقه فعملنا بالاحتياط المذكور في البابين وكلام الروضة في الإيمان يقتضي عدم الاشتراط ويؤيده اكتفاؤهم في حق من لم يدن بشيء بآمنت -وكذا بأو من إن لم يرد به الوعد- بالله أو أسلمت بالله أو الله خالقي أو ربي ثم يأتي بالشهادة الأخرى فإذا اكتفوا بنحو الله خالقي مع أنه لا شيء فيه من الوارد نظراً للمعنى دون اللفظ فأولى الاكتفاء بلا إله إلا الله الخ كما هو واضح لأنه وجد فيه لفظ الوارد نظراً لرواية يقولوا ومعناه فعلم أنهم لم يتعبدوا هنا بلفظ الوارد فيكفي بدل إله باريء أو رحمن أو رزاق وبدل الله محيي أو مميت إن لم يكن طبائعياً أو أحد تلك الثلاثة أو من في
السماء دون ساكن السماء أو من آمن به المسلمون وبدل محمد أحمد وأبو القاسم وبدل لا غير وسوى وعدا وبدل رسول نبي ولبعض أئمتنا رأي ثالث هو اشتراط أشهد أو مرادفها كما علم اهـ. وهذا الخلاف الذي أشار إليه الشيخ
وأن مُحَمَداً رَسولُ اللهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤتُوا الزَّكاةَ،
ــ
بقوله فيما مضى في باب ما يكره استعماله من الألفاظ إذا قالها أي قال الكافر كلمتي الشهادة ابتداء لا حكاية ولا باستدعاء فالمذهب الصحيح المشهور أنه يصير مسلماً أي بناء على رواية حتى يقولوا الخ وقيل لا يصير بناء على اعتبار لفظ أشهد كما يشير إليه حديث الباب أو على اعتباره أو اعتبار مرادفه والله أعلم، ثم يشترط ترتيب الشهادتين وإن لم يقتضه الوارد فلا صح الإيمان بالنبي قبل الإيمان بالله نعم لا تشترط الموالاة ولا العربية وإن أحسنها وأنه لا بد من مجموعهما في الإسلام فلا يكفي أحدهما خلافاً لما شذ به بعض أصحابنا الشافعية أنه يكفي لا إله إلا الله وحدها وأنه لا يشترط زيادة عليها وهي البراءة من كل دين مخالف الإسلام ومحله إن أنكر أصل نبينا صلى الله عليه وسلم فإن خصصها بالعرب اشترط زيادة إقراره بعمومها ويزيد حتماً من كفر بإنكاره معلوماً من الدين بالضرورة اعترافه بما كفر بإنكاره أو التبري من كل ما خالف دين الإسلام، والمشرك وكفرت بما كنت أشركت به، والمشبه البراءة من التشبيه ما لم يعلم مجيء محمد صلى الله عليه وسلم بنفيه. قوله:(ويقيموا الصلاة) أي الإتيان بها مع المحافظة على أركانها وشروطها أو على مكملاتها أو المداومة عليها فيقيم من التقويم والتعديل أو من الإقامة أي الملازمة والاستمرار أو التشمير والنهوض وحمله على يقوم إليها أو يقيم من الإقامة أخت الأذان بعيد لغة ومعنى، وفي الحديث دليل لقتل تاركها غير الجاحد وهو ما عليه أكثر العلماء لأنه غلب الأمر بالقتال بفعلها فمن لم يفعلها فهو مقاتل وجوباً ويلزم من قتاله قتله غالباً أو احتمالاً فدل على جواز بل وجوب قتله وسياق الحديث وإن كان في الكافر لكن المسلم أولى منه بذلك لأنه تركها مع اعتقاده وجوبها بخلاف الكافر ولذا قضى المرتد بعد إسلامه ما فاته زمن ردته بخلاف الكافر الأصلي، وأيضاً الغاية هنا في معنى الشرط وحينئذٍ فكف القتال مشروط بالشهادتين وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والمشروط ينتفي بانتفاء أحد شروطه فإذا انتفي فعل الصلاة وجد القتال المقتضي لجواز بل وجوب القتل كما ذكر. قوله:(ويؤتوا الزكاة) أي إلى مستحقيها ومثلها في قتال الممتنعين منها بقية شرائع الإسلام وإنما لم يقل بأن تاركها يقتل
فإذَا فَعَلُوا ذلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ إلَاّ بِحَقِّ الإسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى الله تَعالى" رويناه في "صحيحيهما".
الخامس عشر: عن ابن عمر رضي
ــ
وإن قال به جمع لأنه إذا امتنع أمكن تخليصها منه بالقتال وإلا أمكن تخليصها بلا قتال فلم يجز القتل هنا حينئذٍ إذ لا ضرورة إليه بخلافه في تارك الصلاة لأنه إذا امتنع لم يمكن استيفاؤها منه فغلظت عقوبته ما لم يتب بأن يصلي. قوله: (فإذا فعلوا ذلك) أي المذكور جميعه أي أتوا به قولاً وهو الشهادتان أو قولاً وفعلاً وهو الصلاة أو فعلاً محضاً وهو الزكاة والمقام لأن الشرطية لأن فعلهم متوقع لكن آثر إذا عليها لأنه علم إجابة بعضهم فغلبهم لشرفهم أو تفاؤلاً نحو غفر الله لك. وقوله: (عصموا) أي منعوا وحفظوا (مني دماءهم وأموالهم) وهي كل ما صح إيراد نحو البيع عليه وأريد به هنا ما هو أعم من ذلك حتى يشمل الاختصاصات أي فلا يتعرض لهما حينئذٍ بسبب من الأسباب (إلا بحق الإسلام) فلا يعصم حينئذٍ دمه وماله وفسر هذا الحق في حديث بأنه زنى بعد إحصان أو كفر بعد إيمان أو قتل النفس التي
حرم الله وقضيته أن الزاني والقاتل تباح أموالهما وليس مراداً فكأنه غلب الكافر عليهما، وبه يرد على من قال فيه دليل على كفر تارك الصلاة لأن مفهومه أنهم إذا لم يفعلوا ذلك لم يعصموا مني دماءهم وأموالهم بحق الكفر لأن حق الإسلام ذكر بعد إلا وما بعدها يخالف ما قبلها اهـ. على أنه يلزم عليه كفر تارك الزكاة وهو ضعيف جداً وأيضاً فلا يحتاج لهذا التكلف لو سلمت صحته لما في حديث مسلم من التصريح بكفر تارك الصلاة لكن حمله الجمهور على المستحل ثم الحكم عليهم بما ذكر إنما هو باعتبار الظاهر وأما باعتبار البواطن والسرائر فأمرهم ليس إلى الخلق إذ (حسابهم) أي حساب بواطنهم وسرائرهم (على الله) إذ هو المطلع وحده على ما فيها من إيمان وكفر ونفاق وغير ذلك فمن أخلص في إيمانه جازاه جزاء المخلصين ومن لا أجري عليه في الدنيا أحكام المسلمين وكان في الآخرة من أسوأ الكافرين. قوله:(رويناه له في صحيحيهما) لكن هذا اللفظ جميعه للبخاري وعند مسلم ما عدا قوله إلا بحق الإسلام وعجيب من المصنف مع شدة تحقيقه وحفظه كيف أوهم أن كلاً من الشيخين خرجه
الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإسْلامُ على خَمْسٍ:
ــ
جميعه كذا في شرح الأربعين لابن حجر ورويا عن أبي هريرة مرفوعاً أمرت أن أقاتل النّاس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وفي رواية حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني الخ وأخرجه مسلم عن جابر بهذا اللفظ وزاد ثم قرأ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وأخرج مسلم من حديث أنس أمرت أن أقاتل المشركين حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا وأن يأكلوا ذبيحتنا فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ثم حديث الباب حديث عظيم مشتمل من قواعد الدين على مهماتها كما ظهر مما تقرر في شرحه ومما يأتي أيضاً، وفيه بيان واضح لأن للإيمان أجزاء وشعباً منها ما هو فرض على كل مكلف في كل حال وهو الأول أو في بعضها وهو الثاني وما هو فرض على بعض الآدميين ولو غير مكلف وهو الثالث والمراد بوجوبها على غير المكلف وجوبها في ماله والمخاطب بإخراجها فوراً وليه وإن منعه الإِمام واستفيد من تلك الثلاثة أنه يلحق بكل واحدة منها في كونه جزءاً وشعبة من الإيمان ما هو في معناه وسكت في الحديث كحديثي أنس وأبي هريرة عن ذكر الصوم والحج مع أنهما مذكوران في حديثي جبريل وابن عمر الآتيين فيحتمل أن هذه الثلاثة الأحاديث كانت قبل فرضهما وحينئذٍ فيستفاد من ذينك الحديثين ضم الصوم والحج إلى ما في هذه الأحاديث فيعطيان حكمه من المقاتلة عليهما والعصمة بفعلهما على أن لك أن تقول إنهما داخلان في قوله في حديث أبي هريرة وبما جئت به فإنه شامل لذينك وغيرهما من جميع ما علم من دينه صلى الله عليه وسلم بالضرورة كما ذكره المصنف حيث قال بعد ذكر الثلاثة المذكورة في حديث الباب لا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به صلى الله عليه وسلم كما في رواية أبي هريرة ويؤمنوا بما جئت به وبه يزول ذلك التكلف ويتضح الأمر. قوله:(بني الإسلام على خمس) الباء في الأصل موضوع للمحسوسات فاستعماله في المعاني مجاز علاقته المشابهة شبه الإسلام ببناء عظيم محكم وأركانه الآتية بقواعد ثابتة
محكمة حاملة لذلك الباء فالتشبيه المضمر
شهَادَةِ أنْ لا إله إلَاّ اللهُ، وأنَّ مُحَمداً رَسُولُ الله، وَإقام الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ"
ــ
في النفس استعارة مكنية وإثبات البناء له استعارة تخييلية وقال الكازروني فيه استعارة تمثيلية حالة شبهت الإسلام مع أركانه الخمس بحالة خباء أقيمت على خمسة أعمدة وقطبها الذي يدور عليه الأركان هو الشهادة وبقية شعبه بمنزلة الأوتاد فتكون مغايرة لهذه الأركان كمغايرة الخباء للأعمدة وقوله على خمس (أي) دعائم أو أركان أي على خمسة وهي خصاله المذكورة قيل المراد القواعد ولذا لم يلحقه التاء ولو أراد الأركان لألحقها وفيه نظر لأن المعدود إذا حذف يجوز حذف التاء نحو أربعة أشهر وعشراً من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال الحديث فلا دليل في الحذف على أن المراد واحد منهما نعم في رواية لمسلم خمسة وهي صريحة في إرادة الأركان وتقديره وصفاً أصوب من تقديره مضافاً لأن الموصوف إذا علم جاز حذفه بخلاف المضاف إليه ورواية خمس دعائم لا تعين ولا تقتضي أن المحذوف هو المضاف إليه. قوله: (شهادة) بالجر فيه وفيما بعده بدلاً من خمس أو عطف بيان وهو الأحسن ويجوز رفعه خبراً لمبتدأ محذوف أي أحدها أو مبتدأ أو خبره محذوف أي منها وهو أولى لإيثارهم حذفه على حذف المبتدأ لأن الخبر كالفضلة بالنسبة إليه ونصبه مفعولاً لأعني قال الكازروني لكن الرواية على الأول. قوله: (وإقام الصلاة) بحذف التاء من إقام لأن المضاف إليه عوض عنها قاله الزجاجي وقيل هما مصدران. قوله: (وإيتاء الزكاة) أي أهلها فحذف للعلم به ورتبت هذه الثلاثة هكذا في سائر الروايات لأنها وجبت كذلك إذ أول ما وجب الشهادتان ثم الصلاة ثم الزكاة قال بعضهم وفرضها سابق فرض الصوم السابق لفرض الحج اهـ. لكن قال بعض المتأخرين المطلعين على الفقه والحديث لم يتحرر لي وقت فرض الزكاة، أو تقديماً للأفضل فالأفضل والأوكد فالأوكد. قوله:(وحج البيت وصوم رمضان) فيه أن الشرع تعبد النّاس في أموالهم وأبدانهم فلذا كانت العبادة إما بدنية محضة كالصلاة أو مالية محضة كالزكاة أو مركبة منهما كالأخيرين لدخول التكفير بالمال فيهما وفي بعض الروايات تقديم الصيام على الحج وكلاهما
رويناه في "صحيحيهما".
السادس عشر: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ، لادَّعَى رجالٌ
ــ
قد صح عن ابن عمر مرفوعاً فالأظهر أنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصيام فرواه ابن عمر بالوجهين في وقتين كما أشار إليه المصنف في شرح مسلم واستفيد من بناء الإسلام على ما مر مع ما هو معلوم أن البيت لا يثبت بدون دعائمه أن من تركها كلها فهو كافر وكذا من ترك الشهادتين إذ هما الأساس الكلي الحامل لجميع ذلك الباء أو لبقية تلك القواعد كما استفيد من أدلة أخرى بخلاف من ترك غيرهما فإنه إنما يخرج من كمال الإسلام بقدر ما ترك منها لبقاء الباء حينئذٍ ويدخل في الفسق لا في الكفر إلا إن جحد وجوبه وعليه حمل الأكثرون خبر مسلم بين الرجل وبين الشرك ترك الصلاة وخالف أحمد وآخرون فأخذوا بظاهره من كفر تاركها مطلقاً وبالغ إسحاق فقال عليه إجماع أهل العلم وأجرت طائفة ذلك في الأركان الثلاثة وهو رواية عن أحمد وبعض المالكية. قوله: (رويناه في صحيحيهما) فأخرجه البخاري في الإيمان والتفسير رباعياً وأخرجه مسلم في الإيمان والحج خماسياً وفي الجامع الصغير ورواه أحمد والترمذي والنسائي كلهم عن ابن عمر مرفوعاً وهو حديث عظيم أحد قواعد الإسلام وجامع الإسلام إذ فيه معرفة الدين وما يعتمد عليه ويجمع أركانه وكله منصوص عليه وهو داخل في ضمن حديث جبريل الآتي.
قوله: (لو يعطى النَّاس بدعواهم) أي أموال النّاس ودماءهم فالمفعول الثاني محذوف بقرينة الجواب. وقوله: (لادعى رجال) جواب لو "وقوله بدعواهم" أي بمجرد الادعاء من غير تصديق المدعى عليه أو بينة المدعى متعلقة بأعطى فهي مفيدة لانتفاء الجواب في الخارج بسبب انتفاء الأول والرجال ذكور بني آدم أو البالغون منهم فإن قوبل بهم النساء أريد الأول أو الصبيان أريد الثاني ولا يختص ما نحن فيه بهم على كل من هذين وإنما ذكروا لأن ذلك من شأنهم فحسب ويؤيد ذلك رواية لادعى ناس قال الكازروني وإنما أورد صيغة الجمع إعلاماً بإقدام غير واحد من رجالهم على التداعي ونكرها لقصد الإشاعة، والقوم قيل يخص الرجال لقوله تعالى {لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ} فذكرهن دليل ظاهر على
أمْوالَ قَوْمٍ وَدِماءَهُمْ، لَكِنِ البَيِّنَةُ عَلى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلى مَنْ أنْكَرَ"
ــ
أن القوم لم يشملهن وبه صرح زهير في قوله:
وما أدري وسوف إخال أدري
…
أقوم آل حصن أم نساء
وقيل يعم الفريقين إذ هما المراد في نحو {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} ورد بأن دخولهن هنا ليس لغة بل لقرينة نحو التكليف في الآية، وحكمة التعبير برجال ثم قوم بناء على أنه يعمهما أن الغالب في المدعي أن يكون رجلاً والمدعى عليه يكون رجلاً وامرأة فراعى في التغاير بينهما الغالب فيهما وعلى ترادفهما فالمغايرة للتفنن في العبارة، وقدمت الأموال على الدماء ذكراً في هذه الرواية مع أنها أعني الدماء أهم وأعظم خطراً ولذا ورد أنها أول ما يقضي بين النّاس فيه لأن الخصومات في الأموال أكثر إذ أخذها أيسر وامتداد الأيدي إليها أسهل ومن ثم ترى العصاة بالتعدي فيها أضعاف العصاة بالقتل. قوله:(لكن البينة الخ) لكن هنا وإن لم تأت لفظاً على بابها من وقوعها بين نفي وإثبات حتى يصح معنى الاستدراك الذي هو مؤداها جارية عليه تقديراً إذ المعنى لا يعطي النّاس بدعواهم المجردة لكن بالبينة وهي على المدعي واليمين وهي على المنكر والبينة فيعلة من البينونة أو البيان وهي ما تثبت به الدعوى سميت بذلك باعتبار إفادته البيان وباعتبار أنه يغلب على الخصم يسمى حجة والمدعي هو من يذكر أمراً خفياً يخالف الظاهر ولذا جعلت البينة عليه لأنها أقوى من اليمين لينجبر ضعف قوة حجته والمدعى عليه عكسه فصدق بيمينه لقوة جانبه إلا في القسامة فإنه يحلف المدعي خمسين يميناً وينكر فيها المدعى عليه وهي عبارة عن الإيمان التي يقع الابتداء فيها بالمدعي إذا قتل معصوماً في محل اللوث وهو قرينة يغلب على الظن صدق المدعي وكذا يكون اليمين على المدعي فيما إذا أقام شاهداً واحداً فيحلف معه في المال، قيل النكتة بالتعبير بالموصول في الثاني واسم الفاعل في الأول مع إمكان كل منهما في الشقين ما تقرر من أن المدعي هو من يذكر
هو حسن بهذا اللفظ، وبعضه في "الصحيحين".
السابع عشر:
ــ
أمراً خفياً والمدعى عليه من يذكر أمراً ظاهراً ولا شك أن الموصول لاشتراط كون صلته معهودة أظهر من المعرف فأعطى الخفى للخفي والظاهر للظاهر. قوله: (وهو حديث حسن) عبر في موضع آخر بقوله هو صحيح وكلام أحمد وأبي عبيد ظاهر في أنه صحيح عندهما يحتج به رواه بهذا اللفظ الإِمام البيهقي بإسناد حسن وكذا رواه (غيره). وقوله: (وبعضه في الصحيحين) إذ لفظهما كما في الجامع بينهما للحميدي عن ابن عباس لو
يعطى النَّاس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه وكذا رواه أحمد والنسائي كما في الجامع الصغير وفي رواية للصحيحين قال ابن أبي مليكة كتب ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن اليمين على المدعى عليه وقول الأصيلي لا يصح مرفوعاً مردود بالتصريح بالرفع فيه من رواية ابن جريج ورواه أيضاً أبو داود والترمذي قال المصنف وإذا صح رفعه بشهادة البخاري ومسلم وغيرهما لم يضره من وقفه ولم يكن ذلك تعارضاً ولا اضطراباً فإن الراوي قد يعرض له ما يوجب السكوت عن الرفع من نحو نسيان أو اكتفاء بعلم السامع والرافع عدل ثبت فلا يلتفت إلى الوقف إلا في الترجيح عند التعارض كما في الأصول وخرجه الإسماعيلي في صحيحه بلفظ لو يعطى النَّاس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب وأخرج الترمذي بسند فيه من ضعف من جهة حفظه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبته البينة على المدعي واليمين على (المدعى عليه، والدارقطني البينة على المدعي واليمين على) من أنكر إلا في القسامة وفيه ضعف مع أنه مرسل وفي رواية له المدعى عليه أولى باليمين إلا أن تقوم بينة وله عنده طرق متعددة لكنها ضعيفة ثم هذا الحديث من أجل الأحاديث وأرفعها وأقوى الحجج وأنفعها قاعدة عظيمة من قواعد الشريعة المطهرة وأصل من أصول أحكام الإسلام المحررة (و) أعظم مرجع عند الخصام وأكرم مستمسك لقضاة الإسلام وقيل إنه فصل الخطاب الذي أوتيه داود عليه السلام، وعلم من الحديث أنه لا يحكم لأحد بدعواه وإن كان فاضلاً شريفاً في حق من الحقوق وإن كان محتقراً يسيراً حتى يستند المدعي إلى ما يقوي
عن وابصة بن معبد رضي الله عنه أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "جِئْتَ تسألُ عَنِ البرِّ والإثم؟ قال: نعم، فقال:
ــ
دعواه وإلا فالدعاوى متكافئة والأصل براءة الذمم من الحقوق فلا بد من دال على تعلق الحق بالذمة حتى تترجح به الدعوى. قوله: (عن وابصة بن معبد الصحابي) وابصة بموحدة ثم صاد مهملة ومعبد بسكون العين المهملة وفتح الموحدة وفد وابصة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في عشرة رهط من قومه بني أسد بن خزيمة سنة تسع فأسلموا ورجع إلى بلاده ثم نزل الجزيرة وسكن الرقة ودمشق ومات بالرقة ودفن عند منارة جامعها قال المصنف في التهذيب: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث روى عنه ابناه عمر وسالم والشعبي وزياد بن أبي الجعد وغيرهم وكان وابصة كثير البكاء لا يملك دمعه وكان له بالرقة عقب ومن ولده عبد الرحمن بن صخر قاضي الرقة أيام هارون الرشيد اهـ. قوله: (قال جئت الخ) فيه معجزة عظيمة كبرى له صلى الله عليه وسلم حيث خبره بما في نفسه قبل أن يتكلم به وأبرزه في حيز الاستفهام التقريري مبالغة في إيضاح إطلاعه وإحاطته به وفي رواية أحمد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أريد أن لا أدع شيئاً من البر والإثم إلا سألت عنه فقال لي ادن يا وابصة فدنوت حتى مست ركبتي ركبته فقال: يا وابصة أخبرك بما جئت تسأل عنه أو تسألني قلت: يا رسول الله أخبرني قال: جئت تسأل عن البر والإثم قال: فجمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها في صدري ويقول يا وابصة استفت نفسك الحديث وقال السخاوي بعد تخريجه حديث حسن أخرجه أحمد والدارمي في مسنديهما وهو عند الطبراني في الكبير وأخرجه السخاوي من طريق آخر عن وابصة قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال يا وابصة جئت تسألني عن البر والإثم قلت والذي بعثك بالحق إنه للذي جئت
أسألك فقال: البر ما انشرح له صدرك والإثم ما حال في صدرك وإن أفتاك النّاس أخرجه أحمد وللحديث شاهد من حديث واثلة بن الأسقع قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الخيف فقال لي أصحابه: إليك يا واثلة -أي تنح- عن وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعوه فإنما جاء ليسأل قال: فدنوت فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله لتفتينا عن أمر نأخذه عنك وذكر نحو حديث وابصة مطولاً أخرجه أبو يعلى في مسنده والطبراني في
استَفْتِ قَلْبَكَ: البِرُّ: ما اطْمأنَّتْ إليهِ النَّفْسُ واطْمَأنَّ إليهِ القَلْبُ، والإثْمُ: ما حاكَ في النَّفس وترَدَّدَ في الصّدْرِ،
ــ
الكبير وفي سندهما متروك وأخرجه الطبراني من طريق آخر في سنده راو ضعيف عن واثلة قال: قلت يا نبي الله نبئني قال: إن شئت أنبأتك بما جئت تسأل عنه وإن شئت فسل قال: بل نبئني يا رسول الله فإنك أطيب لنفسي قال جئت تسأل عن اليقين والشك وذكره نحوه ولبعضه شاهد عند أحمد وابن حبان من حديث أبي أمامة قال: قال رجل: يا رسول الله ما الإثم قال: إذا حاك في صدرك شيء فدعه وإسناده جيد على شرط مسلم، وعند أحمد عن أبي ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله أخبرني ما يحل لي وما يحرم علي قال البر ما سمنت إليه النفس واطمأن إليه القلب والإثم ما لم تسكن إليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون وسنده أيضاً جيد كقوله شاهد عن أبي هريرة لكن بسند ضعيف وعن عبد الرحمن بن معاوية بن خديج مرسلاً اهـ. قوله: (استفت قلبك) أي اطلب منه الفتوى لأنه أبلغ في سلوك طريق الكمال بعين الوصال إلى مقام القلب واشتقاق الفتوى من الفتى لأنها جواب في حادثة أو إحداث حكم أو تقوية مشكل كذا في المغرب قال الكازروني يعني يلاحظ في الفتوى ما ينبيءعنه الفتى من القوة والحدوث. قوله: (البر ما اطمأنت إليه النفس الخ) أي سكنت فإذا التبس شيء ولم يدر من أي القبيلين هو فليتأمل فيه إن كان من أهل الاجتهاد أو يسأل المجتهد إن كان من أهل التقليد فإن وجد ما تسكن إليه النفس ويطمئن به القلب فليأخذ به وإلا فليدعه والنفس لغة حقيقة الشيء واصطلاحاً لطيفة الجسد تولدت من ازدواج الروح بالبدن واتصالهما معاً قال بعض المحققين الجمع بين القلب وبين النفس للتأكيد لأن طمأنينة القلب من طمأنينة النفس وهذا بمعنى قوله في حديث النواس الآتي البر حسن الخلق لأن حسنه تطمئن النفس إليه والقلب اهـ. قوله: (ما حاك) أي أثر (في النفس) ولم يستقر (وتردد في الصدر) أي القلب فلم ينشرح له والجمع بين هذين تأكيد أيضاً وبه علم ضابط
وإنْ أفْتاكَ النَّاسُ وأفْتَوْكَ"
ــ
الإثم والبر وأن القلب يطمئن للعمل الصالح طمأنينة تبشره بحسن العاقبة ولا يطمئن للإثم بل يورثه نفرة وحزازة لأن الشرع لا يقر عليه وإنما يكون على وجه يشذ أو تأويل محتمل لكن يظهر معياره بما يأتي في حديث النواس من أنه الذي يكره اطلاع النّاس عليه ولم يزل هذا ظاهراً معروفاً ومن ثم قال زهير:
الستر دون الفاحشات ولا
…
يلقاك دون الخير من ستر
قوله: (وإن أفتاك النّاس الخ) هذا غاية لمقدر دل عليه ما قبله أي التزم العمل بما في قلبك وإن أفتاك النّاس أي علماؤهم كما في رواية وإن أفتاك المفتون (وأفتوك) بخلافه لأنهم إنما يقولون على ظواهر الأمور دون بواطنها وذلك كأن ترى مالاً لرجل من حلال وحرام فلا تأخذ منه شيئاً احتياطاً وإن أفتاك المفتي بحله مخافة أن تأكل الحرام ولأن الفتوى غير التقوى أو المراد قد أعطيتك علامة الإثم فاعتبر بها في اجتنابه ولا تقبل ممن أفتاك بمقارفته ومحل ذلك إن كان المستنكر ممن شرح الله صدره
وأفتاه غيره بمجرد ظن أو ميل إلى هوى دون دليل شرعي وإلا لزمه اتباعه وإن لم ينشرح له صدره ومن ثم كره صلى الله عليه وسلم امتناع قوم أمرهم بالفطر في السفر إذ ما ورد به النص ليس للمؤمن فيه إلا إطاعة الله ورسوله فليقبله بانشراح صدره وأما ما لا نص فيه منه صلى الله عليه وسلم ولا ممن يعبأ بقوله فإذا وقع منه شيء في قلب شرح بنور المعرفة واليقين مع تردد ولم يجد من يفتي فيه إلا من يخبر عن رأيه وهو غير أهل لذلك رجع إلى ما أفتاه به قلبه وإن أفتاه هذا وأمثاله بخلافه قال بعض المحققين والظاهر أن هذا ليس من الإلهام المختلف في حجيته لأنه شيء يقع في القلب من غير قرينة ولا استعداد فينثلج له الصدر وأما ما هنا فهو تردد منشؤه قرائن خفية أو ظاهرة لأن الفرض أن الأمر اشتبه وأن القلب مال إلى أنه إثم فليرجع إليه فيه كما دلت عليه النصوص النبوية وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم ووحد الفعل الأول لإسناده إلى ظاهر وجمع الثاني لإسناده إلى ضمير
حديث حسن رويناه في مسندَي أحمد والدارمي وغيرِهما.
ــ
جمع قيل بين هذا الحديث وما مر من حديث الحلال بين تعارض لاقتضاء هذا أن الشبهة إثم لأنه يتردد في النفس ومر أن ذلك يقتضي أنه غير إثم، وجوابه حمل هذا على ما تردد في الصدر لقوة الشبه ويكون من باب ترك أصل الحل لظاهر قوي وذلك على ما ضعفت فيه الشبهة فيبني على أصل الحل ويجتنب محل الشبهة ورعاً وفي جوابه صلى الله عليه وسلم لوابصة بهذا إشارة إلى متانة فهمه وقوة ذكائه وتنوير قلبه لأنه صلى الله عليه وسلم أحاله على الإدراك القلبي وعلم أنه يدرك ذاك من نفسه إذ لا يدرك ذلك إلا من كان كذلك وأما الغليظ الطبع الضعيف الإدراك فلا يجاب بذلك لأنه لا يتحصل منه على شيء وإنما يفصل له ما يحتاج إليه من الأوامر والنواهي الشرعية وهذا من جميل عادته صلى الله عليه وسلم مع أصحابه لأنه كان يخاطبهم على قدر عقولهم وقالت عائشة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل النّاس منازلهم. قوله:(هذا حديث حسن) وقال في بعض نسخ الأربعين له حديث صحيح. قوله: (رويناه في مسندي أحمد والدارمي) زاد في الأربعين بإسناد جيد وفي نسخة بإسناد حسن قال بعض شراحه فإن قلت ما حكمة قول المصنف أولاً حديث صحيح وقوله هنا بإسناد جيد قلت حكمته أنه لا يلزم من كون الحديث في المسندين المذكورين أن يكون صحيحاً فبين أولاً أنه صحيح وثانياً أن سبب صحته أن إسناد هذين الإمامين الذي أخرجاه به صحيحاً فبين أولاً حكمة أخرى حديثية وهي ما صرحوا به من أنه لا تلازم بين الإسناد والمتن فقد يصح السند أو يحسن لاستجماع شروطه من الاتصال والعدالة والضبط دون المتن لشذوذ فيه أو علة فنص المصنف أولاً على صحة المتن بقوله هذا حديث صحيح (وثانياً على صحة السند بقوله بإسناد جيد فإن قلت صرحوا بأن قولهم هذا حديث صحيح) مرادهم به اتصال سنده مع سائر الأوصاف في الظاهر لا قطعاً اهـ. فعليه لم يكتف المصنف بقوله أولاً هذا حديث صحيح عن قوله ثانياً بإسناد جيد، قلت وإن أرادوا ذلك إلا أنه لا يلزم منه الحكم على كل فرد من أسانيد ذلك الحديث بالصحة ومع ذلك هو أقوى من تقييد الصحة بالإسناد كما في قول المصنف بإسناد جيد لأنه حينئذٍ لا يبقى صريحاً
وفي "صحيح مسلم" عن النَّوَّاس بن سمعانَ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
ــ
في صحة المتن ولا ضعفه فعلم أن الحكم بالصحة والحسن للإسناد أحط رتبة عن الحكم بأحدهما للحديث ومع ذلك لو أطلق الحكم بأحدهما للإسناد من عرف منه بإطراد أنه لا يفرق بين الحكم بأحدهما له وللمتن كان ذلك حكماً للمتن بأحدهما أيضاً واعترض تصحيح المصنف أو تحسينه لحديث أحمد بأنه أخرجه من طريقين
إحداهما فيها علتان ضعف وانقطاع وأخرى فيها مجهول وجوابه أن أحمد أخرجه من طريق أخرى عن أبي أمامة وسنده على شرط مسلم وعن أبي ثعلبة الخشني وسنده جيد أيضاً وأخرجه الطبراني عن واثلة بن الأسقع وسنده ضعيف كما تقدم بيان ذلك كله والحاصل أنه صححه الشيخ أو حسنه لتعدد طرقه الجابر لما ذكر في إسناد الإِمام أحمد والله أعلم وكذا حديث وابصة أخرجه أبو يعلى في مسنده. قوله: (وفي صحيح مسلم) قال السخاوي بعد تخريجه ورواه الحاكم في مدركه ووهم في استدراكه فقد أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة من صحيحه ورواه أبو عوانة في مستخرجه والترمذي وقال حسن صحيح ورواه البخاري في كتاب بر الوالدين والدارمي وأبو يعلى في مسنديهما من طريق أخرى ومدارها على معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أن النواس ابن سمعان قال فذكره ورواه أحمد والدارمي أيضاً من طريق صفوان بن عمرو عن يحيى بن جابر قال: سمعت النواس فذكره إلا أنه قال وكرهت أن يعلمه النّاس قال السخاوي ورواية يحيى عنه منقطعة فيما جزم به بعض الحفاظ مع ما وقع في روايتنا من التصريح عنه بالسماع وجزم به بعض الحفاظ لكونه من التابعين وكأن حجته في الانقطاع ما رواه الطبراني في معجمه الكبير عن صفوان بن عمرو عن يحيى عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن النواس فرجع الحديث إلى الإسناد الأول مع سقوط راو من هذه الطريق وفيه نظر لا سيما ولم يعرج شيخنا ولا شيخه على القول بالانقطاع في أماليهما نعم لم يتعقب شيخنا القائل بذلك في ترجمة يحيى من مختصر التهذيب اهـ. قوله (عن النواس بن سمعان) النواس بفتح النون وتشديد الواو وسمعان بكسر المهملة أوله وفتحها وقوله رضي الله عنه كان ينبغي له أن يقول رضي الله عنهما لأن
"البرُّ: حُسْنُ الخُلُقِ،
ــ
لأبيه وفادة تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أخت النواس وهي المتعوذة روي له سبعة عشر حديثاً اقتصر مسلم منها على ثلاثة وروى له أصحاب السنن الأربعة وهو كلابي ووقع في مسلم أنه أنصاري وحمل على أنه حليف لهم قال: أقمت مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة سنة ما يمنعني من الهجرة أي العود إلى الوطن إلا المسألة أي التي كانت ترد عليه من بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم فإقامته تلك السنة كانت مع عزمه على العود إلى وطنه لكنه أحب أن يتفقه في الدين تلك المدة بسماع تلك الأسئلة التي ترد عليه صلى الله عليه وسلم وأجوبتها أو ما منعه من ذلك إلا محبة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن أمور الدين لأنه كان يسمح للطارئين دون المهاجرين وإنما كان كذلك لأن المهاجرين والقاطنين بالمدينة لما أكثروا الأسئلة عليه صلى الله عليه وسلم ونهوا عن ذلك فما كانوا يسألون عن شيء ولذا قال النواس كان أحدنا إذا هاجر لم يسأل رسول الله عن شيء وقد تيمم هذا المعنى أنس بن مالك حيث قال نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل العاقل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع أي أنهم يحتملون في السؤال ويعذرون ويستفيد المهاجرون الجواب قال القرطبي في المفهم حديث النواس أي قوله أقمت الخ يدل أن الهجرة ما كانت واجبة على كل من أسلم وتقدم فيه الخلاف. وقول غيره وفيه دلالة على أن الهجرة لم تكن واجبة على غير أهل مكة اهـ. نظر فيه بأنه إن أريد نفي الوجوب عن غير أهل مكة قبل الفتح لم يكن في عزمه الرجوع إلى وطنه دلالة على ذلك لاحتمال أنه بعد الفتح وعلى التنزل وأنه كان قبله فيحتمل أنه إنما مكن من العود لوطنه لأنه له ثم عشيرة تحميه ومن له عشيرة كذلك لا تلزمه
الهجرة أو بعده لم تكن فيه خصوصية لغير أهل مكة بل أهلها ارتفع الوجوب عنهم بعد الفتح اهـ. قوله: (البر حسن الخلق) أي معظمه فالحصر فيه مجازي نظيره في الدين النصيحة وضده الفجور والإثم ولذا قابله به وهو بهذا المعنى عبارة عما اقتضاه الشرع وجوباً أو ندباً كما أن الإثم عبارة عما نهى الشرع عنه، وحسن الخلق أي التخلق والمراد به هنا المعروف
والإثْمُ ما حاكَ في نفْسِكَ وكرِهْتَ أن يطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ".
الثامن عشر: عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ــ
وهو طلاقة الوجه وكف الأذى وبذل الندى وأن يحب للناس ما يحب لنفسه وهذا يرجع إلى تعبير بعضهم بأن الإنصاف في المعاملة والرفق في المجادلة والعدل في الأحكام والبذل والإحسان في اليسر والإيثار في العسر وغير ذلك من الصفات الحميدة والبر له إطلاقات فيكون بمعنى الطاعة بسائر أنواعها ومنه قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} وهذه الأمور كلها مجامع حسن الخلق وقد أشار تعالى إليها في آيات نحو {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} إلى قوله {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} إلى {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} إلى {هُمُ الْوَارِثُونَ} . {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} إلى آخر السورة، فمن أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع ما فيها من الأوصاف علامة على حسن الخلق وفقده علامة على سوء الخلق ووجود البعض علامة على أن فيه من الحسن بحسب ما عنده ومن السوء بحسب ما فقده فليعتن بتحصيله ليفوز بسعادة الدارين وإذا قرن البر بالتقوى كما في قوله تعالى:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} فسر البر بمعاملة الخلق بالإحسان والتقوى بمعاملة الحق أو البر بفعل الواجبات والتقوى باجتناب المحرمات. قوله: (والإثم ما حاك الخ) ذكر للإثم أمرين أحدهما ما حاك في النفس أي الشيء الذي يؤثر نفرة وحزازة في القلب يقال حاك الشيء في قلبي إذا رسخ فيه وثبت قال ثم الكلام الحائك في القلب هو الراسخ فيه، وبمعنى هذا الحديث قوله في الحديث الآخر الإثم حزاز القلوب بتشديد الزاي أي الإثم ما رسخ وأثر في النفس اضطراباً وقلقاً ونفوراً وكراهة لعدم طمأنينتها ومن ثم لم يرض بالاطلاع عليه وهي الأمر الثاني كما قال صلى الله عليه وسلم:"كرهت أن يطلع عليه النّاس" أي وجوههم وأماثلهم الذين يستحي منهم والمراد هنا الكراهة العرفية الجازمة فخرجت العادية كمن يكره أن يرى آكلاً لحياء أو بخل وغير الجازمة كمن يكره أن يركب بين مشاة لتواضع أو نحوه فإنه لو رؤي كذلك لم يبال وقد استفيد من هذا السياق أن للإثم علامتين وسببهما أن للنفس
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
شعوراً من أصل الفطرة بما تحمد عاقبته ومآلاً ولكن يغلب عليها الشهوة حتى توجب لها الإقدام على ما يضرها كما غلبت على السارق والزاني مثلاً فأوجبت لهما الحد فإذا عرفت ذلك اتضح لك وجه كون التأثير في النفس علامة للإثم لأنه لا يصدر إلا لشعورها بسوء عاقبته ووجه كون كراهة اطلاع النّاس يدل على أنه إثم أن النفس بطبعها تحب اطلاع النّاس على خيرها وبرها وتكره ضد ذلك ومن ثم أهلك الرياء أكثر النّاس فبكراهتها اطلاع النّاس على فعلها يعلم أنه شر وإثم وهل كل من هاتين العلامتين مستقل بكونه علامة على الإثم من غير احتياج إلى الأخرى أو غير مستقل بل هو جزء علامة والعلامة الحقيقية مركبة منهما كل محتمل، قضية {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} الأول وقضية العطف بواو الجمع هنا الثاني وعليه فالفعل إن وجد فيه الأمران كالرياء والربا فإثم قطعاً وإن انتفيا عنه كالعباده ونحو الأكل المباح فبر قطعاً وإن وجد
فيه أحدهما احتمل البر والإثم فيكون من المشتبه والذي يتجه أنهما متلازمان لأن كراهة النفوس تستلزم كراهة اطلاع النّاس وعكسه ثم عموم الحديث مخصوص بما عدا خطور المعصية والهم بها إذ لا إثم فيهما وإن كانت العلامتان للإثم فيه لحديث أن الله تجاوز لأمتي عما وسوست به نفوسها ما لم تعمل به أو تتكلم بل ربما يثاب من هم بزنى مثلاً وحاك في نفسه ونفرت منه لضرب من التقوى إذ هو حينئذٍ من باب قوله تعالى في الحديث القدسي اكتبوها له حسنة إنما تركها من أجلي، أما العزم فإنه إثم لوجود العلامتين فيه ولا مخصص يخرجه من عموم الخبر بل حديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار قيل هذا القاتل فما بال المقتول قال إنه كان حريصاً على قتل صاحبه ظاهر في ذلك إذ ذلك الحرص المعلل الدخول به وحده مع قطع النظر عن الفعل المقترن به عزم مجرد، ثم الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم بل من أوجزها إذ البر كلمة جامعة لجميع أفعال الخير وخصال المعروفة والإثم كلمة جامعة لجميع أفعال الشر والقبائح صغيرها وكبيرها كما علم مما تقرر فيهما ولهذا السبب قابل صلى الله عليه وسلم بينهما وجعلهما ضدين ولما كان الحديثان في معنى واحد عدهما الشيخ حديثاً واحداً.
"إن اللهَ تَعالى كَتَبَ الإحْسانَ على كُلِّ شيءٍ، فإذَا قتَلتُم فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُم فأحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أحَدُكُمْ شَفرَتَهْ، ولْيُرِحْ ذَبيحَتَهُ"
ــ
قوله: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء) أي أوجب وقدر على الإنسان أي إيقاعه على مقتضى الشرع والإحسان يطلق على الإنعام وعلى إتقان الفعل أو طلب منه ذلك واعلم أن الإحسان لب الإيمان والإسلام بل خلاصتهما وليس شعبة من شعب الإيمان أو ركن من أركان الإسلام إلا وفي قرن به إحسان لائق به بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء وقد بين القصري في كتابه شعب الإيمان في كل شعبة من شعب الإيمان الإحسان اللائق بها رزقنا الله القيام بحقوقه وعصمنا من عقوقه. قوله: (القتلة) بكسر القاف كما قال المصنف أي هيئة القتل وحالته أي فأحسنوا القتل في كل قتيل حداً وقصاصاً. قوله: (وإذا ذبحتم) أي ما يحل ذبحه من البهائم (فأحسنوا الذبحة) بكسر الذال المعجمة الهيئة والحالة وبالفتح المصدر وفي رواية (الذبح) وكذا هو في أكثر نسخ مسلم وهو المصدر لا غير وإحسان القتلة بأن يكون بآلة غير كالة مع الإسراع وعدم قصد التعذيب وإحسان الذبح بذلك وبأن يرفق بالبهيمة فلا يصرعها بعنف وغلظة ولا يجرها إلى موضع الذبح جراً عنيفاً وبإحداد الآلة وتوجيهها إلى القبلة والتسمية ونية التقرب بذبحها إلى الله تعالى وقطع الحلقوم والمريء والودجين والاعتراف إلى الله تعالى بالمنة والشكر له على هذه النعمة الجسيمة وهي إحلاله وتسخيره تعالى لنا ما لو شاء لحرمه أو لسلطه علينا. قوله: (وليحد) بضم التحتية وكسر المهملة وتشديد الدال يقال أحد السكين وحدها واستحدها بمعنى والشفرة العريض من السكين والإحداد واجب إن كانت الآلة كالة بحيث يحصل بها للحيوان تعذيب وإلا فندب وينبغي حال حدها أن يواريها عنها لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك. وقوله: (وليرح ذبيحته) أي ليوصل إليها الراحة بأن يعجل إمرار الشفرة ولا يسلخ قبل البرودة ويقطع من الحلقوم لا من القفا وعطف هذه الجملة على ما قبله لبيان فائدته إذ الذبح بآلة كالة يعذب
رويناه في "صحيح مسلم"، والقِتْلة والذبحة، بكسر أولهما.
التاسع عشر: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَومِ الَاخِرِ فلْيقُلْ خَيراً أو ليَصْمُتْ، ومَنْ كانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوم الآخرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ، ومَنْ كانَ يُؤمنُ باللهِ واليَوم الآخرِ فلْيُكْرِمْ ضَيفَهُ"
ــ
الذبيحة فراحتها أن تذبح بآلة ماضية موجبة والذبيحة فعيلة بمعنى مفعولة وتاؤها للنقل من الوصفية
إلى الاسمية لأن العرب إذا وصفت بفعيل مؤنثاً قالت امرأة قتيل وعين كحيل وشاة ذبيح فإذا حذفوا الموصوف أثبتوا التاء وقالوا قتيلة بني فلان وذبيحتهم لعدم دال على التأنيث حينئذٍ ويعرب حينئذٍ اسماً مفعولاً به أو نحوه لا صفة فاتضح أن التاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية. قوله: (رويناه في صحيح مسلم) وكذا رواه أحمد وأصحاب السنن الأربعة كلهم عن شداد كما في الجامع الصغير، وهو قاعدة من قواعد الدين العامة فهو متضمن لجميعه لأن الإحسان في الفعل هو إيقاعه على مقتضى الشرع كما مر ثم ما يصدر عن الشخص من الأفعال إما أن يتعلق بمعاشه وهو سياسة نفسه وأهله وإخوانه وملكه وباقي النّاس أو بمعاده وهو الإيمان الذي هو عمل القلب والإسلام الذي هو عمل الجوارح فمن أحسن في هذا كله وأتى به على وفق السداد والشرع فقد فاز بكل خير وسلم من كل ضير ولكن دون ذلك خرط القتاد وبدل المهج وتقطع الأكباد قال الخطابي لما كان العلماء ورثة الأنبياء ومما ورثوه منهم تعليم النّاس الإحسان وكيفيته والأمر به في كل شيء ألهم الله الأشياء الاستغفار للعلماء مكافأة لهم على ذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف البحر". قوله: (التاسع عشر) وسبق السلام على تخريجه في باب الثناء على من أكرم ضيفه وتقدم فيه الكلام على قوله فليكرم ضيفه وفي باب حفظ اللسان على قوله قليقل خيراً أو ليصمت. قوله: (ومن كان يؤمن بالله) أي إيماناً كاملاً وتخصيص اليوم الآخر بالذكر دون
رويناه في "صحيحيهما".
العشرون: عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رجلاً
ــ
شيء من مكملات الإيمان بالله تعالى لأن الخير والثواب والعقاب كلها راجعة إلى الإيمان به قال الكازروني وقوله فليكرم جاره بأن يعينه على ما يحتاج إليه ويدفع عنه السوء ويخصه بالعطاء لئلا يستحق الوعيد ففيه تحريض لحق الجار وبره وحث على حفظ الجوار قال صلى الله عليه وسلم: ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه. قوله: (رويناه في صحيحيهما) قال بعض المحققين وهو من القواعد العظيمة لأنه بين فيه جميع أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلاً فهو بهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه ثلث الإسلام لأن العمل إما بالقلب أو بالجوارح أو باللسان وهذا ظاهر وإن لم أر من صرح به ثم رأيت بعضهم قال إن جميع آداب الخير تتفرع منه وأشار فيه إلى سائر خصال البر والصلة والإحسان لأن آكدها رعاية حق الجوار والضيف وبهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه إنه نصف الإسلام لأن الأحكام إما أن تتعلق (بالحق أو) بالخلق وهذا أفاد الثاني لأن وصلة الخلق تستلزم رعاية حقوقهم ومن ثم كان المقصود من الأمرين الآخرين هو المقصود في حديث لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه الخ من الألفة والاجتماع وعدم التفرق والانقطاع لأن النّاس جيران بعضهم لبعض فإذا أكرم كل منهم جاره ائتلفت القلوب واتفقت الكلمة وقويت الشوكة في الدين واندحضت جهالات الملحدين وإذا أهان كل جاره انعكس الحال ووقعوا في هوة الاختلاف والضلال وكذا غالب النّاس إما ضيف أو مضيف فإذا أكرم بعض بعضاً وجدوا ما ذكر من الصلاح والائتلاف وإذا أهان بعضهم بعضاً وجد الفساد والخلاف اهـ.
قوله: (أن رجلاً) يحتمل أنه أبو الدرداء فقد خرج الطبراني عنه بإسنادين أحدهما صحيح كما في الترغيب قلت: يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال: لا تغضب ولك الجنة أو حارثة ابن قدامة عم الأحنف بن قيس
قال للنبي صلى الله عليه وسلم أوصني، قال: لا تَغْضَبْ
ــ
فقد أخرج أحمد عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل علي لعلي أعقله قال: لا تغضب فأعدت عليه مراراً كل ذلك يقول: لا تغضب لكن نازغ في هذا يحيى القطان بأنهم يقولون حارثة تابعي لاصحابي، أو جارية بن قدامة بالجيم وعليه اقتصر السيوطي في التوشيح وأخرج أبو يعلى عن جارية بن قدامة قال: أخبرني عم أبي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكر نحو حديث حارثة ورواته رواة الصحيح كما في الترغيب وقال الكازروني هو ابن عمر أو حارثة بن قدامة أو سفيان بن عبد الله وتقدم في باب ما يقول إذا غضب حكايته قول بأنه معاذ بن جبل. قوله: (أوصني) قال الزهري الإيصاء والوصية مشتقة من وصيت الشيء بكذا إذا وصلته إليه فالمعنى صلني إلى ما ينفعني ديناً ودنيا ولما علم صلى الله عليه وسلم من هذا الرجل كثرة الغضب وهو طبيب في الدين يعالج كل واحد بمرضه المخصوص خصه بهذه الوصية فقال: لا تغضب زاد أحمد وابن حبان قال الرجل: تفكرت فيما قال: فإذا الغضب يجمع الشر كله قال الخطابي: معنى لا تغضب اجتنب أسباب الغضب ولا تتعرض لما يجلبه أما نفسه فلا يتأتى البعد عنه لأنه أمر جبلي وقيل المنهي عنه الغضب المكتسب وقيل المعنى لا تفعل ما يأمرك به الغضب وقيل هو أمر بالتواضع لأن الغضب إنما ينشأ عن الكبر لكونه يقع عند مخالفة ما يريده فيحمله الكبر على الغضب قال ابن التين جمعت هذه الوصية خير الدنيا والآخرة وقال غيره يترتب على الغضب تغير الظاهر والباطن من القلب واللسان والجوارح ديناً ودنيا من تغير اللون والرعدة في الأطراف واستحالة الخلق وخروج الأفعال على غير ترتيب وإضمار الحقد والسوء على اختلاف أنواعه وانطلاق اللسان بالشتم والفحش واليد بالضرب والقتل وربما مزق ثوبه أو لطم خده أو كسر الآنية أو ضرب من ليس له ذنب قال الطوفي وأقوى الأشياء في دفع الغضب استحضار أن لا فاعل إلا الله وأنه لو شاء لم يكن ذلك الغير منه فإذا غضب والحالة هذه كان غضبه على ربه قال بعض المحققين أقوى أسباب رفعه ودفعه التوحيد الحقيقي
فردَّد مراراً، قال: لا تَغْضَبْ" رويناه في البخاري.
الحادي والعشرون:
ــ
وهو اعتقادك أن لا فاعل في الوجود إلا الله وأن الخلق آلات ووسائط كبرى وهي من له عقل واختيار كالإنسان وصغرى وهي من انتفيا عنه كالعصا المضروب بها ووسطى وهي من فيها الثاني فقط كالدواب فمن توجه إليه مكروه من غيره وشهد ذلك التوحيد الحقيقي بقلبه اندفع غضبه لأنه إما على الخالق وهو جرأة تنافي العبودية أو على المخلوق وهو إشراك ينافي التوحيد اهـ. ثم التعوذ من الشيطان واستحضار ما جاء في كظم الغيظ من الفضل. قوله: (فردد) أي كرر ذلك الرجل قوله أوصني (مراراً) تعريضاً بأنه لم يقع بذلك وطلب وصية أبلغ وأنفع فلم يزده صلى الله عليه وسلم لعلمه بأنه لا وصية أنفع له من ذلك قال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر وقيل لابن المبارك: اجمع لنا حسن الخلق في كلمة قال: ترك الغضب وأخرج محمد بن نصر المروزي أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل قال: حسن الخلق ثم أتاه عن يمينه فقال له كذلك ثم عن شماله كذلك ثم عن خلفه كذلك فالتفت إليه فقال ما
لك لا تفقه؟ حسن الخلق هو ألا تغضب إن استطعت وهو مرسل. قوله: (رويناه في صحيح البخاري) أي من حديث أبي هريرة ورواه أحمد بسند رواته محتج بهم في الصحيح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزاد بعد قوله لا تغضب قال: فذكرت حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال: فإذا الغضب يجمع الشر كله ورواه أحمد واللفظ له وابن حبان في صحيحه عن جارية بن قدامة أن رجلاً قال: يا رسول الله قل لي قولاً وأقلل لعلي أعيه قال صلى الله عليه وسلم: لا تغضب فأعاد عليه مراراً كل ذلك يقول: لا تغضب رواه أحمد واللفظ له وابن حبان في صحيحه ورواه الطبراني في الكبير والأوسط إلا أنه قال عن الأحنف بن قيس عن عمه وعمه جارية بن قدامة أنه قال: يا رسول الله قل لي قولاً ينفعني الله به فذكره، وأبو يعلى إلا أنه قال عن جارية بن قدامة أخبرني عم أبي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم فذكره بنحوه ورواته رواة الصحيح كذا في الترغيب للمنذري وهذا الحديث من بدائع جوامع كلمه التي خص بها صلى الله عليه وسلم،
عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله عز وجل فرَضَ فرائِضَ فَلا تُضَيِّعوهَا، وحَدَّ حُدُوداً
ــ
وما ورد أن سليمان وعيسى عليهما السلام قالا ذلك لم يصح فثبت أنه لا مشارك لنبينا صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة المتضمنة لمجامع الخير والمانعة عن قبائح الشر كما تقدمت الإشارة إلى ذلك وما في الغضب من القبائح وما في تركه من أنواع الخير ففي هذه اللفظة النبوية أي لا تغضب من بدائع الحكم وفوائد استجلاب المصالح ودرء المفاسد ما لا يمكن عده ولا ينتهي حده قال بعض المحققين هذا الحديث يصح أن يقال أنه ربع الدين لأن أعمال الإنسان إما خير أو شر والشر إما أن ينشأ عن شهوة كالزنى أو غضب كالقتل والقذف والطلاق والحقد على المسلم وحسده ونحو ذلك وهذا الحديث متضمن لنفي الغضب فيتضمن نفي نصف الشر وهو ربع المجموع ويدل على انحصار سبب الشر في الشهوة والغضب أن الملائكة لما تجردوا عنها تجردوا عن سائر الشرور جملة وتفصيلاً ثم الغضب إنما يذم حيث لم يكن الله تعالى وإلا فهو محمود ومن ثم كان صلى الله عليه وسلم يغضب إذا انتهكت حرمات الله تعالى فحينئذٍ لا يقوم لغضبه شيء حتى ينتصر للحق. قوله: (عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه بمعجمة مضمومة فمفتوحة فنون نسبة إلى خبشينة قبيلة معروفة من قضاعة وفي اسمه واسم أبيه غير ذلك نحو أربعين قولاً وهو ممن بايع تحت الشجرة وضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهمه يوم خيبر وأرسله إلى قومه وأسلموا نزل الشأم ومات أول إمرة معاوية وقيل في إمرة يزيد وقيل امرة عبد الملك سنة خمس وتسعين روى له الجماعة. قوله: (فرض فرائض) أي أوجبها وحتم العمل بها (فلا تضيعوها) بتركها وعدم المحافظة على شروطها وآدابها وقد تستنبط منه الدلالة لمذهبنا أن الفرض والواجب مترادفان لأن النهي عن التضييع لا يختص بالفرض عند غيرنا وهو ما ثبت بدليل قطعي بل يعم الواجب عنده أيضاً وهو ما ثبت بدليل ظني فتفريع فلا تضيعوها على ما قبله ظاهر في شموله للقسمين. قوله: (وحد حدوداً) أي فصلها وبينها والحد لغة المنع والشيء الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر قال في الكشاف
فلا تَعْتَدُوها، وحَرَّمَ أشياءَ فَلا تَنْتهكُوهَا، وسكَتَ عن أشياءَ رَحْمَةً لكُمْ غَيرَ نِسيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عَنْها"
ــ
حدود الله أحكامه وأوامره ونواهيه (فلا تعتدوها) أي فلا تتجاوزوا عنها بتركها كذا قال الكازروني واعترض بأن حمل الحد على ما ذكر يصير الكلام مكرراً مع ما قبله وما بعده إذ الفرائض المفروضة حدود محدودة بهذا المعنى لأنها مقدرة محصورة يجب
الوقوف فيها عند تقدير الشرع وكذلك المحرمات فمعنى قوله فلا تعتدوها على هذا أي لا تزيدوا عليها عما أمر به الشرع فالأولى أن تحمل الحدود هنا على العقوبة المقدرة من الشارع تزجر عن المعصية أي جعل لكم حواجز وزواجر مقدرة أي تحجزكم وتزجركم عما لا يرضاه قال ويصح حمل الحدود هنا على الوقوف عند الأوامر والنواهي ومنه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} الآية وآيات أخر ويكون ما قبله وما بعده من ذكر العام بعد الخاص وعكسه فمعنى لا تعتدوها لا تتجاوزوها لمخالفة المأمور وارتكاب المحظور. قوله: (فلا تنتهكوها) أي لا تتناولوها ولا تقربوها قال الجوهري انتهاك الحرمة تناولها بما لا يحل. قوله: (وسكت عن أشياء) أي لم يحكم فيها بوجوب أو حل أو حرمة. وقوله: (رحمة) مفعول له. وقوله: (غير نسيان) أي لأحكامها {لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} . وقوله: (فلا تبحثوا عنها) أي لا تسألوا عن حالها لأن السؤال عن ذلك ربما يفضي إلى التكليف الشاق من الحرمة أو الإيجاب بل يحكم بالبراءة الأصلية والحل في المنافع والحرمة في المضار والبحث لغة التفتيش ومعنى سكوته تعالى عنها أنه لم ينزل حكمها على نبيه لا أنه سكت عنها حقيقة لاستحالة ذلك عليه إذ الكلام من صفاته النفسية القديمة الذاتية التي لا ينفك تعالى عنها ويفهم من سكوته تعالى رحمة لنا مع النهي عن البحث عنها أنه لا حكم قبل ورود الشرع وهو الأصح وقيل الأصل الحظر ونسب للشافعي وأكثر المتكلمين ولعله قول مرجوح للشافعي وإلا فالأصح ما مر وأن الأصل في الأشياء بعد ورود الشرع الإباحة وحكى بعضهم الإجماع على ذلك وغلطوا من سوى بين المسألتين وجعل حكمهما
رويناه في "سنن الدارقطني" بإسناد حسن.
ــ
واحداً ومعنى كون السكوت رحمة لنا أنها لم تحرم فيعاقب على فعلها ولم تجب فيعاقب على تركها بل عفو لا حرج في فعلها ولا في تركها. قوله: (رويناه في سنن الدارقطني بإسناد حسن) فرواه من حديث إسحاق الأزرق عن داود بن أبي هند عن مكحول عن أبي ثعلبة وأخرجه ابن أبي شيبة والطبراني في معجمه الكبير وأبو نعيم في الحلية والحاكم في المستدرك بنحوه ومداره عندهم على داود بهذا الإسناد ورجال سنده كلهم ثقات أخرج لهم مسلم إلا أن مكحولاً كثير الإرسال أرسل عن جماعة من الصحابة وقال الحافظ أبو سعيد العلائي في المراسيل له أنه معاصر لأبي ثعلبة بالسن والبلد فيحتمل أن يكون لقيه وأن يكون أرسل عنه قال السخاوي وبالثاني جزم أبو سهل الدمشقي وأبو نعيم وجماعة وحكاه المزي ممرضاً وأيده الحافظ ابن حجر بقول أبي حاتم الرازي أنه لم يسمع من واثلة ولم ير أبا أمامة وقال: إذا لم يصح له سماع منهما مع تأخر وفاتهما ومعاصرته لهما يبعد صحة سماعه من أبي ثعلبة أيضاً وإن كان عصريه اهـ. ولكن قد جزم غير واحد بسماعه من واثلة منهم البخاري والترمذي وابن يونس وليس ذلك بلازم ويؤيده أنه معاصر له بالسن والبلد كما تقدم فاحتمال سماعه منه أقرب من عدمه وكونه مدلساً لا ينافي حسن حديثه ولا صحته كما هو مقرر في محله وقال ابن معين إنه سمع من أبي ثعلبة أي والقاعدة الأصولية أن الإثبات مقدم على النفي ترجح ما قاله ابن معين فلذا اعتمد الشيخ تحسين الحديث وسبقه إليه السمعاني في أماليه ووافقه عليه الحافظ العراقي والحافظ ابن حجر بل صححه ابن الصلاح ويحتمل أن تحسين الشيخ له لما له من الشواهد
بعضها ضعيف وبعضها منقطع فإذا انضم بعضها إلى بعض قويت فيكون حسناً لغيره لا لذاته وأن تصحيح ابن الصلاح أخذه من قول البزار في رواية إسنادها صالح والحاكم فيها أنها صحيحة الإسناد، وكذا أخرجه الطبراني كلهم عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه فهو عفو فاقبلوا من الله عافيته فإن الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
لم يكن لينسى شيئاً ثم تلا هذه الآية {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} قال السخاوي رجاله ثقات ثم ذكر ما تقدم عن البزار والحاكم وأخرجه الدارقطني في سننه من طريق أخرى عن أبي الدرداء ولفظه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيعوها وحدَّ لكم حدوداً فلا تعتدوها ونهاكم عن أشياء من غير نسيان فلا تتكلفوها رحمةً من ربكم فاقبلوها، وأخرجه الطبراني في الأوسط ولم يذكر جملة ونهاكم وأشار إلى تفرد بعض رواته به ورواه أبو نعيم من حديث أبي الدرداء مرفوعاً ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت عنه عافية فاقبلوا من الله عافيته ومن شواهده ما أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث ابن هارون عن سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن سلمان قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء فقال: الحلال ما أحل الله في كتابه والحرام ما حرم الله في كتابه وما سكت عنه فهو مما عفا الله عنه وكذا أخرجه الحاكم شاهداً والطبراني وآخرون وقال الترمذي رواه سفيان يعني ابن عيينة عن التيمي فوقفه قال: وكأنه أصح ونحوه قوله في العلل عن البخاري في المرفوع ما أراه محفوظاً وقال أحمد: إنه منكر وأنكره ابن معين أيضاً وقال أبو حاتم الرازي إنه خطأ ورواه الثقات عن التيمي عن أبي عثمان مرسلاً ورواه صالح المري عن الجريري عن أبي عثمان فقال عن عائشة ورفعه وأخطأ في إسناده ولكن قد رواه الطبراني في الأوسط من حديث يحيى بن سعيد عن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله عن عائشة مرفوعاً بلفظ: لا تمسكوا علي شيئاً فإني لا أحل إلا ما أحل الله في كتابه ولا أحرم إلا ما حرم الله في كتابه وقال: لم يروه عن يحيى إلا علي بن عاصم تفرد به صالح بن محمد بن الحسين الزعفراني ومن شواهده ما أخرجه أبو داود في سننه والحاكم في صحيحه عن ابن عباس قال: كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً فبعث الله تعالى نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه فما أحل فهو حلال وما حرم فهو حرام وما سكت فهو عفو وتلا هذه الآية: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية وقال الحاكم إنه صحيح الإسناد ولم يخرجاه وأصله
الثاني والعشرون: عن معاذ رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة، ويباعدني من النار! قال: "لقَدْ سألْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وإنهُ ليَسيرٌ على مَنْ يسَّرَهُ الله تعالى عليهِ: تَعبُدُ الله لا تُشْرِك بهِ شَيئاً، وتُقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتَصومُ رمضانَ، وتحُجُّ البَيتَ، ثم قال: ألا أدُلُّكَ على أبوابِ الخَيرِ: الصَّوْمُ جُنَّة، والصدَقَةُ تُطفيءُ الخطيئَةَ كما يُطفيءُ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرَّجُلِ في جَوْفِ اللَّيلِ، ثم تلا:{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتى بلغ {يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16] ثم قال: ألا
ــ
عند الطبراني مرفوعاً بسند ضعيف ومن شواهده عن ابن عمر أخرجه ابن عدي في كامله بسند ضعيف، ومنها عن المغيرة وعن الحسن مرسلاً عن عبيد بن عمير من قوله والله الموفق.
وهذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم الموجزة البليغة بل قال بعضهم: ليس في الأحاديث حديث واحد أجمع بانفراده لأصول الدين وفروعه منه أي لأنه قسم فيه أحكام الدين إلى أربعة أقسام فرائض ومحارم وحدود ومسكوت عنه وذلك يجمع أحكام الدين كلها ومن ثم قال ابن السمعاني من عمل به فقد حاز الثواب وأمن العقاب لأن من أدى الفرائض واجتنب المحارم ووقف عند الحدود وترك البحث عما غاب عنه فقد استوفى أقسام الفضل وأوفى حقوق الدين لأن الشرائع لا تخرج عن الأنواع المذكورة فيه أي لتضمنه جميع قواعد الشرع وأحكامه وآدابه إذ الحكم الشرعي إما مسكوت عنه أو
متكلم فيه وهو إما مأمور به وجوباً أو ندباً أو منهي عنه تحريماً أو كراهة أو مباح فالواجب حقه ألا يضيع والحرام حقه ألا يقارب والحدود وهي الزواجر الشرعية كحد الزنى والسرقة حقها أن تقام على أهلها من غير محاباة ولا عدوان وورد حد يقام في الأرض خير من مطر أربعين صباحاً وقد تطلق الحدود على المحارم فقط ومنه {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} وحديث إني آخذ بحجزكم اتقوا النار واتقوا الحدود رواه الطبراني والبزار. قوله: (الثاني والعشرون الخ) تقدم الكلام على ما يتعلق به متناً وإسناداً في
أُخبِرُكَ برَأسِ الأمْرِ، وعمُودِهِ وذرْوَةِ سَنَامِهِ؟ " قلت: بلى يا رسول الله، قال:"رأسُ الأمرِ الإسلام، وعمودُه الصلاة، وذروَةُ سنامه الجهاد"، ثم قال:"ألا أخبرُكَ بمِلاكِ ذلكَ كلِّهِ؟ " قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسانه، ثم قال:"كُفَّ علَيكَ هذا"، فقلت: يا نبي الله، وإنا لمُؤاخَذُون بما نتكلم به؟ فقال:"ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ على وُجوهِهِمْ، أو على مناخِرِهِمْ، إلا حصَائِدُ ألسنَتِهِمْ؟ " رويناه في الترمذي وقال: حسن صحيح.
وذِروَة السَّنام: أعلاه، وهي بكسر الذال وضمها. وملاك الأمر بكسر الميم: أي مقصوده.
الثالث والعشرون: عن أبي ذرّ ومعاذ رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اتَّقِ الله
ــ
كتاب حفظ اللسان. قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اتق الله") قال ابن حجر الهيتمي قاله لأبي ذر كما سيأتي أي من قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر لما جاء إليه وهو مختف بمكة فأسلم وأراد المقام معه صلى الله عليه وسلم وحرص عليه فعلم صلى الله عليه وسلم أنه لا يقدر على ذلك فأمره أن يلحق بقومه عسى أن ينفعهم الله به وقال له اتق الله حيث كنت الحديث اهـ. وجاء عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته" وجاء عنه أيضاً قلت: يا رسول الله أوصني قال أوصيك بتقوى الله فإنه رأس الأمر كله رواه ابن حبان وغيره وورد أن أبا سعيد الخدري قال: يا رسول الله أوصني قال: أوصيك بتقوى الله فإنها رأس كل شيء وفي رواية عليك بتقوى الله فإنها جماع كل خير وروى الترمذي عن يزيد بن سلمة أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله إني سمعت منك حديثاً كثيراً فأخاف أن ينسيني أوله آخره فحدثني بكلمة تكون جماعاً قال: اتق الله فيما تعلم وكذا ذكر الكازروني أيضاً أنه قال لأبي ذر وزاد فيه حين انصرافه إلى قومه، والتقوى أصله اتخاذ وقاية تقيك مما تخافه وتحذره فتقوى العبد لله أن يجعل بينه وبين ما يخشاه وقاية تقيه منه هي امتثال أوامره واجتناب نواهيه وقوله اتق الله على حد اتقوا الله أي غضبه وهو أعظم ما يتقى إذ ينشأ عنه عقابه الدنيوي والأخروي ويحذركم الله نفسه هو أهل التقوى وأهل المغفرة وفسر ذلك صلى الله عليه وسلم فقال: قال الله تعالى: أنا أهل أن أتقى فمن اتقاني فلم يجعل إلهاً
حيثما كنتَ، وأتْبعِ السَّيِّئَةَ الحَسَنَةَ تَمْحُها،
ــ
آخراً فأنا أهل أن أغفر له وقد تضاف التقوى إلى عقابه أو مكانه أو زمانه نحو {وَاتَّقُوا النَّارَ} {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} .
وقوله: (حيث كنت) أي في أي مكان كنت فيه حيث يراك النّاس ولا يرونك اكتفاء بنظره تعالى قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} وسبق قوله لأبي ذر أوصيك بتقوى الله في سر أمرك وعلانيته وما أحسن قول من قال:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل
…
خلوت ولكن قل علي رقيب
وهذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم فإن التقوى وإن قل لفظها فإنها كلمة جامعة لحقوقه تعالى وهي أن يتقى حق تقاته أي يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر خرجه الحاكم مرفوعاً قيل وهو منسوخ باتقوا الله ما استطعتم وينبغي أن يقال لا نسخ إذ لا يصار إليه إلا بشرط لم توجد كما يعلم من محله فالأولى أن يقال المراد أن يطاع فلا يعصى بحسب الاستطاعة وكذا ما بعده، ولحقوق عباده بأسرها. فمن ثم اشتملت على خير الدارين ثم حقيقة التقوى متوقفة على العلم إذ الجاهل لا يعلم كيف يتقي لا من جانب الأمر ولا من جانب النهي وبهذا تظهر فضيلة العلم وثمرته على سائر العبادات والأحوال والمقامات لتوقفها جميعها عليه ومن ثم ورد مرفوعاً ما عبد الله بشيء أفضل من فقه والمراد بالعلم المتوقف عليه ذلك هو العلم العيني الذي لا رخصة لمكلف في تركه وهو تعلم ما أنت متلبس به فنحو الصلاة وشروطها وأركانها يتعين على كل مكلف تعلم ظواهرها وما يكثر وقوعه منها وكذا الزكاة لمن له مال والحج لمن له استطاعة وعلم كل ما يحاوله الإنسان من بيع ونكاح فمن علم ما خوطب به عيناً أو أراد التلبس به ثم اجتنب كل منهي وفعل كل مأمور فهو المتقي الكامل الذي لا يزال يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه الحديث. قوله:(وأتبع السيئة الحسنة تمحها) أي كما قال الله تعالى {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} سبب نزولها في الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم أتى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل هذا له خاصة قال: بل للناس عامة وجاءت أحاديث أخر في هذا المعنى ووجه مناسبة هذه الجملة لما قبلها أنه لما كان العبد مأموراً بالتقوى في السر والعلانية مع أنه لا بد أن يقع منه
وخالِقِ النَّاس بِخُلُقٍ حَسَنٍ"
ــ
أحياناً تفريط في التقوى إما بترك مأمور أو فعل منهي عنه ومع ذلك لا ينافي وصفه بالتقوى كما يدل عليه نظم سياق {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} إلى أن قال في وصفهم {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} الخ أرشده صلى الله عليه وسلم إلى دواء يمحو به أثر ذلك التفريط بقوله وأتبع السيئة الحسنة الخ بأن تباشر الحسنات عقب ما فرط منك من السيئات لتكون له مكفرات والحسنة ما ندب إليه الشارع والسيئة ما نهى عنه أصلها سيوئة من ساء يسوء سوءاً ومساءة قلبت الواو ياء وأدغمت فيه، وظاهر قوله تمحها وقول الله تعالى:{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} أنها تمحى حقيقة من الصحيفة، والكازروني قال تمحها أي تمح هذه الحسنة السيئة أي يمحو الله بها آثارها من القلب أو من ديوان الحفظة وزاد ويثبت مكانها الطاعات اهـ. وقيل عبر به عن ترك المؤاخذة فهي موجودة فيها بلا محو إلى يوم القيامة وهذا تجوز يحتاج لدليل وإن نقله القرطبي في تذكرته وقال بعض المفسرين إنه الصحيح عند المحققين ولعل من فوائده
على القول الثاني ذهاب أثرها وهو السواد الناشئ عن العصيان من القلب وإليهما أشار كما تقدم مراراً
وفيه أن إثبات الطاعات زائدة على مفهوم المحو ثم هذا في الصغائر المتعلقة بحق الله تعالى أما الكبيرة فلا يمحوها إلا التوبة بشروطها ويمكن دخولها في الحديث بأن يراد بالسيئة الكبيرة وبالحسنة التوبة منها ويؤيده أنه جاء في حديث مرفوع من جملة وصاياه لمعاذ لما توجه إلى اليمن وإن أحدثت ذنباً فأحدث عنه توبة إن سراً فسر وإن علانية فعلانية وأما التبعات فلا يكفرها إلا إسقاط مستحقها أو إرضاء الله لمستحقها فيعفو عنه. قوله: (وخالق النّاس بخلق حسن) تقدم أن الخلق بضم المعجمة ملكة تصدر عنها الأفعال بسهولة من غير سبق روية وأن الخلق الحسن فسر بأنه هيئة راسخة يصدر عنها جميع الأفعال بسهولة وفسر بعضهم الخلق الحسن بطلاقة الوجه وكف الأذى وبذل المعروف ذكره الترمذي وغيره وقال بعضهم المعنى خالق النّاس بما تحب أن يعاملوك به وهو راجع في المعنى إلى الأول وقال عبد الله الرازي الخلق الحسن استصغار ما منك واستعظام ما إليك وقال شاه الكرماني علامة حسن الخلق كف الأذى واحتمال المؤن قال صلى الله عليه وسلم: "إنكم لن تسعوا النّاس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه
رويناه في الترمذي وقال: حسن،
ــ
وحسن الخلق واعلم أن الخلق وإن كان سجية في الأصل ومطبوعاً فقد يمكن الإنسان أن يتخلق بغير خلقه حتى يتصف بالأخلاق الحسنة العلية ولذا صح الأمر بتحصيله وتحسينه في قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: "حسن خلقك مع النّاس" إذ لا يؤمر بما طبع عليه فإنه تحصيل الحاصل فأفاد الخبر أن تحسينه من كسب الإنسان وذلك يحصل بنحو النظر في أخلاقه صلى الله عليه وسلم وما صدر عنه من أعاليها مع النّاس فيما يمكن أن يتأسى به فيه منها ثم بصحبته لأهل الأخلاق الحسنة والاقتداء بهم في ذلك ثم بتصفية نفسه من ذميم الأوصاف وقبيح الخصال ثم برياضتها إلى أن يتجلى بجميل الأخلاق ومعالي الأحوال فحينئذٍ يثاب على تلك الأخلاق الحميدة لأنها من كسبه فهو نظير استعمال الشجاعة في محلها بملاقاة العدو فإن الشجاع يثاب على هذا الاستعمال لا على نفس الشجاعة لأنها من الأمور الجبلية التي لا تدخل تحت الاختيار وإنما الذي يدخل تحته تكسب المعالي الموجب لإيقاع تلك الغريزة في محلها والحاصل أن الخلق أصله غريزي وبالنسبة إلى ما يستعمل فيه مكتسب ثم حكمة إفراده بالذكر مع أنه من خصال التقوى ولا تتم إلا به الرد إلا على من يظن أنها القيام بحقوق الله فقط إذ كثيراً إما يغلب على من يعتني بحقوقه والانعكاف على محبته وخشيته إهمال حقوق العباد بالكلية أو التقصير فيها وما ورد أن الجمع بين الحقين عزيز جداً إذ لا يقوى عليه إلا الكمل من الأنبياء والأولياء والصديقين ومن ثم فسروا الصالح الذي يدعو له كل مصل في تشهده بأنه القائم بهما وفي ذلك مناسبة تامة لحال معاذ فإنه وصاه بذلك عند بعثه إلى اليمن معلماً لهم وقاضياً ومن هو كذلك معرض لمخالطة النّاس بخلق حسن ويحتاج لذلك ما لا يحتاجه من لا يخالطهم. قوله: (رويناه في الترمذي) قال في الجامع الصغير رواه أحمد والترمذي وصححه والحاكم والبيهقي عن أبي ذر ورواه أحمد والترمذي والبيهقي عن معاذ ورواه ابن عساكر عن أنس اهـ. وتقدم في باب فضل الذكر الجواب عن الجمع بين وصفي الصحة والحسن في الحديث، وهذا الحديث جامع لسائر أحكام الشريعة إذ هي لا تخرج عن الأمر والنهي فهو كل الإسلام لأنه متضمن لما تضمنه حديث
وفي بعض نسخه المعتمدة: حسن صحيح.
الرابع والعشرون: عن العِرباض بن ساريةَ رضي الله عنه قال: "وعظَنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً [بليغة] وجلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون،
ــ
جبريل من الإيمان والإسلام والإحسان ولما تضمنه غيره من الأحاديث التي عليها مدار الإسلام كما سبق ويأتي على أن فيه تفصيلاً بديعاً فإنه
اشتمل على ثلاثة أحكام كل منها جامع في بابه ومرتب على ما قبله أولها يتعلق بحقوق الله تعالى بالذات وبغيرها بطريق التبع وهو التقوى وثانيها يتعلق بحق المكلف كذلك وثالثها يتعلق بحقوق النّاس كذلك. قوله: (وفي بعض نسخه المعتمدة الخ) وفي نسخة صحيح وفي أخرى حسن غريب وسببه اختلاف الرواة عنه ككتابه والضابطين له ثم تحسينه لهذا الحديث مقدم على ترجيح الدارقطني إرساله للقاعدة المقررة أن المسند لزيادة علمه مقدم على المرسل وأما تصحيحه له في تلك النسخة فيوافقه قول الحاكم إنه على شرط الشيخين لكن وهم بأن ميموناً أحد رواته لم يخرج له البخاري شيئاً ولم يصح سماعه من أحد من الصحابة فلم يوجد فيه شرط البخاري ويؤيد تحسين الترمذي أنه ورد لهذا الحديث طرق متعددة عند أحمد والبزار والطبراني والحاكم وابن عبد البر وغيرهم يفيد مجموعها حسنه قوله: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الخ) كان ذلك بعد صلاة الصبح كما جاء في رواية والموعظة من الوعظ وهو النصح والتذكير بالعواقب وتنوينها للتعظيم أي موعظة جليلة كما يدل عليه رواية بليغة أي بلغت إلينا وأثرت في قلوبنا. قوله: (وجلت) أي خافت وكأنه كان مقام تخويف ووعيد ومن للتعليل أي من أجلها وأخر عما قبله لأنه إنما ينشأ غالباً عنه وفيه أنه ينبغي للعالم أن يعظ أصحابه ويذكرهم ويخوفهم بما ينفعهم في دينهم ودنياهم ولا يقتصر بهم على مجرد معرفة الأحكام والحدود والرسوم وأنه ينبغي المبالغة في الموعظة لترقيق القلوب فيكون أسرع إلى الإجابة قال تعالى: {وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا} ومن
فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة موَدِّع فأوصنا، قال: "أوصِيكُمْ بتَقوَى اللهِ [عز وجل]، والسَّمع والطَّاعَةِ
ــ
ثم كان إذا خطب صلى الله عليه وسلم وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه كأنه منذر جيش يقول صبحكم مساكم وطلبت بلاغة الخطبة لأنها قرب إلى قبول القلوب واستجلابها إذ البلاغة هنا البلاغة في التوصيل إلى إفهام المعاني المقصودة وإدخالها قلوب السامعين بأحسن صورة من الألفاظ الدالة عليها وأفصحها وأحلاها للأسماع وأوقعها في القلوب وكان صلى الله عليه وسلم لا يطيل خطبته بل يبلغ ويوجز. قوله: (فقلنا يا رسول الله الخ) كأن وجه فهم ذلك مزيد مبالغته صلى الله عليه وسلم في التخويف والتحذير على خلاف ما كانوا يألفون منه قبل فظنوا أن ذلك لقرب وفاته ومفارقته لهم فإن المودع يستقصي ما لا يستقصي غيره في القول والفعل وفيه جواز تحكيم القرائن والاعتماد (عليها) في بعض الأحوال لأنهم إنما فهموا توديعه بقرينة إبلاغه في الموعظة أكثر من العادة كما تقرر واحتمال أنه أشار إلى توديعهم نظير ما وقع في حجة الوداع ففهموا ما سأله منه بعيد بدليل قوله (قولهم كأنها). قوله: (فأوصنا) أي وصية جامعة كافية فإنهم لما فهموا أنه مودع استوصوه وصية تنفعهم ويتمسك بها بعده ويكون فيها كفاية للمتمسك بها وسعادة له في الدارين ويؤخذ منه أنه ينبغي لتلامذة العالم أن يسأله في مزيد وعظهم وتخويفهم ونصحهم وفيه اغتنام أوقات أهل الدين والخير قبل فراقهم. قوله: (أوصيكم بتقوى الله) جمع في هذا اللفظ كل ما يحتاج إليه من أمور الآخرة لما مر أن التقوى امتثال الأوامر واجتناب النواهي وتكاليف الشرع لا تخرج عن ذلك والوصية بالتقوى هي وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ} وتقدم الكلام على معنى التقوى وأصل اشتقاقها في الحديث الذي قبل هذا. قوله: (والسمع والطاعة) معطوف على التقوى من عطف الخاص على العام لمزيد الاهتمام بشأنه ولذا جمع بين السمع والطاعة تأكيداً لمزيد العناية بهذا المقام ويصح أن يكون عطف مغاير من حيث إن أظهر مقاصد التقوى انتظام الأمور
وإنْ تأمَّرَ عليكُمْ عَبْدٌ [حبشي]، وإنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنكُمْ فسيَرَى اختِلافاً كثيراً، فعَلَيكُمْ بِسُنَّتي وسُنَّةِ الخُلفاءِ الرَّاشِدينَ المَهْدِيِّينَ
ــ
الأخروية. وقوله: (وإن تأمر عليكم عبد) هذا إما من باب ضرب المثل بغير الواقع على طريق الفرض والتقدير وإلا فهو لا تصح ولايته أو من باب الإخبار بالغيب وإن نظام الشريعة يختل حتى توضع الولايات في غير أهلها والمراد بالطاعة حينئذٍ الصبر إيثاراً لأخف الضررين إذ الصبر على ولاية من لا تجوز ولايته أهون من إثارة الفتنة التي لا دواء لها ولا خلاص منها ويرشد إلى الأخير تعقيب ذلك بقوله (وإنه من يعيش منكم الخ) ففيه من معجزاته صلى الله عليه وسلم الإخبار بما يقع بعده من كثرة الاختلاف وغلبة المنكر وقد كان صلى الله عليه وسلم عالماً ذلك جملة وتفصيلاً لما صح أنه كشف له صلى الله عليه وسلم عما يكون إلى أن يدخل أهل الجنة والنار منازلهم ولم يكن صلى الله عليه وسلم بينه لكل أحد إنما كان يحذر منه على العموم ثم يلقى إلى الآحاد تفصيل بعض من ذلك كحذيفة وأبي هريرة رضي الله عنهما. قوله: (فعليكم بسنتي) أي الزموها والباء صلة وسنته صلى الله عليه وسلم طريقته وسيرته القويمة التي هو عليها مما أصله من الأحكام الاعتقادية والعملية الواجبة والمندوبة وغيرها (وسنة الخلفاء) وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والحسن رضي الله عنهم أي طرائقهم فإنهم أشاعوا الدين ثم تقليدهم في حق المقلد الصرف في تلك الأزمنة القريبة من زمن الصحابة أما في زماننا فقال بعض أئمتنا لا يجوز تقليد غير الأربعة الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد رضي الله عنهم لأن هؤلاء عرفت قواعد مذاهبهم واستقرت أحكامها وخدمها تابعوهم وحرروها فرعاً فرعاً وحكماً حكماً فقل أن يوجد فرع إلا وهو منصوص لهم إجمالاً أو تفصيلاً بخلاف غيرهم فإن مذاهبهم لم تحرر وتدون كذلك فلا تعرف لها قواعد تتخرج عليها فلم يجز تقليدهم فيما حفظ عنهم منا لأنه قد يكون مشروطاً بشروط أخرى وكلوها إلى فروعها من قواعدهم فقلت الثقة لخلو ما حفظ عنهم من
عضُّوا علَيهَا بالنَّواجِذِ، وإياكم ومُحدَثاتِ الأمورِ، فإن كُل بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ"
ــ
قيد أو شرط فلم يجز التقليد حينئذٍ والمراد بالتقليد الممنوع فيما عدا الأربعة التقليد في الفتيا والقضاء إما لعمل الإنسان في حق نفسه فلا منع فيما صح عنده عمن نقل عنه بشرط علمه بجميع ما يشترطه القائل به وموانعه عنده. قوله: (عضوا عليها بالنواجذ) أمر من عض فلان أخذ شيئاً بالعض وهو السنن والنواجذ بالمعجمة جمع ناجذ آخر الأضراس الذي يدل نباته على الحلم من فوق وأسفل من كل من الجانبين فللإنسان أربع نواجذ وقيل الأنياب، المعنى على كل من القولين عضوا عليها بجميع الفم وهو عبارة عن النهش وهو الأخذ بأطراف الأسنان فو إما مجاز بليغ فيه تشبيه المعقول بالمحسوس أو كناية عن شدة التمسك بالسنة والجد في لزومها كفعل من أمسك الشيء بنواجده وعض عليه لئلا ينزع منه لأن النواجذ ممددة فإذا عضت على شيء نشبت فيه فلا يتخلص وقيل معناه الأمر بالصبر على ما يصيبه من العض في ذات الله عز وجل كما يفعله المتألم مما أصابه من الألم. قوله:(وإياكم ومحدثات الأمور) منصوبان على التحذير والأصل باعدوا أنفسكم واحذروا محدثات الأمور أي الأخذ بالأمور
المحدثة في الدين واتباع غير سنن الخلفاء الراشدين فإنه بدعة وأن كل بدعة -وهي شرعاً ما أحدث على خلاف أمر الشارع ودليله الخاص أو العام- ضلالة إذ الحق فيما جاء به الشرع فما لا يرجع إليه يكون ضلالة إذ ليس بعد الحق إلا الضلال، وتقدم في الحديث الثاني زيادة بسط في هذا المقام حاصله أن البدعة التي هي ضلالة ما ليس لها أصل في الشرع إنما الحامل عليها مجرد الشهوة أو الإرادة فهذا باطل قطعاً، إما ما لها أصل في الشرع إما يحمل النظير على النظير أو بغير ذلك فإنها حسنة إذ هي سنة الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين والمبتدع ليس مذموماً لمجرد لفظ محدث أو بدعة فإن القرآن باعتبار لفظه وإنزاله وصف بالمحدث أول سورة الأنبياء إنما منشأ الذم ما اقترن به من مخالفته للسنة ودعايته للضلالة والحاصل أن البدعة منقسمة إلى الأحكام الخمسة لأنها إذا عرضت على القواعد الشرعية لم تخل عن واحد من تلك الأحكام فمن البدع الواجبة الاشتغال بالعلوم العربية
رويناه في سنن أبي داود والترمذي
ــ
المتوقف عليها فهم الكتاب والسنة كالنحو والصرف وبعلوم الحديث من جرح الرواة وتعديلهم وتمييز صحيح الحديث من سقيمه وتدوين العلوم الشرعية لأن حفظ الشريعة فرض كفاية فيما زاد على المتعين كما دلت عليه القواعد الشرعية ولا يتأتى حفظها إلا بذلك وما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب، ومن البدع المحرمة مذاهب سائر أهل البدع لمخالفة لما عليه أهل السنة والجماعة، ومن البدع المندوبة أحداث نحو الربط والمدارس وكل إحسان لم يعهد في الصدر الأول والكلام في دقائق التصوف، ومن البدع المكروهة زخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومن البدع المباحة التوسع في لذائذ المآكل والمشارب والملابس وتوسيع الأكمام وقد يختلف العلماء في ذلك فبعضهم يجعله مكروهاً وبعضهم سنة وتقدم الكلام في المصافحة عقب صلاتي الصبح والعصر في باب المصافحة.
وبما تقرر علم أن قوله ومحدثات الأمور عام أريد به خاص إذ سنة الخلفاء الراشدين منها مع أنا أمرنا باتباعها لرجوعها إلى أصل شرعي وكذا سنتهم عام أريد به خاص إذ لو فرض خليفة راشد في عامة أمره حين سنة لا يعضدها دليل شرعي امتنع اتباعها ولا ينافي ذلك لأنه قد يخطيء المصيب ويزيغ المستقيم يوماً وفي الحديث لا حليم إلا ذو عشرة ولا حكيم إلا ذو تجربة. قوله: (رويناه في سنن أبي داود والترمذي) وكذا رواه أحمد والدارمي في مسنديهما وابن ماجه في سننه وأخرجه الحاكم في صحيحه بنحوه وكذا أخرجه الطبراني والبغوي في معجم الصحابةكقوله طرق كثيرة ثم ظاهر كلام الشيخ هنا وفي كتاب الأربعين له أن هذا اللفظ عند أبي داود والترمذي ولفظ أبي داود قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل: يا رسول الله كأن هذا موعظة مودع فماذا تعهد إلينا قال: أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وأن تأمر عليكم عبد حبشي فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضواً عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ولفظ الترمذي نحو هذا لكن بعد صلاة الغداة وفيه وأن عبد حبشي وفيه
وقال: حديث حسن صحيح.
الخامس والعشرون: عن أبي مسعود
ــ
وإياكم ومحدثات الأمور فإنها ضلالة فمن أدرك ذلك فعليه بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضواً عليها بالنواجذ وفي بعض الطرق تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها فلا يزيغ عنها
بعدي منكم إلا كل هالك وأنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وزاد ابن ماجه والحاكم والطبراني وآخرون في آخر الحديث فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيثما قيد انقاد لكن أنكر جمع من الحفاظ هذه الزيادة وقالوا إنها مدرجة وأجيب بأن ابن ماجه أخرجه بإسناد جيد متصل ورواته ثقات مشهورون وقد صرح بسماع يحيى راويه عن العرباض وبه صرح البخاري في تاريخه -أي وإن أنكره حفاظ أهل الشام- وقيل إن البخاري في تاريخه يقع له أوهام في أخبار أهل الشام وهم أعرف بشيوخهم وأشار السخاوي إلى أن هذه الزيادة عند ابن ماجه والحاكم والطبراني وأبي نعيم ومداره عندهم على معاوية بن صالح عن ضمرة عن عبد الرحمن بن عمر والسلمي أنه سمع العرباض فذكره قال: وفي آخره عندهم فإنما المؤمن الخ قال: ولم ينفرد به عبد الرحمن بل رواه الحاكم أيضاً من حديث عمرو بن أبي سلمة التنيسي وتمام في فوائده من حديث مروان بن محمد الطاطري كلاهما عن عبد الله بن العلاء بن زيد عن يحيى بن أبي المطاع قال سمعت العرباض وذكره وكذا رواه الطبراني والثقفي في أول الأربعين له معاً من حديث إبراهيم بن عبد الله بن العلاء عن أبيه لكن جعله عن يحيى عن العرباض بالعنعنة ورواه تمام أيضاً من طريق آخر عن عبد الله بن العلاء وفيه أنه قال: حدثني به يحيى بن أبي المطاع أنه سمع من العرباض وأخرجه ابن ماجه عن عبد الله كذلك والله أعلم. قوله: (وقال) يعني الترمذي (حديث حسن صحيح) وفي نسخة الاقتصار على حسن وقال الحاكم إن الحديث صحيح على شرط الشيخين وصححه ابن حبان بل وعزا الحافظ تصحيحه إلى ابن خزيمة وقال أبو نعيم إنه جيد من صحيح حديث الشاميين
البدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن مِمَّا أدرَكَ الناسُ مِنْ كلام النُّبُوةِ الأولى: إذَاَ لم تَسْتَح فاصْنَعْ ما شِئْتَ"
ــ
قال السخاوي وفي الباب عن جماعة من الصحابة اهـ. قوله: (البدري) نسبة إلى بدر سكناً لا شهوداً مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأصح الذي قال به الجمهور، وتقدم أنه الأرجح، والذي ذهب إليه البخاري ومسلم في آخرين أنه شهدها وتقدمت ترجمته في باب ما يقول إذا أراد النوم واضطجع على فراشه. قوله:(إذا مما أدرك النّاس) أي مما وصل إليهم وظفروا به ومن ابتدائية خبر إن واسمها قوله إن لم تستح الخ على تأويل هذا القول والعائد إلى ما محذوف وفاعل أدرك النّاس أو ضمير يعود إلى ما والناس مفعوله لكن الرواية كما قال الكازروني على الأول وقوله من كلام النبوة أي ذوي النبوة المتقدمة على نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في الوجود وحاصل معناه أن مما اتفقت عليه الشرائع إذا لم تستحي الخ لأنه جاء في أولاها تتابعت بقيتها عليه فالحياء لم يزل في سائر الشرائع ممدوحاً ومأموراً به لم ينسخ في شرع وقد جاء في رواية لم يدرك النّاس من كلام النبوة الأولى إلا هذا. قوله: (إذا لم تستحي) من الاستحياء فالياء الأخيرة محذوفة للجازم وفي نسخة "تستح" بحذف الياءين وقوله (فاصنع ما شئت) وعيد وتهديد لمن ترك الحياء أي اصنع ما شئت فإنك مجازى عليه فهو كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أو المراد به الخبر كقوله: فليتبوأ مقعده من النار ومعناه أن عدم الحياء يوجب الاستهتار والانهماك في هتك الأستار أو المراد أن ما لا يستحي من الله ولا من النّاس في فعله إذا ظهر فافعله وإلا فلا فهو أمر إباحة قيل والأول أولى وأظهر ولم يذكر أحد في الآية غيره فيما يعلم
فعلم أن الحياء من أشرف الخصال وأكمل الأحوال ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: الحياء خير كله الحياء لا يأتي إلا بخير وصح أن الحياء شعبة من الإيمان وليس من الحياء كما تقدم في باب وعظ الإنسان من هو أجل منه ما يمنع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع وجود شرطه بل ذاك جبن وخور وكذا ما يمنع السؤال عن مهمات المسائل في الدين إذا أشكلت عليه وفي الحديث عن عائشة نعم النساء
رويناه في البخاري.
السادس والعشرون: عن جابر رضي الله عنه: "أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ إذا صليتُ المكتوباتِ، وصمتُ رمضانَ، وأحللتُ الحلالَ، وحرَّمتُ الحرام، ولم أزد على ذلك شيئاً أدخل الجنة؟
ــ
نساء الأنصار لم يمنعهم الحياء أن يسألن عن أمر دينهن وفي حديث إن ديننا هذا لا يصلح لمستحي -أي حياء مذموماً- ولا لمتكبر وتقدم في ذلك الباب الكلام على تعريف الحياء وما يتعلق به فراجعه. قوله: (رويناه في البخاري) قال في الجامع الصغير ورواه أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي مسعود ورواه أحمد أيضاً من حديث حذيفة وبما تقرر في شرح الحديث علم أن عليه مدار الإسلام وبيانه أن فعل المكلف إما أن يستحيا منه أو لا الأول الحرام والمكروه والثاني الواجب والمندوب والمباح فقد تضمن الأحكام الخمسة ولم يشذ عنه منها شيء. قوله: (أن رجلاً) هو النعمان بن قوقل بفتح القافين. قوله: (صليت المكتوبات) أي الخمس من كتب بمعنى فرض وأوجب. قوله: (وأحللت الحلال الخ) قال المصنف في الأربعين له معنى قوله حرمت الحرام اجتنبته ومعنى أحللت الحلال فعلته معتقداً حله ونظر فيه بعض الشراح قال وأوجه منه قول ابن الصلاح الظاهر أنه قصد به اعتقاد حرمته وأن لا يفعل بخلاف الحلال فإنه يكفي فيه مجرداً اعتقاد كونه حلالاً وإن لم يفعله اهـ. ويوجه بأنا لسنا مكلفين بفعل الحلال من حيث ذاته بل لمصالح تترتب على فعله فلم يكن فعله مشترطاً في دخول الجنة بخلاف الحرام فإنا مكلفون باجتنابه واعتقاد تحريمه لذاته فيهما من غير نظر لما يترتب عليه ولم يذكر من المفروضات الزكاة والحج لعدم فرضهما إذ ذاك أو لكونه لم يخاطب بهما وترك الحرام يشملهما لأن ترك الفريضة من المحرمات. قوله: (أدخل الجنة) همزة الاستفهام فيه مقدرة أي أدخلها ابتداء من غير عقب كما هو ظاهر من السياق والقواعد إذ مطلق دخولها إنما يتوقف على التوحيد فقط كما دلت عليه أحاديث صحيحة وما
قال: نَعَمْ" رويناه في مسلم.
السابع والعشرون: عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول لله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرَك، قال: "قُلْ: آمَنْتُ باللهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ" رويناه في مسلم.
قال العلماء: هذا الحديث من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم وهو مطابق
ــ
جاء في أحاديث صحيحة أيضاً من أن بعض الكبائر تمنع من دخولها كقطع الرحم والكبر محمول على المستحل لذلك مع العلم بالتحريم أو المراد لا يدخلها مع الناجين الفائزين. وقوله: (نعيم) جواب لذلك السؤال أي نعم تدخلها وفيه دليل لجواز ترك التطوعات رأساً وإن تمالأ عليه أهل بلد فلا يقاتلون ومن قال يقاتلون يحتاج إلى دليل وإن كان في ترك التطوعات التي شرعت جبراً لنقص الفرائض وزيادة التقرب بها إلى الله تعالى حتى يحب فاعلها فإذا أحبه كان سمعه الذي يسمع به الحديث تفويت لذلك الربح العظيم والثواب الجسيم وإسقاط للمروءة ورد للشهادة لأن مداومة تركها يدل على نوع تهاون بالدين نعم إن قصد بتركها الاستخفاف بها والرغبة عنها كفر. قوله: (روينا في صحيح مسلم) وهو حديث جامع للإسلام أصولاً وفروعاً لأن أحكام الشرع إما قلبية أو بدنية وعلى التقديرين إما أصلية أو فرعية فهي أربعة بحسب القسمة ثم جميعها إما مأذون فيه وهو الحلال أو ممنوع منه وهو الحرام واللام في الحلال للعهد
والمراد به المأذون في فعله واجباً كان أو مندوباً أو مباحاً أو مكروهاً وفي الحرام للاستغراق فإذا أحل كل حلال وحرم كل حرام فقد أتى بجميع وظائف الشرع وذلك مستقل بدخول الجنة قال الكازروني: إن قلت ظاهر الحديث أن الأعمال الصالحة أسباب دخول الجنة لأن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية وقد ثبت في الصحاح مرفوعاً لن ينجي أحداً منكم عمله قالوا: ولا أنت قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته فما التوفيق، قلت دخول الجنة بمحض رحمة الله ليس إلا وأما اختلاف مراتبها فبحسب العمل لكن لا بد للعبد أن يستعد لفضله وذلك بالعمل. قوله:(السابع والعشرون) تقدم الكلام على ما يتعلق به متناً وتخريجاً في كتاب حفظ اللسان.
لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأحقاف: 13] قال جمهور العلماء: معنى الآية والحديث: آمِنوا والتزِموا طاعة الله.
الثامن والعشرون: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام والإحسان والساعة، وهو مشهور في "صحيح مسلم" وغيره.
التاسع والعشرون: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كنت خَلْف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: "يا غُلامُ
ــ
قوله: (الثامن والعشرون) قال القاضي عياض هو حديث متفق على عظم موقعه وكثرة أحكامه لاشتماله على جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقود الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه أي فهو جامع لطاعات الجوارح والقلب أصولاً وفروعاً قال القرطبي: حقيق بأن يسمى أم السنة كما سميت الفاتحة أم القرآن لتضمنها جمل معانيه وقال بعضهم لو لم يكن في السنة جميعها غيره لكان وافياً بأحكام الشريعة لاشتماله على جملها مطابقة وعلى تفاصيلها ومرجعه من القرآن والسنة كل آية أو حديث تضمن ذكر الإسلام أو الإيمان أو الإحسان أو الإخلاص أو المراقبة أو نحو ذلك. قوله: (وهو مشهور) أي على الألسنة. قوله: (في صحيح مسلم وغيره) وكذا رواه أصحاب السنن الأربعة ولم يخرج البخاري فيه شيئاً عن عمر إنما أخرج أصحاب السنن إلا الترمذي عن أبي هريرة نحوه. قوله: (كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم) أي على دابته كما في رواية ففيه جواز الإرداف على الدابة إن أطاقته وقد أردف النبي صلى الله عليه وسلم على الدابة معه جماعة أفردتهم بتأليف فبلغوا أربعين إنساناً رضي الله عنهم. قوله: (يا غلام) بالضم لأنه نكرة مقصودة وفي رواية يا غليم وهو تصغير حنو وترقيق أو تعظيم باعتبار ما يؤول إليه حاله والغلام هو الصبي من حين يفطم إلى تسع سنين
إني أُعَلِّمُكَ كَلِماتٍ: احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجاهَكَ، إذا سَألْتَ
ــ
وسنه إذ ذاك نحو عشر سنين وقد توفي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشر أو ثلاث عشرة سنة. قوله: (إني أعلمك كلمات) أي نافعات كما جاء في رواية ينفعك الله بهن وفائدة هذا التمهيد أن يكون
الكلام أوقع في النفس لأنه لما يقول له ذلك يشتد شوقه إليه وتقبل نفسه عليه وجاء بها بصيغة جمع القلة. ليؤذنه بأنها قليلة اللفظ فيسهل حفظها وآذنه بعظيم خطرها ورفعة مجلها بتنوينها وفي تأهيله صلى الله عليه وسلم لابن عباس لهذه الوصايا الخطيرة القدر الجامعة من الأحكام والحكم والمعارف ما يفوق الحصر دليل على أنه صلى الله عليه وسلم علم ما سيؤول إليه أمر ابن عباس من العلم والمعرفة وكمال الأخلاق والأحوال الباطنة والظاهرة. قوله: (احفظ الله) أي بحفظ دينه وأمره أي كن مطيعاً لربك مؤتمر بأوامره منتهياً عن نواهيه وزواجره فإن تحفظه كذلك (يحفظك) في نفسك وأهلك ودنياك سيما عند الموت إذ الجزاء من جنس العمل وهي منصوبة المحل على أنها عطف بيان أو بدل لكلمات أو استئناف وهي من أبلغ العبارات وأوجزها وأجمعها لسائر أحكام الشريعة قليلها وكثيرها فهو من بدائع جوامعه صلى الله عليه وسلم التي اختصه الله تعالى بها. قوله: (احفظ الله تجده تجاهك) بصم التاء وفتح الهاء وأصله وجاهك بضم الواو وكسرها ثم قلبت تاء كما في تراث. وهو بمعنى أمامك في الرواية الثانية أي تجده معك بالحفظ والإحاطة والتأييد والإعانة حيثما كنت فتأنس به وتستغني به عن خلقه فهو تأكيد لما قبله وهو من المجاز البليغ لاستحالة الجهة عليه تعالى فهو على حد إن الله مع المتقين فهي معنوية لا ظرفية وخص الأمام من بقية الجهات الستة إشعاراً بشرف المقصد وأن الإنسان مسافر إلى الآخرة غير قار في الدنيا والمسافر إنما يطلب أمامه لا غير فكان المعنى حيثما توجهت وتيممت وقصدت من أمر الدارين وقيل إن هذه الجملة استعارة تمثيلية شبه حاله في معاونة الله له ومراعاته أحواله وسرعة إنجاحه حاجته بحال من جلس أمامه يحفظه ويراعيه. قوله: (إذا سألت) أي أردت السؤال
فاسألِ اللهَ، وإذَا اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللهِ، وَاعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ على أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إلَاّ بشَيءٍ قَد كَتَبَهُ الله لَكَ، وَإنِ اجْتَمَعُوا على أنْ يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله عَلَيكَ،
ــ
(فاسأل الله) أي وحده في السؤال فإن خزائن العطاء عنده لا معطي ولا مانع إلا هو قال الله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} وفي الحديث من لم يسأل الله يغضب عليه ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى شسع نعله إذا انقطع وروي أنه تعالى قال لموسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم: يا موسى سلني في دعائك -وجاء: في صلاتك- حتى ملح عجينك فلا يعتمد في أمر من الأمور إلا على مولاه لأنه المانع المعطي لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع فلا يركن العبد إلى أحد سواه فبقدر ميل القلب إلى مخلوق يبعد عن مولاه لضعف يقينه ووقوعه في هوة الغفلة عن حقائق الأمور التي تيقظ لها أرباب التوكل واليقين فأعرضوا عما سواه وأنزلوا جميع حوائجهم بباب كرمه وجوده لأنه المتكفل لكل متوكل بما يحبه ويتمناه قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قوله: (وإذا استعنت) أي طلبت الإعانة في شيء من الأمور (فاستعن بالله) وحده لما علمت أنه سبحانه هو القادر وغيره عاجز عن كل شيء حتى عن جلب مصالح نفسه ودفع مضارها والاستعانة إنما تكون بقادر على الإعانة أما من هو كل على مولاه لا قدرة له على إنفاذ ما يهواه لنفسه فضلاً عن غيره فكيف يؤهل للاستعانة أو يستمسك بسببه فلا يستعان إلا بالله كما أفاده تقديم المعمول المؤذن بالحصر في قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فمن أعانه مولاه فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز لا تستعن بغير الله يكلك إليه وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى الخروج عن السوي في جميع الأحوال والإقبال على المولى والتوكل عليه في كل حال وقد أكد التوكل عليه تعالى حيث قال (واعلم أن الأمة لو اجتمعت الخ)
كما يشهد به قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ} وإن يردك بخير فلا راد لفضله والمعنى وحد الله تعالى في لحوق الضرر والنفع فهو الضار النافع ليس معه أحد في ذلك لما تقرر أن أزمة الموجودات بيده سبحانه منعاً وإطلاقاً فإذا أراد غيرك ضرك بما لم يكتب عليك دفعه تعالى عنك بصرف ذلك الغير عن مراده بعارض من عوارض القدرة
رُفِعَتِ الأقْلامُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ" رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية غير الترمذي زيادة: "احْفَظِ اللهَ تَجِدْه أمامَكَ،
ــ
الباهرة مانع من الفعل من أصله كمرض أو نسيان أو صرف قلب أو من تأثيره ككسر قوسه وفساد رميه فهذا تقرير وتأكيد لما قبله من الإيمان بالقدر خيره وشره وتوحيده تعالى في لحوق الضرر والنفع على أبلغ برهان وحث على التوكل والاعتماد على الله تعالى في جميع الأمور وعلى شهود أنه تعالى وحده هو المؤثر في الوجود النافع الضار وغيره ليس له شيء من ذلك وعلى الإعراض عن السوى أن من تيقن ذلك لم يشهد الضر والخير إلا من مولاه ولم ينزل حاجته إلا به ونعوذ بالله من اعتقاد نفع أو ضر من يد غيره تعالى فإن ذلك هو عين الشرك الأصغر بل الأكبر كما لا يخفى وقوله كتبه الله لك وكتبه عليك موافق لما مر من قوله صلى الله عليه وسلم يكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد. قوله: (رفعت الأقلام) أي تركت وتمت كتابة ما كان وما يكون لفراغ الأمر وانبرامه. قوله: (وجفت الصحف) أي التي فيها مقادير الكائنات كاللوح المحفوظ أي فرغ من الأمر وجفت كتابته لأن الصحيفة حال كتابتها لا بد أن تكون رطبة المداد أو بعضه فلم يمكن بعد ذلك أن يكتب فيها تبديل أو نسخ لما كتب من ذلك واستقر لما أنها أمور لا تبدل ولا تغير عما هي عليه فذلك كناية عن تقدم كتابة المقادير كلها والفراغ منها من أمد بعيد وهذا من أحسن الكنايات وأبلغها وقد دل الكتاب والسنة على ذلك فمن علم ذلك وشهده بعين بصيرته هان عليه التوكل على مولاه والإعراض عما سواه فإن قلت هذا الخبر ينافي قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} قلنا: لا لأن المحو والإثبات مما جف به الصحف أيضاً لأن القضاء مبرم ومعلق ذكره الكازروني. قوله: (رويناه في الترمذي) قال بعض المحققين رواه جماعة من طرق عن ابن عباس وجاء أنه صلى الله عليه وسلم وصاه بذلك عن علي وأبي سعيد وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر وفي أسانيدها كأنها ضعف قال ابن منده وغيره وأصح الطرق كلها الطريق التي أخرجها الترمذي. قوله: (وفي رواية غير الترمذي) وهو عبد بن حميد في مسنده لكن بإسناد ضعيف
تَعَرَّف إلى الله في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ في الشِّدَةِ، واعْلَمْ أن ما أخْطَأكَ
ــ
ورواه أحمد بإسنادين منقطعين يا غلام أو يا غليم ألا أعلمك كلمات ينفعك الله بهن فقلت: بلى فقال: احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة فإذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله قد جف القلم بما هو كائن فلو أن الخلق جميعاً كلهم أرادوا أن ينفعوك بشيء لم يقضه الله لم يقدروا عليه وإن أرادوا أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لم يقدروا عليه واعلم أن الصبر على ما تكره خير كثير وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسراً وهذا أتم من حديث عبد بن حميد الذي ذكره المصنف بقوله وفي رواية غير الترمذي احفظ الله الخ.
قوله: (تعرف إلى الله في الرخاء) أي تحبب إليه سبحانه بلزوم طاعته واجتناب مخالفته لأن المعرفة سبب المحبة، والرخاء اليسر. وقوله:(يعرفك في الشدة) أي يمدك فيها بتفريجها عنك وجعله لك من كل ضيق فرجاً ومن كل هم مخرجاً بواسطة ما سلف منك من ذلك التعرف كما جرى في حديث الثلاثة أصحاب الغار السابق بيانه في باب دعاء الإنسان وتوسله بصالح عمله وقيل يجوز أن يكون على تقدير مضاف أي (تعرف) إلى ملائكة الله في الرخاء بالتزامك الطاعة وإظهار العبادة يعرفك في الشدة بواسطة شفاعتهم عنده في تفريج كربك وغمك ويدل لذلك ما في حديث أن من له دعاء حال الرخاء إذا دعا حال الشدة قالت الملائكة ربنا هذا صوت نعرفه وإذا لم يدع حال الرخاء ودعا حال الشدة قالوا ربنا هذا صوت لم نعرفه اهـ. ونظر فيه بأنه تكلف والحديث بتقدير صحته لا يؤيده فالأولى ما تقرر أولاً.
فائدة
كل من معرفة العبد وربه عامة وخاصة فمعرفة العبد العامة هي الإقرار بوحدانية الله سبحانه وربوبيته والإيمان به والخاصة هي الانقطاع إليه والأنس به والطمأنينة بذكره والحياء منه وشهوده في كل حال، ومعرفته تعالى العامة هي علمه بعباده واطلاعه على ما أسروا وأعلنوا والخاصة هي محبته لعبده وتقريبه إليه وإجابة دعائه (وإنجاؤه) من الشدائد ولا يظفر بهذه الخاصة إلا من تحلى بتلك الخاصة. ثم ذكر عقد هذه الوصية وفريدتها في قوله (واعلم أن ما أخطأك) أي من المقادير فلم
لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، ومَا أصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ" وفي آخره "وَاعْلَمْ أن النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ،
ــ
يصل إليك (لم يكن) مقدار عليك (ليصيبك) لأنه بان بكونه أخطأك أنه مقدر على غيرك وفي الكلام مبالغة من وجوه من حيث دخول اللام المؤكدة للنفي على معمول الخبر وتسليط النفي على الكينونة وسرايته في الخبر (وما أصابك) منها (لم يكن) مقدراً على غيرك (ليخطئك) وإنما هو مقدر عليك إذ لا يصيب الإنسان إلا ما قدر عليه والمعنى أنه فرغ ما أصابك أو أخطأك من خير أو شر (فما أصابك فإصابته لك محتومة فلا يمكن أن يخطئك وما أخطأك فسلامتك منه محتومة فلا يمكن أن يصيبك لأنها سهام صائبة) وجهت من الأزل فلا بد أن تقع مواقعها وفي الحديث المرفوع (إن) لكل شيء حقيقة وما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه رواه أحمد ففي ذلك حث على التفويض والتوكل على الله سبحانه ونفي الحول والقوة عن السوى مع شهود أنه سبحانه الفاعل لما يشاء وأن ما قضاه وأبرمه لا يمكن أن يتعدى حده المقدر له وهذا راجع إلى قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الآية وإنما قلنا هذه الجملة واسطة عقد هذه الوصية لأن ما قبلها وما بعدها مفرع عليها راجع إليها فإن من علم أنه لن يصيبه إلا ما كتب له من خير أو شر وإن اجتهاد الخلق كلهم بخلاف المقدور لا يجدي شيئاً البتة علم أنه سبحانه هو المعطي المانع الضار النافع فأفرده بالطاعة وحفظ حدوده وخافه ورجاه وأحبه وقدم طاعته على طاعة خلقه كلهم وأفرده بالاستعانة والسؤال والتضرع إليه والرضا بقضائه حالتي
الشدة والرخاء والمنع والعطاء. قوله: (واعلم أن النصر مع الصبر الخ) وجه مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر في سابقها تصريف الأقدار وأن كل شيء بمقدار نبه صلى الله عليه وسلم على أن الإنسان لا سيما الصالحون في التقدير الإلهي معرضون للمحن والمصائب وطروق المنغصات والمتاعب فينبغي للإنسان إن لم يقر بمقام الرضا أن يتحلى بالصبر على مر القضاء وينتظر
وأنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وأن مَعَ العُسْرِ يُسْراً" هذا حديث عظيم الموقع.
ــ
وعد الله على ذلك فإنه وعد أن عليه صلوات الله ورحمته وأنه مهتد وروى الترمذي أن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط، وقوله إن النصر مع الصبر أي النصر على أعداء دينه ودنياه إنما يوجد مع الصبر على طاعة مولاه وعن معصيته فهو سبب للنصر قال تعالى:{وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي بالإعانة وفيه الحث على التوكل على المولى والخروج من الحول والقوى ومن ثم كان الغالب على من انتصر لنفسه عدم النصر والظفر وعلى من صبر ورضي بعلم الله وحكمه تعجيلهما له كما هو المعهود من مزيد كرمه وإحسانه. قوله: (وأن الفرج مع الكرب) أي أن الخروج من الغم يحصل سريعاً وهو الغم الذي يأخذ بالنفس فينبغي لمن نزل به أن يكون صابراً محتسباً راجياً سرعة الفرج مما نزل به حسن الظن بمولاه في جميع أحواله فإنه أرحم به من كل راحم حتى من أبويه وفيه أن المحن من أبواب المنح كما يدل عليه قوله وإن مع العسر يسرا على أن في المحنة تعرفاً للعبد بوصف الجلال كما أن في المنحة تعرفاً بوصف الجمال كما قال من قال: إذا أعطاك أشهد بره وإذا منعك أشهد قهره فهو في كل ذلك مقبل عليك ومتعرف بإحسانه إليك. قوله: (وإن مع العسر يسراً) أي السهولة ومنه اليسار للغنى لأنه تسهل به الأمور ويقال لليد اليسرى لبقائها على اليسر أو لأن الأمور تتسهل بمعاونتها لليمنى والعسر نقيضه قال الجوهري كل ثلاثي أوله مضموم وأوسطه ساكن فمن العرب من يثقله ومنهم من يخففه ووقع في القرآن مكرراً ليعلم أنه لا يوجد إلا معه يسران وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم لن يغلب عسر يسرين وروي ذلك عن جمع من الصحابة ووجهه ما قاله الزمخشري في الكشاف أن يسراً وقع منكراً للتعظيم فيغاير الأول لأن النكرة المعادة غير الأولى والعسر ورد معرفاً فيكون للعهد أو الجنس فهو واحد على التقديرين وقد نظم بعضهم هذا المعنى فقال:
إذا اشتدت بك البلوى
…
ففكر في الم نشرح
فعسر بين يسرين
…
إذا فكرته تفرح
الثلاثون: وبه اختتامها واختتام الكتاب، فنذكره بإسناد مستطرف، ونسأل اللهَ الكريم خاتمة الخير.
أخبرنا شيخنا الحافظ أبو البقاء خالد بن يوسف النابلسي ثم الدمشقي رحمه الله تعالى قال: أخبرنا أبو طالب عبد الله، وأبو منصور يونس، وأبو القاسم حسين بن هبة الله
ــ
ومن لطائف اقتران الفرج بالكرب والعسر باليسر الكرب إذا اشتد وتنامى أيس العبد من جميع المخلوقين وتعلق قلبه بالله تعالى وحده وهو حقيقة التوكل قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} ثم العسر المثبت في هذا الحديث كالآية غير المنفي في قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لأن المثبت هو العسر في العوارض الدنيوية التي تطرق العبد مما لا يلائم نفسه من ضيق الأرزاق وتوالى المحن والفقر والفتن والمنفي هو العسر بالتكليف بالأحكام الشاقة قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} . ثم ما قرر في مع في محالها الثلاثة من أنها
على بابها هو الظاهر إذ أواخر أوقات الصبر والكرب والعسر هي أول أوقات النصر والفرج واليسر فقد تحققت المقارنة بينهما.
ثم الحديث باعتبار طريقه حديث عظيم الموقع وأصل كبير في رعاية حقوق الله تعالى والتفويض لأمره والتوكل عليه وشهود توحيده وتفرده وعجز الخلق وافتقارهم إليه وبهذا التقرير يصح أن يدعي في هذا الحديث أنه نصف الإسلام بل كله لأن التكاليف إما تتعلق بالله أو بغيره وهذا فيه بيان لجميع ما يتعلق به تعالى صريحاً وبغيره استلزاماً على أن ذلك كله مفهوم من أول جملة فيه وهي احفظ الله يحفظك وفيه أيضاً التصريح بجمل مستكثرة مما تتعلق بحقوق الآدميين أشير إليها بذكر الصبر وما بعده وقد أفرد الكلام (عليه بتصنيف "قوله فنذكره بإسناد مستظرف" أي لأن) رجاله كلهم دمشقيون. قوله: (ونسأل الله الكريم خاتمة الخير) أي بالوفاة على الإسلام مع الفوز برضا الملك السلام وما أحسن ما قيل:
إن ختم الله بغفرانه
…
فكل ما لاقيته سهل
بنِ صِصْري، وأبو يعلى حمزة، وأبو الطاهر إسماعيل، قالوا: أخبرنا الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن هو ابن عساكر قال: أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن إبراهيم بن العباس الحسيني خطيب دمشق، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي بن يحيى بن سُلْوان، قال: أخبرنا أبو القاسم الفضل بن جعفر قال: أخبرنا أبو بكر عبد الرحمن بن القاسم بن الفرج الهاشمي قال: أخبرنا أبو مسهر قال: أخبرنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخَوْلاني، عن أبي ذرّ رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن جبريل صلى الله عليه وسلم، عن الله تبارك وتعالى أنه قال:
"يا عِبادي إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نفسي
ــ
وتقدم في حديث ابن مسعود أن حسن الخاتمة ناشيء من حسن السابقة وأن الأعمال أمارات على شأن الإنسان والله المستعان. قوله: (ابن صصري) بكسر الصاد الأولى والراء وسكون الصاد الثانية وحروفه كلها مهملة. قوله: (الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن) قال الفاسي في كتاب ذيل التقييد بمعرفة رواة السنن والمسانيد علي بن الحسن بن هبة الله بن عساكر الدمشقي الحافظ الكبير ثقة مؤلف تاريخ دمشق في ثمانين مجلداً مات سنة 581 في شهر رجب عن ثلاث وتسعين سنة. قوله: (أبو مسهر) الغساني والحديث معروف بأبي مسهر هذا وسيأتي ذكر من رواه عنه غير أبي بكر الهاشمي المذكور. قوله: (عن الله تعالى) وهذا من الأحاديث القدسية التي رواها النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى وهي أكثر من مائة حديث جمعها بعضهم في مجلد وجمع منها الحافظ العلائي أربعين حديثاً خرجها ثم ذكر مخرجها من الأئمة المشهورين وسبق الفرق بينه وبين القرآن بعدم حرمة ترجمته بغير العربية ومسه مع الحدث وبطلان الصلاة بقراءته وعدم تعلق الثواب بتلاوة لفظه وغير ذلك ثم
لهم في نقل ذلك طريقان إحداهما ما ذكره المصنف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول كذا وكذا. قوله: (إني حرمت الظلم على نفسي) قال ابن القيم في بديع الفوائد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
في أثناء كلام كتابته سبحانه على نفسه تستلزم إرادته لما كتبه ومحبته له ورضاه به أي كما في {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} وتحريمه على نفسه يستلزم بغضه لما حرمه وكراهته له وإرادة ألا يفعله فإن محبته للفعل تقتضي وقوعه منه وكراهته لأن يفعله تمنع وقوعه منه وهذا غير ما يحبه سبحانه ويكرهه من أفعال عباده فإن محبة ذلك منهم لا تستلزم وقوعه وكراهته منهم لا تمنع وقوعه ففرق بين فعله هو سبحانه وبين فعل عباده الذي هو مفعوله فهذا يحصل مع كراهته وبغضه له ويتخلف مع محبته له ورضاه به بخلاف فعله سبحانه فيهما فهذا نوع وذاك نوع فتدبر هذا الموضع فإنه من مزال الأقدام وتأمل أين تكون المحبة منه وكراهته موجبة لوجود الفعل ولمنع وقوعه ونكتة هذه المسألة هي الفرق بين ما يريد أن يفعله سبحانه وما لا يريد أن يفعله وبين ما يحب من عبده أن يفعله (وما لا يحب منه أن يفعله) ومن حقق هذا المقام زالت عنه شبهات وأوهام وقال: لا مانع من أنه تعالى يوجب على نفسه أو يحرم عليها وبين ذلك بما حاصله أن طلب الحي من نفسه أمر معقول وكذا أمره لها ونهيه قال تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} وقال {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} فإذا كان معقولاً أن يأمر الإنسان نفسه وينهاها والأمر والنهي طلب مع أن فوقه أمراً ونهياً فكيف يستحيل ممن لا آمر فوقه ولا ناهي وهو قد أخبر في كتابه أنه كتب على نفسه الرحمة فهذا إيجاب منه على نفسه وهو الموجب وهو متعلق الإيجاب الذي أوجب فأوجبه بنفسه على نفسه ونظير هذا الإيجاب التحريم في حديث إني حرمت الظلم الخ فهذا التحريم نظير ذلك الإيجاب ولا يلتفت إلى ما قيل في ذلك من التأويلات الباطلة وإذا كان معقولاً من الإنسان أن يوجب على نفسه ويأمرها وينهاها مع كونه تحت أمر غيره ونهيه فالآمر الناهي الذي ليس فوقه آمر ولا ناه كيف يستحيل في حقه أن يحرم على نفسه ويكتب عليها اهـ. ومن التأويلات ما قال بعضهم حرمت من التحريم وهو المنع سمي تقديسه عن الظلم تحريماً لمشابهته الممنوع في تحقق الندم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
اهـ. ففيه استعارة تبعية شبه تنزهه تعالى عن الظلم باحتراز المكلف عما نهى الله عنه واستعار له لفظ التحريم ثم اشتق منه الفعل ولا حاجة إليه لأن الأصل الحقيقة وقد أمكنت فلا حاجة للعدول عنها والظلم لغة وضع الشيء في غير محله وعرفاً التصرف في حق الغير بغير حق أو مجاوزة الحد وهو بالمعنيين محال في حقه تعالى إذ لا حق لأحد معه سبحانه بل هو الذي خلق المالكين وأملاكهم وتفضل عليهم بها وحد لهم الحدود وحرم وأحل فلا حاكم يتعقبه ولا حق يترتب عليه تعالى عن ذلك علواً كبيراً وما ذكر من استحالة الظلم عليه تعالى هو قول الجمهور وهو الأصح وقيل إنه متصور منه لكنه لا يفعله عدلاً منه وتنزهاً عنه، قيل إن أراد هذا القائل جواز الظلم بالمعنيين المذكورين فهو هذيان ودعوى تصوره في غاية السقوط وأما قوله تعالى:{وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} المنفي فيه المبالغة فيوهم ثبوت أصل الظلم فأجيب عنه بأن صفاته تعالى بلغت غاية الكمال فلو اتصف بالظلم لكان عظيماً فنفاه على حد عظمته لو كان ثابتاً أو أراد نفي الظلم لكن القليل منه بالنسبة إلى رحمته الذاتية كثير فلذا عبر بلفظ المبالغة، أو أن المراد به النسبة أي ليس منسوباً إلى الظلم بوجه
لاستحالته في حقه كما يقال تمار وحناط نسبة للتمر والحنطة واستدلال بعضهم لتصوره في حقه تعالى بأن الحكيم إنما يمنع نفسه مما قدر على فعله ألا ترى أن آدمياً لو قال منعت نفسي صعود السماء استهزيء به أجيب عنه بأنه خارج على قضية الخطاب العادي المقصود به زجر العباد عنه وإعلامهم بامتناعه عليهم بالأولى فهو على حد {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} هذا فن بليغ من أساليب البلاغة لا ينكره إلا جامد الطبع فامتنع قياسه على قول الآدمي منعت نفسي صعود السماء بل شتان ما بينهما فإن هذه المقالة محض سفساف ولغو بخلاف قوله تعالى: "إني حرمت الظلم على نفسي الذي وطأ به لقوله: وجعلته بينكم محرماً ووطأ بهما لقوله: فلا تظالموا" فاتضح أن هذا السياق في غاية البلاغة وأنه لا ينافي استحالة الظلم عليه وأن من فهم بينهما تنافياً وفسر الظلم بغير معناه المتعارف السابق فلكلامه نوع احتمال كما يأتي وإلا فهو نوع من الهذيان كما سبق، وإن أراد ما هو ظلم عند العقل لو خلى ونفسه من حيث عدم مطابقته لقضيته فيكون
وَجَعَلْتُهُ بَينَكُمْ مُحَرَّماً فَلا تَظَالَمُوا، يا عِبادِي إنَّكُمُ [الَّذِين] تُخْطِئُونَ
ــ
لكلامه نوع احتمال، قيل وقضية الحديث جواز إطلاق النفس على الله تعالى اهـ. وهو ظاهر حيث كان من باب المقابلة كآية {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} وكما هنا فإن المعنى حرمته على نفسي فنفوسكم بالأولى كما أفاده وجعلته بينكم محرماً فيحرم إطلاقه في محل لا مقابلة فيه لإيهامه حقيقة النفس وهي محال في حقه تعالى وقيل بجوازه حينئذٍ أيضاً وفي تقدم بيان وجهه في باب فضل الذكر وفارق على الأولى جواز إطلاق لفظ الذات عليه سبحانه كما في قول خبيب رضي الله عنه وذلك في ذات الإله الخ بأن ذات الشيء حقيقته فلا إشعار فيها بحدوث البتة بخلاف النفس فإنها تشعر بالنفس والحدوث فامتنع إطلاقها عليه تعالى (إلا في المقابلة إذ هي قرينة على أن المراد) غير حقيقتها وما يتبادر منها وأيضاً ففي إطلاقها عليه تعالى من غير مقابلة إيهام شمول قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} له تعالى عن ذلك. قوله: (وجعلته بينكم محرماً) وهذا متفق عليه في كل ملة لاتفاق سائر الملل على مراعاة حفظ الأنفس فالأنساب فالأعراض فالعقول فالأموال والظلم قد يقع في هذه أو بعضها وأعلاه الشرك قال تعالى: {إنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} وهو المراد بالظلم في أكثر الآيات ثم يليه المعاصي على اختلاف أنواعها. قوله: (تظالموا) بتشديد الظاء كما روي والأشهر تخفيفها والأصل تتظالموا أدغم أحد المثلين في الآخر أو حذف أي لا يظلم بعضكم بعضاً فإن الظلم ظلمات يوم القيامة والله تعالى يقتص للمظلوم من ظالمه وقد يمهل زيادة في استدراجه ليزداد عقابه {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} فإمهاله عين عقابه. قوله: (يا عبادي الخ) كرر النداء زيادة لتشريفهم وتعظيمهم ولذا أضافهم إلى نفسه وتنبيهاً على مخافة ما بعده وجمعه لإفادة الاستغراق و (تخطئون) قال المصنف المشهور ضم التاء وروي بفتحها يقال خطئ إذا فعل ما يأثم به فهو خاطيء ومنه {إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} ويقال في الإثم أيضاً أخطأ فهما صحيحان اهـ. وبه يرد على من قال لا يصح من أخطأ الرباعي لأنه الفعل عن غير قصد وهو لا إثم فيه بالنص والكلام إنما هو فيما فيه إثم بدليل استغفروني فهو من خطئ يخطأ كعلم يعلم إذا فعل عن قصد
باللَّيل والنهارِ، وأنا الذي أغْفِرُ الذنُوبَ ولا أبالي، فاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ، يا عبادِي كلُّكُمْ جائعٌ إلَاّ مَنْ أطْعَمْتُهُ
ــ
اهـ. فما ذكره من حصر أخطأ فيما فعل لا عن قصد ممنوع بل يأتي بمعنى الثلاثي أيضاً كما ذكره المصنف والمخاطب بهذا غير المعصومين. وقوله: (بالليل والنهار) هو من باب المقابلة
لاستحالة وقوع الخطأ من كل منهم ليلًا ونهاراً وفيه من التوبيخ ما يستحي معه كل مؤمن لأنه إذا لمح أن الله خلق الليل ليطاع فيه سراً ويسلم من الرياء استحى أن ينفق أوقاته إلا في ذلك وأن يصرف ذرة منها للمعصية كما أنه يستحي بالجبلة والطبع أن يصرف شيئاً من النهار حيث يراه النّاس للمعصية. قوله: (وأنا أغفر الذنوب) أي ما عدا الشرك قال تعالى: {إنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وكذا يخص بهذه الآية آية {إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} وهذه الجملة اعتراضية للتأكيد في المبالغة في حسن الرجاء ويؤيد ذلك أل الاستغراقية وقوله جميعاً المفيد كل منهما العموم فلا يقنط مذنب من رحمة الله وإن عظم ذنبه فهو في جنب العفو كاللمم وتقديم المسند في قوله وأنا أغفر لإفادة التقوى في الحكم والإتيان بالمضارع لإفادة استمرار التجدد ففيه الإيماء إلى نص السنة من أن ما سوى الشرك يجوز غفرانه وإن لم يتب منه. قوله: (فاستغفروني) أي سلوني الغفران (أغفر لكم) بمحض الامتنان وسبق في باب الاستغفار حديث لولا تذنبون وتستغفرون لذهب الله بكم وجاء بقوم غيركم فيذنبون ويستغفرون فيغفر لهم وأحاديث أخر وأصل الغفر الستر فغفر الذنب ستره ومحو أثره
وأمن عاقبته وحكمة التوطئة لما بعد الفاء بما قبلها بيان أن غير المعصوم والمحفوظ لا ينفك غالباً عن المعصية فحينئذٍ يلزمه أن يجدد لكل ذنب ولو صغيرة التوبة وهي المرادة هنا من الاستغفار إذ ليس فيه مع عدمها كبير فائدة وشتان بين ما يمحو الذنب بالكلية وهو التوبة النصوح وبين ما يخفف عقوبته أو يؤخرها إلى أجل وهو مجرد الاستغفار. قوله: (كلكم جائع الخ) فإن النّاس كلهم لا ملك لهم في الحقيقة
فاسْتَطْعِمُوني أُطْعِمْكُمْ، يا عبادي كلُّكُمْ عارٍ إلَاّ مَنْ كَسَوْتُهُ
فاسْتَكْسوني أكْسُكُمْ، يا عبادي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُمْ وإنْسَكُم وَجِنَّكم كانُوا على
ــ
وخزائن الرزق بيده تعالى {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} فمن لا يطعمه بفضله بقي جائعاً بعدله إذ ليس عليه إطعام أحد فقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} التزام منه تفضلاً لا لأنه واجب عليه بالأصالة ولا يمنع نسبة الإطعام إليه ما يشاهد من ترتب الأرزاق على الأسباب الظاهرة من حرف وصنائع وأنواع من الاكتساب لأنه تعالى المقدر لتلك الأسباب الظاهرة بقدرته وحكمته الباطنة فالجاهل محجوب بالظاهر عن الباطن والعارف الكامل لا يحجبه ظاهر عن باطن ولا باطن عن ظاهر بل يعطي كل مقام حقه وكل حال مستحقه. قوله: (فاستطعموني) أي سلوني واطلبوا مني الطعام ولا يغرن ذا الكثرة ما في يده فإنه من فضل ربه فينبغي له مع ذلك إدامة السؤال ليدوم له حسن الحال ولا يغفل فتنتفي عنه النعمة فقل أن تعود إليه وفي الحديث المرفوع ما نفرت النعمة عن قوم فعادت إليهم. وقوله: (أطعمكم) أي أيسر لكم أسباب تحصيله من نحو تسخير السحاب لبعض الأماكن أو تحريك قلب فلان لإعطاء فلان أو إحواج فلان لفلان بوجه من الوجوه فيسأل منه نفعاً إذ العالم جماده وحيوانه مطيع له سبحانه طاعة العبد لسيده وتصرفه سبحانه في الكون عجيب لمن تدبره وفي الحديث إشارة إلى تأديب الفقراء كأنه قال لهم لا تطلبوا الطعم من غيري فإن من تطلبون منهم أنا أطعمهم فاستطعموني أطعمكم وفي هذا وما بعده تحريض على الإقبال على المولى والسؤال من فضله في جميع ما ينزل بالإنسان وسبق أنه سبحانه قال يا موسى سلني في دعائك حتى في ملح طعامك وفي هذا جميعه أو في بينة وأقوى برهان على افتقار سائر الخلق إليه وعجزهم عن جلب منافعهم إلا بأن ييسر لهم ما ينفعهم ويدفع عنهم ما يضرهم فلا حول ولا قوة إلا به ولا اعتماد إلا
بسببه ولما كانت حاجة الإنسان في بقائه للطعام والشراب أشد إذ لا بقاء له بدونهما تعرض لهما. قوله: (إنسكم)
أفْجَرِ قَلْب رَجُلٍ واحدٍ مِنْكُم لَمْ يَنقُص ذلِكَ مِن مُلكي شَيئاً، يا عِبادي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخِرَكُم وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أتْقَى قَلْب رَجُلٍ واحِدٍ مِنْكُم لَم يزِد ذَلِكَ في مُلْكي شَيئاً، يا عبادِي لَو أنَّ أوَّلَكُم وآخرَكُم وإنسَكُم وَجنَّكم قاموا في صَعيدٍ واحدٍ فسَألُوني فأعْطَيتُ كُلَّ إنسانٍ مِنْهم ما سألَ لم يَنقُص ذلكَ مِن
ــ
سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن جناً لاجتنانهم واختفائهم. قوله: (شيئاً) مفعول مطلق إن قلنا إن نقص لازم ومفعول به إن قلنا إنه متعد والمشار إليه بقوله ذلك هو الفجور الكامل. قوله: (على أتقى) أي على تقوى أتقى (قلب رجل) وإنما قدر ذلك ليصح الحمل قيل أراد بأتقى رجل محمداً صلى الله عليه وسلم وبأفجر رجل الشيطان ولعل هذا من حكمة قوله في جانب التقوى منكم أي أيها الإنسان وحذفه في الجانب الثاني ومن حكمه أيضاً ألا يخاطب العباد بالأفجرية تفضلاً منه تعالى وإحساناً، وقد وجد منكم في الموضعين في بعض النسخ والرواية على حذفها، والحاصل أن ملكه تعالى في غاية الكمال لا يزيد بطاعة جميع الخلق وكونهم على أكمل صفة التقوى كمالاً ينقص بمعصيتهم (لأنه) مرتبط بقدرته وإرادته وهما دائمان لا انقطاع لهما فكذا ما ارتبط بهما إنما غاية التقوى والفجور عود نفع أو ضر على فاعلهما والله تعالى هو الغني المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله (فملكه) كامل لا نقص فيه بوجه من الوجوه. قوله:(صعيد واحد) أي أرض واحدة ومقام واحدة. وقوله: (فسألوني) قيد السؤال بالاجتماع في صعيد واحد لأن تزاحم الأسئلة وترادف النّاس في السؤال مع كثرتهم وكثرة مطالبهم مما يضجر المسؤول منه ويدهشه وذلك يوجب حرمانهم أو عسر إنجاح مطلوبهم و"ما" إما موصولة أو موصوفة أو مصدرية أي ما نقص شيئاً إلا شيئاً مثل الذي ينقصه المخيط أو إلا شيئاً مثل شيء ينقصه أو ما نقص إلا مثل نقصانه في القلة والمخيط بكسر الميم وسكون المعجمة وفتح الياء الإبرة. وقوله: (ما نقص ذلك)
مُلْكي [شَيئاً] إلا كما يَنْقُصُ البَحْرُ أنْ يُغْمَسَ فِيهِ المخِيطُ غَمْسةً واحدةً، يا عبادِي إنَّما هي أعمَالُكم
ــ
الإعطاء (من ملكي شيئاً إلا كما ينقص البحر) بالنصب (أن يغمس) بفتح الهمزة ويغمس بالبناء للمجهول وأن ومدخولها فاعل ينقص أي إلا كما ينقص غمس المخيط البحر إذا غمس (فيه غمسة واحدة) أي وهو في رأي العين لا ينقص من البحر شيئاً فكذا الإعطاء من الخزائن الإلهية لا ينقصها شيئاً البتة إذ لا نهاية لها والنقص مما لا يتناهى محال بخلاف ما يتناهى كالبحر وإن جل وعظم وكان أكبر المرئيات في الأرض بل قد يوجد العطاء الكثير من المتناهى ولا ينقص كالنار والعلم يقتبس منهما ما شاء الله ولا ينقص منهما شيء بل قد يزيد العلم بالإنفاق وقال المصنف لأن عطاءه من رحمته وكرمه وهما صفتان قديمتان لا يتطرق إليهما نقص اهـ. وتشبيه ما ذكر بالمخيط إذا دخل البحر من حيث عدم النقص من حيث المشاهدة الصورية كما أشار إليه وإلا فالمخيط إذا دخل في الماء يتعلق منه شيء لطيف يحصل به النقصان فالبحر ينقص بهذا الشيء القليل المأخوذ منه الذي لا يكاد يدرك وتلك الخزائن لا تنقص شيئاً مما أفاضه تعالى منها من حين السموات والأرض إلى انقضاء هذا العالم ثم من بعثه إلى ما لا نهاية له لما تقرر من استحالة نقص ما لا يتناهى لأن عطاءه عز وجل بين الكاف والنون {إِنَّمَا أَمْرُهُ
إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وحكمة ضرب المثل بما ذكر أنه غاية ما يضرب به المثل في القلة إذ البحر من أعظم ما يعاين والإبرة من أصغره مع أنها صقيلة لا يتعلق بها شيء إلا ما لا يمكن إدراكه كما مر وفي هذا تنبيه وأي تنبيه للخلق على إدامة سؤاله تعالى مع إعظام الرغبة وتوسيع المسألة فلا يختصر سائل ولا يقتصر طالب فإن خزائن الرحمة سحاء الليل والنهار لا ينقصها الإعطاء وإن جل وعظم وقيل إن ذلك إشارة للنعمة المخلوقة وهي يتصور فيها النقص كالبحر. قوله: (إنما هي) الضمير راجع إلى ما يفهم من قوله أتقى قلب رجل وأفجر قلب رجل وهي الأعمال الصالحة
أحْفَظُها عَلَيكُمْ، فمَن وَجَدَ خَيراً فَلْيَحْمدِ الله عز وجل، ومَن وجَدَ غَير ذلكَ
ــ
والطالحة. قوله: (أحصيها عليكم) بضم الهمزة أي أضبطها وفي نسخة (أحفظها عليكم) أي بعلمي وملائكتي الحفظة واحتيج لهم لا لنقصه عن الإحصاء بل ليكونوا شهداء بين الخالق وخلقه وقد يضم إليهم شهادة الأعضاء زيادة في العدل ثم الحصر في هذا الخبر إنما هو بالنسبة لجزاء الأعمال أي لا جزاء مقسم إلى خير وغيره إلا عن عمل يكون سبباً له وأما الزيادة على ذلك من الفضل والإكرام مما صحت به النصوص وقام عليه الإجماع فلم يتعرض له الخبر بنفي ولا إثبات وتلك النصوص الثابتة الناطقة بالزيادة من محض الفضل والإحسان لا معارض لها فواجب الأخذ بها. قوله: (ثم أوفيكم إياها) أي جزاءها في الآخرة قال تعالى: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فلما حذف المضاف انقلب المجرور منصوباً منفصلاً أو في الدنيا أيضاً. قوله: (فمن وجد خيراً) أي عملاً يثاب عليه أو وجد ثواباً ونعيماً بأن وفق لأسبابهما أو حياة طيبة هنيئة مريئة كما قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قوله: (فليحمد الله) أي على توفيقه لذلك العمل الذي يترتب عليه الخير والثواب فضلاً منه ورحمة وعلى إسدائه ما وصل إليه من عظم المبرات فعلم أنه إن أريد بذلك الآخرة فقط كان الأمر فيه بمعنى الإخبار وقد جاء مثل ذلك الإخبار في القرآن {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} وقال عن أهل النار {فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وأخرج الترمذي ما من ميت يموت إلا ندم فإن كان محسناً ندم ألا يكون ازداد وإن كان مسيئاً ندم ألا يكون استعتب وإن أريد به الدنيا ولو مع الآخرة فالأمر على بابه وفي الحديث أنه لا يجب عليه شيء كان لأحد من خلقه. قوله: (غير ذلك) أي شراً ولم يذكره تعليماً لنا كيفية الأدب في النطق بالكناية عما يؤذي وإشارة إلى أنه تعالى إذا اجتنب لفظه فكيف الوقوع فيه أو إلى أنه عز وجل كريم حي يحب الستر ويغفر الذنب
فلَا يَلُومَنَّ إلَاّ نَفْسَه".
ــ
فلا يعاجل بالعقوبة ولا يهتك الستر. قوله: (فلا يلومن إلا نفسه) لبقائها على الظلمة الأصلية واكتساب المعاصي والمظالم وهي السبب فيها فلما آثرت شهواتها ولذاتها على رضى خالقها ورازقها فكفرت بأنعمه ولم تذعن لأحكامه وحكمه استحقت أن يعاملها بمظهر عدله وأن يحرمها مزايا جوده وفضله ونسأل الله العافية عن ذلك بمنه وأعمال العباد وإن كانت غير موجبة لثواب أو عقاب بذواتها كما سبق إلا أنه تعالى أجرى عادته بربطهما بها ربط المسببات بالأسباب وأكد الفعل هنا بالنون تحذيراً أن يخطر في قلب عامل أن يستحق اللوم غير نفسه وليس كذلك لأن الله تعالى أوضح وأعذر حتى لم يبق
حجة لأحد وفيه إيماء إلى دوام ذم ابن آدم وقلة إنصافه فإنه يحسب طاعته من عمله لنفسه ولا يسندها إلى التوفيق ويتبرأ من معاصيه ويسندها إلى الأقدار فإن كان لا تصرف له كما يزعم فهلا كان ذلك في الأمرين وإن كان له تصرف فلم ينفه عن أحدهما ووجه ختم الحديث بهذه الجملة التنبيه على أن عدم الاستقلال بنحو الإطعام والستر لا يناقض التكليف بالفعل تارة وبالترك أخرى لأنا وإن علمنا أن لا نستقل لكن نحس بالوجدان الفرق بين الحركة الاضطرارية كحركة المرتعش والاختيارية كحركة السليم وهذه التفرقة راجعة إلى ممكن محسوس مشاهد وأمر معتاد يوجد مع الاختيار دون الاضطرار وهذه التفرقة هي مورد التكليف المعبر عنه بالكسب فلا تناقض ولا تعسف، والحاصل أن المعاصي التي يترتب عليها العقاب والشر وإن كانت بقدر الله وخذلانه فهي بكسب العبد فليلم الإنسان نفسه لتفريطه بالكسب القبيح وإن قول القدرية هذا حجة لنا لأن لوم العبد نفسه (على سوء العاقبة يقتضي أنه الخالق لأفعاله وأن قوله فلا يلومن إلا نفسه) تنصل من المعصية و (أنه) ليس له فيها تأثير بخلق فعل ولا تقدير باطل بنص قوله تعالى:{وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} والآيات في هذا المعنى كثيرة يلزمهم أن من وجد خيراً لا يحمد الله لأنه لا أثر له على ما زعموا بل يحمد الإنسان نفسه لأنه الخالق لطاعته الموجد لسلامته وهذا مراغمة للنص المذكور
قال أبو مسهر: قال سعيد بن عبد العزيز: كان أبو إدريس إذا حدث بهذا الحديث جثا على ركبتيه، هذا حديث صحيح، رويناه في "صحيح مسلم" وغيره، ورجال إسناده مني إلى أبي ذر رضي الله عنه كُلُّهم دمشقيون،
ــ
ولقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} . قوله: (قال أبو مسهر الخ) أي وذلك تعظيماً له إجلالاً فإنه حديث جليل يشتمل على قواعد عظيمة في أصول الدين وفروعه وآدابه ولطائف الغيوب وغيرها ولذا ختم المصنف به هذا الكتاب النفيس وإيماء إلى أن نتيجة الأذكار مضمون هذا الخبر وهو الانقطاع عن السوى والإقبال على المولى ودوام الالتجاء وحسن الرجاء والكف عن المخالفات واكتساب الطاعات والثناء عليه سبحانه بأنواع الثناء إذ وفقه لبلوغ المنى والطاعات وحفظه من المخالفات. قوله: (رويناه في صحيح مسلم وغيره) وأخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو عوانة والبزار في مسنده والحاكم في مستدركه وقال إنه صحيح على شرطهما ووهم في ذلك فقد رواه مسلم كما ذكرنا والحديث معروف بأبي مسهر رواه عنه بضعة عشر إنساناً ولم ينفرد به أبو إدريس الخولاني عن أبي ذر بل رواه عنه أيضاً أبو أسماء الرحبي أخرجه أحمد ومسلم وأبو عوانة ولفظه بنحوه وفيه زيادة ونقص ورواه عنه أيضاً أبو قلابة ورواه كذلك أبو عوانة لكنه مرسل وسقط منه أبو أسماء وإثباته كما في طريق أحمد ومسلم أصح ورواه عنه أيضاً عبد الرحمن بن غنم ولفظه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله تبارك وتعالى: يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ومن علم منكم أني ذو قدرة على المغفرة فسألني بقدرتي غفرت له ولا أبالي وكلكم ضال إلا من هديته فادعوني أهدكم وكلكم فقير إلا من أغنيته فاسألوني أرزقكم فلو أن حيكم وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أشقى قلب عبد من عبادي لم ينقص ذلك من ملكي جناح بعوضة ولو أن حيكم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وميتكم وأولكم وآخركم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا فسأل كل سائل منهم ما بلغت أمنيته وأعطيت كل سائل منهم ما سألني ما نقص ذلك إلا كما لو أن أحدكم مر على شقة البحر فغمس فيه إبرة ثم انتزعها كذلك لم ينقصني وذلك أني جواد ماجد واحد أفعل ما أشاء عطائي كلام ومنعي كلام وعذابي كلام وأمري للشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون رواه أحمد والترمذي وابن ماجه والطبراني في الدعاء والبيهقي في الأسماء والصفات ورواه آخرون والأكثرون كما ذكرنا عن عبد الرحمن بن غنم وقيل فيه ابن عثمان ورواه أحمد وأبو عوانة وغيرهما من حديث شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي ذر به ورواه الدارمي وأحمد في مسنديهما وابن أبي عاصم في الدعاء له من حديث شهر إلا أنهم قالوا بدل عبد الرحمن عن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى قال: ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك يا بن آدم إنك إن تلقني بقراب الأرض خطايا بعد أن لا تشرك بي شيئاً ألقاك بقرابها مغفرة وإلى هذه الرواية أشار الترمذي في جامعه بقوله وروى بعضهم هذا الحديث عن شهر عن معد يكرب عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم اهـ. وروى الطبراني في الكبير من حديث قوله حدثتني أم الدرداء عن أبي الدرداء عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه عز وجل قال عبدي لو استقبلتني بملء الأرض خطايا وذنوباً لاستقبلتك بمثلهن مغفرة ولا أبالي عبدي ما عبدتني ولم تشرك بي شيئاً غفرت لك على ما كان فيك قال بعضهم شهر فيه مقال فيشبه أن يكون الاضطراب في الحديث منه وقال قال علي بن المديني أظن هذين حديثين رواهما شهر لأن لفظهما مختلف وقال البيهقي عقب أولهما إنه محفوظ من حديث شهر ولذا حسنه الترمذي ثم الحافظ ابن حجر غير ناظرين لذلك الاختلاف لمجيء الحديث من غير وجه كما تقدم ذكر بعضهم وفي الباب عن أبي الدرداء كما ذكر وعن ابن مسعود أخرجه بنحوه أبو عوانة في مستخرجه وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الله تعالى يقول: يا عبادي كلكم ضال إلا من هديت وضعيف إلا من قويت وفقير إلا من أغنيت فاسألني أعطكم فلو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم وحيكم وميتكم ورطبكم ويابسكم اجتمعوا على أفجر قلب عبد ما نقصوا من ملكي جناح بعوضة ذلك
ودخل أبو ذر رضي الله عنه دمشق، فاجتمع في هذا الحديث جمل من الفوائد.
منها صحة إسناده ومَتْنه، وعُلُوّه وتسلسله بالدمشقيين رضي الله عنهم وبارك فيهم.
ومنها ما اشتمل عليه من البيان لقواعدَ عظيمةٍ في أصول الدِّين وفروعه والآداب ولطائف القلوب وغيرها، ولله الحمد.
روينا عن الإِمام أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى قال: ليس لأهل الشام حديث أشرف من هذا الحديث.
ــ
بأني واحد عذابي كلام ورحمتي كلام فمن أيقن بقدرتي على المغفرة لم يتعاظم في نفسي أن أغفر له ذنوبه ولو كثرت اهـ. عبد الملك بن هارون بن عنترة أحد رواته ضعيف جداً بل رماه ابن حبان وغيره بالوضع مع أنه ممن تفرد بهذا الحديث عن أبيه كما قال الطبراني في معجمه الأوسط وحديث أبي ذر هو الصحيح في هذا المعنى، وفي الباب عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولو لقيتني بملء الأرض خطايا لقيتك بملء الأرض مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً ولو بلغت خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وأخرجه الطبراني في الدعاء ومعجميه الأوسط والصغير وإبراهيم بن إسحاق الصيني متروك الحديث كما قال الدارقطني وهو قد تفرد بهذا الحديث فالحديث ضعيف، وفي الباب عن أنس وهو السابق في باب الاستغفار يقول الله يا بن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني الخ وهو حديث حسن أخرجه الترمذي وقال إنه حسن غريب. قوله:(ودخل أبو ذر دمشق) قال السخاوي قاله ابن عساكر وغيره.
قوله: (وتسلسله بالدمشقيين) أي اتفاق هذا الوصف في كل من رواته قال السخاوي وفيه حصول تعريف أوطان كل من رواته بكلمة واحدة هي لفظ دمشقيون قال وهذا في غاية الحسن والندارة. قوله: (روينا عن الإِمام أحمد) قال
هذا آخر ما قصدته من هذا الكتاب، وقد منَّ الله الكريم فيه بما هو أهله من الفوائد النفيسة والدقائق اللطيفة من أنواع العلوم ومهمَّاتها، ومستجاداتِ الحقائق ومطلوباتها. ومن تفسير آيات من القرآن العزيز وبيان المراد بها، والأحاديث الصحيحة وإيضاح مقاصدها، وبيان نكت من علوم الأسانيد
ــ
السخاوي وكذا قال أبو مسهر نفسه فيما حدث به أبو الحسن علي بن إسحاق بن البحتري المارداي عن أبي بكر محمد بن إسحاق الصاغاني شيخ مسلم فيه عنه. قوله: (منَّ الله) بتشديد النون من المنة وهي النعمة الثقيلة. قوله: (من الفوائد النفيسة الخ) هذا من باب بذل النصيحة والدلالة على مظان الخير للأمة لا من الافتخار المحفوظ منه الصالحون الأخيار "وقوله من الفوائد" بيان لما في قوله بما هو له أهل "وقوله من أنواع الخ" بيان الفوائد فإن أل فيه استغراقية. قوله: (ومستجادات الحقائق) أي مما يعود على السالك بنفع في دينه كمعرفة حقيقة أنه سبحانه العالم بجميع الأحوال جليها وخفيها فتبعث السالك على مزاولة الطاعات ومجانبة المخالفات لكونه بمرأى من صانعه وخالقه ورازقه أما الحقائق التي لا تعود على السالك بنحو ذلك فالأولى له ترك النظر فيها والاشتغال بما يعود عليه بأداء العبودية والقيام بحقوق الربوبية. قوله: (ومن تفسير آيات) التفسير. قوله: (وبيان المراد بها) أي قد يقوم الدليل على أن المراد من الآية غير ما يتبادر من تفسيرها فيحتاج لمعرفة ذلك. قوله: (ومن الأحاديث الصحيحة) عطف تفسير وفيه أيضاً أحاديث حسان بل وضعيفة بعضها ضعفه محتمل وبعضها ضعفه شديد كما علم من استقراء هذا الكتاب. قوله: (نكت) بضم ففتح جمع نكتة وهي الدقيقة من العلم المستخرجة بقوة الفكر والنكتة من الكلام الجملة المنقحة المحذوفة الفصول وقال العلامة الثاني السعد التفتازاني النكتة كل نقطة من بياض يكون في سواد وعكسه
ودقائق الفقه ومعاملات القلوب وغيرها، والله المحمود على ذلك
وغيره من نعمه التي لا تحصى، وله المنَّة أن هداني لذلك، ووققني لجمعه ويسره عليَّ، وأعانني عليه، ومنَّ عليَّ بإتمامه،
ــ
ونكت الكلام لطائفه ودقائقه التي تحتاج إلى تفكر اهـ. وهذه النكتة التي أشار إليها الشيخ كالكلام على وصفه الحديث بالصحة أو ما يقابلها وكالتنبيه على زيادة بعض الثقات أو على أحوال بعض الرواة أو الاختلاف في ذلك. قوله: (ودقائق الفقه) أي ومسائل الفقه التي لدقتها تحتاج إلى التنبيه عليها. قوله: (ومعاملات القلوب) أي من الإخلاص والصدق والرجاء وسلامة الصدر والنصيحة والتودد للمسلمين والسعي في منافعهم ومحبة الخير لهم والإقبال على المولى والإعراض عن السوى والتنزه عن الحقد والحسد والبغض والغضب. قوله: (والله المحمود)
أي لا غيره كما يفيده تعريف الجزأين. قوله: (على ذلك) أي الذي من به من هذه الفوائد والفرائد.
قوله: (وغيره من نعمة التي لا تحصى) بيان لغير وفيه اقتباس من قوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} ومن قوله صلى الله عليه وسلم: سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. قوله: (وله المنة إن هدانا لذلك ووفقني لجمعه) أي ولو أراد لمنعني ذلك وما أحسن قول صاحب الحكم إلهي إن ظهرت المحاسن فبفضلك ولك المنة علي، وقوله:
وقد كنت قدماً أطلب الوصل منهمو
…
فلما تجلى الحلم وارتفع الجهل
تيقنت أن العبد لا طلب له
…
فإن قربوا فضل وأن ابعدوا عدل
وإن أظهروا لم يظهروا غير وصفهم
…
وإن ستروا فالستر من أجلهم يحلو
وفي كلام المصنف تلميح إلى قوله تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} وتنبيه على الدواء النافع من العجب بالعمل لأنه ليس هو فعلاً له في الحقيقة فكيف بما ليس له إنما المنة أن وفقه لصالح العمل وهداه. قوله: (ويسره ولي) فيه إيماء إلى صعوبة مثل هذا التأليف وإن تيسيره من منن الرؤوف اللطيف وهو كذلك فلقد جمع مع صغر حجمه ما لم تجمعه أسفار كبار ثم تيسيره بتذكيره ذلك وتمكنه
فله الحمد والامتنان والفضل والطَّوْل والشكران، وأنا راجٍ من فضل الله تعالى دعوةَ أخ صالح أنتفع بها تقرِّبني إلى الله الكريم، وانتفاع مسلم راغب في الخير ببعض ما فيه أكون مساعداً له على العمل بمرضاة ربِّنا، وأستودعُ الله الكريمَ اللطيفَ الرحيمَ مني ومن والديَّ وجميع أحبابنا وإخواننا ومن أحسن
ــ
من مواده ودفع الموانع عن تنقيحه وتحريره. قوله: (فله الحمد على هذه المنن) والحمد سبب المزيد كما نطق به الكتاب المجيد. قوله: (والطول) بفتح الطاء المهملة المنة الثقيلة وقيل النعمة المتكررة (والشكران) بضم الشين ضد الكفران. قوله: (وأنا راج من فضل الله تعالى تيسير دعوة أخ صالح تقربني إلى الله) أي ليكون ذلك مما يصلني نفعه بعد الموت فقد ورد إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ولد صالح يدعو له الحديث ومثل الولد الصالح في نفع دعائه الأخ الصالح، وجملة تقربني إما صفة أو حال من دعوة وتقريبها إلى الله سبحانه لأن دعاء المؤمن لأخيه بظهر الغيب مستجاب فقد يدعو له بنحو ذلك فيبلغ أمانيه من تلك المسالك بفضل مولاه وإحسانه. قوله:(وانتفاع) بالنصب عطف على دعوة ورجاؤه لذلك لما قال (أكون مساعداً له على العمل بمرضاة ربنا) أي فيفوز بامتثال قوله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وليعظم ثوابه بسبب ذلك النفع لكونه الدال عليه الطريق في الوصول إليه وقد تقدم الحديث من دل على هدى كان له مثل أجور فاعليه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً. قوله: (واستودع الله الخ) أي وهو الذي لا يضيع ودائعه وسبقت حكمة التعبير بهذا في أول الكتاب بما حاصله الإيماء إلى أن الحي بمثابة المسافر المطلوب منه هذا الذكر فإن منتهى سفره الآخرة ومنازله الليل والنهار وحينئذٍ فالموفق لا يأخذ من الزاد إلا ما ينفعه في دار إقامته من رضي مولاه أو ما ينفعه في رحلته من قوام مطيته وهي نفسه فيعطيها حقها من الطعام والشراب والمنام ويمنعها
إلينا وسائر المسلمين أدياننا وأماناتِنا وخواتيمَ أعمالنا، وجميعَ ما أنعم الله تعالى به علينا، وأسأله سبحانه لنا أجمعين سلوك سبيل الرشاد، والعصمةَ من أحوال أهل الزِّيغ والعناد، والدوام على ذلك وغيره من الخير في ازدياد، وأتضرَّع إليه سبحانه أن يرزقنا التوفيق في الأقوال والأفعال للصواب، والجريَ على آثار ذوي البصائر والألباب، إنه الكريم الواسع الوهاب، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه متاب، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم،
ــ
حظها من الشهوات والآثام فيفوز بما تقر به الأعين في يوم القيامة وقد أشار
إلى هذا المعنى حديث ابن عمر كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء. والأحاديث في معناه كثيرة. قوله: (وجميع ما أنعم به علينا) أي من علم وعمل وحال ومقام. قوله: (سلوك سبيل الرشاد) أي تيسير سلوكه بالتوفيق والحفظ (و) هو المراد من (العصمة) في كلامه أي والحفظ (من أحوال أهل الزيغ) وهو العدول عن الحق والميل عنه (و) من أحوال أهل (العناد) والعنيد كما في النهاية الجائر عن القصد الباغي الذي يرد الحق مع العلم به. قوله: (على ذلك) أي على ما ذكر من سلوك سبيل الأخيار والحفظ من طريق الأشرار. قوله: (في ازدياد) حال أو صفة للخير لأن أل فيه جنسية. قوله: (وأتضرع) أي أتوسل. قوله: (للصواب) أي للحق وهو المطابق للواقع. قوله: (والجري على آثار) أي طريق (ذوي البصائر) أي المستنيرة بنور العرفان (والألباب) العقول جمع لب.
ومن كان ذا لب وعقل فإنه
…
دؤوب على الطاعات مجتنب الشر
قوله: (وما توفيقي إلا بالله الخ) اقتباس من القرآن ولعزة التوفيق وشرفه لم يذكر في القرآن غير هذه الآية (وإليه أنيب) أي أرجع في سائر الأحوال إليه
والحمد لله رب العالمين [أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً]، وصلواته وسلامه الأطيبان [الأتمان] الأكملان على سيدنا محمد خير خلقه وعلى آله وصحبه أجمعين، كلما ذكره الذاكرون، وغَفَل عن ذِكْره الغافلون، وعلى سائر النبيين وآل كلٍّ وسائر الصالحين.
قال مصنفه أبو زكريا يحيى بن شرف بن مري بن حسن بن حسين بن محمد النووي عفا الله عنه: فرغت من جمعه في المحرم سنة سبع وستين وستمائة سوى أحرف ألحقتها بعد ذلك، وأجزت روايته لجميع المسلمين.
ــ
معتمداً في كل أمر عليه وفي نسخة (وإليه متاب) بالفوقية أي رجوعي. قوله: (كلما ذكره) يحتمل أن يكون راجعاً إلى اسم الله الكريم أو إلى نبيه عليه الصلاة والسلام والقصد من هذا الدعاء دوام الصلاة والسلام من الملك السلام على نبيه عليه الصلاة والسلام. قوله: (وآل كل) أي أتباعه فيدخل سائر المؤمنين به (و) يكون عطف (سائر الصالحين) من عطف الخاص على العام اهتماماً به قوله: (وأجزت روايته لجميع المسلمين) قال المصنف في الإرشاد إذا أجاز لغير معين بوصف العموم كقوله أجزت للمسلمين أو لكل أحد أو لمن أدرك زماني وما أشبهه ففيه خلاف للمتأخرين المجوزين لأصل الإجازة فإن كان مقيداً بوصف خاص فهو إلى الجواز أقرب وجوز جميع ذلك الخطيب وجوز القاضي أبو الطيب الإِمام المحقق الإجازة
لجميع المسلمين الموجودين عندها ثم قال وأجاز أبو عبد الله بن مسنده لمن قال: لا إله إلا الله وأجاز أبو عبد الله بن عتاب وغيره من أهل المغرب لمن دخل قرطبة من طلحة العلم وقال أبو بكر الحازمي الحافظ الذين أدركتهم من الحفاظ كأبي العلاء وغيره كانوا يميلون إلى جواز هذه الإجارة العامة قال الشيخ رحمه الله ولم يسمع عن أحد
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
يقتدى به أنه استعمل هذه الإجازة فروى بها ولا عن الشرذمة التي سوغتها وفي أصل الإجازة ضعف فتزداد بهذا ضعفاً كثيراً لا ينبغي احتماله وهذا الذي قاله الشيخ خلاف ظاهر كلام الأئمة المحققين والحفاظ المتقنين وخلاف مقتضى صحة هذه الإجازة وأي فائدة إذا لم يرو بها اهـ. قلت: وفي أجاز لذلك جماعة من المتأخرين الحفاظ كالحافظ السيوطي فأجاز لمن أدرك عصره وأجاز كذلك ابن حجر الهيتمي في آخرين.
وهذا آخر ما قصدناه وتوخيناه من التعليق على الأذكار النووية وكنا أردنا أن تكون في حيز الاقتصار فأبرزتها يد القدرة على ما يرى لكن يرجو من فضل الله ومنته أن يكون على السداد وإني لمعترف أني لست بأهل لنقل شيء من ذلك وتقريره ولا لبيان شيء وتحريره ولا لرقم مطلب وتسطيره غير أن كل ما تراه فهو من فضل المنعم المنان وجوده المتوالي والإحسان فله الحمد سبحانه على كل شأن، ثم أقول: إن كان متناسق المباني متناسب المعاني جامعاً لما يحتاجه المعاني فذلك من فضل الله سبحانه فله الحمد والامتنان على محض الجود والإحسان، وإن كان مشوباً بالنقص على بالخرم والوقص جارياً على أسلوب العوام خارجاً عن نهي العلماء الكرام فذلك قضية وصفي وشأني ومقتضى كونه من جملة ما يضاف إلى تحريري وبياني، وأستغفر الله وأتوب إليه مما جنيته في سواد الليل وبياض النهار وأسأله العفو والغفران عن سائر المخالفات والأوزار واستودعته الإسلام والإيمان وما أنعم به علي وعلى سائر الإخوان من النعم الجسام، وأسأله الحسنى وزيادة والوفاة على الإسلام ودوام نعمه المستجادة، والحمد الله أولاً وآخراً باطناً وظاهراً والصلاة والسلام على نبيه وحبيبه وصفيه عدد خلقه ورضى نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون وعلى جميع آله وصحبه ووارثيه العلماء وأتباعه وحزبه.
قال مؤلفه غفر الله له ولوالديه وإخوانه ومحبيه كان انتهاء تسطيره بعد ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وألف.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.